مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

مثل ذلك ، فقال : العمريّ وابنه ثقتان ، وما أدّيا إليك عنّي ، فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنّهما الثّقتان المأمونان» (١).

تقريب الاستدلال بهذه الطّائفة على المدّعى هو أنّ مقتضى ظاهرها هو كون حجّيّة الخبر الواحد أمرا مسلّما مفروغا عنه عند الأئمّة عليهم‌السلام وعند أصحابهم ، والغرض في الأسئلة والأجوبة إنّما يكون لأجل التّطبيق والتّعيين ، لا تأسيس كبرى حجّيّة خبر الثّقة.

ومنها : الرّوايات الآمرة بالرّجوع إلى الثّقات بوجه كلّي ، كرواية أحمد بن إبراهيم المراغي ، قال : «ورد على القاسم بن العلاء وذكر توقيعا شريفا يقول فيه : فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التّشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا ، قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرّنا ونحملهم إيّاه إليهم» (٢).

ومنها : الرّوايات الآمرة بحفظ الرّوايات واستماعها وضبطها ، كرواية معاوية بن عمّار ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل راوية لحديثكم يبثّ ذلك في النّاس ويسدّده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ، ولعلّ عابدا من شيعتكم ليست له هذه الرّواية ، أيّهما أفضل؟ قال : الرّواية لحديثنا يشدّ به [يسدّده في] قلوب شيعتنا ، أفضل من ألف عابد» (٣).

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤ ، ص ٩٩ و ١٠٠.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠ ، ص ١٠٨ و ١٠٩.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٨ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ ، ص ٥٢ و ٥٣.

٢٦١

ويلحق بهذه الطّائفة ما ورد في الأمر إلى روايات بني فضّال وكتبهم ، كرواية الحسين بن روح ، عن أبي محمد الحسن بن علي عليهم‌السلام : «أنّه سئل عن كتب بني فضّال ، فقال : خذوا بما رووا ، وذروا ما رأوا» (١).

تقريب الاستدلال بهاتين الطّائفتين على المدّعى واضح.

هذا ، ولكن اورد على الاستدلال بهذه الطّوائف الأربعة بكونها أخبارا آحادا ، فلا يمكن إثبات حجّيّة الخبر الواحد بمثل ذلك ؛ إذ المفروض عدم ثبوت حجيّة تلك الأخبار ، وقد اجيب عنه بتواترها الإجماليّ ، والعلم بصدور بعضها إجمالا.

توضيح ذلك : أنّ التّواتر على ثلاثة أقسام :

الأوّل : التّواتر اللّفظيّ وهو اتّفاق جماعة ـ امتنع اتّفاقهم على الكذب بحسب العادة ـ على نقل خبر بلفظه ، كحديث «إنّما الأعمال بالنّيات» وحديث «من كنت مولاه ، فهذا عليّ مولاه» وحديث «إنّي تارك فيكم الثّقلين ...» وغير ذلك.

الثّاني : التّواتر المعنويّ ، وهو الاتّفاق على نقل مضمون واحد ومعنى فارد مع الاختلاف في الألفاظ الدّالّة عليه بالمطابقة أو بالتّضمن أو بالاختلاف ، كأخبار حالات أمير المؤمنين عليه‌السلام في الحروب الدّالّة على شجاعته.

الثّالث : التّواتر الإجماليّ ، وهو ورود جملة كثيرة من الرّوايات الّتي يعلم بصدور بعضها إجمالا مع عدم اشتمالها على مضمون واحد ، وهذا كالأخبار المتقدّمة الّتي وردت في تلك الطّوائف الأربعة.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٣ ، ص ١٠٣.

٢٦٢

فالإيراد على الاستدلال بهذه الطّوائف الأربعة ، بأنّ رواياتها أخبارا آحادا مندفع ، بكونها من التّواتر الإجماليّ ، بحيث يعلم بصدور بعضها من المعصومين عليهم‌السلام إجمالا.

نعم ، مقتضى هذا التّواتر ، هو الاقتصار في الحجّيّة على القدر المتيقّن من تلك الأخبار الدّالّة على حجّيّة الخبر الواحد وهو الأخصّ مضمونا ، كالواجد لجميع الخصوصيّات المذكورة فيها من كون الرّاوي عادلا وموثّقا ، ولازم ذلك هو الحكم بحجّيّة خصوص الخبر الصّحيح الأعلائي الجامع للوثاقة والعدالة ، لا مطلق الخبر.

