مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

(الاستدلال بالكتاب)

أمّا الكتاب ، فهو قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(١) ، وقوله عزوجل : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ)(٢) وقوله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ)(٣).

تقريب الاستدلال : أنّ بعث الرّسول كناية عن بيان الأحكام وإتمام الحجّة على الأنام ، فتدلّ الآيات المتقدّمة حينئذ على نفي العذاب والعقوبة بمخالفة التّكليف الّذي لم يقم عليه الحجّة ولم يتمّ فيه البيان ، وهذا معنى البراءة.

وقد اورد على هذا الاستدلال بوجهين :

الأوّل : أنّ المراد من الآيات هو الإخبار عن عدم وقوع العقوبة على الامم السّابقة إلّا بعد تماميّة البيان وإتمام الحجّة عليهم ، كما يشهد له استعمال لفظ الماضي فيها ، فإذا لا دلالة لها على نفي العقوبة الاخرويّة عند عدم قيام الحجّة كي تكون دليلا على البراءة.

وفيه : أوّلا : أنّ نفي العقوبة الاخرويّة يستفاد من الآيات ، بالأولويّة القطعيّة ، لأجل أهونيّة العقوبة الدّنيويّة الّتي ليس لها دوام وبقاء.

__________________

(١) سورة الإسراء (١٧) ، الآية ١٥.

(٢) سورة القصص (٢٨) ، الآية ٥٩.

(٣) سورة الشّعراء (٢٦) ، الآية ٢٠٨.

٢٨١

وثانيا : أنّ جملة : (ما كُنَّا) أو (ما كانَ) ونحوهما ، إمّا تستعمل لنفي الصّلوح والشّأنيّة ، أو لنفي الإمكان وإثبات الاستحالة ، فتكون منسلخة عن الزّمان بالنّسبة إلى الله تعالى ، نظير قوله عزوجل : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) وقوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ، ونتيجة ذلك ، أنّ المقصود من الآيات هو أنّ التّعذيب قبل وصول التّكليف وقبل قيام الحجّة عليه ، لا يليق بشأنه تعالى بلا فرق بين أن تكون العقوبة دنيويّة أو اخرويّة ، وبلا فرق بين الامم والأدوار والأزمنة ، بل هذه هي سنّة الله الدّائمة.

الوجه الثّاني : أنّ الآية تدلّ على نفي فعليّة العقوبة ، وهذا لا يستلزم نفي استحقاقها بالمرّة ، كما هو محلّ الكلام مع الأخباريّ.

وفيه : أنّ نفي الصّلوح والشّأنيّة للتّعذيب بالدّلالة المطابقيّة ، يدلّ على عدم الاستحقاق للعقوبة بالدّلالة الالتزاميّة ؛ إذ من الواضح جدّا ، أنّ مع الاستحقاق لا معنى لنفي صلوح التّعذيب وشأنيّته من الله تعالى قطعا.

وقد أجاب الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) عن هذا الوجه ، بأنّ الأخباريّ يعترف الملازمة ويقول : بعدم المقتضي للاستحقاق على تقدير عدم الفعليّة ، فيكفي نفي الفعليّة في عدم الاستحقاق ، ونتيجة ذلك ، هو أنّ الآية تدلّ على البراءة.

ولكن ردّه المحقّق الخراساني قدس‌سره وأجاد في ذلك حيث قال ، ما حاصله : أنّ الاستدلال بالآية على البراءة ، يصير حينئذ جدليّا لا حقيقيّا ؛ إذ دلالتها على البراءة إنّما يتمّ على مبنى الأخباريّ الّذي قال : بالملازمة ، فلا ينفع بحال الاصوليّ الّذي قال :

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٢٣ و ٢٤.

٢٨٢

بإنكارها ، على أنّ اعتراف الأخباريّ بالملازمة بعيد إلى الغاية ؛ إذ ربما تنتفي فعليّة العقوبة في مورد المعصية القطعيّة ، لأجل العفو أو التّوبة أو الشّفاعة ، مع ثبوت الاستحقاق هناك بلا كلام وشبهة ، وما شكّ في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم ممّا علم بحكمه ، وليس حال الوعيد بالعذاب فيه إلّا كالوعيد به فيه (١). هذا تمام الكلام في الاستدلال على البراءة بالكتاب.

(الاستدلال بالسّنّة)

أمّا السّنة ، فهي روايات ، أهمّها صحيحة حريز ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رفع عن امّتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنّسيان ، وما اكره عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطّيرة ، والتّفكر في الوسوسة في الخلق (الخلوة خ ل) ما لم ينطقوا بشفة» (٢).

تقريب الاستدلال بها على البراءة عند الشّكّ في التّكليف ، هو أنّ الإلزام المحتمل المجهول ـ من الوجوب أو الحرمة ـ مندرج تحت عنوان «ما لا يعلمون» فيكون مرفوعا ظاهرا وإن كان ثابتا في الواقع ، فلا مؤاخذة عليه قطعا.

توضيح ذلك : أنّ الموصول في قوله عليه‌السلام : «ما لا يعلمون» له احتمالات ثلاثة : أحدها : ما يعمّ الحكم وفعل الخارجيّ الصّادر من المكلّف ؛ ثانيها : خصوص الحكم ؛

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ١٦٧ و ١٦٨.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١١ ، كتاب الجهاد ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النّفس وما يناسبه ، الحديث ١ ، ص ٢٩٥.

٢٨٣

ثالثها : خصوص الفعل الخارجي.

