تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

سورة الإسراء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) [الإسراء : ١]

ثمرة ذلك :

فضيلة المسجد الأقصى ؛ لأنه تعالى جعل له خاصية من بين سائر المساجد ، ووصفه بالبركة لما حوليه ، وأراد بالبركة في أمر الدين ؛ لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى عليه‌السلام ، ومهبط الوحي ، وأمر الدنيا ؛ لأنه مخصوص بالأنهار والثمار.

واختلف في الموضع الذي أسري منه فقيل : الحجر ، وقيل : بيت أم هانئ بنت أبي طالب.

قال جار الله : والمراد بالمسجد الحرام : الحرم لإحاطته بالمسجد.

وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد ، وقد تقدم ذكر الخلاف في المسجد الحرام المختص بفضيلة الصلاة.

قيل : كان الإسراء قبل الهجرة بسنة ، وقيل : قبل المبعث ، وكان ممن صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لذلك سمي الصديق ، وفي ذلك دلالة على فضيلة لأبي بكر.

١٦١

قوله تعالى

(إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً)

قيل : أراد نوحا ؛ لأنه المتقدم ذكره.

قيل : كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) «إذا أكل قال : الحمد الله الذي أطعمني ولو شاء لأجاعني ، وإذا شرب قال الحمد الله الذي سقاني ولو شاء لأظمأني ، وإذا اكتسى قال الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني ، وإذا احتذى قال : الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني ، وإذا قضى الحاجة قال : الحمد الله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه».

وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به ، فإن وجد محتاجا آثره به.

وقيل : أراد موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه قد جرى ذكره.

وقيل : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه افتتح السورة باسمه ، والوجه هو الأول.

قوله تعالى

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١]

في معنى هذا وجوه :

الأول : مروي عن ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد والأصم ، وأبي علي : أن المراد أن الإنسان حالة غضبة يدعو على نفسه ، وولده بالشر ، كما يدعو لنفسه وولده بالخير حال سكونه من الغضب ، فيقول : الله م هب لي النعم من الأولاد والأموال ، ونحو ذلك ، وحال الغضب يلعن ولده ويدعو الله بإصابته ، ولو استجاب الله سبحانه لأهلكه ، ولكنه تعالى لا يستجيب ذلك.

__________________

(١) يعني نوحا عليه‌السلام.

١٦٢

الثاني : أن المعنى : أن يستعجل النفع القريب فيطلب ما يتعجل الانتفاع به ، وإن كان شرا له ، ولهذا قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً).

الثالث : أن هذا في استعجال الكفار بالعذاب استعجال جحود نظيره : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الانفال : ٣٢] ، ومثل قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) [الرعد : ٦] عن أبي مسلم.

قال في الكشاف : وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا فكان يئن بالليل فقالت : ما لك تئن؟ فشكى ألم القيد ، فأرخت من كتافه فلما نامت أخرج يده وهرب ، فلما أصبح دعا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلم بشأنه فقال : «اللهم اقطع يديها» فرفعت سودة يديها توقع الإجابة أن يقطع الله يديها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني سألت الله تعالى أن يجعل لعنتي ودعائي ـ على من لا يستحق من أهلي ـ رحمة ؛ لأني بشر أغضب كما يغضب البشر» فلترد سودة يديها.

وعن ابن عباس : هو النضر بن الحارث قال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية ، فأجيب له فضربت عنقه صبرا ، هكذا في الكشاف ،

وثمرة الآية :

النهي عن الدعاء بما لا مصلحة فيه ، وإصداره حال الغضب من غير نظر.

قوله تعالى

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥]

المعنى لا يأثم أحد بإثم غيره ، وهذا في أحكام الآخرة.

١٦٣

وأما أحكام الدنيا فقد يكون إثم الإنسان متعديا إلى غيره نحو أطفال الكفار لا يصلى عليهم ، ولا يدفنون في مقابر المسلمين ، ولا يرثون من مسلم ، ونحو ذلك ، وكذلك فعل الإنسان قد يتعدى ضمانه إلى الغير ، كما تحمله العاقلة.

وقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) يعني : بما دلت عليه الأدلة السمعية لا العقلية.

وثمرة ذلك : أن من ارتكب محرما شرعيا قبل [أن] يعلم بتحريمه ، أو ترك واجبا قبل [أن] يعلم وجوبه فلا شيء عليه ، ولكن هذا إذا لم يتمكن من السؤال ،

وقد اختلف العلماء فيمن ترك الصلاة بعد إسلامه ولم يعلم بوجوبها عليه.

