مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

الآثار العقليّة للقطع ، بل يدور مدار أدلّته ويتقوّم بشرائطه المقرّرة في محلّه ، والآثار العقليّة للقطع ليست إلّا لزوم العمل على وفقه ووجوب الحركة على طبقه ، والمنجّزيّة عند الإصابة ، والمعذريّة عند الخطاء.

على أنّ الإفتاء بالحكم الإنشائي غير البالغ مرتبة الفعليّة ، لا يترتّب عليه ثمرة ، لا للمفتي ولا لمقلّديه ، حيث إنّ الإفتاء لا يكون إلّا للعمل ، ولا عمل إلّا بعد بلوغ الحكم إلى مرتبة الفعليّة.

وبعبارة اخرى : أنّ الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة ، لم يكن ـ حقيقة ـ أمرا ولا نهيا ، ولا مخالفته ـ عن عمد ـ عصيانا ، بل كان ممّا سكت الله تعالى عنه ، كما ورد في الرّواية. (١)

فتحصّل : أن الوجهين الأوّلين من الوجوه الثّلاثة المتقدّمة الّتي عدل المحقّق الخراساني قدس‌سره لأجلها عن تثليث الأقسام إلى تثنيتها ، ممّا لا إشكال فيه ، وما عن بعض الأعاظم قدس‌سره من الإشكال عليهما ، غير وارد لما عرفت فيه من الضّعف.

نعم ، يرد الإشكال على الوجه الثّالث منها (وهو لزوم تداخل الأقسام ، بناء على التّثليث ، وعدم لزومه ، بناء على التّثنية) كما عن بعض الأعاظم قدس‌سره.

حاصل الإشكال : (٢) هو أنّ المراد من الظّنّ ، هي الأمارة المعتبرة ، والمراد من الشّكّ ، عدم قيام الأمارة المعتبرة على الحكم ، فلا وجه للتّداخل ، هذا ، مضافا إلى أنّ التّقسيم الّذي ذكره الشّيخ قدس‌سره إنّما هو في رتبة سابقة على الحكم ، حيث إنّ المكلّف عند

__________________

(١) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، الباب ٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦١ ، ص ١٢٩.

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ١٣.

٢١

التفاته إلى الحكم الشّرعي ، لا يخلو من تلك الأقسام الثّلاثة المذكورة ، ثمّ بعد التّقسيم ، يصل الدّور إلى البحث والتّحقيق ، فيظهر بعد ذلك ، لحوق الظّنّ ، تارة بالقطع ؛ واخرى بالشّكّ ، فلا تداخل أصلا ، ونظير ذلك ما يقال ابتداء : «الإنسان : إمّا مسلم ، أو مشرك أو أهل الكتاب» ثمّ يقال بعد هذا التّقسيم : إنّ اهل الكتاب ، تارة يلحق بالمسلم ، كما إذا وفوا بالمعاهدة من إعطاء الجزية وغيرها ، فلا يجوز الحرب معه ؛ واخرى بالمشرك ، كما إذا لم يف بالمعاهدة ، فيجوز الحرب معه ، وحيث إنّ هذا الإلحاق لا يكون إلّا بعد البحث والتّحقيق المتأخّر عن التّقسيم ، فلا يوجب التّداخل ومنع التّقسيم المذكورة.

(تحقيق وتنقيح)

هل المراد من كلمة : «المكلّف» المأخوذة في العنوان ، كما في كلام الشّيخ قدس‌سره أو كلمة : «البالغ» المأخوذة فيه ، كما في كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره هو خصوص المجتهد أو الأعمّ منه ومن المقلّد؟

فنقول : لا بدّ في تحقيق ذلك من التّكلّم في حال الخطابات الإلهيّة بأنّها ، هل تختصّ بالبالغين العاقلين ، أو لا تختصّ بهم فضلا عن المجتهدين ، بل تعمّ المميّزين ـ أيضا ـ وجهان : والحقّ هو الثّاني من غير فرق بين كون الأحكام نفسيّة واقعيّة ، أو ظاهريّة ، وبين كونها طريقيّة صادرة لحفظ الواقع ، كوجوب الاحتياط في الشّبهات المحصورة المقرونة بالعلم الإجماليّ وكوجوب التّعلّم ـ على بعض الأقوال ـ وكحرمة نقض اليقين بالشّكّ ، فالأحكام كلّها تتوجّه إلى كلّ إنسان مميّز ، بالغا كان

٢٢

أم لا ؛ وذلك ، لاجل عدم المانع عن شمول الخطابات له ثبوتا ، فقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(١) أو قوله جلّ جلاله : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(٢) أو قوله عزوجل : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)(٣) أو نحوها ، يشمل المميّزين غير البالغين بلا أيّ محذور في ذلك ؛ ولاجل الإطلاق أو العموم في الخطابات إثباتا من غير ورود التّخصيص فيها بالنّسبة إلى البالغين.

لا يقال : دليل رفع القلم (٤) عن الصّبي يحدّد الخطابات العامّة أو المطلقة ويخصّصها بالمكلّف البالغ.

