تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

أي : رغبتم في زواجتهن ، ولم تشفّعوني في ضيفي ، وكان نكاح المسلمة من الكافر جائزا في شريعتهم ، وكذلك في صدر الإسلام عن الحسن ، وأبي علي.

وقيل : إن أسلمتم ، وكان رؤساء قومه يخطبون بناته فيأبى أن يزوجهم إلا أن يسلموا ، عن الأصم ، وأبي مسلم.

وقيل : أراد نساء أمته.

قال الحاكم : والأول أصح ؛ لأنه الحقيقة.

قوله تعالى

(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)

اختلف المفسرون : هل هذا منسوخ أم لا؟

فقيل : إنها منسوخة بآية القتال ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، وعكرمة ، وسفيان بن عيينة.

وقيل : لا نسخ فيها ، وهو أمر بالحلم في المخالقة ، وقد يلزمنا الصفح عن الجهل مع التشدد في القتال.

قال الحاكم : وتدل على وجوب الرفق في الدعاء إلى الله تعالى.

قوله تعالى

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر : ٨٧ ، ٨٨]

قيل في نزول هذه الآية وافت من بصرى ، وأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب ، والجوهر ، وسائر

١٠١

الأمتعة ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى فنزلت.

ولها ثمرات :

الأولى : بيان فضل القرآن جملة وتفصيلا ، وأنه نعمة تفوق على محاسن الدنيا ، وأنه ينبغي اختياره على زخارف الدنيا.

قال الزمخشري : ومنه الحديث : «ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن» يعني : يستغن به عن غيره ، وقد يفسر بأن المراد يحسن صوته بقراءته (١).

وفي حديث أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ : ومن أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما ، وعظم صغيرا.

واختلف المفسرون ما المراد بالسبع؟ فقيل : هي فاتحة الكتاب ؛ لأنه يثني بها في الصلاة ، وقيل : لأنها نزلت مرتين (٢).

وقيل : لأنها مقسوم نصفين بين العبد وبين الله.

وقيل : لما تضمنت من الثناء وإلى أنها فاتحة الكتاب : روي ذلك عن علي عليه‌السلام ، وعمر ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وإبراهيم ، وقتادة ، وعطاء ، ويحيى بن معمر ، وروي مرفوعا.

وقيل : السبع الطوال : عن ابن عباس ، وابن عمر ، وابن مسعود ، والضحاك ، وروي مرفوعا ، وهي البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف.

واختلف في السابعة فقيل : يونس ، وقيل : الأنفال ، وبراءة لأنهما

__________________

(١) وكذا في النهاية : تغنيت واستغنيت ، وذكر تحسين الصوت عن الشافعي ، وذكر وجها ثالثا وهو الجهر.

(٢) بمكة مرة وبالمدينة أخرى تمت.

١٠٢

كالسورة ، ولذلك حذفت البسملة بينهما ، فتكون (من) للبيان على هذين القولين.

وقيل : هي القرآن كله لقوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] وقيل : أنواع القرآن ، وهي : الأمر ، والنهي ، والبشارة ، والإنذار ، والأمثال ، وذكر النعم ، والقصص ، وتكون (من) صلة ، وتسمى مثاني لأنه يثنى فيه الوعظ ، والقصص.

والمعنى لا تنظر إلى محاسن الدنيا فقد أعطيت خيرا منها.

وفي ذلك إشارة إلا أن التلاوة لكتاب الله أفضل من الصدقة.

وفي تفسير السجاوندي أنها نزلت حين استلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يهودي دقيقا لضيف فأبى إلا برهن ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني لأمين في السماء وأمين في الأرض ، ولو أسلفتني لأديت» وفي ذلك إرشاد إلى مكارم الأخلاق ، وإكرام الضيف ، ولو بتكسب من الدنيا بسلف أو غيره.

