مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

أو فقل : إنّ العلم هو ما ينكشف به الواقع ، لا نفس انكشافه ، بمعنى : أنّه هو المعلوم بالذّات الّذي ينكشف به المعلوم بالعرض ، فانكشافه ذاتيّ ، وانكشاف الغير به عرضيّ.

ولا ريب : أنّ كون القطع انكشافا بذاته ، لا يستلزم كونه عين انكشاف الغير به ، بل انكشاف الغير به يكون من آثاره ولوازمه غير منفكّة عنه ، كالنّور حيث يكون ظاهرا بالذّات وليس عين الإظهار للغير ، بل الإظهار يكون من اللّوازم والآثار.

فتحصّل : أنّه ليس القطع عين الطّريقيّة وانكشاف الغير ، بل يكون أمرا منكشفا بذاته يتطرّق به إلى الغير وينكشف الغير به ؛ ولعلّه لأجل ذلك لم يجزم المحقّق النّائيني قدس‌سره بالعينيّة وقال : «بل بوجه يصحّ أن يقال : إنّها عين القطع».

ومن العجب العجاب ، أنّ بعض الأعاظم قدس‌سره مع أنّه قائل ـ تبعا للمحقّق النّائيني ـ بكون طريقيّة القطع عين ذاته ، ولذلك لا يتطرّق إليه الجعل ، نظرا إلى أنّ ثبوت الشّيء لنفسه ضروريّ ، قال قدس‌سره في مبحث القطع الموضوعي ـ بعد توضيح أنّ القطع من الصّفات الحقيقيّة ذات الإضافة ـ ما ينافي ذلك ، وإليك نصّ كلامه : «فللعلم جهتان : الاولى : كونه من الصّفات المتأصّلة وله تحقّق واقعيّ ؛ الثّانية : كونه متعلّقا بالغير وكاشفا عنه ، فقد يكون مأخوذا في الموضوع بلحاظ الجهة الاولى ، وقد يكون مأخوذا في الموضوع بملاحظة الجهة الثّانية» (١).

هذا تمام الكلام في الجهة الاولى (طريقيّة القطع).

أمّا الجهة الثّانية (حجّيّة القطع الطّريقيّ) فقد اختلفت آراء بين الأعلام في

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٣٣.

٤١

وجه حجّيّة القطع الطّريقيّ ، بمعنى : منجّزيّته عند المطابقة ومعذريّته عند المخالفة ؛ مجموع الأقوال فيه ثلاثة :

الأوّل : بناء العقلاء وقرارهم ، فحينئذ تكون قضيّة «القطع حجّة» من المشهورات والقضايا الّتي تطابقت عليها آراء العقلاء ، نظير قضيّة «العدل حسن» و «الظّلم قبيح».

فلا يخفى : أنّ منشأ هذا البناء من العقلاء أمران : أحدهما : حفظ النّظام ؛ ثانيهما : إبقاء النّوع ، وقد أمضاه الشّرع الأنور ولو بعدم الرّدع ، فيجب اتّباعه ، وهذا كحجّيّة خبر الثّقة أو الظّهور أو الشّهرة أو الإجماع المنقول في الجملة.

القول الثّاني : حكم العقل وإلزامه ، بمعنى : أنّه يحكم ويأمر بالعمل على وفق القطع ، كما يحكم ويأمر المولى المطاع ، بفعل كذا وكذا ، تشريعا.

وبعبارة اخرى : العقل يأمر هنا ويوجب العمل بالقطع ، وينهى ويحرّم مخالفته ، ويحكم باستحقاق المثوبة عند الموافقة ، والعقوبة لدى المخالفة ، كما يأمر المولى المطاع وينهى.

القول الثّالث : كون الحجّيّة من آثار القطع ولوازمه العقليّة الّتي يدركه العقل ، بمعنى : أنّ العقل يدرك حسن الموافقة وقبح المخالفة ، ويدرك حسن العقوبة وصحّتها في المخالفة ، وعدم الحسن والصّحّة في الموافقة بلا بعث وزجر وبلا إلزام وحكم.

فإذا قطعنا بوجوب شيء ، كالصّلاة ، أو حرمته ، كشرب الخمر شرعا ، يدرك عقلنا بعد إحراز ذلك الحكم الشّرعيّ ، أنّ موافقته وامتثاله موجب للسّعادة ، وأنّ مخالفته وعصيانه موجب للشّقاوة ، من دون بعث أو زجر ، ومن دون أمر أو نهي ، إنّما

٤٢

الأمر أو النّهي يكون من ناحية الشّرع ، متعلّقا بالصّلاة أو بشرب الخمر. (١)

هذا هي الأقوال في المسألة ، والصّواب هو القول الثّالث ، كما يظهر ذلك من المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) وباقي الأقوال مردود.

أمّا القول الأوّل : فلأنّ الحجّيّة تكون ثابتة للقطع ولو في زمن لم يكن فيه إلّا واحد من البشر ، فلا يعتبر فيها وجود العقلاء فضلا عن قرارهم وبناءهم وتطابق أنظارهم وآراءهم حفظا للنّظام وإبقاء للنّوع ؛ على أنّ القطع قد يتعلّق بامور غير دخيلة في النّظام وبقاء النّوع ، ككثير من الأحكام الشّرعيّة المتعلّقة بامور عباديّة لا نظاميّة ، كالقصاص والحدود والدّيات ، ولا ماليّة ، كالخمس والزّكاة.