لأنّه يقال : أوّلا : أنّ أحاديث الرّفع تكون إرفاقيّة امتنانيّة وردت للتّسهيل والتّوسعة ، فترفع ما يوجب الثّقل والوقوع في المشقّة والكلفة وهو الإلزام ، ومعناه : أنّ الصّبيان ليسوا بملزمين ، لا أنّ الخطاب مرفوع عنهم رأسا بحيث لو صلّوا أو صاموا لم يكن لهم أجر وفضيلة ؛ إذ هذا خلاف المنّة والرّحمة ، كيف ، وأنّهم قد يكونون في المرتبة العالية من الإيمان والإخلاص والمعرفة.

وثانيا : أنّه لو سلّم رفع الخطاب عنهم ، فلا نسلّم رفع الملاك ، بمعنى : أنّ الرّفع إنّما يكون لوجود المانع ، لا لعدم المقتضي ؛ ولذا نختار صحّة عبادات الصّبي وأنّها شرعيّة ، لا تمرينيّة تعويديّة ، بلا حاجة في هذه المقالة إلى التّمسّك بخطاب آخر ؛ نظير

__________________

(١) سورة البقرة (٢) ، الآية ١٨٣.

(٢) سورة آل عمران (٣) ، الآية ٩٧.

(٣) سورة البقرة (٢) ، الآية ٤٣.

(٤) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ١ ، الباب ٤ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١١ ، ص ٣٢.

٢٣

قوله عليه‌السلام : «فمروا صبيانكم بالصّلاة إذا كانوا بني سبع سنين». (١)

وثالثا : أنّ حديث الرّفع لا ينطبق على مورد المعاملات ؛ لعدم الإلزام فيها ، بل جريانه فيها لرفع الحكم الوضعيّ وهو الصّحة ، خلاف الامتنان والرّحمة ؛ ومن أجل ذلك نختار ـ أيضا ـ صحّة معاملات الصّبي المميّز بلا حاجة إلى تمحّل أنّ الصّبيان المميّزين هم وسائط الإيصال والأيدي ، لا المعاملون حقيقتا ، بل المعاملون هم الأولياء البالغون.

لا يقال : لو سلّم صحّة توجيه الخطابات النّفسيّة الواقعيّة أو الظّاهريّة إلى الصّبيان المميّزين ، فلا نسلّم توجيه الخطابات الطّريقيّة إليهم ، كخطابات أدلّة الاصول ، نظير قوله عليه‌السلام : «لا ينقض اليقين بالشّكّ» (٢) ، وخطابات أدلّة الأمارات ، وخطابات باب التّعادل والتّراجيح ، نظير قوله عليه‌السلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فأعرضوهما على كتاب الله ...» (٣) بل لا نسلم توجيها إلى غير المجتهدين ـ أيضا ـ بداهة ، أنّ القول بتعميم الأحكام المتعلّقة بالعناوين الثّلاثة من القطع والظّنّ والشّكّ ، لا يناسب لما أخذت في أحكام القطع وقسيميه ، من تلك العناوين الثّلاثة الّتي لا تتحقّق إلّا للمجتهدين عند التفاته إلى الأحكام الإلهيّة تفصيلا ، وأمّا باقي من النّاس فهم غافلون عنها تفصيلا وإن كانوا ملتفتين إليها إجمالا.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٣ من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث ٥ ، ص ١٢.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ٥ ، الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصّلاة ، الحديث ٣ ، ص ٣٢١.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩ ، ص ٨٤.

٢٤

وإن شئت ، فقل : إنّ العناوين الثّلاثة الّتي لها آثار وأحكام ، لا تحصل إلّا للملتفت وهو المجتهد ، ولا التفات لغيره إلّا بنحو الإجمال ؛ على أنّه لا عبرة بقطع غير المجتهد ، وكذا ظنّه وشكّه حتّى في فرض التفاته إلى الأحكام تفصيلا ؛ وذلك ، لعدم انتفاعه من مثل الخطابات المتقدّمة ؛ لاشتراط الانتفاع بها بتشخيص مواردها ومجاريها وفهم مضامينها وفحص تامّ في مواضعها ؛ وأنت ترى ، أنّ غير المجتهد فضلا عن الصّبي عاجز عن مثل هذه الامور ، كما أشار إليه المحقّق النّائيني (١) والعراقى قدس‌سرهما (٢).

لأنّه يقال : وزان الخطابات الطّريقيّة وأدلّة اعتبار الطّرق والاصول ، وزان الخطابات النّفسيّة في شمولها لقاطبة المكلّفين وعدم اختصاصها بصنف ، فقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّكّ» يكون نظير قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) أو قوله جلّ جلاله : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ...) غاية الأمر ، يرجع الجاهل بالخطابات الطّريقيّة غير العارف بالاصول ، العاجز عن تشخيص مواردها ومجاريها ، إلى المجتهد الفقيه العارف ، كما أنّه يرجع إليه في الخطابات النّفسيّة ، وليس هذا الرّجوع من باب النّيابة ، بل من باب رجوع الجاهل إلى العالم بمقتضى الارتكاز والفطرة.

وإن شئت ، فقل : إنّ الخطابات كلّها متوجّهة إلى المكلّفين قاطبة من العوام والمجتهدين ، وعجز العاميّ عن فهم المضامين ، وعن تشخيص الموارد والمجاري ، وعن الفحص في المعارضات والمخصّصات أو المقيّدات ، حاصل في الجميع ؛ ولذا يجب

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٤.

(٢) راجع ، نهاية الافكار : ج ٣ ، ص ٣.