هذا ، ولكن ذكر المحقّق النّائيني قدس‌سره بأنّ القدر المتيقّن الّذي هو أخصّ مضمونا ، ليس إلّا ما دلّ على حجّيّة خبر الثّقة ، فتثبت في فرض التّواتر الإجماليّ حجّيّة خبر الموثوق به. (١)

ولقد أجاد بعض الأعاظم قدس‌سره في الجواب عنه قدس‌سره حيث قال (٢) ، ما حاصله : إنّ بعض تلك الأخبار دالّ على اعتبار عدالة الرّاوي ، نظير قوله عليه‌السلام : «خذ بأعدلهما» وبعضها دالّ على اعتبار وثاقته كقوله عليه‌السلام : «نعم» بعد سؤال السّائل ، «أفيونس بن عبد الرّحمن ثقة ، نأخذ معالم ديننا عنه؟» ، وبعضها دالّ على اعتبار كون الرّاوي إماميّا ـ أيضا ـ كقوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد في التّشكيك فيما يرويه ثقاتنا» فإنّ إضافة كلمة : «الثّقات» إلى ضمير المتكلّم وإسنادها إليهم عليهم‌السلام ظاهرة في أنّ المراد منها كون الرّاوي من أهل الولاية لهم عليهم‌السلام وحيث إنّ المقصود من الثّقة هنا هو المعنى اللّغويّ

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ٢ ، ص ١١٣ و ١١٤.

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ١٩٤.

٢٦٣

لا الاصطلاحي الدّارج بين المحدّثين وهو الإماميّ العادل ، تقع النّسبة بين العدالة والوثاقة بنحو العموم من وجه ، فربّ راو عادل لا يكون ثقة لكونه كثير السّهو والخطأ ، وربّ راو ثقة حافظ متحرّز عن الكذب ، لا يكون عادلا ، وربّ راو يجتمع الصّفتان فيه ، فالمتيقّن من تلك الأخبار هو مورد الاجتماع. وعليه ، فعند التّواتر الإجماليّ لا يستفاد منها إلّا حجّيّة الخبر الصّحيح الأعلائي وهو ما يكون راويه موثّقا وعادلا.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) قد اختار مسلكا آخر في المقام وهو لا يخلو من جودة ومتانة ، حاصله : أنّه قدس‌سره بعد اعترافه بأنّ المتيقّن من تلك الأخبار هو حجّيّة الخبر الصّحيح الأعلائي ، ذهب إلى أنّ المستفاد منها حجّيّة خبر الثّقة وإن لم يكن عادلا ، بدعوى : أنّ في جملتها خبرا صحيحا يدلّ على حجّيّة الخبر الموثّق ، كرواية الحسن بن علي بن يقطين ، عن الرّضا عليه‌السلام قال : «قلت : لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرّحمن ثقة ، آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال : نعم» (٢) ، حيث يعلم من هذه الرّواية ونظائرها ، حجّيّة خبر الثّقة ولو لم يكن عادلا ذا ملكة العدالة.

هذا كلّه في الاستدلال على حجّيّة الخبر الواحد بالسّنة.

أمّا الإجماع ، فهو يقرّر بوجوه ، لا حاجة بنا إلى نقل جميعها ، بل نكتفي بالعمدة منها وهي وجهان :

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٩٧.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، ج ١٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣ ، ص ١٠٧.

٢٦٤

الأوّل : الإجماع القوليّ من الأصحاب واتّفاقهم ـ عدا السّيد المرتضى قدس‌سره وأتباعه ـ على حجّيّة الخبر الواحد.

وفيه : أوّلا : أنّ هذا الإجماع منقول بخبر واحد ، فكيف يمكن أن يستدلّ به على حجّيّته.

وثانيا : لو سلّم نقله من طريق التّواتر ، فلا يعتمد عليه ، لاستناد المجمعين إلى الأدلّة النّقليّة من الكتاب والسّنة ، ولا أقلّ من احتمال استنادهم إلى تلك الأدلّة ، فيكون الإجماع حينئذ مدركيّا أو محتمل المدركيّة.

