تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

يقال له : البتع ، فما نشرب؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أشربا ولا تسكرا» هكذا في النهاية.

قلنا : هذا لا يعارض الصريح وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما أسكر كثيره فقليله حرام» ، وأيضا فإنا نعضد ما قلنا بالقياس على دون المسكر من الخمر ، وأيضا فإنا نقول : كل مسكر خمر كما ورد في الخبر.

قال جار الله : وقد صنف شيخنا أبو علي الجبائي غير كتاب في تحليل النبيذ ، فلما شيخ وأخذت منه السن قيل له : لو شربت منه ما تتقوى به فأبى ، فقيل له : فقد صنفت في تحليله؟ فقال : تناولته الدعارة فسمّج في المروة ، وأراد بالدعارة : أهل الفسق ، والخبث.

والسكر ، يطلق على الشراب المسكر ، ويطلق على المصدر ، ويطلق على الطعم ، قال الشاعر :

جعلت أعراض الكرام سكرا

ويطلق على السكون فيقال : ليلة ساكرة أي : ساكنة ،

وقوله تعالى : (وَرِزْقاً حَسَناً).

قيل : أراد بذلك ما حل كالرّب (١) ، والخل ، والتمر ، والزبيب : عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وغيرهم.

وقيل : السكر : ما يشرب ، والرزق : ما يؤكل.

قال جار الله : ويجوز أن يرجع قوله : (وَرِزْقاً حَسَناً) إلى السكر ، أي : وهو رزق حسن.

__________________

(١) لسان العرب ج : ١ ص : ٤٠٦.

الرّب : ما يطبخ من التمر وهو الدبس أيضا.

١٢١

قوله تعالى

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [النحل : ٧١].

لهذه الآية ثمرات :

الأولى : أنه إذا عرف العبد أن الله ـ تعالى ـ جعل المفاضلة في الأرزاق لحكمة علمها لزم من ذلك الرضاء ، وحرم السخط ، والحسد ، ولزم الشكر على ما قضى به الله من موجب حكمته.

وأما الإجمال في الطلب : فقد ورد بذلك آثار :

منها : ما رواه الإمام أبو طالب ـ بإسناده ـ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أيها الناس إن أحدكم لن يموت حتى يستكمل رزقه فلا تستبطئوا الرزق ، واتقوا الله أيها الناس وأجملوا في الطلب».

ويروى لعلي عليه‌السلام ذكر ذلك في الأمالي لأبي طالب ـ :

إذا يقضي لك الرحمن رزقا

يعد لرزقه المقضي بابا

وإن يحرمك لا تسطع بحول

ولا رأي الرجال له اكتسابا

فأقصر في خطاك فلست تغدو

بحيلتك القضاء ولا الكتابا

فهذا يقضى بأنه يترك الطلب والاكتساب ، وأنه لا يفيد.

وروى الحاكم : ـ في السفينة ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه قال : «ما في الأرض عبد يموت حتى يستكمل رزقه» ولقي أمير المؤمنين رجلا ضعيفا ـ وقد ملك مالا عظيما ـ وهو يسمى وبرة فقال :

سبحان رب العباد يا وبرة

ورازق المتقين والفجرة

لو كان رزق العباد من جلد

ما نلت من رزق ربنا وبرة

ويروى من قصيدة عروة بن أذينة :

١٢٢

إني لأعلم والأرزاق جارية

أن الذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى له فيعنيني تطلّبه

ولو قعدت أتاني لا يعنيني

وقد دسّ في ذلك من الآثار والأخبار ، وورد غير هذا وهو أن السعي لطلب الرزق محمود ، قال الله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) [النساء : ٢٩].

وفي الحديث عنه عليه‌السلام : «طلب الحلال فريضة بعد الفريضة».

وفي السفينة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من طلب الدنيا حلالا سعيا على أهله ، وتعطفا على جاره ، واستعفافا عن المسألة لقي الله ونور وجهه كالقمر ليلة البدر».

ولما دخل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أهل قباء وأخبروه بانقطاعهم وتوكلهم على الله لم يزل بهم حتى تفرقوا ، وصاروا بعد ذلك أهل التجارات.