٢٥

التّفقّه والاجتهاد بالوجوب الكفائي ، فيرجع العاجز العاميّ المشمول للخطاب الإلهي من النّفسي والطّريقي إلى الفقيه البارع ، وهذا الرّجوع الارتكازي لا يختصّ بباب الاجتهاد والفقاهة ، بل يكون في جميع الأبواب كالطّبابة ونحوها من الواجبات الكفائيّة. هذا كلّه في دفع شبهة العجز.

وأمّا شبهة اختصاص العناوين من القطع والظّنّ والشّكّ بالفقهاء والمجتهدين الملتفتين إلى الأحكام تفصيلا ، وعدم شمول الخطابات للعوام لكونهم غافلين ، فتدفع بإمكان حصول تلك العناوين الثّلاثة للعامي ـ أيضا ـ في الشّبهات الحكميّة ، كالمجتهد ، نعم ، حصولها في حقّ العامّي نادر جدّا ، إلّا أن ندرة حصولها لا تلازم عدم إمكانه.

وبالجملة : فكما أنّ المجتهد إذا رجع إلى الأدلّة يقطع ـ مثلا ـ بطهارة العصير العنبي قبل الغليان ، ويشكّ في بقاء طهارته بعد الغليان وقبل ذهاب ثلثيه ، فيرجع إلى الاستصحاب بعد الفحص عن الدّليل وعدم ظفره به ، كذلك العاميّ يرجع إلى الفقيه ، فيقطع بطهارته قبل الغليان ، ثمّ بعد الغليان وقبل الذّهاب يرجع إليه لكونه شاكّا في بقاء الطّهارة ، فيستفتي ولا يفتي بها ، بل يقول : «لم أرد ليلا على إثباتها ، أو إثبات النّجاسة» فيستقرّ حينئذ شكّه كشكّ المجتهد ويتوجّه إليه خطاب : «لا تنقض اليقين بالشّكّ» لتحقق كلا ركني الاستصحاب.

غاية الأمر : يرجع العاميّ ـ لعدم معرفته بمسألة الاستصحاب ـ إلى الفقيه العارف ، فهو إمّا يفتي بالحكم الفقهيّ المستفاد من الاستصحاب وهي طهارة العصير المغليّ قبل ذهاب الثّلثين ، فلا يجب الاجتناب عنه ، أو يفتي بالحكم الاصولي ويرشده

٢٦

إلى أن لك أمرين (١) : أحدهما : اليقين السّابق ؛ ثانيهما : الشّكّ اللّاحق ، فعليك الأخذ باليقين ويحرم نقضه بالشّكّ ، أو يفتي بكلا الحكمين.

نعم ، المعهود من دأب الفقهاء والمجتهدين هو الإفتاء بالحكم الفقهي فقط ، ولعلّ وجهه صعوبة الحكم الاصولي على العامّي.

وقد مثّل شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره تبعا للمحقّق العراقي قدس‌سره لقطع العامّي وشكّه في الشّبهة الحكميّة ، بالماء المتغيّر بالنّجاسة ، فقال قدس‌سره : «كما يحصل اليقين للمجتهد بنجاسة الماء المتغيّر بالنّجاسة بعد رجوعه إلى الأدلّة ، ثمّ يشكّ في بقاءها بعد زوال تغيّره بنفسه ، لعدم عثوره على دليل مقتض للطّهارة ، أو النّجاسة ، كذلك حال المقلّد العامّي بعد رجوعه إلى مقلّده ، فيحصل له اليقين بنجاسة ذلك الماء أوّلا ، من جهة أنّ قول الفقيه عنده كالأمارة على حكم عنده ، ثمّ يرى زوال تغيّره بنفسه

__________________

(١) كما اشير إليهما في روايات الاستصحاب ، نظير صحيحة زرارة ، قال : «قلت له : الرّجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال عليه‌السلام : يا زرارة! قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء ؛ قلت : فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلمه به ؛ قال عليه‌السلام : لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فإنّه على يقين من وضوءه ولا تنقض اليقين أبدا بالشّكّ وإنّما تنقضه بيقين آخر» ، وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١ ، ص ١٧٤ و ١٧٥.

وصحيحته الثّانية : «قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف ـ إلى أن قال : ـ قلت : فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه ، فطلبته فلم أقدر عليه ، فلمّا أن صلّيت وجدته ، قال : تغسله وتعيد الصّلاة ، فعلمت أثره ؛ قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر فيه شيئا ثمّ صلّيت فرأيت فيه ؛ قال عليه‌السلام : تغسله ولا تعيد الصّلاة ؛ قلت لم ذلك ، قال عليه‌السلام : لانّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ أبدا ...» ، وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٤١ من أبواب النّجاسات ، الحديث ١ ، ص ١٠٦١ و ١٠٦٢.

٢٧

وبلا علاج ، فيشكّ في بقاء ذلك الحكم فيرجع إليه ثانيا ، فيراه أنّه لا يفتي بالنّجاسة لعدم العثور على الدّليل ، وحينئذ يستقرّ شكّه ...» (١).

ثمّ إنّ المحقّق العراقي قدس‌سره قد دفع شبهة اختصاص العناوين الثّلاثة (القطع والظّنّ والشّكّ) بالمجتهد ، على وجه آخر وهو دعوى عدم القول بالفصل.