الوجه الثّاني : الإجماع العمليّ من المتشرّعة وسيرتهم من زمن المعصومين عليهم‌السلام والصّحابة والتّابعين إلى زماننا هذا ، على الاعتماد بخبر الثّقة.

وفيه : أنّ ثبوت هذه السّيرة وإن كان أمرا مسلّما غير قابل للإنكار ؛ إذ من المقطوع به ، عدم أخذ جميع المكلّفين للأحكام من شخص النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام ولا سيّما النّساء وأهل البوادي والبلدان ، بل كان كثير منهم يرجع إلى الامناء والثّقات في الإخبار وإيصال الأحكام ، لكنّه لم يكن ذلك ، لكونهم متشرّعين حتّى يستكشف منه كون الخبر الواحد حجّة تعبّدا ، بل كان ذلك لأجل أنّهم عقلاء.

وعليه : فلم يبق في البين دليل على حجيّة خبر الثّقة إلّا سيرة العقلاء بما هم عقلاء ، بحيث استقرّ بناءهم وسيرتهم في جميع الأعصار والأمصار على العمل بخبر الثّقة في جميع امورهم ، ولم يردع عنه الشّرع ولم ينه عنها ، بل نهى وردع عن العمل بالقياس.

وبالجملة : الحياة البشريّة الاجتماعيّة تدور مدار حجّيّة الخبر الواحد بلا ريب

٢٦٥

وشبهة ، ولا يكون التّشكيك والدّغدغة في هذه المسألة إلّا مجرّد مكابرة وسفسطة.

وتوهّم أنّ الآيات النّاهية رادعة عن العمل بالظّنّ عن تلك السّيرة المستمرّة ؛ لكون الخبر الواحد من الظّنون ، مندفع ؛ أوّلا : بأنّ تلك الآيات ناظرة إلى الاصول الاعتقاديّة ، فيكون المراد من الظّنّ هناك هو الوهم والخرافة قبال الحجج والبراهين العقليّة القاطعة ؛ ولذا ترى ، أنّ الصّحابة كانوا يعملون بأخبار الآحاد من الثّقات حتّى بعد نزول الآيات النّاهية بلا توقّف وعطلة ، وبلا سؤال عن صاحب الشّريعة بأنّه هل يجوز لنا العمل بتلك الأخبار مع نزول هذه الآيات أو تكون الآيات رادعة عن العمل بها؟

وثانيا : بما عرفت مرارا ، من أنّ خبر الثّقة يكون علما عاديا يعامل معه معاملة العلم الحقيقي عند العقلاء ؛ ولذا لا يصل الدّور إلى أنّه هل يعتبر إفادته ظنّا فعليّا ، أو يكفى الظّنّ النّوعي ، أو لا هذا ولا ذاك؟ بل المعتبر عدم وجود الظّنّ على الخلاف.

وعليه : فعمل الأصحاب بخبر الثقة وسيرتهم على الاعتماد به ، إنّما هو لأجل كونه بمنزلة العلم عندهم ، لا أنّهم عملوا به مع إفادته للظّنّ ، ولعلّه لما ذكرنا ـ أيضا ـ كانوا يعملون بالظّواهر المفيد لغير العلم ، مع أنّهم يقرءون الآيات النّاهية عن العمل بغير العلم ، فلم يكن ذلك إلّا لكون الظّواهر ـ كخبر الثّقة ـ علوما عادية عرفيّة خارجة عن تلك الآيات تخصّصا وبوجه الحكومة ، فتأمّل حتّى يتبيّن لك الحقيقة.

هذا لو قلنا : بدلالة الآيات النّاهية على حرمة العمل بغير العلم مولويّا ، فتكون السّيرة الدّالّة على حجّيّة خبر الثّقة حاكمة عليها ؛ إذ العمل به لا يكون حينئذ عملا بغير علم بعد كونه علما عند العرف والعقلاء. وأمّا لو قلنا : بكون الآيات النّاهية

٢٦٦

إرشاديّة إلى ما يحكم به العقل من دفع المضرّة والعقوبة الاخرويّة المحتملة ، كانت السّيرة الدّالّة على حجّيّة خبر الثّقة ، واردة على الآيات البتّة ؛ إذ لا احتمال للمضرّة والعقوبة الاخرويّة مع العمل بالحجّة المنجّزة عند الإصابة والمعذّرة عند الخطأ والمخالفة.