وأمّا القول الثّاني : فلأنّ العقل مطلقا لا شأن له إلّا الإدراك فقط ، نظريّا كان أو عمليّا ، فلا حكم له وليس هو بآمر وناه أو باعث وزاجر ، ثمّ إنّه قد انقدح ممّا اخترناه من القول الثّالث ، أنّ حجّيّة القطع لا تكون بجعل جاعل ، كطريقته وإن كانت من آثار وجوده ، فالقطع واجب الحجّيّة ، ممتنع اللّاحجيّة ، وما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره من قوله : «إنّ آثار الوجود مطلقا مجعولة» (٣) وقوله : «وأمّا الوجود فلم يكن في بقعة الإمكان شيء منه غير معلّل» وقوله : «بل لازم الوجود أي الّذي من سنخ الوجود مطلقا مجعول معلّل» (٤) ممنوع بما ورد عن القوم من أنّ «الذّاتي لا يعلّل» فإنّ

__________________

(١) وبالجملة : إنّ القضايا العقليّة ، كالقضايا العقلائيّة ، من المشهورات باصطلاح الميزان الّتي تطابقت عليها آراء العقلاء وتسالموا عليها حفظا للنّظام وإبقاء للنّوع ، فكما لا حكم ولا بعث ولا زجر في القضايا العقلائيّة ، كذلك لا حكم ولا إلزام من العقل في القضايا العقليّة.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٨.

(٣) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٨٥.

(٤) أنوار الهداية : ج ١ ، ص ٧٤ و ٧٥.

٤٣

مقصودهم هو أنّ الذّاتى لا يحتاج إلى علة اخرى وراء علّة الذّات ولا إلى عليّة اخرى ، ولا تأثير آخر ولو من ناحية علّة الذّات ، بل ينجعل بنفس جعل الذّات لكونه ممّا لا يمكن انفكاكه عن الذّات ، وعليه ، فاللّازم مطلقا ولو كان لازم الوجود لا يكون معلّلا ، بل ينجعل بجعل الملزوم. هذا تمام الكلام في الجهة الثّانية.

أمّا الجهة الثّالثة (إمكان الرّدع عن العمل بالقطع وعدم إمكانه) فالتّحقيق : أنّه لا مجال للمنع الشّرعيّ عن العمل بالقطع وتأثيره ، إذ هذا نظير المنع التّشريعيّ عن تأثير النّار والماء في الحرارة والبرودة ، فكما أنّه لا يعقل هناك ، فكذلك المقام.

على أنّه يلزم من المنع ، اجتماع الضّدّين ، إمّا في الاعتقاد ، سواء أصاب أم لم يصب ، أو في الواقع إذا أصاب ، هذا بناء على القول بتضادّ الأحكام ، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) أو يلزم منه اجتماع الإرادتين المختلفتين على مراد واحد ، كاجتماع إرادة الحتميّة الإيجابيّة مع التّحريميّة بالنّسبة إلى «صلاة الجمعة» مثلا ، وهذا بناء على عدم تضادّ الأحكام ، لكونها امورا اعتباريّة لا حقائق خارجيّة ، كما ذهب إليه الإمام الرّاحل قدس‌سره (٢).

هذا ، ولكن قد يقال : إنّ الظّنّ القياسيّ ـ بناء على الانسداد وكون نتيجة مقدّمات الحكمة ، هي الحكومة ـ يكون كالقطع في وجوب المتابعة والآثار الأخر ، مع أنّ الشّرع الأنور منع من العمل به ، والأصحاب متسالمون على بطلان العمل بالقياس ويقولون : «أمّا القياس فليس من مذهبنا» ، ولم يقل أحد بعدم جواز المنع ،

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٨.

(٢) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٨٥.

٤٤

وبلزوم اجتماع الضّدّين ، أو الإرادتين المختلفتين هناك ، فلم يقولون : بعدم جوازه وبلزوم ما ذكر من المحذور هنا.

وفيه : أنّه لا مجال لمقايسة القطع بالظّنّ القياسيّ ؛ إذ الحجّيّة والمنجّزيّة في القطع ـ لتماميّة الانكشاف فيه وعدم المجال لتطرّق الجعل والاعتبار ـ تكون تنجيزيّة ، فلا يمكن تعلّق الرّدع الشّرعيّ به ، وهذا بخلاف الظّنّ القياسيّ ، فحجّيّته ومنجّزيّته ـ لكون كشفه ناقصا وإمكان تطرّق الجعل والاعتبار إليه ـ تكون تعليقيّة منوطة بعدم ورود ردع شرعيّ على خلافه ، فلا حجّيّة له مع الرّدع.

ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال في تقريب وجه عدم صحّة المقايسة ، ما هذا لفظه : «لأنّ حكم العقل بوجوب متابعة الظّنّ تعليقيّ ، منوط بعدم حكم الشّرع على خلافه ، فلا حكم للعقل بوجوب المتابعة بعد ما ورد عن الشّارع عدم جوازها ، وهذا بخلاف القطع ، والفرق أنّ القطع كشف تامّ وهو المنجّز تنجيزا ، وأمّا الظّنّ هو كشف ناقص ، بمعنى : أنّ الحكم العقليّ فيه يكون في طول الحكم الشّرعيّ وهو المنجّز تعليقا ، ومفاده أنّه يجب متابعة الظّنّ لو لم يكن هناك حكم شرعيّ على خلافه» (١).