ولا يخفى : أنّه بناء على الاحتمال الأوّل يشمل الرّواية الشّبهات الحكميّة والموضوعيّة وتكون من أدلّة البراءة في كلتا الشّبهتين ، ووجهه واضح.

وكذا بناء على الاحتمال الثّاني فتشمل الرّواية كلتا الشّبهتين ـ أيضا ـ وذلك ، لأنّ المنشأ للجهل بالحكم ، إمّا يحتمل كونه أحد امور ثلاثة ، وهي فقد النّص وإجماله وتعارض النّصّين ، فالشّبهة حينئذ تكون حكميّة ، وإمّا يحتمل كونه امورا وعللا خارجيّة ، كالجهل والعمى والظّلمة ، فالشّبهة حينئذ تكون موضوعيّة.

وبعبارة اخرى : إنّ مفاد الحديث بناء على كون المراد من الموصول هو الحكم ، ليس إلّا هو رفع الحكم المجهول ، سواء كان منشأ الجهل هو فقد النّص وإجماله وتعارض النّصين ، أو الامور الخارجيّة.

وأمّا بناء على الاحتمال الثّالث (كون المراد من الموصول هو خصوص الفعل الخارجيّ) فتختصّ الرّواية بالشّبهة الموضوعيّة ؛ إذ المراد من الفعل المجهول المرفوع هو المجهول بنفسه لا بحكمه ، كأن لا يعلم أنّ أكل هذا اللّحم ، أكل ميتة أو أكل مذكّى ، أو لا يعلم أنّ شرب هذا المائع ، شرب خمر أو شرب ماء ، فعلى هذا لا تشمل الرّواية للشّبهة الحكميّة الّتي لا يكون الفعل فيها بعنوانه مجهولا البتّة.

ثمّ إنّه قد يدّعى ، أنّ المتعيّن في الرّواية هو هذا الاحتمال الثّالث ، فتكون حينئذ من أدلّة البراءة في الشّبهات الموضوعيّة لا الحكميّة. ويستشهد لهذه الدّعوى بجهات : الاولى : أنّ المراد من الموصول في غير عنوان «ما لا يعلمون» هو الفعل الخارجيّ لا الحكم ؛ لأنّه الّذي لا يطيقونه ، أو يكرهون عليه ، أو يضطرّون إليه ، بخلاف

٢٨٤

الحكم ، كيف ، وأنّ الحكم إنّما هو فعل الشّارع ، فلا يعقل تعلّق العناوين المذكورة عليه ، فوحدة السّياق يقتضي أن يكون المراد من الموصول في عنوان «ما لا يعلمون» ـ أيضا ـ هو الفعل لا الحكم. وبعبارة اخرى : لا إكراه على الحكم ولا اضطرار إليه وهكذا ، بل هي كلّها إنّما يصحّ إسنادها إلى الأعمال والأفعال الصّادرة من المكلّفين ، فالفعل هو المكره عليه ، والمضطرّ إليه وهكذا ، لا الحكم ، فلا مناص إذا من إسناد «ما لا يعلمون» ـ أيضا ـ إلى الفعل الخارجيّ لا الحكم ، حفظا لوحدة السّياق بين العناوين.

وفيه : أنّ هنا خلطا بين المصداق والمفهوم ؛ وذلك ، لأنّه ليس للموصول في جميع العناوين المذكورة ، إلّا مفهوما واحدا مساوقا لكلمة : «الشّيء» فكأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : رفع عن امّتي الشّيء الّذي لا يعلمونه ، أو لا يطيقونه ، أو استكرهوا عليه ، أو اضطرّوا إليه ، والتّعدّد إنّما هو في مصاديق الموصول وما ينطبق عليه خارجا ، وليس هذا إلّا لأجل التّعدّد في الصّلة وهي العناوين المذكورة ، فيكون مصداقه في غير عنوان «ما لا يعلمون» من سائر العناوين هو خصوص الفعل الخارجيّ ، وأمّا في عنوان «ما لا يعلمون» هو الأعمّ من الفعل والحكم.

وعليه : فلا اختلاف في معنى الموصول حتّى يوجب انثلام وحدة السّياق ، بل الاختلاف إنّما هو في المصداق الّذي لا يوجب له ، فما هو الموجب للانثلام من اختلاف المعنى ، غير موجود ، وما هو الموجود من اختلاف المصاديق ، غير موجب له.

وبالجملة : إنّ وحدة السّياق في الحديث الّتي تدور مدار وحدة المعنى ، لا توجب وحدة المصداق ، كما أنّ اختلاف المصداق لا يوجب اختلاف المعنى وانثلام وحدة السّياق.

٢٨٥

الجهة الثّانية : أنّه لو كان المراد من الموصول في جميع العناوين المذكورة هو الفعل الخارجيّ ، لكان إسناد الرّفع في الجميع مجازيّا ، لوضوح عدم تعلّق الرّفع الحقيقيّ بالفعل الخارجيّ ، حيث لا يكون وضعه ورفعه بيد الشّرع ، بل هو تابع لوضع علله ورفعها ، كسائر الامور التّكوينيّة ، فالحديث إذا ، يختصّ بالشّبهات الموضوعيّة ؛ وأمّا لو كان المراد منه في خصوص عنوان «ما لا يعلمون» هو الحكم ، لكان إسناد الرّفع بالإضافة إليه ، حقيقيّا ؛ إذ رفع الحكم كوضعه يكون بيد الشّرع ، وبالإضافة إلى سائر العناوين مجازيّا ، وهذا في نفسه لا بدع فيه ، إلّا أنّ الرّفع في الحديث قد اسند بإسناد واحد إلى عنوان جامع واحد وهو عنوان «تسعة» حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن امّتي تسعة» ولم يقل «رفع عن امّتي ما لا يعلمون ...» حتّى يصير الإسناد بالإضافة إلى بعض العناوين حقيقيّا ، وبالإضافة إلى بعضها الآخر مجازيّا ، بل العناوين التّسعة بعد كلمة : «تسعة» الّتي هو العنوان الجامع ، معرّفات وتفاصيل له.