ومن الواضح : أنّ الورود في المقام يكون نظير ورود الأمارات والطّرق المعتبرة على الاصول العمليّة العقليّة ، كقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فعلى هذا التّقريب لا تدلّ الآيات ، على الحرمة المولويّة بالنّسبة إلى العمل بغير العلم حتّى تكون رادعة عن بناء العقلاء والسيرة على الحجّيّة.

فتحصّل : أنّ خبر الواحد الثّقة يكون حجّة ، لمكان بناء العقلاء وقيام السّيرة العقلائيّة المستمرّة غير المردوعة ، على العمل به. وهذا هو الحقّ القراح الّذي لا ينبغي أن يشكك فيه بوجه ، كما أنّ الحقّ حجّيّة الخبر الموثوق صدوره ولو لم يكن الرّاوي من الثّقات.

(تنبيهان)

الأوّل : قد اشتهر بين المتأخّرين ، أنّ عمل المشهور بخبر الواحد الثّقة واستنادهم إليه وإفتاءهم بمضمونه ، يوجب جبر ضعف هذا الخبر ، وقد صرّحوا بأنّه «كلّما ازداد ضعفا من حيث السّند ، ازداد وجاهة واعتبارا بتلك الشّهرة» وأنّ الشّهرة الكذائيّة إذا كانت من القدماء المتحفّظين المقاربين لعصر المعصومين عليهم‌السلام أوجبت العلم أو الوثوق بصدور ذلك الخبر عنهم عليهم‌السلام.

٢٦٧

وكذلك اشتهر بينهم ـ أيضا ـ أنّ إعراض المشهور من الخبر ، يوجب وهنه وكسره ، فيسقط عن الحجّيّة ، وقد صرّحوا بأنّه «كلّما ازداد الخبر صحّة من جهة السّند ، ازداد وهنا وضعفا بإعراض المشهور ومخالفة الشّهرة».

هذا ، ولكن خالف بعض الأعاظم قدس‌سره (١) في المسألة وذهب إلى أنّ عمل المشهور ليس جابرا لضعف الخبر ، ولا إعراضهم كاسرا لقوّته ؛ فقال في وجه عدم جابريّة العمل : أنّ الشّهرة العمليّة ليست بحجّة ، فلا شأن لها حتّى تكون جابرة ، مضافا إلى أنّه لا سبيل إلى إحراز استناد المشهور إلى الرّواية الضّعيفة ، فهو قدس‌سره في هذا الوجه أنكر الصّغرى والكبرى معا.

وقال قدس‌سره في وجه عدم كاسريّة الإعراض : أنّه لا وجه لرفع اليد عن الخبر الصّحيح أو الموثّق بمجرّد إعراض المشهور بعد كون الخبر موردا لقيام السّيرة ومشمولا لإطلاق الأدلّة اللّفظيّة.

والإنصاف : أنّ ما قال به المشهور في المسألة : من جبر السّند بالعمل ووهنه بالإعراض هو الحقّ ؛ وذلك لما أشرنا آنفا ، من أنّ الشّهرة إذا كانت من القدماء ـ كما هو المفروض ـ وهم في كمال الدّيانة والاحتياط ، يحدث لنا العلم أو الوثوق بصدور الخبر الضّعيف الّذي عملوا به ، ويبعد جدّا أن يقال : إنّهم تمسّكوا في الفتوى بدليل ضعيف ، كما أنّ القدماء إذا لم يعملوا بخبر ، يوجب ذلك ضعف هذا الخبر وعدم كونه حجّة ؛ إذ لعلّهم اعتمدوا على قرينة دالّة على قدح السّند عندهم وهي لم تصل إلينا.

ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره ذكر في وجه جابريّة عمل المشهور : أنّ الخبر المنجبر

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٢٠١.

٢٦٨

حجّة بمقتضى منطوق آية النّبأ الدّال على حجّيّة خبر الفاسق مع التّبيّن ؛ إذ عمل المشهور من التّبيّن. (١)

وفيه : أنّ التّبيّن هو استكشاف صدق الخبر ، إمّا بالوجدان أو بالتّعبد ، وعمل المشهور ليس واحدا منهما ، كما هو واضح.