قال في منتخب الأحياء : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله يحب العبد يتخذ المهنة ليستغني بها من الناس ، ويبغض العبد يتعلم العلم يتخذه مهنة».

وفي الحديث : «إن الله تعالى يحب المؤمن المحترف».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليكم بالتجارة فإن فيها تسعة أعشار الرزق» إلى غير ذلك.

قلنا : أما إضافة الرزق إلى الله تعالى ، وأنه الخالق له فهذا مذهب عامة أهل الإسلام ؛ لأن الرزق من الأعيان ، وسائر المنافع لا يقدر على اتخاذها إلا الله تعالى.

وقالت المطرفية : إن الرزق فعل العبد يحصل بالحيل.

قلنا : قد يضاف تارة إلى الله تعالى ، : وذلك ما لا سبب فيه من العبد ، وتارة يضاف إلى العبد : وهو ما يكون سببه منه : كالتصيد

١٢٣

والاحتطاب ونحو ذلك ، وليس ذلك بموجب فقد يتصرف ويتجر شخص ولا يحصل له رزق ، ويتجر آخر ويحصل الرزق ، وذلك إنما يكون من علم الله تعالى بالمصلحة.

وأما الأفضل من الاتكال والإهمال ، أو من السعي فالذي تظاهرت به الأدلة أن السعي أفضل.

قال في منتخب الأحياء : إلا العابد اشتغل بالعبادات القلبية (١) وعالم يستغل بما ينفع الناس بدينهم كالمفتي. ورجل اشتغل بمصالح الناس كالسلطان ، والقاضي ، وما ورد من الإجمال في الطلب فليس المراد به الترك ، بل أريد الإقساط والبعد من الحرام.

الآثار : قال لقمان لابنه : استغن بالكسب الحلال عن الفقر فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال : رقة في دينه ، وضعف في عقله ، وذهاب في مروءته.

وسئل إبراهيم عن التاجر الصدوق أهو أحب إليك أو المتفرغ للعبادة؟

قال : التاجر الصدوق أحبّ إليّ ؛ لأنه في جهاد ، يأتيه الشيطان من قبل المكيال والميزان ، ومن قبل الأخذ والعطاء.

وقيل لأحمد ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال : لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد : هذا رجل جهل العلم.

__________________

(١) وهي تكاليف القلب كمراقبته بالإخلاص والوعيد وأن لا يشتغل بغير المعبود مع اتصافه بصفات الكمال من الصبر والتواضع وأن لا يرى له شيئا من أفعاله بل يعدها حقيرة فلا يزال في زيادة وانتباهة على مكايد السلطان والإرشاد على دفعها وغيرها مما اشتمل عليه علم الدقائق من التكليفات الواجبة والمدونة تمت.

١٢٤

وقال أبو قلابة لرجل : لأن أراك تطلب معاشك أحبّ إليّ من أن أراك في زاوية المسجد.

قال الغزالي : التكسب أفضل لقدر الكفاية له ، ولعوله لا لطلب الزائد ؛ لأن ذلك إقبال على الدنيا التي حبها رأس كل خطيئة ، ولو كان يحصل رزقه بغير سؤال فالتكسب أفضل ؛ لأنه إذا انقطع عن التكسب فهو سائل بلسان الحال ، إلا لمن تقدم أنه مستثنى ، وهذا مذهب جماهير العلماء.

وقال قوم من المتصوفة : إن الكسب حرام ، وهو خطأ وهو مخالف لأدلة العقل والسمع ، لا يقال : إن ذلك يؤدي إلى معاونة الظلمة بأخذ الجبايات ؛ لأنه لم يرد ذلك ، ولو لزم هذا لزم أن لا تزرع أرض ولا يملك ماشية خوفا من الظلمة والسباع ، وهذا خارج بالإجماع.

لا يقال : قد اختلط الحلال بالحرام فلا يأمن أن يواقع الحرام ؛ لأنه ما كلف إلا ما يطيق من البعد عمن في يده الحرام ، والظاهر من أمواله ذلك ، وهذا مسألة لها تعلق بعلم الفقه ، وعلم الكلام.

الثمرة الثانية : تعلق بقوله تعالى : (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ).

