تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

ومنها : أن البعد عن منة الغير محمودة ؛ لأن في الرواية أنهم لما امتنعوا قال لهم : ألا تأكلون؟ قالوا : لا نأكل طعاما إلا بثمن ، قال إبراهيم : فإن لهذا ثمنا ، قالوا : وما ثمنه؟ قال : تذكرون الله تعالى على أوله ، وتحمدونه على آخره ، فقال جبريل عليه‌السلام لميكائيل عليه‌السلام : حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا.

قوله تعالى

(قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) [هود : ٧٢ ـ ٧٦]

هذه الجملة لها ثمرات :

الأولى : أن سن الإياس المرجع به إلى جري العادة ؛ لأن تعجبها بقولها : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) لأن سارة زوجة إبراهيم كانت ابنة ثمان وتسعين سنة ، وإبراهيم عليه‌السلام له مائة وعشرون سنة ، وقيل غير ذلك ، وتعجبها من مخالف العادة ؛ لأن الله سبحانه لم يجر العادة بذلك وإن كان قادرا على مخالفة هذه العادة.

وعن عليّ بن عيسى : إن العجوز إنما لم تلد لكون الماء الذي يخلق منه الولد ينقطع منها ، بدليل انقطاع الحيض ، وهذا يرجع إلى الأول ، وهو أن العادة أجراها الله بقطعه ، أو بأن لا يخلق منه الولد.

وأما القول بأن الطبع موجب : فذلك كفر.

وقد اختلف الفقهاء في المدة التي ينقطع فيها الحيض والحبل :

فالهادي ، والمؤيد بالله قدرا ذلك بالستين.

٢١

وزيد بن علي ، ومحمد بن الحسن بالخمسين.

وقال الشافعي : يرجع إلى عادة النساء.

والمنصور بالله قال في القرشية : بالستين ، وفي العربية : بالخمسين ، وفي العجمية : بالأربعين.

ومبنى الخلاف على العادة ، لكن قال أهل المذهب : وجدنا العادة تختلف فيما دون الستين فأخذنا بالمتيقن وهو المجمع عليه عادة وقولا.

وهل هذه العادة تنتقض؟

فقال الأخوان : لا تنتقض.

وقال أبو العباس : إنها تنتقض نادرا.

فائدة الخلاف : إذا رأت دما بعد مدة الإياس فعند الأخوين أنه دم علة لا حيض ، وأبو العباس قال : هو حيض.

قيل : وفي هذا تنبيه :

وهو أن يقال : هذا حدّ لسن المرأة التي لا تتعلق بها الولادة ، ـ وإنما كان في سارة كرامة مخالفة للعادة ـ فهل يقدر في الرجل سن إذا بلغه لم تعلق منه المرأة؟ وإن وجد مع امرأته حمل لم يلحق به؟ لأن تعجب سارة كان من جهة نفسها وزوجها ، لقوله : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً).

الثانية : يتعلق بقوله : (أَهْلَ الْبَيْتِ) على أن امرأة الرجل من أهل بيته فيقول أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل بيته ، ذكر ذلك أبو علي.

والمذهب أن أزواجه ليس من أهل بيته ، لقوله تعالى في سورة الأحزاب : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وكان نزولها بسبب أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جلل عليا ، وفاطمة ، والحسن والحسين ـ عليهم‌السلام ـ بكساء فدكي وقال : «اللهم إن هؤلاء أهل

٢٢

بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» ولا ملازمة أن تكون امرأة إبراهيم من أهل بيته لا أزواج نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحصول الدلالة.

الثالثة : تعلق بقوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) وفي ذلك دلالة على أن المجادلة قد تحسن ؛ لأن الله أثنى على إبراهيم ولم يخطئه في جداله.

الرابعة : أن المؤمن ينبغي له الاهتمام بحال غيره من المؤمنين ؛ لأن ذلك من الموالاة.