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

٤٥

(التّجرّي)

(الأمر الرّابع : التّجرّي)

يقع البحث عن التّجرّي في جهات أربعة :

الجهة الاولى : في الاحتمالات المتصوّرة في المسألة وهي ثلاثة :

الاحتمال الأوّل : مسألة التّجري اصوليّة.

الاحتمال الثّاني : أنّها فقهيّة.

الاحتمال الثّالث : أنّها كلاميّة.

الجهة الثّانية : في أنّ المتجرّي ، هل يستحقّ العقوبة كالعاصي ، أم لا؟

الجهة الثّالثة : في أنّ الفعل المتجرّى به ، هل يخرج عمّا كان هو عليه لو لا التّجرّي ، أم لا؟

الجهة الرّابعة : في أقسام التّجرّي.

أمّا الجهة الاولى : ففي احتمال كون المسألة اصوليّة ـ نظرا إلى أنّه تقع نتيجة البحث عن التّجرّي في طريق استنباط الحكم الفرعيّ ـ تقاريب أربعة :

التّقريب الأوّل : أنّ البحث عنه راجع إلى أنّ التّجرّي ، هل يوجب تغيّر الواقع وانقلابه عمّا كان عليه وتعنونه بعنوان «المبغوض والحرام» شرعا ، أم لا؟

وإن شئت ، فعبّر : أنّ البحث عنه راجع إلى أنّ الفعل المتجرّى به ، هل يصير حراما ومبغوضا ، أم لا؟ وأنت ترى ، أنّ نتيجة هذا البحث هو استنباط الحكم الفرعي وهي الحرمة ، فيقال : هذا عمل متجرّى به ، وكلّ عمل متجرّى به حرام ، فهذا حرام.

٤٦

وفيه : أنّ البحث لو كان كذلك ، لكانت المسألة فقهيّة ، نظير البحث في أنّ غليان العصير العنبيّ ، هل يوجب حرمته ، أم لا؟ أو هل يوجب نجاسته ، أم لا؟ إذ لا يخفى عليك ، أنّ البحث في كلتا المسألتين يكون عن أحكام فعل المكلّف.

التّقريب الثّاني : أنّ البحث عن التّجرّي صورته هكذا ، هل يكون فعل الشّيء المقطوع حرمته ، قبيحا للتّجرّي ، أم لا؟ فإذا حكم بالقبح عقلا ، وصل الدّور إلى الملازمة والحكم شرعا بالحرمة من باب أنّ «كلّ ما حكم به العقل ، حكم به الشّرع» فالبحث حينئذ يكون عن الملازمة ، فيندرج في الاصول ، كسائر موارد الملازمات العقليّة المستقلّة وغير المستقلّة ، من مسائل الإجزاء ومقدّمة الواجب واجتماع الأمر والنّهي ودلالة النّهي على الفساد والضّدّ.

وقد اورد على هذا التّقريب أوّلا : بأنّ قاعدة الملازمة غير تامّة ؛ إذ ربما يدرك العقل قبح شيء ويراه شرّا مكروها ، وهو حسن وخير واقعا ، ملائم مطلوب حقيقة ، كما ربما يعكس الأمر ، فيدرك العقل حسن شيء ويراه خيرا مطلوبا ، وهو قبيح وشرّ واقعا ، وإلى هذا أشار قول الله تعالى : (عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ)(١).

والسّر فيه : قصور العقل وعدم علمه وإدراكه المحيط النّافذ ، كما أشار إليه الكتاب وهو قول الله عزوجل في ذيل الآية المتقدّمة : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، وكذا السّنة وهو ما ورد في الأخبار : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (٢).

__________________

(١) البقرة (٢) ، الآية ٢١٦.

(٢) مستدرك الوسائل : ج ١٧ ، ص ٢٦٢.

٤٧

وثانيا : لو تمّت القاعدة (١) ، لكانت في محور علل الأحكام ومباديها ، من المصالح والمفاسد ، فلو حكم العقل وأدرك مصلحة تامّة ملزمة كامنة في فعل بلا مزاحم ، حكم الشّرع ـ أيضا ـ بوجوبه ، كما أنّه لو أدرك مفسدة تامّة ملزمة كامنة بلا مزاحم ، حكم الشّرع ـ أيضا ـ بحرمته ، وأمّا محور معاليل الأحكام ، كحسن الإطاعة والإتيان وقبح المخالفة والعصيان ، فلا ملازمة في البين.

ولا يخفى : أنّ التّجرّي كالعصيان ـ أيضا ـ يكون في محور المعاليل ، فتنتفي الملازمة بين حكم العقل بقبح التّجرّي ، وبين حكم الشّرع بحرمته ؛ ولأجل ذا لا يندرج مسألة التّجرّي في باب الملازمات العقليّة المبحوث عنها في علم الاصول كي يوجب ذلك كونها من المسائل الاصوليّة.

والوجه في عدم الملازمة هنا لزوم التّسلسل ، كما هو الوجه في عدم الملازمة في باب العصيان.

توضيحه : أنّه لو قلنا : بثبوت الملازمة في باب العصيان ، بمعنى : تعلّق النّهي المولويّ الشّرعيّ المستكشف من حكم العقل بقبح العصيان ، لزم أن يكون مخالفة ذلك النّهي قبيحا عقلا ومنهيّا شرعا ـ أيضا ـ بقاعدة الملازمة ، فيجيء نهي آخر ثان ، وهذا الثّاني ـ أيضا ـ مخالفته قبيح عقلا موجبة للعقوبة ، فتكون منهيّا شرعا ـ أيضا ـ بقاعدة الملازمة فيجيء نهي آخر ثالث ، وهكذا حتّى يتسلسل.