الثمرة الثانية : البعث على الإعراض عن محاسن الدنيا ؛ لأن المعنى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي : لا يطمح بصرك طموح راغب فيه ، متمن له ، وقد بوب العلماء أبوابا في الزجر عن الرغبة فيها ، وعلى الناظر في ذلك الرجوع إلى حقيقة النظر ، وأن الله سبحانه قد قال : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) قيل : ونظرت جارية إلى سليمان بن عبد الملك فانشأت تقول :

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى

غير أن لا بقاء للإنسان

أنت خلو من العيوب ومما

تكره النفس غير أنك فاني

ويروى أن ذا النون المصري مر بقصر فإذا بجارية تضرب بالدف وهي تقول :

دام النعيم لقصره المعمور

ما حوله وأميرنا المنصور

وبه السرور مجدد ببقائه

والعيش فيه يمده المقدور

١٠٣

فأجابها :

القصر يخرب والأمير يموت

والعيش ينفد والنعيم يفوت

يا من تغرر لاهيا ببقائه

مهلا فإنك في ذراك تموت

وهاهنا دقيقة : وهي كراهة حضور الأطعمة في الولائم في البيوت المزينة بالزخارف من اللبوس المزينة ، والشخوص من آلات الجواهر المثمنة ، والأطباق المطعمة ، والشربات المكتّبة كما يتخذه الدهاقنة وأمراء الظلمة.

ولقد حكى الشيخ أبو جعفر : أن الناصر عليه‌السلام كان لا يشرب في الأقداح المخروطة.

وفي سنن أبي داود أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعي إلى طعام فجاء فوضع يديه على عضادتي الباب فرأى القرام قد ضرب في ناحية البيت فرجع ، فتبعه علي وقال : يا رسول الله ما ردك؟ فقال : «إنه ليس لي أو لنبي أن يدخل بيتا مزوقا».

في الضياء القرام : الستر الرقيق.

كذلك يكره النظر إلى مواكب الظلمة إلا أن ينظر ليتذكر أحوال الآخرة ، فإذا سمع نفخ البوق ذكر قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) وإذا رأى اختلاف اللباس تذكر اختلاف لباس الآخرة قوم يلبسون الحلل ، وقوم يلبسون القطران ، (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ) [الإنسان : ٢١] ، و (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [الحج : ١٩] إلى غير ذلك.

الثمرة الثالثة : أنه لا ينبغي الحزن على من مات من أهل الدنيا الذين لا يعد بقاؤهم زيادة في الدين ونصرة له ، بل يحمد الله تعالى على حصول النعمة بزوالهم.

الرابعة : تعلق بقوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، وذلك عبارة

١٠٤

عن التواضع للمؤمنين وعدم التكبر ، وحسن الخلق ، وقد بوب العلماء في ذلك أبوابا للترغيب فيها.

قوله تعالى

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٤ ، ٩٥]

قيل : كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستخفيا حتى نزلت ، وفي ذلك دلالة على وجوب إظهار الحق والإعلام به مع الأمن ، وجواز إخفاء الحق مع الخوف.

قوله تعالى

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) [الحجر : ٩٨]

قيل : أراد التنزيه له.

وقيل : الصلاة بأمر الله وكن من الساجدين أي : من المصلين ، والدلالة مجملة.

وعن الضحاك قيل : سبحان الله وبحمده.

وقيل : المراد : افتتح الصلاة بقولك : سبحانك اللهمّ وبحمدك وتتميمها بالسجود ، وبيان الأقوال من جهة السنة ، والحقيقة في التسبيح التنزيه.

قال جار الله : وفي الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

١٠٥
١٠٦

تفسير

سورة النحل

١٠٧
١٠٨

سورة النحل (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [النحل : ٥]

الأنعام : تطلق على الأزواج الثمانية ، وأكثر ما تقع على الإبل.

والدفء : ما يلبس من صوف ، أو وبر ، أو شعر.

وقوله تعالى : (وَمَنافِعُ)

يدخل ما ينتفع به من نسل ، أو لبن ، أو ركوب ، أو حمل.

وثمرة الآية : جواز ما امتن الله تعالى به من الأنعام من الأكل عند التذكية ، ولباس ما يكون من أصوافها ، وكذلك لبنها ، وركوب ما يركب ، والحمل على ما يحمل ، وإنما خصها بالأكل وغيرها تؤكل كالدجاج ، والبط ، والصيود ؛ لأن أكلها هو المعتمد عليه وغيرها يجري مجرى التفكّه ويدخل في عموم إباحة الأكل جواز أكل الجلّالة هذا مذهب الأئمة ، وأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي.

وقال ابن حنبل ، والثوري : يحرم.

قلنا : هذا مخالف لهذه الآية ، ولقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ

__________________

(١) فيها من الآي ٣٦.

١٠٩

الْأَنْعامِ) [المائدة : ١] قالوا : نهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أكل الجلّالة وألبانها ، رواه أبو داود وغيره.

قلنا : محمول على الكراهة قبل الحبس.

قال في الشرح : النهي محمول على الكراهة لأجل أنها تكسب رائحة اللحم من ريحها فكره كما يكره ما أنتن من اللحم.