التّنبيه الثّاني : أنّ السّيرة العمليّة غير المردوعة ، كما تثبت حجّيّة الخبر الواحد في الأحكام ، كذلك تثبت حجّيّته في الموضوعات ـ أيضا ـ بلا تفاوت بينهما ، بل الحجّيّة هنا أولى لما في الأحكام من كثرة الاهتمام ، بخلاف الموضوعات ؛ ولذا قال صاحب الجواهر قدس‌سره : «بل ثبوت الأحكام به أكبر شاهد على ذلك» (٢).

ويدلّ على حجّيّة الخبر في الموضوعات ـ أيضا ـ الأخبار الواردة في موارد خاصّة :

منها : ما ورد في مسألة عزل الوكيل ، كرواية هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «... إنّ الوكيل إذا وكلّ ثمّ قام عن المجلس ، فأمره ماض أبدا ، والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلّغه أو يشافه «يشافهه خ ل» بالعزل عن الوكالة» (٣).

وقد صرّح صاحب الوسائل قدس‌سره بدلالة هذه الرّواية على حجّيّة الخبر في الموضوعات حيث قال : «فيه دلالة على العمل بخبر الثّقة ، وعلى أنّه يفيد العلم ،

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ٢ ، ص ١٠٩ و ١١٠.

(٢) جواهر الكلام : ج ٦ ، ص ١٧٢.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٣ ، كتاب التّجارة والوصيّة ، الباب ٢ من أبواب الوكالة ، الحديث ١ ، ص ٢٨٦.

٢٦٩

كالمشافهة ، وتقديمه عليها كأنّه لبيان هذا المعنى والاهتمام» (١).

ومنها : ما ورد في ثبوت الوصيّة بخبر مسلم صادق ، كرواية إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل كانت له عندي دنانير وكان مريضا ، فقال لى : إن حدث بي حدث ، فأعط فلانا عشرين دينارا ، وأعط أخي بقيّة الدّنانير ، فمات ولم أشهد موته ، فأتاني رجل مسلم صادق فقال لي : إنّه أمرني أن أقول لك ، انظر الدّنانير الّتي أمرتك أن تدفعها إلى أخي ، فتصدّق منها بعشرة دنانير أقسمها في المسلمين ولم يعلم أخوه أنّ عندي شيئا ، فقال : أرى أن تصدّق منها بعشرة دنانير» (٢).

ومنها : ما ورد في الاعتماد على أذان الثّقة العارف بالأوقات ، كرواية عبد الله بن عليّ ، عن بلال في حديث ، قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : المؤذّنون امناء المؤمنين على صلاتهم وصومهم ...» (٣).

والقول بأنّ الاعتماد على أذان العارف ، يمكن أن يكون من باب جواز التّعويل في دخول الوقت على الظّنّ المطلق وهو من أسباب الظّنّ ، فلا يدلّ على جواز الاعتماد عليه في موارد يعتبر العلم أو ما يكون بمنزلته ، غير وجيه.

هذا تمام الكلام في المسألة السّابعة في الأمارات.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٣ ، كتاب التّجارة والوصيّة ، الباب ٢ من أبواب الوكالة ، الحديث ١ ، ص ٢٨٦.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٣ ، كتاب التّجارة والوصيّة ، الباب ٩٧ من أبواب الوصايا ، الحديث ١ ، ص ٤٨٢.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ٤ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٣ من أبواب الأذان والإقامة ، الحديث ٧ ، ص ٦١٩.

٢٧٠

المسألة الثّامنة : الاصول العمليّة

مباحث الشّكّ

أقسام المباحث الاصوليّة

المقام الأوّل : أصالة البراءة

* الاستدلال بالكتاب

* الاستدلال بالسّنّة

* الاستدلال بالإجماع

* الاستدلال بالعقل

* استدلال الأخباريّ بالكتاب

* استدلال الأخباريّ بالسّنّة

* استدلال الأخباريّ بالعقل

* تقديم الأصل الموضوعيّ على البراءة

* أصالة عدم التّذكية

* وجوب الفحص

* الشّرطان الآخران للبراءة

* جريان البراءة في الشّبهات الموضوعيّة والحكميّة

* حسن الاحتياط

* أخبار من بلغ

٢٧١
٢٧٢

(المسألة الثّامنة : الاصول العمليّة)