قال في الكشاف : لما قالت الملائكة لإبراهيم : (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قال : أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها؟ فقالوا : لا ، قال : فأربعون؟ قالوا : لا ، قال : فثلاثون؟ قالوا : لا ، حتى بلغ العشرة ، قالوا : لا ، قال : أرأيتم لو كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا ، فعند ذلك قال : (إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ).

الخامسة : تعلق بقوله : (لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ) وقد تقدمت.

قوله تعالى

(قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) [هود : ٧٨]

دلت على أحكام :

الأول : تحريم فعل قوم لوط من إتيان الذكور ، وذلك معلوم بالاضطرار من الدين ، أما لو كان مملوكا فنص جملة العلماء على تحريمه (١).

__________________

(١) سيأتي للمصنف رحمه‌الله أن تحريمه مجمع عليه في سورة المؤمنين.

٢٣

الحكم الثاني : أن المشروع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر البداية بالأيسر ، فيبدأ بالقول اللين قبل غيره.

الثالث : جواز نكاح المؤمنة بالكافر ، وكان هذا في شريعتهم ؛ لأنه عرض عليهم نكاح بناته ، وكان هذا جائزا في ابتداء شريعتنا ، ولهذا فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوج بنته زينب من أبي العاص بن الربيع وكان مشركا ، وزوج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ابني أبي لهب عتبة وعتيبة.

قال في السفينة : كانت أم كلثوم ورقية تحت ابني أبي لهب ففارقاهما فتزوج عثمان بهما واحدة بعد أخرى.

قال الحاكم : وهذا هو الظاهر.

وقيل : عرض عليهم ؛ بشرط الإيمان ، عن الأصم ، والزجاج ، والأول هو الظاهر ، وقد فسر به الزمخشري ، لكنه منسوخ بقوله تعالى في سورة الممتحنة : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) وهذا إجماع أن الكافر ـ أي : كفر كان ـ لا ينكح مؤمنة ، سواء كان حربيا ، أو كتابيا ، وكذا المجبرة على قول من كفّرهم.

وقال الإمام يحيى في موضع : يجوز مناكحتهم عند من كفّرهم ، وهو محتمل.

الرابع : حسن إكرام الضيف ، فإن لوطا عليه‌السلام عرض أن ينكحوا بناته ليقي ضيفانه.

قيل : وهذا غاية الكرم.

والنظر أن يقال : هل يكون مثل هذا على سبيل الوجوب ، وأن من عرف أنه يفجر إن لم ينكح هل يجب على الرجل أن يزوجه بناته؟

وجواب هذا أن يقال : لا يجب ؛ لأنهم قد قالوا : لا يجب على الابن أن يعف أباه ، فلم يوجبوا بذل المال لعفة الأب ، فكذا بذل نكاح الحرم.

٢٤

قوله تعالى

(فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) [هود : ٨٢]

في الرواية أن جبريل عليه‌السلام اقتلع مدائنهم ، ورفعها حتى سمع أهل سماء الدنيا صياح الديكة ، ونباح الكلاب ، ثم ألقاها أي : قلبها.

واختلف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيمن فعل كفعلهم :

فقيل : يلقى من أعلى حائط وقيل : يهدم عليه الجدار.

وفي حده وصفته : خلاف مأخذه من غير هذه الآية.

قوله تعالى

(وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) [هود : ٨٤]

هذا نهي عن عدم الإيفاء.

قوله تعالى

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) [هود : ٨٥]

زيادة في التأكيد.

وقوله : (بِالْقِسْطِ) أي : بالعدل ، وهو التسوية من غير زيادة ولا نقصان.

قال جار الله : وهذا أمر بما هو الواجب ؛ لأن الزيادة فضل وندب.

قال : وفي ذلك توقيف : أن على الموفي أن ينوي بإيفائه القسط ؛ لأنه وجه حسن الإيفاء ، فهذه ثلاثة أشياء :

الأول : أن النهي عن عين القبيح ، وهو ما كانوا يعتادونه من النقص.