وفي سنن أبي داود عنه عليه‌السلام : أنه نهى عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها ، أو يشرب من لبنها ، قال في المعالم : إنما نهى عن الركوب لأن ريحها ينتن كما ينتن لحمها.

قوله تعالى

(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦]

قال جار الله : قدم الإراحة على التسريح ؛ لأن الجمال في الإراحة أظهر ؛ لأنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع.

والتجمل أنها تزين الأفنية ، وإذا تجاوب فيها الرغاء والثغاء آنست أهلها وأفرحتهم ، وأجلّتهم في عيون الناظرين إليها ، وأكسبتهم الجاه.

وللآية ثمرة : وهي أن اقتناء ما يتجمل به الإنسان من المباحات لا تكره ، وليس من التفاخر ، بل ذلك يشبه لباس الجيّد من الثياب ،

ولهذا فرع : وهو أن إجارتها للتجمل ، كذلك إجارة الدراهم والدنانير جائز ، ولأصحاب الشافعي وجهان ، أختار الإمام يحيى الجواز.

١١٠

قوله تعالى

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [النحل : ٨]

ثمرة ذلك : جواز ركوب ما ذكر ، وجواز اقتنائها للزينة : وهي تحريم لحوم هذه الأشياء الثلاثة ؛ لأنه تعالى بين وجه الامتنان بخلقها أنه خلقها للركوب والزينة ، ولم يذكر الأكل كما ذكره فيما تقدم.

أما الخيل فقد أخذ تحريم أكلها من الآية من وجهين :

الأول : أن الله تعالى ذكر ما امتن علينا به وهو الركوب والزينة ولم يذكر الأكل فلو كان جائزا لذكره ؛ لأنه أبلغ المنافع ، كما ذكره في الأنعام.

والوجه الآخر : أنه تعالى قرنها بالبغال والحمير ، وهما محرمان ، وهذا قد ذهب إليه الهادي والقاسم ، وعامة أهل البيت ، ورواية عن مالك.

وقال الشافعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، ورواية عن مالك : إنها تحل ، وهكذا رواه في الكافي عن زيد بن علي.

قال في نهاية المجتهد : المفهوم والقياس لا يعارضان الصريح ، وقد ورد ما رواه أبو داود وغيره عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : (نهانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر ، وإذن لنا في لحوم الخيل).

قلنا : هذا معارض بما رواه الإمام أبو طالب يرفعه إلى خالد بن الوليد : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل ، والبغال ، والحمير ، وهذا الحديث رواه في سنن أبي داود أيضا.

قال في الشرح : إذا اجتمع الحاظر والمبيح ، فالحاظر أولى فيجري مجرى الناسخ.

قالوا : الناقل عن حكم العقل أولى.

قال أبو داود : قد أكل لحم الخيل جماعة من أصحاب رسول

١١١

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ابن الزبير ، وفضالة بن عبيد ، وأنس بن مالك ، وأسماء بنت أبي بكر ، وسويد بن غفلة ، وكانت قريش على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تذبحها.

وأنواع الخيل على قول من وأباح قول من حرم على سواء.

وأما البغال : فقد دل مفهوم الآية على تحريم أكلها وذلك نص في الأخبار ولا خلاف في ذلك إلّا ما يروى عن الحسن قال في النهاية : ورواية عن مالك وكذا في التهذيب : عن مالك ، وبشر المريسي.

وأما الحمير : فقد دلت الآية بمفهومها ، والخبر بصريحه على تحريم أكلها ، لكن الأهلي مجمع على تحريمه إلّا عن ابن عباس.

وفي النهاية : رواية عن مالك ، وعائشة الكراهة.

وأما الحمر الوحشية : فعموم ما تقدم من الأخبار تدل على التحريم ، لكن قد ورد ما يخصصه ، وهو ما روى زيد بن علي عن علي عليه‌السلام : (أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية) ، فخص الأهلية بالتحريم.

وفي سنن أبي داود : أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إن السنة أصابتنا ولم يكن معي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر ، وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية ، فقال : «أطعم أهلك من سمين حمرك ، فإنما حرمتها من جهة جوال القرية ـ يعني به الحمار الأهلي ـ».

وقد اختلف العلماء في إباحة الحمار الوحشي : فتخريج أبي العباس للقاسم ، والهادي ، وهو قول الناصر : أن ذلك محرم لعموم الخبر. وتخريج المؤيد بالله ، وأكثر الفقهاء : أنها مباحة ؛ للأخبار الواردة بذلك.