(مباحث الشّكّ)

(أقسام المباحث الاصوليّة)

قبل الورود في هذه المسألة ينبغي تمهيد مقدّمة وهي أنّ المباحث الاصوليّة على أقسام :

الأوّل : ما يوصل المكلّف إلى الحكم الشّرعيّ الواقعيّ على وجه القطع ، نظير مسألة الملازمات والاستلزامات العقليّة من استلزام وجوب ذي المقدّمة لوجوب المقدّمة ، واستلزام وجوب الشّيء لحرمة ضدّه ، ونظير مسألة إمكان اجتماع الوجوب والحرمة وامتناعه.

وهذا القسم من المباحث الاصوليّة يسمّى بالبحث عن المداليل ، أو الاستلزامات العقليّة ، أو العقليّات غير المستقلّة ، أو مباحث لوازم الأحكام بما هي ، لا بما هي من مداليل الألفاظ ، فلا ربط لها بمباحث الألفاظ وإن ذكروها فيها ، كصاحب المعالم قدس‌سره (١) وأتباعه حيث استدلّوا على عدم وجوب المقدّمة بعدم دلالة الأمر بذي المقدّمة عليه بإحدى الدّلالات الثّلاثة.

القسم الثّاني : ما يوصل المكلّف إلى الحكم الشّرعيّ الواقعيّ لا بالقطع ، بل بالتّعبّد والعلم العادي ـ على ما قرّرنا في المباحث الماضية ـ وهذا القسم على نحوين : أحدهما : أن يكون من قبيل المباحث الصّغرويّة ، نظير مباحث الألفاظ ، حيث إنّ

__________________

(١) راجع ، معالم الاصول : ص ٥٥.

٢٧٣

البحث فيها إنّما هو عن صغرى ظهور الألفاظ من أنّ الظّهور ، هل هو موجود ، أم لا؟ وعلى فرض وجوده ، ففي أيّ شيء هو موجود؟ كمباحث المشتق ، والأمر والنّهي والعامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ومباحث المفاهيم ؛ وهذا بخلاف البحث عن كبرى حجّيّة الظّهور ، فإنّها عقلائيّة مسلّمة ، لا يبحث عنه في الاصول.

ثانيهما : أن يكون من قبيل المباحث الكبرويّة ، نظير مباحث حجّيّة الخبر الواحد ، والإجماع المنقول ، والشّهرة ، والظّنّ الانسدادي على الكشف.

القسم الثّالث : ما لا يوصل المكلّف إلى الحكم الشّرعيّ الواقعيّ مطلقا ، لا بالقطع ولا بالتّعبّد أو العلم العادي ، بل يوصله إلى الحكم الظّاهريّ ، بأن يكون متكفّلا لبيان الحكم الشّرعيّ الظّاهريّ على تقدير الشّكّ في الحكم الواقعيّ ، بحيث يتأخّر الحكم الظّاهريّ عن الواقعيّ بمرتبتين ، نظير مباحث الاصول العمليّة الشّرعيّة ، من البراءة أو الاحتياط أو التّخيير شرعا.

القسم الرّابع : ما لا يوصل المكلّف إلى الحكم الظّاهريّ ـ أيضا ـ بل يكون متكفّلا لبيان الوظيفة العمليّة الفعليّة عقلا عند العجز عن جميع ما تقدّم ، من الوصول إلى الحكم الواقعيّ بالقطع أو التّعبّد ، ومن الوصول إلى الحكم الظّاهري ، نظير مباحث الاصول العمليّة العقليّة من البراءة أو الاحتياط أو التّخيير عقلا.

إذا عرفت تلك المقدّمة ، فاعلم ، أنّ مباحث القطع والظّنّ تكون من قبيل القسمين الأوّلين ، وقد مرّ الكلام فيها مفصّلا ؛ وأنّ مباحث الشّكّ تكون من قبيل القسمين الأخيرين ، والكلام يقع فيها فعلا ، فنقول :

إنّ الاصول العمليّة الّتي تكون هي المرجع عند الشّكّ منحصرة في أربعة ،

٢٧٤

وهي البراءة ، والتّخيير والاحتياط الّذي يسمّى بقاعدة الاحتياط وقاعدة الاشتغال ، والاستصحاب.