وهذا الكلام بعينه يجري في باب التّجرّي ـ أيضا ـ ضرورة ، أنّه إذا حكم العقل بقبح التّجرّي ـ لما فيه من الجرأة على المولى ـ فمقتضى الملازمة هو تعلّق النّهي الشّرعيّ المولويّ به.

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٨٥.

٤٨

ولا ريب : أنّ التّجرّي بالنّسبة إلى هذا النّهي ـ أيضا ـ قبيح عقلا فيكون منهيّا شرعا بحكم الملازمة ، فيجيء هنا نهي آخر ثان وهذا الثّاني ـ أيضا ـ يحكم العقل بقبح التّجرّي ، فيكون حراما شرعا فيجيء نهى آخر ثالث وهكذا.

وثالثا : أنّ قاعدة الملازمة ليست مبحوثا عنها هنا كي يندرج المقام في المسألة الاصوليّة ؛ إذ المبحوث عنه هنا هي مسألة أنّ التّجرّي ، هل يكون قبيحا ، أو لا؟ وهذا أجنبيّ عن المسألة الاصوليّة ، لكونه بحثا عن مباديها.

التّقريب الثّالث : أنّ البحث عن التّجرّي راجع إلى أنّه ، هل يوجب تحقّق مفسدة في الفعل المتجرّى به فيستتبع حكما شرعيّا مولويّا وهي الحرمة ، أم لا؟

فمقتضاه هو كون المسألة من المسائل الاصوليّة ؛ لوقوع نتيجتها في استنباط الحكم الشّرعيّ الفرعيّ.

وفيه : أنّ البحث عن التّجرّي بالنهج المذكور هو بعينه ، بحث عنه في الجهة الثّالثة الآتية وهي ، هل الفعل المتجرّى به يخرج بالتّجرّي عمّا كان عليه بدونه ، أم لا؟ أو هل التّجرّي يغيّر الفعل المتجرّى به ويخرجه عمّا هو عليه فيجعله ذا مفسدة بعد أن لم يكن كذلك ، أم لا؟ أو هل التّجرّي يكون من العناوين الثّانويّة المولّدة المستتبعة للأحكام الشّرعيّة ، كعنوان الاستشفاء في الخمر الموجب لحلّيّته ، أم يكون من العناوين القصديّة غير المولّدة ، بمعنى : غير المغيّرة للواقع عمّا هو عليه ، كالتّعظيم والإهانة بالنّسبة إلى القيام ونحوه؟ وسيجيء التّحقيق في ذلك إن شاء الله.

التّقريب الرّابع : ما ذكره المحقّق النّائيني قدس‌سره وجعله من مستندات القائل باستحقاق المتجرّي للعقاب ، محصّله (١) : أنّ البحث عن التّجرّي صورته هكذا ، هل

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٧.

٤٩

الخطابات الشّرعيّة الأوليّة تعمّ صورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته ، أم لا؟ وجهان : فعلى الأوّل : يندرج المتجرّي في عموم الخطابات الشّرعيّة حقيقة ؛ وعلى الثّاني لا يندرج ، كما هو واضح ، فالبحث حينئذ يكون عن عموم الخطابات وعدمه ، فيصير اصوليّا.

وفيه : أنّ البحث الاصوليّ والمسألة الاصوليّة في الإطلاقات أو العمومات ، ليس إلّا عن حجّيّتها ، ومرجعه إلى البحث عن حجّيّة الظّهورات ، فيقال ـ على نحو مفاد كان النّاقصة ـ يكون العموم أو الإطلاق حجّة ؛ أو يقال ـ على نحو الهليّة المركّبة ـ هل العموم أو الإطلاق حجّة ، أم لا؟

وأمّا البحث عن مفاد الإطلاق أو العموم أو عن وجودهما في مورد على نحو مفاد «ما الشّارحة» أو «الهليّة البسيطة» فليس اصوليّا ، كما هو واضح ، فهل يمكن أن يقال : مثلا ، إنّ البحث عن شمول إطلاق : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) للبيع الفعليّ وهو المعاطاة وعدم شموله له يكون اصوليّا؟ أو يقال : مثلا ، إنّ البحث عن شمول عموم : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) للبيع المنعقد بلفظ غير عربيّة وعدم شموله له ، يكون اصوليّا؟

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، ردّا على مقالة المحقّق النّائيني قدس‌سره حيث قال : «فيه ما لا يخفى : فإنّ دعوى إطلاق الخطاب وعمومه لا يدرج المسألة في سلك المسائل الاصوليّة ، فإنّها بحث صغرويّ مندرج في الفقهيّات ، وقد عرفت : أنّ المسائل الاصوليّة هي الكبريات المستنتجة لكلّيّات الفروع ، كالبحث عن حجّيّة أصالة العموم والإطلاق ، لا البحث عن شمولهما لموضوع ؛ ولو كان البحث الكذائي من المسائل الاصوليّة ، للزم إدراج جلّ المسائل الفقهيّة في الاصول ، فإنّه قلّما يتّفق في

٥٠

مسألة من المسائل الفقهيّة أن لا يقع البحث عن الإطلاق والعموم بالنّسبة إلى بعض الموضوعات المشكوكة ، ولعمري أنّ ما وقع منه لا يخلو من غرابة» (١).