فقال المؤيد بالله : يلزم القضاء ، وليس في الآية دلالة على ترك القضاء ، إنما دلت على سقوط الإثم ، ولا فرق بين أهل الذمة في دار الحرب أو دار الإسلام.

وقال أبو حنيفة وأبو طالب : يلزم إن أسلم في دار الإسلام لا إن أسلم في دار الحرب ؛ لأن في دار الإسلام ما ينبه على النظر من الأذان ، وسائر أعلام الدين ، فقد أتى من جهة نفسه.

ورواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة : لا تجب مهما لم يعلم ، سواء كان في دار الحرب أو دار الإسلام ، وتكون الآية دليلا على عدم الوجوب ، والاستدلال بها محتمل.

١٦٤

قوله تعالى

(وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)

وثمرة هذه الآية الكريمة :

لزوم القيام بحق الوالدين ، وقد أكد الله تعالى حق الوالدين من وجوه.

منها : أنه تعالى أمر بذلك قضاء مجزوما فقال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ) وفي قراءة بعض أولاد معاذ : (وقضاء ربك) بجر الباء من (ربك) ، وقرئ ووصى ربك ، وقرئ وأوصى ربك ، وهي أحادية.

ومنها : أنه تعالى قرن الأمر بحقهما بالأمر بحقه ، وشفعه به.

ومنها : أنه تعالى ضيق الأمر بحقهما ، ولم يسقطه في حال ، ولا رخص فيه بأدنى كلمة.

ومنها : إلزام القيام بحق الله في حال ينتهي الإنسان فيها إلى حال الضجر ، وضيق الخاطر من بلوغهم الكبر ، وانتهائهما إلى حالة ينفر عنهما.

ومنها : نهيه عن أدنى قول يؤذيهما ، فقال تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ).

قال أبو علي ، وأبو مسلم : يعني لا يتبرم (١) بهما ولا يضجر ؛ لأن المتبرم يكثر الأف.

__________________

(١) مختار الصحاح ج : ١ ص : ٢٠.

برم به من باب طرب وتبرم به أي سئمه وأبرمه أمله وأضجره وأبرم الشيء أحكمه تمت.

١٦٥

وعن ابن عباس : كلمة كراهة ، وقيل : الكلام الرديء الغليظ عن مقاتل.

وقيل : لا تقل لنتنهما أف.

قال مجاهد : إن بلغا من الكبر حالة يبولان ويتغوطان فلا تقذرهما ، وأمطه عنهما كما كانا يميطان عنك صغيرا.

وقوله تعالى : (وَلا تَنْهَرْهُما) يعني لا تزجرهما.

(وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) أي حسنا وقيل : يكرمهما به عن أبي علي.

وقيل : كقول العبد المذنب للسيد : عن ابن المسيب.

وقيل : لا تكنّهما ولا تسمهما وقل : يا أبة يا أمه : عن عطاء ، كما قال إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبيه : يا أبة مع كفره.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : لأن دعاءهما باسمهما : من الجفاء وسوء الأدب ، وعادة الدعار قال : ولا بأس به من غير وجهه ، كما قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : نحلني أبو بكر كذا.

وقوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)

فيه وجهان :

أحدهما : واخفض لهما جناح الذليل أو الذلول كما قال تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر : ٨٨] ، وأضاف الجناح إلى الذل كما أضيف حاتم إلى الجود.

والثاني : أنه تعالى جعل للذل لهما جناحا استعارة.

١٦٦

وقد جاء مثل هذا في كلام لبيد (١) ، فإنه جعل للشمال يدا حيث قال :

وغداة ريح قد نشقت وقرة

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

والمعنى ترك الترفع كما يتركه الطير بخفض جناحه إذا ذل.

وقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما)

المعنى وادع الله أن يرحمهما.

قال الحاكم : هذا إذا كانا مؤمنين لا إن كانا كافرين ، لقوله تعالى في سورة براءة : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) [التوبة : ١١٣].

قال جار الله : وإذا كانا كافرين : فله أن يسترحم لهما بشرط الإيمان ، وأن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد.

ومن الناس من قال : كان الدعاء إلى الكفار جائزا ، ثم نسخ.

وسئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال : كل ذلك واصل إليه ، ولا شيء أنفع له من الاستغفار ، ولو كان شيء أفضل منه لأمر به في الأبوين.

وقد قالت الفقهاء : لا يذهب بأبيه إلى البيعة ، وإذا بعث إليه ليحمله منها فعل ، ولا يناوله الخمر ، ويأخذ الإناء منه إذا شربها ، وهذا يشبه تمكين الذمي المأكول في شهر رمضان إن جعلناه فعلا محظورا.

__________________

(١) للبيد العامري وقبله.

بادرت حاجتها الدجاج بسحرة

لاعل منها حين هب نيامها.

وغداة ريح قد وزعت وقرة

اذ اصبحت بيد الشمال زمامها.

وهو لبي بن ربيعة بن مالك أبو عقيل العامري أدرك الإسلام وهو من المؤلفة قلوبهم وسكن الكوفة وتوفي سنة ٤١ ه‍ وباب الاستشهاد حيث جعل للشمال يدا على سبيل الاستعارة كما في جناح الذل تمت.

١٦٧

وعن أبي يوسف : إذا أمره أن يوقد تحت قدره وفيها لحم الخنزير أوقد.

وعن حذيفة أنه استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قتل أبيه وهو في صف المشركين ، فقال : «دعه يليه غيرك».

وسئل الفضيل بن عياض : عن بر الوالدين فقال : ألّا يقوم إلى خدمتهما عن كسل.

وسئل بعضهم فقال : ألا ترفع صوتك عليهما ، ولا تنظر شزرا إليهما ، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن ، وان ترحم عليهما ما عاشا ، وتدعو لهما إذا ماتا ، وتقوم بحق أودّائهما من بعدهما.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه» تم كلام جار الله.

وقد ذكر الإمام يحيى وأصحاب الشافعي : أنه يكره أن يستأجر الرجل أباه ، وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يؤم الرجل أباه».

وللوالد أحكام شرعية جعلت لحرمته مع ما ذكر :

وهي : أنه لا يقاد بولده ، ولا يقطع إن سرقه.

وفي حده إذا قذفه الخلاف :

فعند الهادي ، والقاسم ، والأوزاعي : يحد ؛ لأن الحد حق لله.

وعند أبي حنيفة وأصحابه ، والشافعي : لا يحد كما لا يقطع ولا يقاد.

وإذا وطئ الأب جارية ابنه فلا حد ، ويستهلكها إن علقت ، وله ولاية في الإنفاق على نفسه إن غاب الولد.

قال جار الله : وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رضاء الله في رضاء الوالدين ، وسخطه في سخطهما».

١٦٨

وروي : «يفعل البار ما شاء أن يفعله فلن يدخل النار ، ويفعل العاق ما شاء أن يفعله فلن يدخل الجنة».

وعن سعيد بن المسيب : إن البار لا يموت ميتة سوء.

وقال رجل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن أبوي بلغا من الكبر أني ألي منهما ما وليا مني في الصغر ، فهل قضيتهما؟ قال : «لا ، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك ، وأنت تفعل ذلك وأنت تحب موتهما» وهذا باب واسع ، وفيه أخبار وآثار وترغيبات يطول ذكرها.

اللهم إني أتضرع إليك بذاتك العظمى ، وأسمائك الحسنى ، أن تصلي على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن تغفر لوالدي ، وتجزيهما عني أفضل الجزاء ، اللهمّ إني استغفرك لهما ، وأسألك أن ترحمهما ، بجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.

قوله تعالى

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء : ٢٦ ـ ٢٩]

هذه الجملة قد تضمنت أمرا ونهيا ، فالأوامر أربعة :

الأول : قوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)

وهذه عطف على ما تقدم من قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)

وقد اختلف المفسرون في القربى الذي أراد :

فعن ابن عباس ، والحسن : أنه أراد قرابة الإنسان أمر الله تعالى بصلتهم. وحقهم : صلتهم بالموادة والزيارة ، وحسن المعاشرة ،

١٦٩

والمؤالفة على السراء والضراء ، والمعاضدة ، سواء كانوا محارم أم لا ، هكذا ذكر جار الله.

وأما الإنفاق :

فعند الأئمة يجب نفقة الفقير على قريبه الوارث له بالنسب لهذه الآية ، ولقوله تعالى في سورة البقرة : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) [البقرة : ٢٣٣].

وقال أصحاب الشافعي : لا تجب النفقة إلا على الولد والوالدين.