أي : أنهم لا يرضون بمشاركة مماليكهم فيما ملكت أيمانهم ، وفي هذا إشارة إلى أنه لا تجب المساواة بينهم وبين مماليكهم ، لأنه تعالى ذكر ذلك عقيب خبره تعالى بالتفضيل في الرزق ، وإن من عادة المالكين أنهم لا يرضون بالمشاركة ، ولم يمنعهم من ذلك ، ولكن المشاركة والمساواة مستحبة.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : ويحكى أنه لما سمع أبو ذر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون ، وأطعموهم مما تأكلون»

١٢٥

فما رؤي عبده بعد ذلك إلّا ورداؤه كردائه ، وإزاره كإزاره ، من غير تفاوت.

وقيل : إنه عليه‌السلام قال هذا لقوم عادتهم الخشن وفي ذلك بعد ؛ لأنه أراد أن لا يخصوهم بالأدنى.

قال الحاكم : واستدل بعضهم بهذه الآية أن العبد لا يملك من حيث نفى رد الرزق عليه.

قال القاضي : لا دليل فيها ؛ لأن في الآية أنه لا يرد الرزق عليه ، وليس فيها أنه إذا ردّ لم يصح وسيأتي زيادة في هذا الحكم.

قوله تعالى

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) [النحل : ٧٥]

هذا تمثيل لحال الكفار في إشراكهم لله تعالى بعبادة الأوثان ، بمن سوّى بين العبد الذي لا يقدر على شيء وبين الحر الذي رزقه الله رزقا حسنا.

قال جار الله : وإنما قال : (عَبْداً مَمْلُوكاً) فذكر المملوك : ليخرج الحر ؛ لأنه يطلق على الحر اسم العبد ؛ لأنه عبد لله.

وإنما قال : (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) : ليخرج المكاتب والمأذون له ؛ لأنهما لا يقدران على التصرف ، فصارت الأحكام بالإضافة إلى الملك منقسمة فما تعلق بالحر فذلك ملك حقيقي فتتبعه أحكام الملك ، وما تعلق بالمكاتب فله شبه من أحكام الحر ، وذلك صحة بيعه وشرائه.

ومن أحكام العبد : أنه لا يجب عليه الحج بملك المال وزكاة ما في يده موقوفة على خلاف في ذلك.

١٢٦

وما تعلق بالمأذون فله شبه بالحر في شيء من الأحكام وهي صحة بيعه ، وشبه بالعبد وهو أنه لا يملك حقيقة.

وقد استدل بهذه الآية : على أن العبد لا يملك وإن ملّك ؛ لأنه تعالى شبهه بالأوثان وهي الحجارة ، وهي لا تملك ، ووصفه تعالى بأنه لا يقدر على شيء فلو ملك لكان قادرا ، وهذا مذهبنا وأبي حنيفة.

وقال مالك وقول للشافعي : إنه يملك إذا ملّك.

وقد احتج بهذه الآية من قال : إنه لا يملك ؛ لأن الله تعالى مثله بالحجارة ، وهي لا تملك والحجة من طريق القياس أظهر ؛ لأنه لو ملك لثبتت له أحكام الملك من لزوم الحج والنكاح.

وقد ذكر في ذلك صور :

منها : إذا مات رجل وله ابن أو غيره عبد فإنه لا يرثه. قال أبو جعفر : ذلك إجماع إلا عن طاوس.

ومنها : إذا ملّك رجل عبدا لغيره عينا فإنه لا يملكها عندنا وأبي حنيفة.

وعن مالك وأحد قولي الشافعي : يملك.

قوله تعالى

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) [النحل : ٨٠]

هذه : دلالة على جواز استعمال صوف الأنعام وجلودها في الحضر والسفر باستعمال الخيام والقباب ، ونحو ذلك.

ولهذا تابع وهو أن يقال : تخصيص هذا بالذكر لا يدل على تحريم ما

١٢٧

عدا ذلك من أصواف غير الأنعام ؛ لأن مفهوم اللقب ضعيف ، فيدخل في هذا شعر غيرها مما يؤكل ومما لا يؤكل ، مما يكون طاهرا من الشعور.

وقد جاءت الأحاديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له عمامة من الخز.

وكذا يلحق غير ذلك فلو جز صوف الثعالب ونحوها وغزله جاز استعماله.