والثاني : الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول لزيادة التأكيد.

والثالث : أن يريد بالإيفاء العدل ؛ لأنه وجه حسنه.

٢٥

قوله تعالى

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ) [هود : ٨٥]

البخس : الهضم والنقص ، ويقال للمكس : البخس ، قال زهير :

وفي كل أسواق العراق إتاوة

وفي كل ما باع امرؤ بخس درهم

ويروى مكس درهم.

وكانوا يأخذون من كل شيء يباع كما يفعل السماسرة ، أو كانوا يمكسون الناس ، أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون.

وهاهنا فرع : وهو أن صاحب الولاية لو استعمل ما صورته صورة المكس والبخس بأن يجعل إتاوة على من باع أو شرى ، وأراد بذلك التضمين لما هو على المأخوذ منه هل يسوغ ذلك؟

قلنا : في ذلك خلل من وجوه :

الأول : أنه تشبه بالظلمة.

الثاني : أنه توصل إلى المباح بما صورته صورة المحذور ، فأشبه بيع رءوس المشركين.

الثالث : أن ذلك مسبب إلى أن يؤخذ ممن عليه حق وممن لا حق عليه ، فإن قيل : إذا خشى على بيضة الإسلام إن لم يؤخذ؟

قلنا : هذا يشبه إذا أذن الإمام للعامل أن يأخذ الرشوة تضمينا ، وفي ذلك كلام السيدين (١).

__________________

(١) لعله يشير إلى تأويلهما لكلام الهادي عليه‌السلام إذا أذن الإمام لعماله يأخذ الهدية لمصلحة طابت ، وتأوله أبو طالب على أن المأخوذ من بيت المال فيكون على وجه التضمين ، قال الفقيه حسن : وفيه نظر لأنه يورث الدهمة.

٢٦

قوله تعالى

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) [هود : ١١٢]

قيل : ـ المعنى ـ فاستقم بأداء الواجبات ، واجتناب المقبحات.

وقيل : بالصبر على الأذى.

وعن جعفر الصادق قال : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي : افتقر إلى الله بصحة العزم.

وقوله تعالى : (وَلا تَطْغَوْا) قال أبو علي : ـ المعنى ـ لا تجاوزوا أمر الله بالزيادة والنقصان.

ولهذه ثمرة شديدة : وهي لزوم الجادة المستقيمة فلا يتعداها ، ولا يقف ما ليس له به علم ، ويلزم منه أن من جاوز ما أمر به فقد فقد الاستقامة ، فيدخل في هذا الزيادة على ما جاء به الشرع في صفات الوضوء ، وأن الزيادة على الثلاث خروج من الاستقامة ، وكذا ما أشبه ذلك ، وللإمام يحيى بن حمزة عليه‌السلام رسالة سماها (الوازعة لذوي الألباب عن فرط الشك والارتياب).

قال في الكشاف : وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية ، ولهذا قال : «شيبتني هود والواقعة وأخواتهما».

وعن بعضهم : رأيت رسول الله في النوم فقلت : روي عنك أنك قلت : «شيبتني هود والواقعة» فقال : «نعم» ، فقلت : ما الذي شيبك منهما؟ «أقصص الأنبياء وهلاك الأمم» قال : لا ولكن قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ).

٢٧

قوله تعالى

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود : ١١٣]

هذا صريح بأن الركون إلى الظلمة محرم وكبيرة ؛ لأنه تعالى توعد عليه بالنار ، ولكن ما هو الركون الذي أراده الله تعالى؟

قلنا : في ذلك وجوه :

الأول : مروي عن ابن عباس والأصم أن المعنى : لا تميلوا إلى الظلمة في شيء من دينكم.

وقيل : ترضون بأعمالهم : عن أبي العالية.

وقيل : تلحقون بالمشركين ، عن أبي قتادة.

وقيل : لا تداهنوا الظلمة ، عن السدي ، وابن زيد.

وقيل : الدخول معهم في ظلمهم ، وإظهار الرضاء بفعلهم ، وإظهار موالاتهم.