وبالجملة : فالإسناد الكلاميّ الّذي يكون معيارا للحقيقة والمجاز ، واحد وإن كان بحسب اللّب والتّحليل متعدّدا ، ولازم ذلك ، هو أن يكون الإسناد الواحد حقيقيّا ومجازيّا بحسب اختلاف مصاديق المسند إليه وهو «تسعة» ، وهذا غير جائز.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتمّ لو كان المراد من الرّفع هو الرّفع التّكويني ؛ إذ يلزم حينئذ كون الرّفع بالنّسبة إلى الفعل مجازيّا لا محالة ، نظرا إلى أنّه متحقّق في الخارج ، غير قابل للرّفع ، وهذا بخلاف ما لو كان المراد من الرّفع هو الرّفع التّشريعي ، كما هو كذلك ، فلا تلزم المجازيّة فيه حتّى فيما لو كان المرفوع هو الفعل ؛ بداهة ، أنّ معنى رفع الفعل تشريعا هو عدم كونه موردا للاعتبار الشّرعي ، كما في بعض موارد الحكومة ،

٢٨٦

نظير قوله : «لا ربابين الوالد والولد» وعلى هذا يكون إسناد الرّفع إلى الفعل في الحديث ، كإسناده إلى الحكم حقيقيّا ، فلا فرق بين أن يراد من الموصول في عنوان «ما لا يعلمون» الفعل الخارجيّ أو الحكم الشّرعيّ.

الجهة الثّالثة : أنّه لا شكّ في أنّ الصّحيحة الدّالّة على رفع «تسعة الأشياء عن الامّة» كسائر الرّوايات الدّالّة على هذا المضمون ، إنّما وردت في مقام الامتنان والتّوسعة ، وهذا ـ مضافا إلى طبيعة كلمة : «الرّفع» ـ يقتضي أن يكون المرفوع أمرا ثقيلا ، كي يكون رفعه من الامّة من باب الإرفاق والمنّة.

ولا ريب : أنّ الثّقيل على الامّة هو الفعل والعمل الخارجيّ الصّادر من المكلّفين ، لا الحكم ، لأنّه فعل صادر من المولى ربّ العزّة والقدرة ؛ وليس فعلا للمكلّف حتّى يكون ثقيلا وكلفة عليه.

نعم ، سمّي الحكم تكليفا ، لا لكونه كلفة وثقلا على المولى ، ولا لكونه بنفسه من أثقال العباد وأعمالهم ، بل لكونه موجبا للإبتلاء المكلّف بكلفة الفعل ومشقّته ، أو بكلفة التّرك وصعوبته.

وعليه : فلا بدّ أن يراد من الموصول في جميع العناوين حتّى عنوان «ما لا يعلمون» هو خصوص الفعل لا الحكم ، فإذا يختصّ الحديث بالشّبهات الموضوعيّة.

وفيه : أنّ التّكليف والحكم وإن لم يكن بنفسه ثقيلا على الامّة ، لكنّه يكون سببا لوقوع المكلّف في الكلفة والصّعوبة ؛ ولذلك يصحّ إسناد الرّفع إليه من باب الإسناد إلى السّبب بلا عناية ومجاز ، كما يصحّ إسناده إلى الأثر ـ أيضا ـ كذلك

٢٨٧

بلا شبهة ، فيصحّ أن يقال : رفع الإلزام ـ وهو الوجوب أو الحرمة ـ أو رفع المؤاخذة والعقوبة. وتحقيق الأمر سيجيء إن شاء الله تعالى.

الجهة الرّابعة : أنّ الرّفع والوضع متقابلان متواردان على مورد واحد ومتعلّق فارد ، والمتعلّق في الوضع هو الفعل ، لا الحكم ، حيث إنّ التّكليف عبارة عن وضع الفعل وجعله على ذمّة المكلّف بحسب الاعتبار والتّشريع ، فمتعلّق الرّفع ـ أيضا ـ هو الفعل ، وقضيّة ذلك ، اختصاص الحديث بالشّبهة الموضوعيّة.

وفيه : أنّ الوضع والرّفع لكونهما تشريعيين يتعلّقان بالأحكام ، لا الأفعال الخارجيّة. غاية الأمر ، قد ترفع الأحكام أو توضع بلسان أنفسها ، وقد ترفع وتوضع بلسان موضوعاتها.

الجهة الخامسة : لا كلام ولا إشكال في شمول الحديث للشّبهات الموضوعيّة ، فلا بدّ أن يراد من الموصول في عنوان «ما لا يعلمون» كسائر العناوين ، خصوص الفعل يقينا ؛ إذ لو اريد منه الحكم ـ أيضا ـ كي يعمّ الشّبهات الحكميّة ، لزم استعمال الموصول في معنيين ، وهذا غير جائز قطعا ، ونتيجة ذلك ، هو اختصاص الحديث بالشّبهات الموضوعيّة.