وهل يدخل في هذا شعر الآدمي ، وأنه إذا جز جاز غزله ، واستعمل غزله فيما يمكن؟

قلنا : هذا محتمل أنه يجوز لطهارته ، وأنه لا يجوز ؛ لأن له حرمة ، ولأنه قد ذكر فيه أنه يدفن ، وقد ذكر في الشرح في حجة الأخوين أنه لا يجوز بيع لبن الآدمية كما لا يجوز بيع شعرها.

قوله تعالى

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) [النحل : ٨٤]

قال الحاكم : في ذلك دلالة على أنه لا يجوز خلو الزمان عن حجة لله في أرضه كما يقوله أبو علي ، هذا إذا فسر الشهيد بالمؤمنين.

وقيل : أراد الرسل. وقيل : أراد الجوارح.

قوله تعالى

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل : ٨٨]

الثمرة من ذلك : أن الصد عن سبيل الله من الكبائر ؛ لأنه تعالى توعد عليه بزيادة العذاب.

١٢٨

واختلف ما أريد بذلك؟

فقيل : يمنعون من الإيمان.

وقيل : يصدون عن قصد البيت ، وهو يدخل في إطلاق اللفظ كلّ مانع من سبل الخير ، ويدخل في ذلك من يحرف العلم عالما ، ومن يخذّل عن الإمام ، ومن ينفّر عن وظائف الطاعات.

قوله تعالى : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ).

قال جار الله : قيل في زيادة العذاب حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال ، تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفا.

وقيل : يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار.

وعن ابن عباس ومقاتل : أنهار من صفر مذاب كالنار يعذبون بها.

قوله تعالى

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)

قيل : أراد هنا الرسل.

وقيل : المؤمنين من كل أمة ، وأعاده ليبين المشهود عليهم ، أو اليوم الذي يشهدون فيه.

وقيل : أراد هنا شهادة الجوارح.

وقيل : الأول الحفظة ، وهذا الرسل ، وفي هذا ما قال أبو علي : إن كل عصر لا يخلو من عدول ، والدلالة مجملة.

قوله تعالى

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : ٩٠]

روي عن ابن مسعود أنه قال : هذه أجمع آية في كتاب الله ، ولما

١٢٩

تلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عثمان بن مظعون ، قال : ذلك حين استقر الإيمان في قلبي.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قرأها على الوليد بن المغيرة قال : يا ابن أخي أعد؟ فأعاد ، فقال : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وأن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول بشر.

وقال أبو جهل : إن الله يأمر بمكارم الأخلاق.

واعلم أن الله سبحانه قد أمر فيها ثلاثة أشياء ، ونهى عن ثلاثة.

أما ما أمر به فالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى.

واختلف المفسرون :

فقيل : العدل : هو الفرض ؛ لأن الله تعالى عدل فيها على عباده فكلفهم ما يطيقونه.

والإحسان : هو الندب ، وإنما جمع بينهما في الأمر ؛ لأن الفرض لا يكاد يخلو من النقصان ، والنفل كالجابر له ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «استقيموا ولن تحصوا».

وعن ابن عباس : العدل ، والتوحيد ، والإحسان : أداء الفرائض :

وهكذا عن مقاتل ، وعطاء.

وقيل : العدل في الأفعال ، والإحسان في الأقوال.

وقيل : العدل في معاملة غيرك ، والإحسان مع نفسك فلا تلقها في العذاب.

وقيل : الإحسان التفضل مع الناس ، فيدخل في ذلك الإحسان بالأموال ، والأخلاق والإرشاد ، والسعي الجميل.

وعن ابن عيينة : العدل استواء السر والعلانية. والإحسان : كون السر أحسن.

١٣٠

وأما قوله تعالى : (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى).

قيل : أراد إعطاء ذوي القربى حقهم من صلة الرحم ؛ فيلزم من هذا أن تكون الصدقة عليهم أفضل.

وأما المنهي عنه فهو : الفحشاء ، والمنكر ، والبغي.

قال جار الله : الفحشاء : ما جاوز حدود الله. والمنكر : ما تنكره العقول. والبغي : هو التطاول على الغير.

وقيل : الفحشاء : القبائح التي لا تظهر ، والمنكر : ما يظهر.