فأما إذا دخل عليهم لدفع شر : فيجوز : عن القاضي ، ورجح هذا الحاكم ، والمنصور بالله ، وقال : وقد أمر الله بالرفق في مخالطة الكفار فالظلمة أولى.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : النهي يتناول الانحطاط في هواهم ، والانقطاع إليهم ، ومصاحبتهم ومجالستهم ، وزيارتهم ومداهنتهم ، والرضاء بأعمالهم ، والتشبه بهم ، والتزيي بزيهم ، ومد العين إلى زهراتهم ، وذكرهم بما فيه تعظيمهم ؛ لأن الركون الميل اليسير.

وقوله تعالى : (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي الذين وجد منهم الظلم ، ولم يقل : إلى الظالمين.

قال : وعن الموفق وهو من ولاة العباسية : أنه صلى خلف الإمام

٢٨

فقرأ هذه الآية فغشي عليه ، فلما أفاق قيل له ، فقال : هذا فيمن ركن فكيف من ظلم.

وعن سفيان قال : في جهنم واد لا يسكنه إلّا القراء الزائرون للملوك.

وعن الأوزاعي : ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور ظالما.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه».

وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شراب ماء؟

قال : لا ، فقيل له : يموت؟ فقال : دعوه يموت.

واعلم أنه قد وسع العلماء الراشدون وشددوا في ذلك ، والحالات تختلف ، والأعمال بالنيات كما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وينبغي أن يفصل ، فإن كان المخالطة لطلب الاستدعاء له إلى ترك الظلم : فهذا لا حرج فيه ، وقد أمر الله موسى وهارون بلين القول لعدو الله وهو فرعون ، فقال تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) ، وإن كانت المخالطة لا لذلك ، وكان فيها دفع منكر واستعانة على دفعه : فلا حرج في ذلك ، وربما وجب وقد أوجبوا حضور أنكحة الظلمة والفسقة إذا كانوا يفعلونه بغير شروطه إن لم يحضر من يعرفهم ، ولكن هذا مشروط بأن لا يؤدي ذلك إلى تقويتهم بالخلطة ، وإن كان الدخول لاستكفاء شرورهم فلا بأس بذلك ؛ لأن دفع المضرة تبيح ذلك ، ولكن لا يتجاوز ما يستغنى عنه ، وإن كانت الخلطة لمجرد إيناسهم وتعظيمهم حرم ذلك.

وقد قال أبو علي وأبو هاشم : طلب التولية منهم فسق ؛ لأن ذلك يوهم أنهم على الحق ، وإن كانت الخلطة لمعاملتهم فيما يجوز كره ذلك ، وإن كانت الخلطة لأخذ الرزق من خزائنهم مما يجوز الأخذ من غير تقوية كره ذلك ، وجاز كأكل طعامهم ؛ لأن ذلك يؤدي إلى محبتهم.

٢٩

قوله تعالى

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) [هود : ١١٤]

هذه الآية لها ثلاث ثمرات : وجوب الصلاة لكنها مجملة ، وبيانها في السنة.

وأن لها أوقاتا مؤقتة ، ودلالتها مجملة ، وبيانها بالسنة وهو حديث جبريل.

والثالث : تكفير السيئات بالحسنات وفي هذه أيضا إجمال ، وللمفسرين أقوال في تفسيرها.

فعن ابن عباس ، والحسن ، وابن زيد ، وأبي علي : الفجر ، والمغرب.

وعن مجاهد : الفجر ، والعشاء.

وعن الضحاك : الفجر ، والعصر.

وعن مقاتل : الفجر ، والظهر.

وعن محمد بن كعب القرظي : الفجر ، والظهر ، والعصر.

قال في (الروضة والغدير) : وهو الوجه عندنا ، وهو معنى كلام الزمخشري.