وإليك نصّ كلامه قدس‌سره : «أنّه لا مانع من فرض حصول الصّفات المزبورة لغير المجتهد ـ أيضا ـ كما في كثير من المحصّلين غير البالغين مرتبة الاجتهاد ، فإذا فرض حينئذ شمول إطلاقات أدلّة الأمارات والاصول لمثله ، يتعدّى إلى العامّي المحض بعدم القول بالفصل» (٢).

ولكن لا حاجة إلى مثل هذا التّكلّف ، بعد ما عرفت من شمول الخطابات الإلهيّة للمكلّفين قاطبة. غاية الأمر : يرجع الجاهل إلى العالم بها ، وهذا أمر واضح ، نظير ما إذا كان للمولى العرفيّ عبيد لهم ألسنة مختلفة ، عربيّة وغيرها ، فأمرهم وخاطبهم بلغة عربيّة ـ مثلا ـ لا يعرفها غير العرب ، فمن المعلوم حينئذ لزوم رجوع الجاهل باللّغة العربيّة إلى العارف بها حتّى يحصّل مراد المولى ويمتثل أمره.

هذا ، مضافا إلى أنّ دعوى عدم القول بالفصل والإجماع المركّب في مثل هذه المسألة العلميّة الاصوليّة الّتي يدّعي منكر الشّمول فيها للعامّي ، عدم الالتفات والغفلة ، أو العجز عن التّشخيص ، كما ترى.

إذا عرفت ذلك التّحقيق ، علمت : أنّ كلمة : «المكلّف» أو كلمة : «البالغ» تعمّ

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

(٢) نهاية الأفكار : ج ٣ ، ص ٣.

٢٨

المجتهد وغيره ، والاختصاص ممّا لا دليل عليه ، بل الدّليل على خلافه ، كما ذكرناه ، نعم ، ظاهر كلام العلمين (الشّيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني قدس‌سرهما) هو خصوص المكلّف أو البالغ المجتهد دون غيره وإن كان يمكن إرادة العموم ـ أيضا ـ فراجع وتأمّل.

هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل (من الامور الّتي يتمّ البحث عن القطع في ضمنها).

(القطع من المسائل الاصوليّة)

(الأمر الثّاني : القطع ، هل يكون من المسائل الاصوليّة أو الكلاميّة؟)

اعلم ، أنّه قد وقع الكلام بين الأعلام في أنّ البحث عن القطع ، هل يكون اصوليّا أو كلاميّا؟ ففيه قولان : والحقّ هو الأوّل ، ولكن ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) إلى الثّاني ، والتزم بأنّ البحث عنه أشبه بمسائل الكلام ، وتبعه بعض الأعاظم قدس‌سره (٢) فقال في وجهه ما حاصله : إنّ المسألة الاصوليّة ما تكون نتيجتها موجبة للقطع بالوظيفة الفعليّة ، أو ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعيّ ، وحيث إنّ القطع بالوظيفة نفسه نتيجة ، فلا يكون موجبا لقطع آخر بالوظيفة ولا يقع في طريق الاستنباط.

وإن شئت فقل : إنّ القطع بالحكم ليس إلّا انكشاف الحكم بنفسه ، فكيف يجعل مقدّمة لانكشافه كي يكون البحث عنه اصوليّا. غاية الأمر : لمّا كان القطع

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٤ و ٥.

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٥.

٢٩

بالوظيفة نتيجة المسائل الأصولية ، ناسب البحث عنه في الاصول استطرادا ، وباعتبار أنّ مرجع البحث عن حجّيّة القطع إلى صحّة العقاب على مخالفته ، يكون شبيها بالمسائل الكلاميّة الباحثة عن المبدا والمعاد وما يصحّ عنه تعالى وما لا يصحّ.

وفيه : أنّه ليس البحث في مبحث القطع عن نفس القطع بالوظيفة حتّى يقال : حيث إنّه نفس النّتيجة ، فيصير البحث عنه بحثا عن النّتيجة ، لا عن المسألة الاصوليّة المنتجة لها ، بل البحث هنا إنّما هو في حجّيّة القطع ، كالبحث عن حجّيّة خبر الثّقة وظاهر الكتاب والسّنّة وغيرها من سائر الأمارات.

غاية الأمر : حجّيّة القطع ذاتيّة ، أو حكم عقليّ ثابت له عند العقلاء ، مستغن عن الجعل ، بخلاف حجّيّة سائر الطّرق والأمارات ، فإنّها محتاجة إلى الجعل ، على ما سيأتي.

وعليه : فمسألة القطع ـ أيضا ـ كمسألة الظّنّ داخلة في المسائل الاصوليّة.

وأمّا الأشبهيّة بمسائل الكلام ـ كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ أو الشّباهة ، كما عن بعض الأعاظم قدس‌سره ، فإنّما تصحّ ، بناء على تعريف علم الكلام ، بأنّه يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ، وأحوال الممكنات من حيث المبدا والمعاد على قانون الإسلام (١) ، والوجه فيه ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره (٢) من أنّه يدخل فيه مباحث الحسن والقبح وأمثالهما ، أو ما أشار إليه بعض الأعاظم قدس‌سره (٣) من أنّ البحث عن حجيّة القطع ، مرجعه إلى صحّة العقاب على مخالفته ، فيشبه إذا بالمسائل

__________________

(١) راجع ، تعريفات الجرجاني : ص ٢٣٧.

(٢) راجع ، أنوار الهداية : ج ١ ، ص ٣٣.

(٣) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٥.