وقيل : الفحشاء : الزنا. والمنكر : ما ينكره الشرع. والبغي : الظلم والكبر عن ابن عباس.

قال جار الله : ولما سقط من الخطب لعنة اللاعنين لعلي عليه‌السلام أقيمت هذه الآية مقامها ، ولعمري إنها كانت فاحشة ومنكرا وبغيا.

وقيل : إن هذه الآية قد عمت جميع ما يتعلق بمصالح الدين والدنيا.

قوله تعالى

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها)

الثمرة من ذلك :

وجوب الوفاء بعهد الله ، وأنه لا يجوز نقض اليمين ، وأنه يجوز توكيد اليمين.

واختلف المفسرون ما المراد بعهد الله :

فقيل : أراد من يبايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ).

وقد قيل : إنها نزلت في الذين يبايعون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيجب عليهم الوفاء بالعهد ، ويأتي مثل هذا من يبايع الإمام.

١٣١

وقيل : نزلت في حلف الجاهلية عن مجاهد ، وقتادة.

وقيل : هو الإيمان ، وقيل : ما يلزمه من جهة الشرع عن الأصم ، ويدخل فيه الجهاد ، وغيره.

وقيل : هو ما يوجبه المرء على نفسه : عن أبي مسلم.

وقيل : اليمين بالله : عن أبي علي.

وأما لزوم الوفاء باليمين : فالمعنى لا تحنثوا ؛ وهذا يدل على تحريم الحنث عموما ، لكنه يخصّ إذا كان الممنوع قربة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير» ، فلو فرضنا أن الممنوع مباح بأن يحلف لا دخل السوق ونحو ذلك. فعموم الآية : أن الحنث لا يجوز ، وهذا المحكي عن الناصر ، وأبي حنيفة ، والقاضيين ـ زيد ، وأبي مضر ـ والزمخشري (١) ، وعن الشافعي : يجوز الحنث ، وقد أطلقه بعض المفرعين من المتأخرين الفقهاء : الفقيه يحيى وحسن.

وقال الإمام يحيى : الحنث أولى ؛ لأن لا يبقى على منع نفسه من شيء علم الله أن المصلحة إباحته.

وأما تأكيد اليمين : فقد أخذ من قوله تعالى : (بَعْدَ تَوْكِيدِها) وتأكيدها : بذكر صفات الله تعالى وتكرارها ، وبالمكان ، والزمان ، وفي الحديث : «من حلف على منبري يمينا كاذبة فليتبوأ مقعده من النار» ولا إشكال في عظم اليمين المؤكدة.

وأما إجبار الحاكم عليها فليس بمأخوذ من الآية ، وفي ذلك اختلاف بين أهل الفقه.

__________________

(١) واختاره الإمام شرف الدين وعبد الله الدواري ومثله ذكره النجري في معياره وقواه بعض المشايخ تمت وقد تقدم هذا الخلاف في المائدة في تفسير قوله تعالى : (وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) فينظر تمت

١٣٢

ومن ثمرات الآية :

أن قول القائل عليّ عهد الله : يمين صريح في اليمين على ما ذكره أهل المذهب ، وأبو حنيفة ، ومالك.

وقال الشافعي : ذلك كناية ، وبها استدل علي بن موسى القمّي : على أن العهد يمين ، وهو مروي عن الحسن.

قوله تعالى

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ)

هذا مثل ضربه الله تعالى لمن ينقض يمينه وعهده (١) ، أو ينقض أيمانه بمن تغزل وتقوّي غزلها ثم تنقضه.

قيل : هذه التي مثل بها ريطة بنت سعد بن تميم وكانت خرقاء (٢)

__________________

(١) تفسير القرطبي ج : ١٠ ص : ١٧١.

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) والنكث واحد والاسم النكث والنقض والجمع الأنكاث فشبهت هذه الآية الذي يحلف ويعاهد ويبرم عهده ثم ينقضه بالمرأة تغزل غزولها وتفتله محكما ثم تحله ويروى أن امرأة حمقاء كانت بمكة تسمى ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة كانت تفعل ذلك فبها وقع التشبيه قاله الفراء وحكاه عبد الله بن كثير والسدي ولم يسميا المرأة وقال مجاهد وقتادة وذلك ضرب مثل لا على امرأة معينة وأنكاثا نصب على الحال والدخل الدغل والخديعة والغش قال أبو عبيدة كل أمر لم يكن صحيحا فهو دخل تمت.