وعند الحنفية يجب على الغني إنفاق الفقير من الأرحام العاجز عن التكسب.

قال في مسالك الأبرار بالإسناد إلى جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الرحم معلقة بالعرش لها لسان ذلق تقول : اللهمّ صل من وصلني واقطع من قطعني» فسره الحاكم : بأن ذلك على سبيل التمثيل ، قال : ويحتمل أنه تعالى يخلق خلقا يقول ذلك ، كما روي أنه يجاء يوم القيامة بالموت على صورة كبش فيذبح.

قال : وصلة الرحم : قد تكون بالنفقة والموالاة.

وقيل : إن القرابة الذي أراد الله تعالى هم قرابته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عن علي بن الحسين. وروى السدّي : أن علي بن الحسين قال لرجل من أهل الشام ممن بعث به عبيد الله بن زياد إلى يزيد : أقرأت القرآن؟ قال : نعم ، قال : أفما قرأت (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ؟) قال : وأنتم القرابة الذين أمر الله تعالى أن يؤتى حقه؟ قال : نعم.

قال الحاكم : قيل : إن الأول أولى ؛ لاتصاله بالأبوين ، وحقوق قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي الموالاة ، والموادة ، والتعظيم.

وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أولى رجلا من بني عبد المطلب معروفا ولم يقدر على مكافأته كافأته عنه يوم القيامة».

١٧٠

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ادخرت شفاعتي لثلاثة من أمتي : رجل أحب أهل بيتي ... إلى آخر الخبر».

الأمر الثاني : ما أمر به تعالى من إيتاء المسكين حقه.

والثالث : ما أمر به تعالى من إيتاء ابن السبيل حقه.

والمسكين : الذي لا شيء له ، وهو أضعف من الفقير عند الأئمة ، وأبي حنيفة.

وقال الشافعي : الفقير أضعف.

وابن السبيل : المسافر المنقطع عن ماله.

وقيل : المسكين : السائل. وابن السبيل : الضيف : وحقهما ما يجب من دفع الخلة عنهما ، ولهما حق في الصدقة.

ومن حقوقهما الإيناس بالمودة ، والمخاللة ، وقد جاء في الحديث : «وخالط أهل الذلة والمسكنة».

الأمر الرابع : القول الميسور عند الإعراض.

وقد اختلف في تفسير ذلك فقيل : المعنى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) أي : بترك عطائهم لفقد رزق من ربك ترجوه (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) أي : سهلا لينا ، أو عدهم عدة جميلة ، وأراد بالرحمة الرزق ، وأراد بالابتغاء الفقد ؛ لأن فاقد الرزق مبتغ له ، فكأن الفقد سبب الابتغاء ، والابتغاء مسبب عنه ، فوضع المسبب موضع السبب.

وأراد بالإعراض : عدم الإعطاء لا الإعراض بالوجه فكنّى بالإعراض عن عدم الإعطاء ؛ لأن الذي لا يعطي يعرض بوجهه ، ويجوز أن يتعلق قوله : (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) بجواب الشرط مقدما عليه ، بمعنى أن القول اللين والوعد الجميل ابتغاء الرحمة من الله.

قيل : يقول : رزقنا الله وإياكم من فضله.

١٧١

والميسور : ـ بمعنى ـ أن الله تعالى ييسر عليهم.

وروي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا سئل ـ وعنده شيء ـ : أعطاه ، وإن لم يكن عنده شيء قال : «سيرزقنا الله وإياكم».

وقيل : تعرض عنه خشية الإنفاق في المعصية ، فتبتغي رحمة من ربك ترجوها له بالتوبة.

وهذا يفيد إجابة السائل ، فإن تعذر فيرد بالقول الجميل.

وينبغي الإعراض عن إعطائه : إن عرف أنه ينفقه في المعصية ، ومحبة أن يرحمه‌الله بالتوبة عن خطيئته.

وقيل ـ في سبب نزولها ـ : أنها نزلت في مهجع ، وبلال ، وصهيب ، وسالم ، وخباب كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحتاجون إليه ، فيعرض عنهم حتى نزل قوله تعالى : (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) وكان يقول : يرزقنا الله وإياكم.

وأما النهي : فذلك ثلاثة أمور :

قوله تعالى (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً).