هذا كلّه في الاحتمال الأوّل (كون المسألة اصوليّة).

الاحتمال الثّاني (كون المسألة فقهيّة) فقد انقدح ممّا ذكرنا : من أنّ قاعدة الملازمة بين الحكم العقليّ والحكم الشّرعيّ لو تمّت ، لكانت في سلسلة المبادي والعلل لا المعاليل ، وأنّه لا يعقل كون المسألة فقهيّة بأن يبحث ويقال : هل التّجرّي حرام شرعا ، أم لا؟ لما عرفت من لزوم تعدّد العقوبة ولزوم التّسلسل.

الاحتمال الثّالث (كون المسألة كلاميّة) لا يخفى : أنّ هذا الاحتمال له مجال واسع ؛ ضرورة ، أنّ البحث عن التّجرّي راجع حقيقة إلى البحث عن القبح واستحقاق الذّم والعقوبة وعدمهما ، وهذا بحث كلاميّ.

هذا تمام الكلام في الجهة الاولى (احتمال كون المسألة اصوليّة أو فقهيّة أو كلاميّة).

أمّا الجهة الثّانية (أنّ المتجرّي ، هل هو كالعاصي يستحقّ العقوبة ، أم لا؟) فنقول : ـ بعد تتّبع الأقوال والتّفكّر فيها كثيرا ـ إنّ التّجرّي لا يستلزم العقوبة نوع عقوبة العاصي ، ولا يستلزم الجحيم والنّار نحو جحيم العاصي وناره.

توضيح ذلك : أنّ التّجرّي والمعصية بينهما جهة اشتراك وهي الجرأة على المولى والخروج من رسم العبوديّة والعزم على العصيان وأمثال هذه العناوين ؛ وجهة امتياز وهي انطباق عنوان المخالفة على المعصية دون التّجرّي.

__________________

(١) أنوار الهداية : ج ١ ، ص ٤٧.

٥١

ولا ريب : أنّه لو فرض حكم العقل بقبح التّجرّي واستحقاق العقوبة عليه ، فلا بدّ أن يكون هذا الحكم بملاك مشترك بينه وبين المعصية ، كأحد العناوين المتقدّمة ، لا بملاك يختصّ بالتّجرّي ويمتازه عن المعصية وهو عدم انطباق عنوان المخالفة عليه.

ومن الواضح : أنّه لو كانت الجهة المشتركة بينهما ملاكا مستقلّا للقبح واستحقاق العقوبة ، لزم القول بتعدّد الاستحقاق في صورة المصادفة وتحقّق المعصية ؛ وذلك ، لأنّ معصية المولى ممّا لا ريب في كونه علّة مستقلّة للقبح والاستحقاق ، فإذا لو قلنا : بكون الجهة المشتركة ـ أيضا ـ علّة مستقلّة ، يوجب ذلك ، اجتماع العلّتين لاستحقاق العقوبة في صورة العصيان ، فيتعدّد الاستحقاق ، وهذا ممّا لم يقل به أحد.

ونتيجة ذلك ؛ أنّ التّجرّي ليس كالعصيان ، والمتجرّي ليس كالعاصي في استحقاق العقوبة.

نعم ، هنا بحوث دقيقة عقليّة ، تنتج تعدّد الاستحقاق حسب تعدّد عوالم النّار والجنّة بتعدّد ما في الإنسان من الأعمال والأخلاق والعقائد الحقّة أو الباطلة ، فيمكن أن يكون للتّجرّي عقاب مناسب له ، لكنّها لا تسعها المباحث الاصوليّة ، فراجع إلى محالّها ومظانّها المعهودة.

فتحصّل : أنّ ملاك العقوبات هي مخالفة المولى في أوامره ونواهيه وهو تمام الموضوع في التّقبيح والتّعذيب ؛ وأنت ترى ، أنّ هذا ملاك مختصّ بالعصيان ، لا مشترك بينه وبين التّجرّي كي يقال : باستحقاق العقوبة فيه ، أيضا. (١)

هذا ، ولكن خالف المحقّق العراقي قدس‌سره في ذلك ، فقال : «تمام المناط في القبح

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٨٩ و ٩٠.

٥٢

الفعليّ واستحقاق العقوبة ، إنّما هو عنوان الطّغيان المنطبق على الإقدام على ما اعتقد كونه مبغوضا للمولى ومعصية له ، الأعمّ من المصادف وغيره» (١).

وحاصل كلامه قدس‌سره : هو أنّ تمام الموضوع في التّقبيح والتّعذيب هي الجهة المشتركة بين العصيان والتّجرّي وهي عنوان الهتك أو الطّغيان أو الجرأة أو العزم على العصيان أو نحوها ، لا الجهة المميّزة وهي مخالفة المولى في صورة المصادفة وتحقّق المعصية ، كما صرّح قدس‌سره بذلك في موضع آخر من كلامه قدس‌سره فقال : «إنّ التّقبيح والعقوبة إنّما يكونان على عنوان التّمرّد والطّغيان وإبراز الجرأة على المولى الّذي هو جامع بين التّجرّي والعصيان ، لا على خصوص عنوان التّجرّي أو العصيان» (٢).