(٢) تفسير الطبري ج : ١٤ ص : ١٦٦.

حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثني حجاج عن ابن جريج قال أخبرني عبد الله بن كثير كالتي نقضت غزلها من بعد قوة قال خرقاء كانت بمكة تنقضه بعد ما تبرمه حدثنا المثنى قال ثنا إسحاق قال ثنا عبد الله بن الزبير عن ابن عيينة عن صدقة عن السدي ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم قال هي خرقاء بمكة كانت إذا أبرمت غزلها نقضته تمت.

١٣٣

اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة (١) مثل إصبع ، وفلكة (٢) عظيمة ، وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ، ثم تأمرهن بنقض ما غزلن ، والخرقاء : الحمقاء. والصنارة : الحديدة وفيها لغة بالسين.

وثمرة هذه الآية :

تحريم نقض العهد واليمين ، وإبطال الطاعات ، وتحريم السفه ؛ لأن الله تعالى شنّع بهذا المثال على من فعل فعلا فيه الضرر لا النفع ، فيدخل في هذا الخروج من الفرض صوما وصلاة ، ونحو ذلك.

وأما النفل فيخصه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الصائم المتطوع أمير نفسه» وهذا مذهبنا أنه يجوز الخروج من صوم التطوع.

وقال زيد وأبو حنيفة : من دخل في نافلة لزمه تمامها قياسا على حج النفل.

قلنا : هذا ممنوع منه لقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ).

__________________

(١) لسان العرب ج : ٤ ص : ٤٦٨.

صنر الصنارة بكسر الصاد الحديدة الدقيقة المعقفة التي في رأس المغزل وقيل الصنارة رأس المغزل وقيل صنارة المغزل الحديدة التي في رأسه ولا تقل صنارة وقال الليث الصنارة مغزل المرأة وهو دخيل والصنارة الأذن يمانية والصنارية قوم بإرمينية نسبوا إلى ذلك ورجل صنارة وصنارة سيئ الخلق الكسر عن ابن الأعرابي والفتح عن كراع التهذيب الصنور البخيل السيئ الخلق والصنانير السيئ الأدب وإن كانوا ذوي نباهة وقال أبو علي صنارة بالكسر سيئ الخلق ليس من أبنية الكتاب لأن هذا البناء لم يجىء صفة والصنار شجر الدلب واحدته صنارة عن أبي حنيفة قال وهي فارسية تمت.

(٢) لسان العرب ج : ١٠ ص : ٤٧٨.

الفلكة من البعير موصل ما بين الفقرتين وفلكة اللسان الهنة الناتئة على رأس أصل اللسان وفلكة الزور جانبه وما استدار منه وفلكة المغزل معروفة سميت لاستدارتها وكل مستدير فلكة والجمع من ذلك كله فلك تمت.

١٣٤

فلو أنه رفض الطاعة التي فعلها ، وأراد أن يستأنف غيرها ، فإن كانت كاملة لم يصح رفضه.

وإن أراد أن يعيدها أكمل منها ، وكانت ناقصة ، وهذا نحو أن يصلي فرادى ثم أراد رفض هذه ، ويدخل في جماعة مؤتما ، فقال الإمام يحيى : لا يصح رفضه ، واحتج بالآية.

وقال الهادي عليه‌السلام وغيره : يصح ، وقد ورد في ذلك خبران :

أحدهما : أن الفريضة هي الثانية ، وذلك خبر يزيد بن عامر ، وأخذ به الهادي ، ومالك ، والأوزاعي ، وبعض أصحاب الشافعي.

الثاني : أن الفريضة هي الأولى ، وذلك خبر يزيد بن الأسود ، وأخذ به المؤيد بالله ، وأبو حنيفة ؛ لكنه لم يصرح بذلك ولكن قال عليه‌السلام «فصليا معهم فإنها لكما نافلة» فقالت الهدوية : يحتمل أنه أراد الثانية ، ويحتمل أنه أراد الأولى والأول غير محتمل.

وقد يقال : المسألة مخالفة للقياس ؛ لأن القياس عدم صحة الرفض ؛ لأن الثواب قد وجب ، والعمل قد وجد ، وبراءة الذمة قد حصلت.