منها : ما تقدم. ومنها : حديث الصعب بن جثامة أنه أهدي

١١٢

للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عجز حمار وحش فرده وقال : «إنه ليس (١) بنا ردّ عليك ولكنا قوم حرم».

قال الفقيه محمد بن سليمان : والأخبار قريبة من التواتر على إباحتها.

وقوله تعالى : (وَزِينَةً) دلالة على جواز تملكها للزينة ، فيلزم جواز إجارتها للتجمل بها لا للتفاخر.

قوله تعالى

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [النحل : ١٤]

ثمرة الآية : أن الله تعالى ذكر الامتنان علينا بأكل اللحم من البحر ، وبالحلية ، وبركوبه للتجارة ، فدلت الآية على إباحة ذلك : وهو إجماع.

أما أكل اللحم : فذلك إشارة إلى إباحة صيده ، والآية مجملة لم تبين

__________________

(١) (سبل السّلام ج ٢ / ص ١٩٣) وعن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه وقال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم متفق عليه وعن الصعب بفتح الصاد المهملة وسكون العين المهملة فموحدة ابن جثامة بفتح الجيم وتشديد المثلثة الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمارا وحشيا وفي رواية حمار وحش يقطر دما وفي أخرى لحم حمار وحش وفي آخرى عجز حمار وحش وفي رواية عضدا من لحم صيد كلها في مسلم وهو بالأبواء ممدود أو بودان بفتح الواو وتشديد الدال المهملة وكان ذلك في حجة الوداع فرده عليه وقال إنا لم نرده بفتح الدال رواه المحدثون وأنكره المحققون من أهل العربية وقالوا صوابه ضمها لأنه القاعدة في تحريك الساكن إذا كان بعده ضمير المذكر الغائب على الأصح.

١١٣

ما يؤكل من أجناس السمك ، وقد قال تعالى في سورة المائدة : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ).

واختلف العلماء فقال : مالك ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، ومجاهد : يحل جميع حيوان البحر.

وقال الشافعي : يحل ما لا يعيش إلا في الماء.

وقال الإخوان وبعض أصحاب الشافعي : ما كان نظيره حلالا في البر حل في البحر.

وأما قوله تعالى : (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) فخص الطري بالإباحة ؛ لأنه إذا طال عليه الزمان أنتن ففي ذلك إشارة إلى أنه يحل ، وهذا إذا صار بحيث يستخبث ويعاف ؛ لأنه يصير من الخبائث ، وقد قال تعالى في سورة الأعراف : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧].

فأما إذا انتن على وجه لا يستخبث فإنه يكره أكله ، وكره في الشرح كما يكره أكل لحم الجلالة ؛ لأنه يكتسب رائحة النجاسة.

وأما إباحة الحلية : فذلك كاللؤلؤ والمرجان.

وقوله : (تَلْبَسُونَها) أي : يلبسها نساؤهم لأنهن من جملتهم ، فأضاف اللبس إليهم ؛ ولأنهن إنما يتزين من أجلهم.

وأما إباحة ركوب البحر للتجارة : فذلك ظاهر.

تكملة لما ذكر : وهي لو أن رجلا حلف من اللحم هل يحنث بلحم السمك ، أو لا لبست امرأته حلية فلبست اللؤلؤ هل يحنث؟

جواب ذلك أن يقال : إذا أطلق اليمين على اللحم فعند الأئمة ، وأبي حنيفة ، والشافعي : لا يحنث إلا أن يكون من السمّاكين ؛ لأن الأيمان تحمل على العرف.

وعن مالك : يحنث.

١١٤

وإنما قلنا : لا يحنث مع أن الله تعالى سماه لحما ؛ لأن الأيمان محمولة على العرف ، وهذه الأشياء لا يطلق عليها اسم اللحم.

ولو قال رجل لغلامه اشتر لي لحما فجاء بسمك كان حقيقا بالإنكار ، كما لو حلف لا ركب دابة فركب كافرا : لم يحنث مع أن الله سبحانه سماه دابة ؛ قال تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الانفال : ٥٥].

وأما لو حلف لا لبست امرأته حلية فلبست اللؤلؤ : فإنه يحنث.

وقال أبو حنيفة : إنما يحنث إذا رصع بالفضة أو الذهب ، واستضعفه المؤيد بالله ؛ لأن الاسم ينطلق عليه.

قوله تعالى

(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) [النحل : ٢٥]

هذه اللام ـ في قوله (لِيَحْمِلُوا) ـ : هي لام العاقبة.