وقد عرفت ما فيه من الإشكال على ما قال به الإمام الرّاحل قدس‌سره من أنّه : «لا إشكال في حكم العقل بقبح مخالفة أمر المولى ونهيه مع الاختيار ، والعقلاء مطبقون على صحّة المؤاخذة على مخالفة المولى بترك ما أمره وارتكاب ما نهي عنه. ولا ريب : أنّ تمام الموضوع في التّقبيح هو المخالفة فقط من غير نظر إلى عناوين آخر كهتكه ... كما أنّها تمام الموضوع ـ أيضا ـ عند العقلاء ...» (٣).

وبالجملة : لا دخل ولا موضوعيّة لمثل الهتك ، أو الخروج عن رسم العبوديّة أو العزم على العصيان أو نحوها ، في استحقاق العقوبة ، بل الهتك ليس من لوازم التّجرّي والمعصية ؛ وأمّا العزم على العصيان فهو من الأفعال الجنانيّة الموجبة لاستحقاق الملامة والمذمّة ، لا المؤاخذة والعقوبة المترتّبة على المعصية ، وقد أشرنا

__________________

(١) نهاية الأفكار : ج ٣ ، ص ٣١.

(٢) نهاية الأفكار : ج ٣ ، ص ٣٥.

(٣) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٨٩ و ٩٠.

٥٣

إلى تعدّد عوالم النّار الّتي توجب تعدّد استحقاق العقاب وهي مسألة اخرى لا يسعها البحوث الاصوليّة.

ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره تمسّك بوجه آخر لإثبات أنّ المتجرّي لا يستحق العقوبة ، كما يستحقّها العاصي ، حاصله : أنّ دعوى استحقاق المتجرّي للعقاب ، منوطة بدعوى اخرى وهي دعوى وحدة المناط لاستحقاق العقاب في المتجرّي والعاصي وهو القبح الفاعليّ ، سواء كان هناك قبح فعليّ ـ أيضا ـ أم لم يكن ؛ وأنت ترى ، أنّ المناط في استحقاق العقاب وإن كان هو القبح الفاعليّ ، لكنّه ليس مناطا مطلقا ، بل مختصّ بما إذا كان متولّدا من القبح الفعليّ ، وأمّا المتولّد من سوء السّريرة فلا ، وكم فرق بينهما؟ (١)

وفيه : أوّلا : أنّ دعوى وحدة المناط لاستحقاق العقاب في المتجرّي والعاصي ممنوعة ؛ إذ المدّعي للاستحقاق في التّجرّي ، إنّما يقول به : بمناط هتك الحرمة أو الجرأة على المولى أو الخروج عن زيّ العبوديّة أو نحوها من سائر العناوين ولو لم تتحقّق المصادفة ، بخلاف الاستحقاق في العاصي ، فإنّه بملاك المخالفة للأوامر أو النّواهي المجعولة ، كما لا يخفى.

وثانيا : لو سلّم ذلك ، لما كان الفرق بين القبح الفاعليّ المتولّد من القبح الفعليّ ، وبين القبح الفاعليّ المتولّد من سوء السّريرة وخبث الباطن ؛ إذ التّجرّي عند مدّعي الاستحقاق عنوان مستقلّ وموضوع برأسه من أيّ منشأ نشأ وحصل ، فلا يجدي عنده ذلك الفرق.

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٤٩.

٥٤

وعليه : فالصّواب في وجه عدم استحقاق المتجرّي للعقاب هو لزوم تعدّد العقاب في فرض المصادفة والمعصية بالتّقريب الّذي ذكرناه سابقا.

هذا تمام الكلام في الجهة الثّانية (أنّ المتجرّي هل هو كالعاصي يستحقّ العقوبة ، أم لا؟).

وقد عرفت : أنّ التّجرّي لا يوجب استحقاق المؤاخذة ، وأنّ المتجرّي لا يستحقّ العقوبة نوع عقوبة العاصي.

وأمّا الجهة الثّالثة (أنّ الفعل المتجرّى به ، هل يخرج بالتّجرّي عمّا كان هو عليه ، أم لا؟ بمعنى : أنّه هل يصير حراما بعد ما كان حلالا ، أو يصير قبيحا بعد ما كان حسنا ، أم لا؟) ففيه وجهان : والحقّ هو الثّاني ، فلا يخرج الفعل المتجرّى به عمّا كان عليه ، بل يبقى على ما هو من الأحكام.

والدّليل عليه : بطلان دعوى الخروج وعدم البقاء ؛ توضيحه : أنّ مدّعي الخروج قد استند إلى وجوه كلّها مردودة :

الأوّل : أنّ القطع بانطباق عنوان حسن ذي مصلحة ملزمة على شيء ، يكون من موجبات حدوث المصلحة فيه ولو لم يكن ذلك الشّيء من مصاديق ذلك العنوان واقعا ، وكذا القطع بانطباق عنوان قبيح ذي مفسدة ملزمة على شيء ـ كالقطع بخمريّة مائع ـ يكون من موجبات حدوث عنوان المفسدة في ذلك الشّيء ولو لم يكن من مصاديقه واقعا ، كما هو المفروض في التّجرّي.

ونتيجة ذلك : أنّ الفعل المتجرّى به يصير حراما بالعنوان الثّانوي ، أو واجبا كذلك بعد ما كان مباحا ـ مثلا ـ بعنوانه الأوّلي ، فمقطوع الخمريّة (فيما إذا كان متعلّق

٥٥

القطع موضوعا) أو الحرمة (فيما إذا كان متعلّق القطع حكما) يصير حراما بحدوث مفسدة فيه مع كونه ماء مباحا غير حرام.