قوله تعالى

(وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) [هود : ١١٤]

أي : ساعات من الليل ، قريبة من آخر النهار ، من أزلفه إذا قرّبه ، وأراد المغرب والعشاء ، : ذكره الأصم ، وفسر به الزمخشري.

٣٠

قال في (الروضة والغدير) : وهو الوجه عندنا.

وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : هي صلاة العشاء.

وقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) في الكشاف وجهان :

الأول : أنه أراد تكفير الصغائر بالطاعات ، وفي الحديث : «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر».

قال جار الله : هذا قول أكثر المفسرين.

الثاني : أن فعل الحسنات يكون لطفا في ترك السيئات ، كقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).

وعن مجاهد : الحسنات : قول العبد : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.

وقيل : أراد بالحسنات التوبة.

وقيل : إنها نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري كان يبيع التمر ، فأتته امرأة فأعجبته فقال لها : إن في البيت أجود من هذا التمر ، فذهب بها إلى بيته وضمها إلى نفسه وقبلها ، فقالت له : اتق الله ، فتركها ، وندم فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بما فعل فقال : «انتظر أمر ربي» فلما صلى صلاة العصر نزلت ، فقال : نعم «اذهب فإنها كفارة لما فعلت».

وروي أنه أتى أبا بكر فأخبره فقال : استر على نفسك وتب إلى الله تعالى ، فأتى عمر فقال له مثل ذلك ، ثم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت ، فقال عمر : هذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال : «بل للناس عامة».

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «توضأ وضوءا حسنا ، وصل ركعتين إن الحسنات يذهبن السيئات».

وفي هذا الحديث ونظائره دلالة على أن التعزير يسقط بالتوبة ؛ لأن هذا جاء نادما باكيا.

٣١

فأما لو لم يتب فالذي حصله القاضي زيد للمذهب أنه واجب ؛ لأنه حق الله تعالى ، فأشبه الحد.

وقال الشافعي : لا يجب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ما لم يكن حدا».

قوله تعالى

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) [هود : ١١٦]

دلت على وجوب النهي عن المنكر ؛ لأنه تعالى بين سبب هلاك من أهلك بعدم من ينهى عن الفساد ، والمعنى : هلّا كان في القرون المهلكة (أُولُوا بَقِيَّةٍ) ، أي : أولو خير وطاعة.

وقيل : ـ المعنى ـ أصحاب بقية ، وقيل : من يتقي على نفسه فيسلموا من العذاب.

٣٢

تفسير

سورة يوسف

٣٣
٣٤

سورة يوسف عليه‌السلام

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف : ٢]

استدل بهذه الآية ونظائرها من قوله تعالى في سورة الشعراء : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍ) [الشعراء : ١٩٥] على أن المصلي لو قرأ بالفارسية ما أجزأه.

ووجه الاستدلال أن الله جعل من صفة القرآن أنه عربي ، وقد قال تعالى في سورة المزمل : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠].

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وقرآن معها» فإذا قرأ بالفارسية لم يكن قرآنا ، وهذا مذهب الأئمة والشافعي ، وسواء أحسن العربية أم لا.

وقال أبو حنيفة : تجوز القراءة بالفارسية ؛ لأنه أتى بالمعنى ، وسواء أحسن أم لا.

قلنا : قد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلوا كما رأيتموني أصلي».

وقال المنصور بالله ، وأبو يوسف ، ومحمد : يجوز بالفارسية إن لم يحسن بالعربية.

وأما سائر الأذكار فتجوز عندنا بالفارسية ، حيث لم يحسن العربية.

٣٥

قوله تعالى

(يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) [يوسف : ٥]

قال الحاكم : هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة تحرزا من الحسود ، وهذا داخل في قولنا : إن الحسن إذا كان سببا للقبح قبح ، ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً) [الأنعام : ١٠٨] ومن هذا ما ذكر المؤيد بالله أنه لا يفتي بصحة إقرار الوكيل لفساد الزمان ، وفي هذا ما ذكر عن زين العابدين :

إني لأكتم من علمي جواهره

كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

الأبيات المعروفة ، ذكرها عن زين العابدين الغزالي في منهاج العابدين ، والديلمي في كتاب التصفية.