وفيه : أوّلا : أنّ هذا ـ كما عرفت سابقا ـ خلط بين المصداق والمعنى ؛ وذلك لأنّ الموصول لم يستعمل في الفعل ، ولا في الحكم ، بل استعمل في معناه المبهم ، غاية الأمر ، قد يصدق على الفعل ، وقد يصدق على الحكم ، كما لا يخفى ، وقد عرفت : أنّ اختلاف المصاديق وتعدّدها ، لا يوجب اختلاف المعاني وتعدّدها.

وثانيا : أنّ الحديث يعمّ الشّبهات الموضوعيّة حتّى فيما إذا اريد بالموصول هو

٢٨٨

الحكم فقط ، من دون حاجة إلى إرادة الفعل منه ـ أيضا ـ بتقريب : أنّ الحكم المجهول ، إمّا مجهول لأحد امور ثلاثة : من فقدان النّص وإجماله وتعارض النّصين ، كما في الشّبهات الحكميّة ، أو لأجل امور خارجة : من جهل أو عمى أو ظلمة ، كما في الشّبهات الموضوعيّة.

وثالثا : لو أغمضنا عن ذلك وقلنا : بإرادة كلتا الشّبهتين من الموصول ، نمنع عدم إمكان استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد ، على ما قرّر في محلّه.

فتحصّل : أنّ الشّواهد الخمسة على خصوص إرادة الفعل الخارجيّ من الموصول مردودة ، بل المراد منه هو الأعمّ من الحكم والفعل ، فلا يختصّ الحديث بالشّبهات الموضوعيّة ، بل يعمّها والشّبهات الحكميّة ، وعلى هذا يتمّ الاستدلال به على البراءة عند الشّكّ في التّكليف.

نعم ، ورد على الحديث إشكالات اخرى لا بدّ من دفعها ، والحري الاكتفاء بذكر واحد منها وهو المهمّ ؛ حاصله : أنّ الرّفع عبارة عن إزالة الشّيء الموجود الثّابت الّذي له اقتضاء واستعداد للبقاء ، قبال الدّفع الّذي هو عبارة عن منع المقتضي (بالكسر) عن التّأثير في وجود المقتضى (بالفتح).

وإن شئت ، فقل : الرّفع عبارة عن إزالة الشّيء بعد وجوده وتحقّقه ، أو إزالة الشّيء عن صفة الوجود بعد تحقّقه وتحصّله ، والدّفع عبارة عن منع الشّيء عن تحصّله وتحقّقه ، فالرّفع منع عن البقاء بعد الحدوث ، والدّفع منع عن أصل الحدوث ، والمفروض أنّه ليس لعنوان «ما لا يعلمون» وساير العناوين حكم ثابت موجود في زمان كي يرفع ويمنع عن بقاءه للإرفاق والامتنان.

٢٨٩

وفيه : أنّ الرّفع في الحديث وإن كان بمعناه الحقيقي وهو إزالة الشّيء بعد وجوده وتحقّقه ، إلّا أنّ المرفوع ليس هو الحكم كي يلزم ما ذكر من الإشكال ، بل حيث إنّ الرّفع اسند إلى كلمة : «تسعة» مضافة إلى كلمة : «أشياء» كان المرفوع هو كلمة : «تسعة أشياء» الّتي تفسّر بالعناوين المذكورة من الخطأ والسّهو وما لا يعلمون و... ، وأنت ترى ، أنّ هذه الخصال التّسع امور متحقّقه موجودة في الامّة كثيرا.

وعليه : فيصحّ إسناد الرّفع إليها حقيقة من دون استعماله بدل الدّفع ، كما أفاده المحقّق النّائيني قدس‌سره (١) في مقام الجواب عن الإشكال المذكور ، ومن دون حاجة إلى الادّعاء والمسامحة ، كما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره (٢) ؛ وذلك ، لأنّ الرّفع هنا ـ كما عرفت سابقا ـ تشريعيّ ، بمعنى : عدم كون هذه الامور مصبّا للاعتبار الشّرعيّ حقيقة ، وعدم ترتيب الشّارع عليها الأثر واقعا ، فعلى هذا لا مجال للمسامحة والادّعاء ، وإنّما يتأتّى ذلك لو كان المراد من الرّفع هو الرّفع التّكويني ، كما هو واضح.

وبالجملة : الرّفع معناه الإزالة دائما ، غاية الأمر ، قد تكون الإزالة تكوينيّة وقد تكون تشريعيّة ، نظير الإرادة فإنّ معناها واحد ، والاختلاف إنّما هو من جهة كونها تكوينيّة أو تشريعيّة ، والمراد منه في الحديث ، هو الإزالة التّشريعيّة ، فإذا لا يبقى المجال لما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره من جعل الرّفع بمعنى الدّفع ، وما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره من ارتكاب المسامحة والادّعاء في معنى الرّفع.

نعم ، تطبيق حديث الرّفع على مورد يحتاج إلى تحقّق شروط :

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٣٦ و ٣٣٧.

(٢) راجع ، أنوار الهداية : ج ٢ ، ص ٤٧ و ٤٨.

٢٩٠

الأوّل : أن يكون في رفعه منّة على الامّة ، فلا يرفع به ضمان الإتلاف الإكراهيّ أو الاضطراريّ أو الخطائيّ أو نحوها ؛ لكون رفعه خلاف الامتنان بالنّسبة إلى المالك وإن كان امتنانا بالنّسبة إلى المتلف ، وكذا لا يرفع بالحديث صحّة البيع الاضطراريّ ، لأجل أنّه مخالف للإرفاق والامتنان ، كما هو واضح.