٣٠

الكلاميّة الباحثة عن المبدا والمعاد وما يصحّ عنه تعالى وما لا يصحّ.

وأمّا بناء على تعريفه بأنّه يبحث فيه عن الأعراض الذّاتيّة للوجود من حيث هو هو على قاعدة الإسلام (١) ، فلا يشبه بالمسائل الكلاميّة ، والوجه فيه ، كما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره (٢) هو أنّ مسائل القطع ليست من الأعراض الذّاتيّة للوجود من حيث هو وجود ، كما لا يخفى على أهله.

ثمّ إنّ للشّيخ الأنصاريّ قدس‌سره كلاما آخر في وجه خروج مسائل القطع عن علم الاصول ، محصّله : أنّ القطع يفارق عن سائر الأمارات من جهة عدم صدق عنوان الحجّة عليه وصدقها على الأمارات ؛ وذلك ، لأنّ المقصود من الحجّة هو الوسط الّذي يحتجّ به على ثبوت الأكبر للأصغر. ومن المعلوم : أنّ القطع لا يقع وسطا في القياس ، فلا يقال : هذا معلوم الخمريّة ، وكلّ معلوم الخمريّة حرام ، فهذا حرام.

ضرورة ، ترتّب الحرمة على نفس الخمر ، لا على معلوم الخمريّة ، وهذا بخلاف الأمارات والظّنون المعتبرة ، فيصحّ أن يقال : هذا مظنون الخمريّة ، وكلّ مظنون الخمريّة حرام ، فهذا حرام.

فهو قدس‌سره يقول : في الظّنون والأمارات بتنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، ولذا يصحّ إطلاق الوسط عليها ، فتثبت بها أحكام ظاهريّة تنزّل منزلة أحكام واقعيّة ، بخلاف القطع ، فلا تنزيل فيه أصلا ، بل المقطوع هو نفس الواقع ، لا المنزّل منزلة الواقع ، فلا يصحّ إطلاق الوسط عليه.

__________________

(١) راجع ، شوارق الإلهام : ص ٩ ، س ١٩.

(٢) راجع ، أنوار الهداية ، ج ١ ، ص ٣٣.

٣١

ونتيجة هذا كلّه ، هو خروج مباحث القطع عن الاصول بعد ما عرّف بأنّها قواعد يستنبط منها أحكام شرعيّة ، أو ينتهي إليها المكلّف في مقام العمل ؛ إذ عرفت :

أنّ القطع لا يقع وسطا حتّى يستنبط منه حكم شرعيّ ، وليس ـ أيضا ـ من قبيل الاصول العمليّة الّتي ينتهي إليه الفقيه بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالأدلّة الاجتهاديّة.

وفيه : أوّلا : أنّ الحقّ ، كما ستعرفه في محلّه ، عدم الفرق بين القطع وسائر الأمارات الظّنيّة المعتبرة في عدم الوسطيّة ، وأنّ الأحكام كما تترتّب على العناوين الواقعيّة في القطع ـ فلا يقال : مقطوع الخمريّة حرام ـ كذلك تترتّب عليها في الظّنّ ـ أيضا ـ فلا يقال : مظنون الخمريّة حرام ، والتّنزيل في الظّنّ لا أساس له وليس عليه دليل قويم.

وثانيا : أنّ الملاك في كون المسألة اصوليّة ليس هي الوسطيّة بذاك المعنى المذكور ، بل الملاك هي الوسطيّة في الاستنباط ، بمعنى : صيرورة أمر الوسط حجّة على الحكم. وواضح : أنّ القطع والظّنّ المعتبر كليهما حجّتان على الحكم ، بمعنى : أنّهما أمارتان عليه ، منجّزان له عند الإصابة ، ومعذّران عند عدمها. وعليه : فتطلق عليهما الوسطيّة في الاستنباط.

فتحصّل : أنّ الفرق الّذي أشار إليه الشّيخ الأنصاري قدس‌سره بلا فارق ، بل الأمارات كلّها حتّى الظّنّ لا تقع أوساطا في القياس ، فلا يصحّ إطلاق الحجّة عليها بمعناها المصطلح في الميزان وهو الحدّ الأوسط.

نعم ، تكون الأمارات بأجمعها حججا على الأحكام الواقعيّة ، بمعنى : أنّها

٣٢

منجّزات عند الإصابة ، ومعذّرات عند عدمها.

وبعبارة اخرى : أنّ الآثار في جميع الأمارات مترتّبة على الواقع من دون دخل للقطع والظّنّ فيه ، ولا يمكن جعلهما أوساطا بالنّسبة إلى تلك الآثار ، فلا يكون وجوب الاجتناب أثرا للقطع فضلا عن الظّنّ ، إلّا فيما إذا كان أحدهما مأخوذا بنحو الموضوعيّة وهو خارج عن الفرض. هذا كلّه في القطع الطّريقيّ.

وأمّا القطع الموضوعيّ ، سواء كان تمام الموضوع أو جزءه ، فهو كسائر الموضوعات ممّا لا يطلق عليه الحجّة مطلقا ، كما لا يخفى ، فلا يكون البحث عنه في الاصول إلّا استطراديّا.