وهكذا أمر يعقوب ـ صلوات الله عليه ـ : يوسف عليه‌السلام أن لا يقصص رؤياه على إخوته ، والمعنى واحد ، فلا معنى لإنكار من ينكره ، ويزعم أن العلم لا يحل كتمه.

قوله تعالى

(كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) [يوسف : ٦]

هذا دليل على أن الجد يطلق عليه اسم الأب ، فتدل على أن من نسب رجلا إلى جده فقال : يا ابن فلان أنه لا يكون قذفا ، واستدل بهذا من قال : إن الجد كالأب في إسقاط الإخوة من الميراث.

والجواب أنه لا حجة في ذلك لأن اسم الأب إنما يطلق عليه مجازا.

قوله تعالى

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يوسف : ٨]

٣٦

يتعلق بذكر هذه الآية حكمان :

الأول : أنه لا يجوز للأب أن يظهر الميل إلى بعض أولاده إذا عرف أن ذلك يؤدي إلى فتنه ، فإن لم يعلم ذلك ، ولا ظنه بل جوزه كره خشية وقوعها ، ووقوع التقاطع بين الأرحام ، وقد قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) [النساء : ١] وعلى هذا لو فضّل بعض الأولاد في العطية لغير وجه كره ، ونفذ عند الهادي ، والقاسم ، والمؤيد بالله ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، ومالك.

وقال أحمد ، وإسحاق ، وداود ، وطاوس : لا تصح الهبة.

وقال الثوري : لا بأس أن يخص بعض أولاده بما يشاء.

وقال الأوزاعي بالثلث لا أكثر.

وفي حديث بشير بن سعيد أنه لما نحل ولده النعمان نحلة وجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عليه‌السلام : «أكل ولدك نحلته مثل هذا»؟ فقال : لا ، فامتنع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الشهادة ، وفي بعض الأخبار أنه قال : «أشهد غيري» فامتناعه عليه‌السلام يدل على الكراهة ، وأمره بأن يشهد غيره يدل على الجواز.

الحكم الثاني : أنه إذا فضل بعضهم لبره أو لزيادة فضله أو لشدة فقره أو لكثرة عوله زالت الكراهة ، وقد قال تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠].

قال في الكشاف : وقيل : كان يعقوب مؤثرا له في المحبة والشفقة لصغره ، ولما يرى فيه من المخايل ، ولما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة ، وكان يضمه كل ساعة إلى صدره ، ولا يصبر عنه.

٣٧

قوله تعالى

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) [يوسف : ٩]

قيل : كانوا صغارا ولهذا قالوا : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) ، وليس ذلك من شأن البالغين ، وقال : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) وهذا مروي عن أبي علي.

وقيل : القائل غيرهم وهو أجنبي سايرهم ، وقيل : هو واحد منهم لم يكن مرشحا لنبوة ، وقيل : كان ذلك صغيرة في حقهم ، فلا يقال عن القتل ليس بكبيرة في حق غيرهم.

وقد أخذ من قوله تعالى : (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) أن التوبة من القتل تصح ؛ لأن الله تعالى حكى كلامهم ، ولم ينكره.

وعن ابن عباس : التوبة من القتل لا تصح.

قوله تعالى

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [يوسف : ١٢]

بالنون فيهما وكسر العين في (نرتع) على إضافة ذلك إليهم جميعا وهذه : قراءة ابن كثير.

الثانية : قراءة ابن عامر ، وأبي عمرو : بالنون فيهما ، وإسكان العين.

قيل لابن عامر : كيف تقرأ (ونلعب) وهم أنبياء؟

قال : لم يكونوا يومئذ أنبياء.

الثالثة : قراءة حمزة ، وعاصم ، والكسائي : (يرتع) ويلعب ـ بالياء فيهما وكسر العين ـ من يرتعي على إضافة ذلك إلى يوسف.