فلو أراد أن يؤم من صلى فرادى؟

قيل : صح على قول أبي طالب ؛ لأنه يقيس على ما ورد بخلاف القياس ، وقد ذكروا أن من طاف طوافا ناقصا بأن يفرقه بدخول الحجر أو يسعي ناقصا بأن يفرقه : أنه إذا عاد الأسبوع صح ذلك ، ويسقط عنه ما لزمه ، وهذا يمنع منه قولهم : إنّ إعادة الصلاة واردة على خلاف القياس ، وقد ذكر علي خليل أن من صلى صلاة سها فيها فإنه إذا أعادها سقط عنه سجود السهو.

أما لو توضأ ثم نوى رفض وضوءه : فقال أبو مضر ، والمنصور بالله : يصح رفضه قبل كماله لا بعده.

١٣٥

وقال الإمام يحيى بن حمزة : لا يصح قبل ولا بعد ، واحتج بالآية.

وهاهنا بحث : وهو أن يقال : الآية دالة على المنع من النقض بلا إشكال فهل فيها دلالة على أن من نوى الرفض للوضوء ونحوه أنه لا يرتفض أم لا؟

قلنا : ذكر الإمام يحيى أنها دالة على أن من نوى الرفض لم يصح رفضه ، وهو يقال : لو كان غير مقدور له شرعا لم ينه عنه.

ومعنى قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ)

أي : من بعد أن أبرمت فتله.

و (أَنْكاثاً :) جمع نكث وهو الغزل المنقوض ، وكذلك ما ينتقض من أخلاق بيوت الشعر والوبر ، وخلق الخز ليغزل مرة ثانية.

وقوله تعالى : (دَخَلاً)

ـ أي ـ : عداوة وحقدا وخديعة.

وقوله تعالى : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ)

أي ـ : أكثر وأزيد ، ومنه الربا ،

ويروى لأبي حاتم الطائي (١) :

__________________

(١) يروى لحاتم الطائي : حاتم بن عبد الله بن سعيد بن الحشرج الطائي القحطاني : أبو عدي الذي يضرب به المثل في الجود والكرم مات في عوارض (جبل في بلاد طيئ) وقبله :

متى يات يوما وارثي يبتغي الغنى يجد جمع كف غير ملء ولا صفر.

يجد فرسا مثل العنان وصارما حساما اذا ما هز لم يرض بالهبر.

واسمر خطيا كان كعوبه نوى القسب قد ارمى ذراعا على العشر.

قال في لسان العرب ج : ١ ص : ٦٧٢.

في باب قسب : القسب : التمر اليابس يتفتت في الفم صلب النواة قال الشاعر يصف رمحا.

١٣٦

وأسمر خطيا كأن كعوبه

نوى القسب قد أربى ذراعا على العشر

والمعنى : لا تنقضوا لأجل وجود من يظاهركم فيكونوا أكثر.

قوله تعالى

(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٥ ، ٩٦]

النزول

قيل : إن رجلين اختصما في أرض إلى رسول الله : فقضى باليمين على من هي معه.

فقال المدعي : إنه لا يبالي أن يحلف ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس لك إلا يمينه برا كان أو فاجرا إن لم يكن لك بينة».

قال : فأحلفه ، فنزلت الآية فتلاها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهما ، فقال المدعى عليه الأرض أرضه.

وقيل : المعنى لا تنقضوا عهد الله ، وبيعة رسول الله بما يمنيكم كفار قريش من الدنيا ؛ إن رجعتم إليهم.

وثمرة الآية :

وجوب الوفاء بالعهد ، وتحريم أخذ العوض على ترك شيء من أمور

__________________

ـ وأسمر خطيا كأن كعوبه نوى القسب قد أرمى ذراعا على العشر.

قال ابن بري هذا البيت يذكر أنه لحاتم الطائي ولم أجده في شعره وأرمى وأربى لغتان. قال الليث : ومن قاله بالصاد فقد أخطأ ونوى القسب : أصلب النوى ، والقسابة : ردىء التمر والقسب : الصلب الشديد تمت.

١٣٧

الدين ؛ من اتباع بدعة ، أو شهادة زور ، أو غير ذلك ، وتدل على حسن الصبر على أمور الدين.