والتبذير : هو إنفاق المال في غير حقه من سرف في معصية ، أو رياء ، أو طلب تفاخر ، ويدخل في ذلك الرشا ، وما تعطى المغنية ، والنائحة ، كانت الجاهلية تنحر إبلها في الميسر ، وتنفق المال في الفخر والسمعة ، وتذكر ذلك في أشعارها.

وعن مجاهد : لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا ، وقال : لا سرف في الخير وإن أكثر.

وعن ابن عمر : مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسعد وهو يتوضأ فقال : «ما هذا السرف يا سعد»؟ قال : أو في الوضوء سرف؟ قال : «نعم ، وإن كنت على نهر جار».

١٧٢

الثاني : من المنهيات : الشح ، وذلك المراد بقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) وهذا كناية عن البخل.

والثالث : يتعلق بقوله تعالى : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) وهذا نهي عن الإسراف ، وأن الواجب الاقتصاد.

والبخل ـ في الشرع ـ : يطلق على ترك إخراج الواجب من المال.

وعن جابر : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاعد بين أصحابه إذ جاء صبي فقال : يا رسول الله صلّى الله عليك إن أمي تستكسيك درعا ، ولم يكن عنده غير قميصه ، فقال : «من ساعة إلى ساعة تظهر فعد إلينا» فذهب إلى أمه فقالت له قل له : إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك ، فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه ، وقعد عريانا ، وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج إلى الصلاة ، فدخل بعضهم فرآه عريانا فنزل : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) ويدخل في البسط المنهي عنه أن ينفق الفقير جملة من المال في أصناف الملاذ مع حاجته إلى الكسوة ، أو سد خلة عوله ، ونحو ذلك ، والخطاب وإن كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما ذكر فالمعنيّ غيره ، وذلك أدعى لأجل الاقتداء به.

قوله تعالى

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) [الإسراء : ٣١ ـ ٣٣]

هذا عطف على ما تقدم من قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقد تضمن هذا الكلام النهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق : وهو

١٧٣

الفقر ؛ لأن الجاهلية كانوا يئدون البنات خشية الفاقة ، وخشية نكاحها غير الكفء.

قال الحاكم : ويدخل في هذا قتل الأجنة في البطن بالأدوية.

وفي الآية : دلالة على كبر هذه الخطيئة ، والنهي عن الزنا ، وذلك معلوم تحريمه ، ضرورة من الدين ، والنهي عن قتل النفس التي حرم الله ، وذلك أيضا معلوم تحريمه.

وقوله تعالى : (إِلَّا بِالْحَقِ)

يعني : ـ بسبب ـ خصلة تبيح القتل ؛ وذلك نحو ما ورد في الحديث : «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنى بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق» ففي هذه الأشياء ليست بمحرمة ، وكذلك القتل مدافعة ، والبغي على الإمام ، ونحو ذلك مما حصل فيه دليل الإباحة.

وقوله تعالى : (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً).

وذلك الولي : هو الوارث.

وبيان السلطان : ما ورد في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن شاءوا قتلوا ، وإن شاءوا أخذوا الدية». واستدل أبو حنيفة بهذه : على أنه يقتل الحر بالعبد ، وهذا محتمل. وإن دخل في العموم فهو مخصص بقوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ).

وقوله تعالى : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) في ذلك وجوه للمفسرين :

الأول : أنه راجع إلى الولي ، بمعنى أنه لا يقتل غير القاتل ، ولا يقتل الجماعة بالواحد ، كما كانت الجاهلية تفعل.

وقيل : لا يمثل بالقاتل.

وقيل : نزلت في أهل مكة ، كانوا يقتلون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٧٤

وقيل : إن هذا راجع إلى القاتل الذي هو الظالم.

وقيل : لا يسرف في القتل بأن يقتل برجل ليس بولي له.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً)

يعني الولي ، وذلك بما جعل له من الولاية في القصاص ، أو أخذ الدية.

وقيل : إلى (١) المقتول ظلما ، نصرته في الدنيا القصاص ، وفي الآخرة الثواب.

قوله تعالى

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٤ ـ ٣٦]

هذا النهي : معطوف على ما تقدم من المنهيات ، وخص اليتيم بالذكر ، وإن كان مال البالغ حراما ؛ لأن الطمع فيه أكبر ، فكذا النهي عن أخذ ماله ، واليتيم : الطفل الذي لا أب له.