الرابعة : (نرتع ونلعب) من أرتع ماشيته وهي شاذة.

٣٨

الخامسة : (نرتع) بالنون وجزم العين (ويلعب) بالياء ـ أضاف يرتع إليهم ، وأضاف (يلعب) إلى يوسف ، ـ وهذه قراءة يعقوب ، ورواية عن أبي عمرو ، والأعرج ، وإبراهيم النخعي ، وأهل الحجاز.

وقوله : (يَرْتَعْ) إما مع سكون العين فمن قولهم : رتع إذا تبسط فيما يشتهي ، وبكسر العين من الرعي في بقول الأرض.

وأما اللعب فلم يذكر هذا يعقوب ، ـ صلّى الله عليه ـ وفي ذلك وجوه :

الأول : أنهم كانوا صغارا فاللعب جائز في حقهم ، بما ليس بمحرم ، وأما إن كانوا كبارا فقيل : هذا من اللعب الذي يعد فيه أهبة الجهلاء كالسباق ، والمناضلة ، ولهذا قالوا : (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) ، واللعب إما أن يكون عن صغير أو كبير ، إن كان بين الصغار جاز بما لا مفسدة فيه ، ولا يعد فيه تشبه بالفسقة ، وفي حديث أبي رافع كنت ألاعب الحسن ، والحسين. بالمداحي (١).

وفي أمالي أبي طالب : وعن أبي رافع كنت ألاعب الحسين بن علي وهو صبي في المداحي ، فإذا أصابت مدحاتي مدحاته قلت : احملني فقال : ويحك أتركب ظهرا حمله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتركه ، فإذا أصابت مدحاته مدحاتي قلت : لا أحملك كما لم تحملني فيقول : أو ما ترضى أن تحمل بدنا حمله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأحمله.

__________________

(١) لسان العرب ج : ١٤ ص : ٢٥٢.

وفي حديث أبي رافع كنت ألاعب الحسن والحسين رضوان الله عليهما بالمداحي هي أحجار أمثال القرصة كانوا يحفرون حفرة ويدحون فيها بتلك الأحجار فإن وقع الحجر فيها غلب صاحبها وإن لم يقع غلب والدحو هو رمي اللاعب بالحجر والجوز وغيره.

٣٩

روى الإمام أبو طالب أيضا عن علي عليه‌السلام قال : اصطرع الحسن والحسين بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال رسول الله : «إيه حسن خذ حسينا» فقالت فاطمة : أتستنهض الكبير على الصغير ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فهذا جبريل يقول إيه حسين خذ الحسن ، فاصطرعا فلم يصرع أحدهما صاحبه».

وأما اللعب في حق الكبار : ففيه ثلاثة أقسام :

الأول : أن يكون فيه معنى القمار فلا يجوز.

والثاني : أن لا يكون فيه معنى القمار ، وفيه استعانة وحث على القوة على الجهاد ، كالمناضلة بالقسي ، والمسابقة على الخيل فذلك جائز وفاقا ، وقد يندب.

والثالث : أن لا يكون فيه عوض ، كالمصارعة ونحوها ، ففي ذلك قولان للشافعي ، رجح للمذهب إن كان بغير عوض أو بعوض يكون دفعه على سبيل الرضاء ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صارع يزيد بن ركانة.

وروي أن عائشة قالت : سابقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتين فسبقته في المرة الأولى ، فلما بدنت سبقني ، وقال : «هذه بتلك» أو قال : «بذلك»

يقال : بدن الرجل ـ بضم الدال مخففة إذا سمن ، وبفتحها مشددة إذا كبر ـ.

وفي الشفاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس من الله وثلاثة أشياء ملاعبة الرجل أهله ، وتأديبه فرسه ، ورميه بقوسه».

قوله تعالى

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) [يوسف : ١٦ ، ١٧]

اقتطف من هذا الكلام ثمرات :

الأولى : أن البكاء لا يكون دليلا على صدق الشاكي.

٤٠