)تعقيب وتكميل(

قد اختلفت كلمات الأعلام في إطلاق الحجّة على القطع والظّنّ ، فربما يفصّل ـ كما عن الشّيخ الأنصارى قدس‌سره (١) ـ بين القطع ، فلا تطلق الحجّة عليه ، وبين الظّنّ ، فتطلق الحجّة عليه ، وربما يفصّل بين الحجّة باصطلاح المنطق ، فلا تطلق على القطع والظّنّ ، وبين الحجّة باصطلاح الاصول ، فتطلق عليهما ، وهذا هو الحقّ.

توضيحه : أنّ الحجّة في الميزان قد تقال : على نفس القياس المؤلّف من مقدّمتين وهما الصّغرى والكبرى الموصلتين إلى النّتيجة قبال المعرّف وهو تصوّر المعلوم الموصل إلى الآخر المجهول. وقد تقال : على الحدّ الأوسط ، بمعنى : الواسطة في الثّبوت في البرهان اللّميّ ، والواسطة في الإثبات في البرهان الإنّي ، سواء كان معلولا

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٩.

٣٣

للأكبر ـ فيختصّ حينئذ باسم الدّليل ـ أو كان هو والأكبر معا معلولي علّة واحدة.

وأمّا الحجّة في الاصول ، فقد تقال وتطلق : على المنجّز للواقع عند الإصابة أو المعذّر عند عدمها ؛ وربما تقال : أيضا ، على ما يكون وسطا لإثبات متعلّقه ، موضوعا كان أو حكما ، إلّا أنّ الظّاهر هو رجوع هذا إلى الحجّة الميزانيّة.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ القطع لا يكون حجّة ميزانيّة ، ولا مجال لوقوعه حدّا أوسط في القياس على ما عرفت ، ولا علّيّة ولا معلوليّة هنا أصلا ، وكذا الظّنّ ، بلا فرق في البين كما مرّ خلافا للشّيخ الأنصاري قدس‌سره حيث قال بصحّة إطلاقها على الظّنّ ، وإليك نصّ كلامه : «ومن هنا يعلم ، أنّ إطلاق الحجّة عليه ليس كإطلاق الحجّة على الأمارات المعتبرة شرعا ؛ لأنّ الحجّة عبارة عن الوسط الّذي به يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر ... فقولنا : الظّنّ حجّة أو البيّنة حجّة أو فتوى المفتي حجّة ، يراد به كون هذه الامور أوساطا لإثبات أحكام متعلّقاتها» (١).

وفيه : أوّلا : أنّ هذا الكلام منه قدس‌سره ـ على ما علمت سابقا ـ مبتن على ما سلكه في الظّنّ من : أنّ مفاد دليل اعتبار الطّرق والأمارات ، ليس إلّا تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، وقد مرّ ، أنّه لا أساس للتّنزيل ، بل الأحكام والآثار إنّما تترتّب على العناوين الواقعيّة ، وليس الظّنّ المعتبر إلّا كالقطع في الأماريّة والمنجّزيّة عند الإصابة والمعذريّة عند عدمها ، فالحرام هو الخمر الواقعيّ ، لا مظنون الخمريّة ، ونتيجة ذلك ، عدم وقوع الظّنّ كالقطع وسطا في القياس.

وثانيا : أنّه لو سلّم الوسطيّة في الظّنّ ، فليس وسطا لإثبات حكم متعلّقه ، بل

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٩.

٣٤

يكون وسطا لإثبات حكم آخر ظاهريّ مماثل لحكم متعلّقه ، فحرمة الشّرب في قولنا : هذا مظنون الخمريّة ، وكلّ مظنون الخمريّة يجب الاجتناب عنه ، ليس حكما واقعيّا لمظنون الخمريّة ؛ إذ الحكم الواقعيّ مترتّب على الخمر الواقعيّ ، بل هو حكم مماثل للحكم الواقعيّ.

وإن شئت ، فقل : إنّ متعلّق الظّنّ في ذلك المثال هو الخمر ، ولا يثبت لمظنون الخمريّة حكم الخمر الواقعيّ وهي الحرمة الواقعيّة ، بل يثبت له الحرمة الظّاهريّة المماثلة ، بمعنى : أنّ مظنون الخمريّة خمر تنزيلا ، له حرمة تنزيليّة ظاهريّة لا واقعيّة.

ومن هنا قال شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره حاكيا عن المحقّق العراقي قدس‌سره : «فعلى كلّ تقدير لا يكون الظّنّ وسطا في القياس بالنّسبة إلى حكمه المتعلّق ، ولا يصحّ تأليف قياس الحقيقي منه وإنّما هو صورة قياس» (١). هذا كلّه في الحجّة الميزانيّة.

وأمّا الحجّة الاصوليّة ، بمعنى : المنجّزيّة عند الموافقة ، والمعذّريّة عند المخالفة ، فيصحّ إطلاقها على القطع وسائر الأمارات المعتبرة.

ثمّ إنّ المحقّق الأصفهاني قدس‌سره بعد اختياره مبنى : «أنّ حجّيّة القطع ، بمعنى : تنجّز التّكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته ، ليس من الآثار القهريّة واللّوازم الذّاتيّة لمخالفة التّكليف المعلوم ، بل من اللّوازم الجعليّة» بنى قدس‌سره عليه ، صحّة إطلاق الحجّة الميزانيّة على القطع ، فقال ما هذا لفظه : «وممّا ذكرنا من دخل القطع جعلا في التّنجّز ، يظهر صحّة إطلاق الحجّة عليه بالمعنى المتعارف في عرف أهل الميزان ، لكونه واسطة في التّنجّز في القياس المطلوب منه ، تنجّز الحكم بالقطع ، كما يظهر صحّة إطلاق الحجّة

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

٣٥

عليه في باب الأدلّة إن اريد منها ما يتنجّز الواقع. نعم ، إن اريد منها ما يثبت الحكم الفعليّ بعنوان أنّه الواقع ، فلا يطلق عليه الحجّة ؛ إذ القطع بالحكم عين ثبوت الواقع لدى القاطع ، فلا يكون علّة لثبوت الواقع وللتّصديق به» (١).