وفيه : أنّه لا شأن للقطع الطّريقي ، إلّا الطّريقيّة والمرآتيّة ، ولا صنع له إلّا المنجّزيّة والمعذريّة ، كسائر الأمارات والطّرق المعتبرة ، فلا يكون دخيلا في الملاكات مطلقا ، لا تمام الدّخل ولا بعضه ، ولا يكون من محدثات المناطات من المصالح والمفاسد ، بل الملاكات تدور مدار نفس العمل حدوثا وبقاء ، وجودا وعدما ، فهل ينبغي لأحد أنّ يتفوّه بأنّ القطع بخمريّة الخلّ يوجب حدوث مفسدة الخمريّة فيه؟ وهل يمكن أن يقال : القطع بكون هذا الماء سمّا ، يجعله سمّا ، ويوجب ترتّب آثار السّمّ عليه؟

هذا في القطع المتعلّق بالموضوع ، والأمر في القطع المتعلّق بالحكم كذلك ـ أيضا ـ فهل ينبغي أن يقال : بأنّ القطع بحرمة الخلّ يجعله حراما ، أو القطع بحرمة الماء يوجب انقلابه من حكم الحلّيّة إلى الحرمة بإحداث ملاك الخمريّة ـ مثلا ـ فيهما؟

وبالجملة : الملاك وهو المصلحة والمفسدة ، أمر عينيّ تكوينيّ مترتّب على نفس العمل بلا دخل للقطع فيه أصلا ، فملاك حرمة الخمر يكون في نفسه ، وملاك وجوب الصّلاة يكون في نفسها ، ولا معنى لدخل القطع فيه. نعم ، هو دخيل في التّنجيز والتّعذير فقط.

الوجه الثّانى : أنّ التّجرّي وارتكاب مقطوع الخمريّة ـ مثلا ـ كاشف عن خبث باطن الفاعل وسوء سريرته ، وكون المتجرّي في مقام الطّغيان وهتك الحرمة ، وهذا يوجب خبث الفعل عقلا ، فيحكم بحرمته شرعا لقاعدة الملازمة.

٥٦

وبعبارة اخرى : أنّ التّجرّي كاشف عن القبح الفاعليّ فيوجب القبح الفعليّ ، بمعنى : أنّه يوجب قبح فعل المتجرى به عقلا ، وبمعونة قاعدة الملازمة يحكم بحرمته شرعا ، فيكون الفعل المتجرّى به حراما بالعرض والعنوان الثّانويّ.

وفيه : أنّ خبث الفاعل غير خبث الفعل ، فربّ فاعل يكون خبيثا ولكن يفعل عملا حسنا ؛ ولذا يمكن أن يكون لخبث الفاعل وسوء سريرته ، حرمة غير حرمة الفعل وعقوبة مسانخة لتلك الحرمة ، غير عقوبة الفعل الحرام.

وإن شئت ، فقل : إنّ القبح الفاعلي غير القبح الفعلي ، كما أنّ الحسن الفاعل غير الحسن الفعلي ، فربّ فاعل قبيح يفعل فعلا حسنا ، وكذا ربّ فاعل حسن يفعل فعلا قبيحا.

ونتيجة ذلك : أنّ قبح الفاعل لا يسري إلى الفعل ، ولا يوجب صيرورته قبيحا عقلا كي يحرم شرعا بمعونة الملازمة ، فلا يثبت بهذا الوجه الثّاني ـ أيضا ـ حرمة الفعل المتجرّى به ، مضافا إلى أنّه قد عرفت : عدم جريان قاعدة الملازمة في محور المعاليل ومسبّبات الأحكام ، فلو تمّت لكانت جارية في محور العلل وأسباب الأحكام.

الوجه الثّالث : أنّ القطع بحسن الفعل أو بقبحه ممّا يحسّنه ويقبّحه ، بحيث يصير ذلك الفعل حسنا أو قبيحا عقلا ، فبمعونة قاعدة الملازمة يصير واجبا أو حراما شرعا ، فيقال : إنّ القطع بقبح الفعل المتجرّى به يوجب قبحه عقلا ، فيحكم بحرمته شرعا لقاعدة الملازمة.

وفيه : أنّ حقيقة هذا الوجه راجع إلى الوجه الأوّل ، حيث إنّ القطع بقبح

٥٧

الفعل لا يجعله قبيحا ، إلّا إذا أوجب حدوث مفسدة فيه ، وكذا القطع بحسنه لا يجعله حسنا ، إلّا إذا أوجب حدوث مصلحة فيه.

وقد عرفت : أنّ القطع الطّريقيّ ليس في وسعه إلّا المنجّزيّة أو المعذّريّة وأنّه ليس دخيلا في الملاكات مطلقا ، بل هي تدور مدار نفس العمل وجودا وعدما ، حدوثا وبقاء.

هذا ، ولكن أجاب المحقّق الخراساني قدس‌سره عن هذا الوجه الثّالث بطريق آخر فقال ، ما حاصله (١) : أنّ العنوان المقبّح أو المحسّن ، لا بدّ وأن يكون ذاتيّا استقلاليّا ، متعلّقا لإرادة المكلّف ، والقطع ليس كذلك ، إذ هو ـ لاجل طريقيّته ـ يكون عنوانا طارئاً آليّا ؛ وعليه ، فلا يكون من العناوين المقبّحة أو المحسّنة.