الشّرط الثّاني : أن يكون الأثر المرفوع بنفسه أو بمتعلّقه وموضوعه ، مترتّبا على فعل المكلّف بما هو فعله ، كشرب الخمر وقتل النّفس المحترمة ، فلا يرفع بحديث الرّفع أثر نجاسة المتنجّس المترتّبة على عنوان الملاقاة للنّجاسة ، لا بما هي فعل المكلّف ، بل بما هي هي ، وإن كانت من غير ناحية إرادته متحقّقة ، فلو لاقى بدن الإنسان للنّجاسة اضطرارا أو إكراها أو نسيانا أو نحوها ، لا يمكن الحكم برفع نجاسته ، لعدم ترتّب تنجّس الملاقي على الملاقاة بما هو فعل المكلّف ، بل هو مترتّب على نفس الملاقاة بأيّ نحو تحقّقت ، وكذا لا يرفع به وجوب قضاء الفائت من المكلّف خطاء أو اضطرارا أو إكراها أو نحوها ؛ إذ هو مترتّب على نفس الفوت بما هو فوت ، لا بما هو فعل المكلّف وتفويت منه ، ولذا ورد في الأدلّة مثل قوله عليه‌السلام : «اقض ما فات» لا «اقض ما فوّت».

الشّرط الثّالث : أن يكون الحديث ناظرا إلى الأفعال الّتي لو خلّيت وأنفسها ـ مع قطع النّظر عن طروّ عنوان مثل الخطأ والنّسيان ـ تكون ذوات آثار ، كشرب الخمر وقتل النّفس المحترمة ونحوهما من الأفعال الّتي تكون محرّمة وموجبة للقصاص ، والخروج عن العدالة لو صدرت عن علم وعمد وإرادة ، فإذا صدرت أمثال تلك الأفعال عن المكلّف خطاء أو نسيانا أو اضطرارا ... لكانت مرفوعة خالية

٢٩١

عن تلك الآثار بلا شبهة ، وهذا بخلاف ما إذا كانت الآثار مترتّبة على الأفعال مع ملاحظة طروّ عنوان الخطأ أو النّسيان أو نحوهما ، كوجوب الدّية المترتّب على قتل نفس محترمة في فرض الخطأ ، ووجوب سجدتي السّهو المترتّب على نسيان السّجدة ؛ فإنّها لا ترتفع بلحاظ تلك الآثار ، لاستحالة أن يكون الموجب لثبوت حكم ، موجبا بنفسه لارتفاع ذلك الحكم ، وهذا واضح غاية الوضوح.

اعلم ، أنّ النّسبة بين حديث الرّفع وبين أدلّة الأحكام الأوّليّة كدليل حرمة شرب الخمر ونحوه وإن كانت عموما من وجه ، إلّا أنّهما لا يتعارضان في مورد الاجتماع ؛ وذلك ، لأجل أنّ حديث الرّفع يكون حاكما على أدلّة الأحكام حكومة تحديد وتضييق ، بحيث يوجب الحديث تضييق دائرة عقد الوضع من ناحية أدلّة الأحكام ، كحكومة دليل نفي الضّرر أو العسر والحرج عليها ، فأدلّة شرب الخمر ونحوه تعمّ حال الاضطرار والإكراه والجهل ونحوها من حالات اخرى ، والحديث ناظر إليها ، فيرفع تشريع شرب الخمر ونحوه في تلك الحالات ويقول : إنّ شرب الخمر ـ مثلا ـ إذا اضطر إليه ، مرفوع تشريعا ، بمعنى : أنّه جعل في عالم التّشريع بلا أثر.

ونتيجة ذلك : أنّ الحديث يحدّد متعلّق الحكم (شرب الخمر) ويضيّقه بإخراج الشّرب الاضطراريّ أو الإكراهيّ ونحوهما منه إخراجا تشريعيّا ، وهذا يكون جمعا عرفيّا بين الحديث ، وبين أدلّة الأحكام ، فلا تلاحظ النّسبة وأنّها هو العموم من وجه حتّى تقع بينهما المعارضة في مورد الاجتماع ، كما لا تلاحظ نسبة العموم من وجه بين الوضوء والغسل ، وبين دليل نفي الضّرر أو العسر والحرج ؛ وذلك لما بينهما من الحكومة المضيّقة الرّافعة للتّنافي والتّعارض المتوهّم.

٢٩٢

وبما ذكرنا : من الحكومة والنّظر إلى عقد الوضع وتضييقه بإخراج الفعل الاضطراريّ ـ مثلا ـ تشريعا ، بمعنى : جعله بلا أثر رأسا ، كما هو الظّاهر ، لا مجال للتّقدير بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن امّتي ...» حتّى يسأل عن المقدّر بأنّه هل هي المؤاخذة أو الأثر المناسب لكلّ واحد من العناوين أو جميع الآثار؟ ووجهه واضح.

نعم ، بعد الغضّ عمّا ذكرنا ووصول الدّور إلى التّقدير ، ليس المقدّر هو المؤاخذة أو الآثار المناسب لكلّ واحد من العناوين ، بل المقدّر هو جميع الآثار ، فالكلام يقع في مقامين : الأوّل : في نفي تقدير المؤاخذة والآثار المناسب ؛ الثّاني : في إثبات تقدير جميع الآثار.