وقوله تعالى : (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وذلك تنميته وحفظه ، وزراعة أرضه ، والتجارة في ماله ، وفي هذا دلالة على جواز الاتجار بماله ، وعلى هذا الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ابتغوا في أموال اليتامى ، لا تأكلها الصدقة».

وعن ابن أبي ليلى : لا يجوز الاتجار في مال اليتيم.

ولهذا تكميل وهو أن يقال : ليس في الآية اشتراط الولاية ، بل ذلك

__________________

(١) الأولى حذف إلى تمت.

١٧٥

عام ، فيلزم من ذلك أن لكل أحد أن يتصرف في مال اليتيم بما هو الأحسن ، كما ذكر أبو مضر ، وعلي خليل ـ في كلام المؤيد بالله ـ : أن من زرع أرض اليتيم لمنفعة اليتيم : جاز وإن لم يكن بأمر القاضي ، والوصي ، ويقولون : هذا حفظ ، فيشبه ذلك اللقطة فإنه لا يعتبر في أخذها ولاية من إمام أو قاض؟

ولعل الجواب أن يقال : قوله تعالى : (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ :) لم يفرق بين الأجنبي والولي ، فخرج الأجنبي بالقياس على المعاوضة ، وقد نص المؤيد بالله أن العم لا يبيع مال ابن أخيه ، ولو باع ما يساوي درهما بألف لم يصح ، وذلك إجماع.

وقوله تعالى : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)

قيل : الأشد : أن يدرك بسبب من أسباب الإدراك ، ويكون عاقلا فبذلك يخرج عن اسم اليتيم.

وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) قيل : أراد بالعهد الوصية على الأيتام وغيرهم ، عن أبي علي.

وقيل : كل ما أوجبه الله تعالى فهو عهد.

وقيل : الأيمان والنذور ، وقيل : العهود بين الناس.

وقوله تعالى : (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً).

قيل : المراد مسئولا عنه للجزاء فيم نقض ، فحذف لأنه مفهوم.

وقيل : إن المراد صاحب العهد. وقيل : يسأل العهد لم نقضت كما تسأل الموءودة بأي ذنب قتلت ، وفي هذا تبكيت للناقض.

وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ).

هذا أمر بإيفاء الحق الواجب مما يكال أو يوزن بأن يؤديه من هو عليه

١٧٦

على الكمال ، وهذا مواضع الاحتياط ، وقد جاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه شرى سراويل فلما نقد الثمن قال للوزان : «زن وأرجح».

وروي أنه عليه‌السلام ما قضى أحدا إلا وزاده.

وإذا كان الاحتياط حسنا في تيقن الوفاء الذي أوجبه الله تعالى كان الاحتياط أولى في وجوب الرد ، فلا يتغافل مع الشك في رضاء صاحب الحق ببقائه ، وقد رأيت من الفضلاء العلماء العاملين من يخرج على نفسه في سرعة قضاء ما يستقرض خشية أن يكون المقرض لا يرضى إلا بالقضاء ، والمراد بالإيفاء الكيل والوزن على التمام.

وقوله : (بِالْقِسْطاسِ) قيل : هو الميزان صغر أو كبر عن الزجاج.

وقيل : القبان : عن الحسن.

وقيل : القسطاس العدل بالرومية عن مجاهد ، وحمل على اتفاق اللغتين ، أو أن العرب أخذته فعربته ؛ لأن القرآن عربي.

وقوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي ذلك الوفاء خير لكم في الدنيا والدين ، وأحسن عاقبة.

وقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) قيل : لا تقول : سمعت ما لم تسمع ، ولا أبصرت ما لم تبصر ، ولا علمت ما لم تعلم ، عن ابن عباس ، وقتادة.

وقيل : لا تذم أحدا بما ليس لك به علم ، عن ابن عباس ، وأبي علي.

وقيل : لا تقل في قفا غيرك إذا مر بك شيئا عن الحسن ، قال الكميت :

ولا أرمي البريء بغير ذنب

ولا أقفو الحواصن إن قفينا

يعني العفائف.

١٧٧

وعن ابن الحنفية : شهادة الزور.

وقيل : لا تتبع أهواء المشركين ، ولا تسمع كلامهم ، واتبع العلم ، وما أوحي إليك ، والخطاب للنبي عليه‌السلام والمراد الجميع

قوله تعالى (أُولئِكَ) يعني الجوارح ، وقيل : أصحاب الجوارح.