وهو ينقسم كما تقدم : صبر على الطاعة ، وعلى ترك المعصية ، وعلى المصيبة ، ومنه الصبر على الأذى.

ويؤخذ من سبب النزول : أنه يستحب للحاكم تخويف المتداعيين وتحذيرهما من الوقوع في الإثم ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا الآية وكان ذلك سببا في الإقرار والسلامة من الظلم ، وفي حديث المتلاعنين قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للملاعنة : «إنه لرجم في ظهرك بالحجارة خير لك من عذاب الله».

قوله تعالى

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨]

المعنى فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) وكقولك : إذا أكلت فسم الله ،

وإنما عبر بالفعل عن الإرادة ؛ لأن الفعل يحصل عندها فاشتدت الملابسة بينهما.

وقال أبو هريرة ، وداود ، ومالك : إن التعوذ بعد القراءة ذهابا إلى ظاهر اللفظ ، والقول الأول هو قول الأئمة وعامة العلماء.

وإنما حملت القراءة على إرادتها ؛ لما روى زيد بن علي ، والمؤيد بالله بالإسناد إلى علي عليه‌السلام أنه كان يتعوذ قبل القراءة ، ولأن القارئ لما كان لا يخلو من الوسوسة من الشيطان أمر بالاستعاذة منه قبل القراءة : فكان المراد بالاستعاذة لأجل القراءة وحمل الأمر على الندب.

قال الحاكم : لأنه سنة بالإجماع.

١٣٨

فثمرة الآية :

أنه مشروع للقارئ ، وأن الأمر به سنة ، وأنه قبل القراءة عند الأكثر.

والمراد : جنس القرآن لا أن المراد جميع القرآن ، ولعل هذا إجماع ، ـ اعني أنه مشروع للبعض كما هو مشروع للكل ـ.

ولكن اختلف العلماء هل هذا للقارئ في الصلاة وفي غيرها أو للقارئ في غير الصلاة ، فقال الأكثر : إنه عام ، وهذا مذهب الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ.

وعن مالك : إنما شرع في التراويح في قيام رمضان.

وإذا قلنا : إن ذلك مشروع في الصلاة كغيرها :

فالأكثر قال : في الركعة الأولى فقط.

وقال ابن سيرين : في كل ركعة.

واختلف في صفته : فعند الهادي عليه‌السلام والقاسم : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وهو قول حمزة من القراء.

وعند المؤيد بالله والشافعي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وذلك قراءة عاصم وأبي عمرو ، وابن مسعود ، ووكيع ، وسفيان.

قال في الكشاف : وعن عبد الله بن مسعود : قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال : «يا بن أم عبد قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، هكذا أقرأنيه جبريل عليه‌السلام ، عن القلم ، عن اللوح المحفوظ» وفيه أقوال أخر غير هذا ، مأخذها من غير الآية.

واختلف العلماء هل يجهر به أو يسر؟

قال الحاكم : عند علمائنا نخفيه ، وهو قول الأكثر ، وهو مذهب : ابن مسعود ، وابن عمر.

١٣٩

وعن أبي هريرة : أنه يجهر به ، : وهو قول الشافعي.

واختلفوا هل التعوذ قبل التكبير أو بعده؟

فعند القاسم ، والهادي ، والناصر : قبل التكبير.

وعند المؤيد بالله ، والشافعي : بعد التكبير ، وشرح هذا في كتب الفقه.

قوله تعالى

(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) [النحل : ٩٩]

قال الحاكم : دل على أن الشيطان ليس يصرع ولا يخبط كما قاله الحشوية ، وأبو الهذيل ، وأبو بكر أحمد بن علي من أصحابنا.

وقيل : ـ إن المعنى ـ إن المؤمنين لا يعبئون منه دعاءه إلى الإضلال.

(إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أي : إنما يقبل منه العصاة.

قوله تعالى

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) [النحل : ١٠٦]

قيل : في اتصال قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) بما قبله وجوه :

الأول : عن أبي مسلم أنه عائد إلى قوله : (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) ثم بين صفتهم بقوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ) أي : هم من كفر بالله.

وقيل : إنه عائد إلى قوله : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)

١٤٠