أمّا المقام الأوّل : فنقول : عدم تقدير المؤاخذة له وجهان : أحدهما : إطلاق الحديث الشّامل للمؤاخذة وغيرها من آثار اخرى ؛ ثانيهما : رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، جميعا ، عن أبي الحسن عليه‌السلام : «في رجل يستكره على اليمين ، فيحلف بالطّلاق والعتاق وصدقة ما يملك ، أيلزمه ذلك؟ فقال : لا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وضع عن امّتي ما اكرهوا عليه ولم يطيقوا وما أخطئوا» (١) ، حيث استشهد الإمام عليه‌السلام بالحديث لرفع صحّة الطّلاق وأخويه (العتاق وصدقة ما يملك) ، لا لرفع المؤاخذة ، وواضح ، أنّ الصّحّة المرفوعة ، حكم وضعيّ.

وعليه : فيعلم من هذا الاستشهاد ، أنّ المرفوع ليس هو خصوص المؤاخذة ، ولا خصوص الحكم التّكليفيّ ، بل المرفوع جميع الآثار والأحكام ، كما يعلم منه

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٦ ، كتاب العتق والأطعمة والأشربة ، الباب ١٢ من أبواب الأيمان ، الحديث ١٢ ، ص ١٦٤.

٢٩٣

ـ أيضا ـ أنّ صلاحيّة الحديث لرفع الحكم الوضعيّ ، كالتّكليفيّ كانت مفروغا عنها ومسلّمة بين الإمام عليه‌السلام والسّائل المخاطب ، وكذا يعلم منه ـ أيضا ـ أنّ عموم الرّفع بلسان نفي الموضوع ، كان هو المتبادر من الحديث لدى الأذهان ، لا لأنّه كان مسلّما في فقه العامّة ومقبولا عندهم فقط حتّى يكون الاستشهاد من باب الجدل ولمجرّد إقناع الخصم ؛ إذ هذا غير معلوم ، بل معلوم العدم ظاهرا ، كيف ، وأنّ أمثال هذه المسألة لم تكن معنونة في تلك الأزمنة ، بل هي معنونة في الأعصار الأخيرة ، فأصل الاستشهاد به ليس من باب الجدل.

نعم ، تطبيق كبرى الرّفع على المورد يكون من باب الجدل ، لبطلان الحلف بالطّلاق وأخويه عندنا ـ لا عندهم ـ حال الاختيار والرّغبة ، فضلا عن حال الإكراه والكراهة.

فعلى ما ذكرنا ، لا مجال لأن يقال : لا يستفاد من مجرّد الاستشهاد ، أنّ الحديث يكون دليلا على رفع جميع الآثار واقعا ، لكون الاستشهاد به من باب الجدل ، ولمجرّد إقناع الخصم.

هذا ، مضافا إلى أنّ رفع الموضوع رأسا لرفع الأثر ، أو رفع الأثر بلسان رفع الموضوع تماما ، إنّما يحسن ويصحّ لو كان المراد هو رفع جميع الآثار ، أو رفع ما هو العمدة بين الآثار المتعدّدة ، لا رفع المؤاخذة الّتي ليست كلّ الأثر ، ولا العمدة من بين الآثار المختلفة ؛ إذ الموضوع لا يرفع إلّا برفعهما ، كما هو الواضح.

فتحصّل : أنّ المقدّر في الحديث هو جميع الآثار ، لا كلمة : «المؤاخذة» ووجهه هو أنّ تقديرها مخالف لإطلاق الحديث الشّامل للمؤاخذة وغيرها ، ومخالف

٢٩٤

لاستشهاد الإمام عليه‌السلام بالحديث في صحيحة البزنطي على رفع الحكم الوضعى وهو صحّة الطّلاق والعتاق والصّدقة.

وقد ذكر لعدم تقدير المؤاخذة وجهان آخران وهما ضعيفان :

أحدهما : ما عن السّيّد البروجردي قدس‌سره قال ، ما حاصله : إنّ المؤاخذة ليست من الامور الاعتباريّة القابلة للوضع تشريعا حتّى ترفع كذلك ، وإنّما هي تكون من الامور التّكوينيّة الواقعيّة ، والأمر الّذي كان بيد الشّارع وضعا ورفعا ، ليس إلّا الحكم من الوجوب والحرمة ، فهو المقدّر المرفوع لا غير. (١)

وفيه : أنّ المؤاخذة إنّما هي من تبعات المخالفة للتّكاليف الإلهيّة وآثارها ، فتكون قابلة للرّفع بنفسها أو برفع ما يوجبها وهو الحكم الشّرعيّ.

وبعبارة اخرى : أنّ وضع المؤاخذة ورفعها يكونان بيد الشّرع ولو مع الواسطة ، فيصحّ إسناد الرّفع إليها بتقديرها بلا شبهة.

ثانيهما : أنّ المؤاخذة وإن كانت من توابع الحكم والتّكليف وآثاره ، لكن لا شبهة في كونها من توابعه على تقدير تنجّزه ؛ إذ لا عقوبة ولا مؤاخذة على ما لم ينجّز منه ـ كالواقع المجهول ـ حتّى ترفع ، والمفروض ، أنّ التّكليف في مورد الحديث وهو الاضطرار والإكراه والجهل ونحوها ، غير منجّز ، فلا يمكن حينئذ تقدير المؤاخذة.

وفيه : أنّ المؤاخذة وإن كانت في مورد التّكليف المنجّز وهو غير مورد الحديث ، إلّا أنّه مع ذلك لا مانع من تقديرها في مورده ـ أيضا ـ إذ المفروض ، أنّ المؤاخذة تتأتّى بإيجاب الاحتياط في مورد الجهل والشّكّ ، فرفعها كاشف عن عدم

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ص ٥٨٣ و ٥٨٤.