وبعبارة اخرى : الفعل المتجرّى به في مثل مقطوع الخمريّة أو الحرمة له عنوانان : أحدهما : ذاتيّ استقلاليّ ـ ولو كان زعميّا غير واقعيّ ـ كعنوان الخمريّة أو الحرمة ، وبهذا العنوان يكون اختياريّا ملتفتا إليه ؛ ثانيهما : عرضيّ آليّ كعنوان القطع في مقطوع الخمريّة أو الحرمة ، فلا يكون بهذا العنوان اختياريّا ، ملتفتا إليه غالبا ، ومثل هذا العنوان ، لا يمكن أن يكون من العناوين المحسّنة الموجبة لحدوث الحسن ، أو المقبّحة الموجبة لحدوث القبح.

هذا ، ولكن لا حاجة إلى هذا الطّريق لإثبات عدم كون القطع من العناوين المحسّنة والمقبّحة ؛ وذلك لجواز الاكتفاء في إثبات ذلك بطرق آخر.

الأوّل : أنّه لا يمكن اجتماع كون القطع ، طريقيّا آليّا مع كونه دخيلا في الحسن أو

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ١٣.

٥٨

القبح ؛ إذ هما متناقضان ، حيث إنّ معنى الطّريقيّة والآليّة هو أنّه لا شأن للقطع إلّا الكشف والحكاية عن ذي الطّريق على ما هو عليه ، من الحسن أو القبح بلا دخل له فيهما أصلا ، لا تماما ولا بعضا ، وأمّا معنى كونه من الوجوه المحسّنة أو المقبّحة ، هو عدم الكشف والحكاية ، بل التّأثير والدّخالة بإحداث القبح أو الحسن في الفعل الّذي هو مقطوع الوجوب أو الحرمة.

وبعبارة اخرى : معنى الآليّة ، بقاء الفعل على ما هو عليه من الحسن أو القبح ومن الوجوب أو الحرمة ، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم أو الصّفة ، ومعنى كون القطع من الوجوه المقبّحة أو المحسّنة ، عدم بقاء الفعل على ما هو عليه وحدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع ، وهذا تناقض.

الطّريق الثّاني : أنّه لو كان القطع من العناوين المقبّحة المولّدة للقبح في الفعل الّذي تعلّق به ، لزم تعدّد القبح والحرمة والعقوبة في صورة المصادفة للواقع ، وهذا مردود.

بيان ذلك : لا ريب في أنّ الفعل من جهة فرض مصادفة القطع للواقع يكون حراما ، قبيحا ، ذاتا ، ومن جهة فرض تعلّق القطع به يصير قبيحا وبقاعدة الملازمة يصير حراما ـ أيضا ـ ، ولازم ذلك ، تعدّد القبح والحرمة ، كما أنّ لازم ذلك هو كون القطع طريقا منجّزا بالنّسبة إلى الحرمة الواقعيّة الذّاتيّة ، وموضوعا محقّقا بالنّسبة إلى الحرمة النّاشئة من قبله بقاعدة الملازمة ، وهذا كما ترى.

الطّريق الثّالث : أنّ العنوان المقبّح كالظّلم ، لا بدّ أن ينطبق على المعنون ، ويحمل عليه حمل الكليّ على الفرد ، فيقال : ضرب اليتيم ـ مثلا ـ ظلم. ومن الواضح :

٥٩

أنّ القطع لا ينطبق ولا يحمل على الفعل المتجرّى به ، فلا يقال : شرب الماء المقطوع خمريّته ـ مثلا ـ قطع وعلم ومعلوم بالذّات ، بل يقال : أنّه مقطوع ومعلوم بالعرض.

وإن شئت ، فقل : القطع والعلم هو المعلوم بالذّات ، والفعل المتجرّى به هو المعلوم بالعرض ، ولا ينطبق المعلوم بالذّات على المعلوم بالعرض ، فلا ينطبق القطع على الفعل المتجرّى به ولا يكون عنوانا مقبّحا. أو قل : القطع من صفات النّفس ، والمتجرّى به عمل وفعل خارجيّ ، فلا يمكن الانطباق والهوهويّة عندئذ. أو قل : القطع عمل نفسيّ جانحيّ ، والمتجرّى به عمل عينيّ جارحيّ ، فلا يمكن الانطباق والهوهويّة بينهما.

وكيف كان ، عدم كون القطع من الوجوه المقبّحة أو المحسّنة في غاية الوضوح ، لا يحتاج إلى الإطناب والإطالة وجرّ البحث والكلام إلى الاختيار والإرادة ، كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره.

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ ما قال به قدس‌سره من إثبات عدم اختياريّة القطع ، وأنّه لذلك لا يكون من الوجوه المقبّحة ، فيه نوع مغالطة ؛ إذ المفروض أنّه قدس‌سره استدلّ لإثبات ذلك بعدم كون الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع الحرمة اختياريّا ، فإنّ القاطع لا يقصده إلّا بما قطع أنّه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي ، لا بعنوانه الطاري الآلي.

وهذا الاستدلال ، كما ترى ، مشتمل على المغالطة ، ووضع المقطوع به وهو الفعل المتجرّى به ، في الدّليل ، مكان القطع المعنون في الدّعوى ، مع أنّه كان اللّازم أن يثبت ابتداء في الدّليل ، عدم اختياريّة القطع ، ويستنتج عدم كونه من العناوين المقبّحة أو المحسّنة ، ثمّ يستنتج بقاء الفعل المتجرّى به على ما هو عليه وعدم حرمته ، لا عدم

٦٠