وفيه : منع من حيث المبنى والبناء ، أمّا المبنى ، فلما سيجيء البحث عنه إن شاء الله تعالى.

وأمّا البناء ، فلعدم صحّة إطلاق الحجّة الميزانيّة على القطع حتّى على المبنى المذكور ـ أيضا ـ إذ الحجّة هو الأوسط الّذي لا بدّ أن يكون بينه وبين الأكبر ربط تكوينيّ علّيّ ومعلوليّ.

ومن المعلوم : أنّه لا ربط كذلك بين القطع وبين الحجّيّة ، بمعنى : التّنجيز على مسلك هذا المحقّق قدس‌سره بل هو ثابت له من قبل التّباني والإمضاء.

نعم ، يصحّ إطلاق الحجّة الاصوليّة على القطع بناء على هذا المسلك ـ أيضا ـ فيكون منجّزا للواقع عند الإصابة ولو جعلا واعتبارا ومن ناحية التّباني.

فالقول بعدم صحّة إطلاق الحجّة الاصوليّة بالمعنى المعروف في باب الأدلّة ، عليه ، كما عن شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره ، لم يظهر وجهه ، والظّاهر عدم المنع من هذا الإطلاق ولو كان التّنجيز ثابتا له من ناحية تباني العقلاء ، فبه يكون القطع منجزا للواقع عند الإصابة ، ولا يعتبر أزيد من ذلك في الحجّة باصطلاح الاصول.

وأمّا ما التزم به المحقّق الأصفهاني قدس‌سره في ذيل كلامه المتقدّم من قوله قدس‌سره : «نعم ، إن اريد منها (الحجّة في باب الأدلّة) ما يثبت الحكم الفعليّ بعنوان أنّه الواقع ،

__________________

(١) نهاية الدّراية : ج ٢ ، ص ٥.

٣٦

فلا يطلق عليه (القطع) الحجّة ؛ إذ القطع بالحكم عين ثبوت الواقع لدى القاطع ، فلا يكون علّة لثبوت الواقع».

ففيه : أنّ القطع بالحكم على مسلكه قدس‌سره ليس عين ثبوت الواقع ، بل يكون ما به يثبت الواقع وينجّز ، كيف ، وأنّه لو كان عين ثبوته في عالم الإبراز وصقع الإثبات ، لما احتاج إلى جعل المنجّزيّة بتباني العقلاء وتصويب الشّرع ، وإلّا لزم إثبات ما يكون ثابتا في التّكوين بمعونة التّنزيل ، وهذا كما ترى.

هذا تمام الكلام في الأمر الثّاني.

(وجوب متابعة القطع)

(الأمر الثّالث : وجوب متابعة القطع والعمل به)

ولا يخفى : أنّ البحث هنا يقع في القطع الطّريقيّ ، وأمّا القطع الموضوعي ، فسيجيء البحث عنه في الأمر الخامس ، فانتظر.

فنقول : إنّ الكلام هنا يقع في ثلاث جهات :

الاولى : في طريقيّة القطع.

الثّانية : في حجّيّة القطع.

الثّالثة : في إمكان الرّدع عن العمل به وعدم إمكانه.

أمّا الاولى : فلا ريب ، أنّ الطّريقيّة والكشف يكون من آثار القطع ولوازمه ، سواء كان من لوازم ماهيّته المجعولة ، بناء على أصالة الماهيّة ؛ أو كان من لوازم وجوده المجعول ، بناء على أصالة الوجود ، فمع القول بأصالة الوجود واعتباريّة

٣٧

الماهيّة لا ينبغي أن يقال : بأنّ الطّريقيّة والكشف من آثار ماهيّة القطع وهو القطع بالحمل الأوّلي ، بل تكون حينئذ من آثار وجوده وهو القطع بالحمل الشّائع ، كما أنّه مع القول بأصالة الماهيّة واعتباريّة الوجود لا ينبغي أن يقال : بأنّها من آثار الوجود ، وهذا أوضح من أن يخفى.

وكذلك لا ينبغي أن يقال : أيضا ، بأنّ الطّريقيّة والكشف من آثار ماهيّة القطع غير المجعولة حتّى بناء على القول بأصالة الماهيّة ؛ إذ هي قبل الجعل لا أثر لها وليست إلّا مفهوما.

وبالجملة : لا مجال لإطلاق القول بأنّ الطّريقيّة والكشف من لوازم الوجود ، كما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره (١) ، أو من لوازم الماهيّة وآثارها.