وثمرة الآية : أن مسبب المعصية يعاقب عليها (١) ، وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أيما داع دعا إلى هدى فاتبع فله مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» هكذا رواه في التهذيب.

ومثل هذا إذا أوصى إنسان بأنواع من القرب كان له ثواب بفعل من

__________________

(١) وسيأتي في قوله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) كلام أبسط من هذا تمت.

١١٥

أوصاه ؛ لأنه مسبب ، وهذا يرد في صور كثيرة ، مثل المبتدئ بالسلام يكون ثوابه أكثر ؛ لأنه مسبب للرد.

وأهل البدع والمكوس يعاقب الشارع لها ، وكذا من شرع طريقا في أرض الغير ظلما عوقب على مرور غيره وما أشبه ذلك.

أما لو كان الفعل حسنا في نفسه قربة أو مباحا ، ولم يقصد فاعله أمرا محذورا ، كأن يعمر معقلا ليكون هيبة على الكفار أو نسلم من الظلمة ، ثم حصل بذلك ظلم من ذريته أو من غيرهم لتقويتهم بذلك فلا شيء عليه.

قوله تعالى

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) [النحل : ٤١]

قيل : أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه حين ظلمهم أهل مكة فروا بدينهم إلى المدينة ، ومنهم من هاجر إلى الحبشة ، ثم أتى المدينة فجمع بين الهجرتين.

وقيل : هم المعذبون في مكة بعد هجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة منهم : بلال ، وصهيب ، وخباب ، وعمار.

وروي : أن صهيبا استفدى بماله وهاجر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له أبو بكر : (ربح البيع) ، وقال عمر : (نعم الرجل صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه).

وثمرة ذلك :

أن الهجرة مشروعة عند خشية الفتنة ، ولهذا قال تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) وإنما يعتد بها إذا كانت لوجه الله تعالى ، ولهذا قال تعالى : (فِي اللهِ) أي : لله.

وتدل القصة : على حسن الفداء بالمال لطلب الهجرة كما فعل صهيب ، ولم ينكر.

١١٦

قوله تعالى

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

قيل : أراد أهل العلم بأخبار من مضى.

وقيل : أهل الكتاب ، وقيل : مؤمني أهل الكتاب.

فإن حمل على أهل الكتاب ـ كما حكى عن ابن عباس ، ومجاهد ، والأصم فإنما أمر بسؤالهم لتحصيل العلم بتواتر الأخبار ؛ لأنه لا يفترق في ذلك بين أخبار المؤمن والكافر.

وإن حمل على المؤمنين من أهل الكتاب : فلأن العمل بأخبار الثقات واجب ، والآية تدل على الأمرين معا.

قوله تعالى

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) [النحل : ٦٦]

ثمرة هذه الآية : حل اللبن من الأنعام وطهارته ، وذلك معلوم من الدين ، لكن هذا إذا خرج من الحي الذي لا يحل ، فإن كان يحل احتمل أن لا يكره بخلاف لحم الجلالة قبل الحبس (١) ، ولا يكون نجسا بمجاورة الفرث والدم ؛ لأنه تعالى جعل هذا من الآثار التي امتن بها علينا.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : إن الله تعالى يخلق اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله تعالى لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ، بل هو خالص من ذلك كله.

__________________

(١) فيكره تمت.

١١٧

قيل (١) : إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها طحنته ، فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما ، والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجري اللبن في الضروع ، والدم في العروق ، وتبقى الفرث في الكرش فسبحان الله ما أعظم قدرته.

وسئل شقيق عن الإخلاص فقال : (هو تمييز العمل من العيوب ، كتمييز اللبن من بين فرث ودم).

ومن كلام جار الله قد يوجد بين خبيثين ابن لا يؤبن (٢) ـ أي : لا يعاب في الكراهة ـ أراد اللبن ، ولهذا وصفه بالخالص.

وقوله تعالى : (سائِغاً). أي : سهل المرور في الحلق ، ويقال : لم يغص أحد باللبن

هذا : ويحتمل أنه كاللحم لورود الخبر فيهما.

ولو خرج من الحيوان بعد الموت : فقال المؤيد بالله : يكون نجسا لمجاورة الميتة في الضرع.

وقال أبو حنيفة ودل عليه قول أبي طالب : لا ينجس ؛ لأن بينه وبين الميتة حاجز : وهو بلّة لا تحلها الحياة. وقد ذكر أبو طالب : أن الشاة لو سقيت خمرا ، ثم ذكيت حل شرب لبنها ، هذا حكم.