٢٩٥

إيجابه كشفا إنيّا. هذا كلّه بالنّسبة إلى عدم تقدير المؤاخذة.

وأمّا عدم تقدير الأثر المناسب لكلّ واحد من العناوين ـ كالمضرّة المناسبة للطّيرة ، والكفر المناسب للوسوسة ، والمؤاخذة المناسبة لسائر العناوين ـ فقد اتّضح وجهه ممّا ذكرنا ، حول عدم تقدير المؤاخذة ، مضافا إلى ما أشرنا إليه ، من أنّ المرفوع هي نفس عنوان «التّسعة» المفسّرة بالعناوين التّسعة ، إلى هنا قد تمّ الكلام في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثّاني (إثبات تقدير جميع الآثار) : فنقول : لو وصلت الدّور إلى التّقدير ، فلا مناص من تقدير جميع الآثار ؛ إذ المناسب لرفع الأشياء التّسعة بتمامها من الخطأ والنّسيان ونحوهما في دائرة التّشريع هو رفع جميع آثارها ، وعدم ترتيب أيّ أثر عليها ، فرفع شرب الخمر ـ مثلا ـ إذا صدرت خطاء أو اضطرارا أو إكراها أو نحوها ، معناه : أنّ الشّارع رفع عنه جميع الآثار المترتّبة عليه شرعا حال العمد والاختيار ، كالحرمة والمعصية والمؤاخذة والحدّ والفسق.

يظهر من ذلك : أنّ حديث الرّفع يعم جميع الآثار والأحكام ، سواء كانت تكليفة أو وضعيّة ، فلا حاجة إلى البحث عن هذا الأمر بحياله ، وقد أشرنا سابقا ـ أيضا ـ إلى شمول الحديث للشّبهات الحكميّة والموضوعيّة.

ثمّ إنّه بقي حول الحديث بعض جهات ينبغي أن يبحث عنها بوجه الإيجاز والإشارة :

الاولى : هل الحديث يعمّ الامور العدميّة ـ أيضا ـ أو يختصّ بالامور الوجوديّة وجهان ، بل قولان : والحقّ هو الأوّل ، ولكن ذهب المحقّق النّائيني قدس‌سره إلى

٢٩٦

الثّاني ، فقال : «وإن اكره المكلّف على التّرك أو اضطرّ إليه أو نسي الفعل ، ففي شمول حديث الرّفع لذلك إشكال ـ مثلا ـ لو نذر أن يشرب من ماء الدّجلة ، فاكره على العدم أو اضطرّ إليه أو نسي أن يشرب ، فمقتضى القاعدة وجوب الكفّارة عليه لو لم تكن أدلّة وجوب الكفّارة مختصّة بصورة تعمّد الحنث ... فإنّ شأن الرّفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعا لا رفعا ، والمفروض ، أنّ المكلّف قد ترك الفعل عن إكراه أو نسيان ، فلم يصدر منه أمر وجوديّ قابل للرّفع ، ولا يمكن أن يكون عدم الشّرب في المثال مرفوعا وجعله كالشّرب حتّى يقال : إنّه لم يتحقّق مخالفة النّذر ، فلا حنث ولا كفّارة» (١).

وفيه : أنّ المرفوع على ما تقدّم منّا ، إنّما يكون نفس الخطأ والنّسيان ونحوهما من سائر العناوين. ومعلوم ، أنّ هذه العناوين كما تتعلّق بالامور الوجوديّة وهي الأفعال ، أو تنطبق عليها ، كذلك تتعلّق بالامور العدميّة وهي التّروك أو تنطبق عليها ، فالرّفع المتعلّق بها يرفعها بأيّ شيء تعلّقت أو على أيّ شيء انطبقت من أفعال أو تروك.

ألا ترى ، أنّ الخطأ ـ مثلا ـ قد يتعلّق بالفعل ، كشرب الخمر ، وقد يتعلّق بالتّرك ، كترك صلاة اللّيل المنذورة ، والرّفع في فرض تعلّقه بالفعل كما يكون مشتملا على الإرفاق والمنّة ، كذلك الرّفع في فرض تعلّقه بالتّرك. وقد عرفت : أنّ الرّفع

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٥٢ و ٣٥٣.

٢٩٧

تشريعيّ ومعناه : هو عدم ترتيب الأثر من ناحية الشّرع على تلك العناوين ، فلا تأويل في البين ، ولا تنزيل أصلا.

هذا بناء على ما سلكناه من إسناد الرّفع إلى العناوين التّسعة حقيقة وأنّ المرفوع هو نفسها تشريعا ، وأمّا بناء على ما سلكه الإمام الرّاحل قدس‌سره من الرّفع الادّعائي ، فلا مجال ـ أيضا ـ لما ذكره المحقّق النّائيني قدس‌سره ؛ إذ الرّفع الادّعائي ، كما لا يتعلّق بالأمر الوجودي حقيقة ، بل يتعلّق به ادّعاء بلحاظ الآثار ، كذلك لا يتعلّق بالأمر العدميّ حقيقة ، بل تعلّق به ادّعاء بلحاظ الآثار. (١)

الجهة الثّانية : هل يعمّ حديث الرّفع جزء العبادة أو شرطها إذا ترك نسيانا ونحوه حتّى تصير العبادة صحيحة ، أم لا؟ فيه ـ أيضا ـ وجهان : والحقّ هو الأوّل ، ولكن ذهب المحقّق النّائيني قدس‌سره إلى الثّاني ، واستدلّ قدس‌سره على مختاره بوجوه : منها : أنّ الحديث لا يشمل الامور العدميّة وأنّه لا محلّ لورود الرّفع ـ مثلا ـ على السّورة المنسيّة في الصّلاة.