ثمّ اعلم ، أنّ كاشفيّة القطع عن الواقع الّتي تكون من آثاره ، لا تلازم الإصابة ، بل ربما لا يصيب الواقع ، كما لا يخفى ، فما هو أثر القطع ليس إلّا الكشف عن الواقع الأعمّ من الواقعي أو الزّعمي ، وهذا لا ينفكّ عن القطع ، بحيث يصحّ أن يقال : إنّ الطّريقيّة والكاشفيّة من ذاتيّات القطع ، لا بمعنى لوازم الماهيّة قبال لوازم الوجود ، بل بمعنى : أنّها من آثار حقيقة القطع المتحقّقة للقاطع غير المنفكّة عنها ، سواء كانت تلك الحقيقة المتحقّقة ماهيّة ، بناء على أصالتها ، أو وجودا ، بناء على أصالته ، كما يصحّ أن يقال : إنّه لا مجال لورود الجعل الحقيقيّ التّكوينيّ في طريقيّته وكاشفيّته ، لا بسيطا ولا مركّبا ، بل هي تنجعل بجعل نفس القطع.

وعليه : فإنكار ذلك ، كما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره معلّلا بقوله : «والقطع قد

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٨٥ ؛ وأنوار الهداية : ج ١ ، ص ٣٧ و ٣٨.

٣٨

يصيب وقد لا يصيب ، ومعه كيف يمكن عدّ الكاشفيّة من ذاتيّاته» (١) ممّا لم يظهر وجهه ، فليتأمّل جيّدا.

أضف إلى ذلك ، ما عرفت : من عدم اعتبار الإصابة في طريقيّة القطع ، بل هو طريق مطلقا ، أصاب أم لم يصب.

نعم ، هو قدس‌سره اعترف بعدم تعلّق الجعل التّشريعيّ بالكاشفيّة ، ولقد أجاد في ذلك ، حيث قال : «نعم ، أصل المدّعى وهو عدم تعلّق الجعل التّشريعي به صحيح بلا مرية ، فإنّ الجعل التّشريعيّ لا معنى لتعلّقه بما هو لازم وجود الشّيء ، فلا معنى لجعل النّار حارة ، والشّمس مشرقة تشريعا ؛ لأنّهما من لوازم وجودهما المحقّقين تكوينا ، والقطع ـ أيضا ـ طريق تكوينيّ وكاشف بحسب وجوده ، ولا يتعلّق الجعل التّشريعيّ به للزوم اللّغويّة ، وكونه من قبيل تحصيل الحاصل» (٢).

والإنصاف : أنّه لا فرق بين الجعل التّكوينيّ والتّشريعي ، فلا مجال لكلّ واحد منهما في أمثال المقام ؛ أمّا الجعل التّكوينيّ ، فلأجل كون الكاشفيّة من لوازم ذات القطع ، فبجعله تنجعل هي قهرا (٣) ؛ وأمّا الجعل التّشريعيّ ، فللزوم اللّغويّة وكونه من قبيل تحصيل الحاصل ، كما أشار إليه الإمام الرّاحل قدس‌سره.

ثمّ إنّه يظهر من المحقّق النّائيني قدس‌سره أنّ حقيقة القطع ليست إلّا نفس الطّريقيّة

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٨٤.

(٢) أنوار الهداية : ج ١ ، ص ٣٨.

(٣) وإن شئت ، فقل : إنّ مناط الافتقار إلى الجعل التّكوينيّ هو الإمكان ، فلا جعل في مورد الوجوب أو الامتناع ، وواضح ، أنّ القطع ـ حيث حصل ـ واجب الطّريقيّة ولازم الكاشفيّة لا ممكنها.

٣٩

والكاشفيّة ؛ ولذا لا يعقل الجعل فيه أصلا ، حيث قال ـ بعد تصريحه أوّلا : بأنّ الطّريقيّة من لوازم ذات القطع كزوجيّة الأربعة ـ ما هذا لفظه : «بل بوجه يصحّ أن يقال : إنّها عين القطع» (١).

وكذا يظهر ذلك من المحقّق العراقي قدس‌سره حيث قال : «فإنّ القطع من جهة كونه بذاته وحقيقته عين انكشاف الواقع ...» (٢).

وتبعهما بعض الأعاظم قدس‌سره حيث قال : «إنّ حقيقة القطع هو نفس الانكشاف وذاته ، فلا يعقل الجعل فيه أصلا ...» (٣).

ولكن لا يمكن المساعدة على هذه المقالة ؛ وذلك ، لأنّ القطع هو العلم ، والعلم إمّا يكون من سنخ المقولة وهي ـ بناء على المشهور ـ كيف نفسانيّ ، و ـ بناء على غيره ـ فعل أو انفعال أو نحوهما ؛ وإمّا يكون من سنخ آخر فوق المقولة ، كالوجود ؛ ولذا ورد في الحديث «العلم نور ربّاني يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده» (٤).

ونتيجة ذلك : أنّه ليس القطع والعلم عين الطّريقيّة والكاشفيّة ، بل وليست جزءا له ـ أيضا ـ كما لا يخفى ، وإنّما هي من آثار حقيقة القطع والعلم.

وإن شئت ، فقل : العلم نور ، فكما أنّ النّور هو الظّاهر بالذّات والمظهر للغير ، كذلك العلم ، فإنّه هو الظّاهر بذاته وهو عين المعلوم بالذّات ، والمظهر لغيره وهو المعلوم بالعرض.

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ١ ، ص ٦ و ٧.

(٢) نهاية الأفكار : ج ٣ ، ص ٦.

(٣) مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ١٥.

(٤) شرح اصول الكافي : ج ٢ ، ص ٧٩.

٤٠