ولا يقاس على اللبن المني ، فيقال : لا ينجس لجريه مجرى البول والنجس كما لا ينجس اللبن لمجاورة الدم ؛ لأن الله تعالى قد جعل اللبن خاصية وجعله خالصا ، وأيضا فإنا نقول المني نجس غير منجس لحديث عمار.

__________________

(١) أيضا القيل للزمخشري ذكره في الجزء الثاني من الكشاف ص ٦١٥.

(٢) ابن فلان يؤبن بكذا أي يذكر بقبيح وفي ذكر مجلس رسول الله لا تؤبن فيه الحرم أي لا تذكر وإبان الشيء بالكسر والتجديد وقته يقال كل الفاكهة في إبانها أي في وقتها.

١١٨

وكذا لا يقال : إذا قاء البلغم لا يكون نجسا لمجاورة ما في المعدة لما تقدم أن للبن خاصية وهو مخصوص بالإجماع.

ولهذا تكملة : وهي أن يقال : هل يستدل بالآية على تحريم شرب لبن ما لا يؤكل لحمه كالأتان والخيل ، ونحو ذلك ؛ لأن الله تعالى خص الامتنان في لبنها ، فدل على مخالفته لغيره؟.

قلنا : في الآية إشارة إلى ذلك ، وإن كان مفهوم اللقب ضعيفا ، وهذا قد ذكره المنصور بالله.

أما لبن بقر الوحش ، وحمر الوحش إن قلنا بجواز أكله فلبن الإناث منه طاهر بلا إشكال.

وأما جواز شربه فلعله يجوز قياسا على حل لحمه.

قوله تعالى

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [النحل : ٦٧]

اعلم أن المفسرين اختلفوا هل في الآية دلالة على إباحة المسكر أم لا؟

فقيل : هي دلالة على إباحة المسكر : أي جنس المسكر.

ووجه الدلالة : أن الله تعالى ذكر ذلك لبيان الامتنان علينا بما جعل لنا من ثمرات النخيل والأعناب ، كما ذكر الركوب والزينة في الخيل والبغال ، ويدخل في هذا الخمر والنبيذ ، : وهذا قول قتادة ، والشعبي ، والنخعي ، لكن قال هؤلاء : إنها منسوخة بما نزل من تحريم الخمر في المائدة.

وقال أبو مسلم : هذا خطاب للكفار ، والخمر من شرابهم ، فذكر تعالى ما امتن به عليهم ، ويكون ذلك قبل التحريم.

١١٩

وقال كثير من الحنفية ـ ورجحه الحاكم ـ أنها دالة على إباحة المطبوخ من المسكر ، ولا وجه للنسخ مع إمكان الجمع بين الأدلة ، فيكون في هذا دلالة على إباحة المطبوخ ؛ لأنا لو لم نبحه بطلت فائدتها ، وما ورد من التحريم في غيرها حمل على غير المطبوخ.

وقيل : فيها دلالة على إباحة الأنبذة : من البر والعسل ؛ لأن الخمر قد يخرج القليل منه بالإجماع ، فبقي النبيذ ، هذه أربعة أقوال.

وقيل : الآية لا تدل على إباحة المسكر ؛ لأنه تعالى ذكر ذلك جامعا بين الإباحة والعتاب ، والمعنى : أنه تعالى جعل لكم ثمار النخيل والأعناب لتأكلوها فخالفتم وجعلتم منها سكرا.

وقد فسر بأن المراد الاستفهام ـ أي : أفتتخذون منه سكرا ـ لكن حذف الهمزة إنما يكون لقرينة.

واعلم أن مذهب أئمة أهل البيت ، عليهم‌السلام ، والشافعي ، ومالك : تحريم ما أسكر كثيره وقليله من الخمر وغيره ، لما ورد من صريح الأخبار نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وغير ذلك.

وقال أبو حنيفة : دون المسكر من غير الخمر حلال ، واحتجوا بظاهر الآية وبما رواه البخاري عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حرمت الخمر لعينها والسكر من غيرها».

قلنا : قد روي (والمسكر من غيرها).

قالوا : روي عن ابن مسعود أنه قال : شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم ، ثم شهدت تحليله فحفظت ونسيتم.

وعن أبي موسى بعثني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا ومعاذ إلى اليمن فقلنا : يا رسول الله إن بها شرابين من البر والشعير أحدهما يقال له : المزر ، والآخر

١٢٠