قال الحاكم : يدخل في هذا الكلام أصول الدين وفروعه ، والفتيا ، والشهادة ، والغيبة ، ورواية الأخبار ، قال : وقد دل الدليل المعلوم على وجوب العمل بأخبار الآحاد ، والقياس ، والاجتهاد في مسائل الاجتهاد ، وإن كان ذلك ظنيا ومن منع التقليد : احتج بهذا.

وفي الآية دلالة على منع التقليد في الأصوليات ، واتباع الآباء بغير دليل ، وهذا فيما يتعلق به التكليف.

وأما المنافع ، والمضار في أمر الدنيا : فيعمل في ذلك بالظن ، وقد دخلت ثمرات الآية في تفسيرها ، وشرح معانيها.

قوله تعالى

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) [الإسراء : ٣٧]

الثمرة :

أن الله سبحانه نهى عن البطر والخيلاء ؛ لأن قوله : (مَرَحاً).

قيل : يعني بطرا ، وقيل : خيلاء ، وهو حال أي : حال المرح ، وقد يقال : المرح شدة الفرح.

وقوله : (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) يعني بمشيك (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) تنبيه على أن الإنسان يعرف نفسه ، وأنه خلق ضعيفا ، وهذا تهكم به ، أي لا تمش مرحا ، وأنت على هذه الحالة.

١٧٨

قوله تعالى

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) [الإسراء : ٥٣]

النزول

عن ابن عباس كان المشركون بمكة يؤذون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيشكون ذلك إليه ، واستأذنوا في القتال ، فأنزل الله هذه الآية.

والمعنى : قل لعبادي المؤمنين يقولوا للمشركين التي هي أحسن ، وأنما وقع في نفوسهم من القتال من وسوسة الشيطان.

وقيل : إن رجلا شتم عمر بن الخطاب فأمره الله بالعفو.

وثمرة ذلك :

أن الله سبحانه أمر بالمداراة ، وأن يقول العباد ما لا يهيج ولا يغري بالعداوة ، بل يقول المؤمنون للكفار التي هي أحسن ، وهي نظير قوله تعالى في سورة النحل (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، لكن قيل : هذا قبل آية السيف. وقيل : ليست بمنسوخة.

وقيل : هذا أمر بالعفو لأنها نزلت في قصة عمر ، وأنه شتمه رجل فأمر بالعفو عنه أو في أذية الكفار للمسلمين فأمروا بالعفو.

والتي (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ما ذكر الله تعالى أن يقولوا : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) فأمرهم أن يقولوا بهذه المقالة ، ولا يقولوا : إنكم من أهل النار ، ولا إنكم معذبون ، وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر.

وقيل : يقولون : يهديكم الله.

وعن الحسن : يأمرون بما أمر الله ، وينهون عما نهى الله.

١٧٩

وقيل : الأحسن : ما أمر الله به من توحيده ، وإجابة رسله.

وقيل : هي : كلمة الإخلاص ، وإظهار الشهادتين.

وقيل : يقول بعضهم لبعض ما هو الأحسن في الرضاء والغضب ، وقيل : المعنى أن عبادي ـ إذا سمعوا قولك في التوحيد والعدل والشرائع ، والبعث والجزاء ، وقول المشركين ـ أن يتبعوا ما هو الأحسن ، ونظيره : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر : ١٧ ، ١٨] : عن أبي مسلم ، ورجحه الحاكم.

وعن بعضهم : لم يرض الله تعالى أن يأمر بالحسن حتى أمر بالأحسن.

قوله تعالى

(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) [الإسراء : ٦٠]

القراءة الظاهرة : (وَالشَّجَرَةَ) بالنصب عطف على الرؤيا ، والمعنى وما جعلنا الرؤيا ، وما جعلنا الشجرة إلا فتنة للناس.

فالفتنة في الرؤيا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أخبرهم بالرؤيا صدق بذلك البعض منهم أبو بكر ، ومنه سمي الصديق ، وكذب به البعض ، ومنهم أبو جهل ، فهذا هو الفتنة.

واختلف في معنى الرؤيا ، فعن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، وإبراهيم ، وابن جريج ، والضحاك ، وابن زيد ، ومجاهد ، والأصم ، ومسروق : أنها رؤيا عيان لا رؤيا منام ، وهو الذي أري ليلة المعراج من الآيات.

وقيل : رؤيا منام وذلك ما أري من دخول مكة.

وقيل : ما أري من مصارع أهل بدر ، وكان المشركون يسخرون من منامه.

١٨٠