وفيه : ما عرفت آنفا ، من أنّ المرفوع هو نفس العناوين من الخطأ ونحوه ، فلا فرق بين أن تتعلّق تلك العناوين بالأفعال أو تتعلّق بالتّروك ، فكما أنّ شرب الخمر ـ مثلا ـ عن نسيان مرفوع ، كذلك ترك جزء الصّلاة عن نسيان.

ومنها : أنّ الأثر المترتّب على الجزء والشّرط ليس إلّا الإجزاء وصحّة العبادة وهما ليسا من الآثار الشّرعيّة الّتي تقبل الوضع والرّفع ، بل يكونان من الآثار

__________________

(١) راجع ، أنوار الهداية : ج ٢ ، في ذيل الصّفحة ٥٢.

٢٩٨

العقليّة الّتي ليس وضعها ورفعها بيد الشّارع.

وفيه : أنّ الجزئيّة والشّرطيّة قابلتان للوضع والرّفع بمنشإ انتزاعهما ، وهذا كاف بلا حاجة إلى أثر آخر من الصّحّة والإجزاء كي يقال : بكونه من الآثار العقليّة ، فلا يتعلّق به الوضع والرّفع الشّرعيّ.

ومنها : أنّه لا كلام في كون حديث الرّفع ونحوه للإرفاق والامتنان ، وواضح ، أنّ رفع الجزء أو الشّرط باعتبار أثر الصّحّة والإجزاء ، يقتضي فساد العبادة وعدم الإجزاء ، وهذا خلاف الامتنان وينتج عكس المطلوب.

وفيه : أنّ المفروض هو رفع ترك الجزء أو الشّرط نسيانا ، ورفعه إنّما هو برفع آثاره ومنها الجزئيّة أو الشّرطيّة ، وأنت ترى ، أنّه ليس في مثل هذا الرّفع خلاف الامتنان والمنّة.

هذا كلّه ما أفاده قدس‌سره بالنّسبة إلى الجزء والشّرط ، وأمّا بالنّسبة إلى المركّب الفاقد لهما ، فقال : «وأمّا بالنّسبة إلى المركّب الفاقد للجزء أو الشّرط المنسي ، فهو وإن كان أمرا وجوديّا قابلا لتوجّه الرّفع إليه ، إلّا أنّه أوّلا : ليس هو المنسيّ أو المكره عليه ليتوجّه الرّفع إليه ؛ وثانيا : لا فائدة في رفعه ، لأنّ رفع المركّب الفاقد للجزء أو الشّرط لا يثبت المركّب الواجد له ، فإنّ ذلك يكون وضعا ، لا رفعا ، وليس للمركّب الفاقد للجزء أو الشّرط أثر يصحّ رفع المركّب بلحاظه ، فإنّ الصّلاة بلا سورة ـ مثلا ـ لا يترتّب عليها أثر إلّا الفساد وعدم الإجزاء وهو غير قابل للرّفع الشّرعيّ» (١).

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٥٤.

٢٩٩

وفيه : أنّ حديث الرّفع ـ على ما عرفت سابقا ـ حاكم على أدلّة الأحكام الأوّليّة من أدلّة المركّبات والأجزاء والشّرائط. ولا ريب ، أنّ نتيجة إعمال الحكومة هو اختصاص الأجزاء والشّرائط بغير حال النّسيان ـ مثلا ـ فيصير المركّب الفاقد لهما تمام المأمور به ، وهذا لا فرق فيه بين نسيان الحكم وهو الجزئيّة والشّرطيّة ، وبين نسيان الموضوع وهو الجزء أو الشّرط. وعليه : فلا مجال لأن يقال : إذا كان المنسي هو الجزء ـ مثلا ـ لا الجزئيّة فلم ترفع الجزئيّة ، إذ يقال في جوابه : بأنّ رفع الجزء رفع له بجميع آثاره منها الجزئيّة ، ومعه يصدق على المأتي به أنّه تمام المأمور به ، حال النّسيان ، فيسقط الأمر المتعلّق به ؛ بداهة ، أنّ الأمر يسقط بالامتثال أو بالعصيان ـ بعض الأحيان ـ أو بحصول الغرض.

وكذلك لا مجال لأن يقال : إنّ حديث الرّفع لا يتكفّل لتحديد دائرة المأمور به ، وأنّه لا إطلاق له لرفع الجزء أو الشّرط حتّى بعد زوال النّسيان.

إذ يقال في جوابه : إنّه يكفي الرّفع حال النّسيان ، لتطبيق المأمور به على المأتي به ، فيسقط الأمر ، ولا معنى لبقائه أو حدوث الأمر.

إن قلت : إنّ حديث الرّفع بأنّه إنّما يصحّح العبادة الفاقدة للأجزاء والشّرائط نسيانا ، إذا أمكن اختصاص النّاسي بالتّكليف والخطاب ، والمفروض أنّه غير ممكن ، فلا يوجب الحديث تصحيح العبادة.

قلت : أوّلا : أنّ خطاب النّاسي تحت عنوان آخر ممكن ؛ وثانيا : لا حاجة إلى خطاب خاصّ بالنّسبة إلى النّاسي في تصحيح العبادة كي يقال : بعدم إمكانه ، بل يكفي

٣٠٠