ولا يخفى : أنّ الحصر باعتبار نفس الاصول ، يكون استقرائيّا لا عقليّا ؛ وذلك لإمكان جعل أصل آخر في بعض صور الشّكّ ، لكن لم يوجد إلى الآن بعد الاستقراء التّام.

وأمّا باعتبار موارد الاصول يكون عقليّا ؛ إذ الشّكّ ، إمّا يلاحظ فيه الحالة السّابقة ، فهو مجرى للاستصحاب بلا فرق بين أن يكون الشّكّ في موضوع من الموضوعات ، كالعدالة أو الاجتهاد ، وبين أن يكون في التّكليف أو المكلّف به ، سواء أمكن فيه الاحتياط أو لا يمكن ؛ وإمّا يلاحظ فيه الحالة السّابقة ، سواء كانت ولم تعتبر كما في الشّكّ في المقتضي ـ بناء على بعض المباني ـ أو لم تكن رأسا فهو مجرى للبراءة إن كان الشّكّ في أصل الحكم ، تكليفيّا كان أو وضعيّا ، ومجرى لقاعدة الاحتياط والاشتغال إن كان الشّكّ في المكلّف به ، هذا إذا أمكن الاحتياط ، وإلّا فهو مجرى للتّخيير ، كموارد دوران الأمر بين المحذورين.

ثمّ إنّ عدم ذكر أصالة الطّهارة الجارية فيما اشتبه طهارته بالشّبهة الحكميّة ـ كالعصير العنبي بعد الغليان ، وكعرق الجنب من الحرام ونحوهما ـ مع كونها ـ أيضا ـ ممّا ينتهي المجتهد إليها فيما لا حجّة له على الطّهارة والنّجاسة ، ليس لأجل أنّ أصالة الطّهارة خارجة عن علم الاصول ، بل إنّما هو لأجل كونها من الاصول المسلّمة الثّابتة بلا خلاف ، كيف ، وأنّ هذه القاعدة تكون نظير قاعدة القاعدة الحلّ الجارية عند الشّكّ في الحرمة ، الّتي تكون داخلة في علم الاصول بلا شبهة.

٢٧٥

غاية الأمر : يفارق بين مفاد تلك القاعدتين ؛ إذ مفاد قاعدة الحلّ هو الحكم التّكليفيّ ، ومفاد قاعدة الطّهارة هو الحكم الوضعيّ ، وهذا المقدار من الفرق لا يوجب دخول إحداهما في الاصول ، وخروج الاخرى عنه البتّة.

وبالجملة : ليس وجه عدم التّعرض لأصالة الطّهارة في الاصول هو كونها خارجة عنه ، بل الوجه هو كون البحث عنها ليس بمهمّ ، نظرا إلى أنّها ثابتة بلا كلام من دون حاجة إلى نقض وإبرام ، بخلاف الاصول الأربعة المتقدّمة.

وقد ذكر المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) لعدم تعرّض قاعدة الطّهارة في الاصول ، مضافا إلى الوجه المتقدّم ، وجها آخر وهو عدم اطّرادها في جميع أبواب الفقه ، بل تختصّ بباب الطّهارة فقط ، بخلاف الاصول الأربعة ، فإنّها جارية في كلّ الأبواب.

ولكنّه ضعيف ؛ لما مضى وقرّر سابقا ، من أنّ الضّابط في كون المسألة اصوليّة ، ليس إلّا وقوع نتيجتها في طريق استنباط الأحكام الشّرعيّة ، ولا يعتبر فيه أزيد من ذلك ، كالاطّراد والجريان في جميع الأبواب ، وإلّا لخرج بعض المباحث الاصوليّة عن علم الاصول ، كمبحث دلالة النّهي على الفساد في العبادة ونحوه ، لعدم جريانه في غير العبادة ، كما لا يخفى.

ويلحق في هذا الضّعف ، ما تخيّل من أنّ وجه عدم التّعرض ليس إلّا أنّ الطّهارة والنّجاسة تكونان من الامور الواقعيّة الخارجيّة ، لا من الأحكام الشّرعيّة ، فالشّبهة فيهما دائما تكون شبهة مصداقيّة موضوعيّة ، وأنت تعلم ، أنّ الشّبهات المصداقيّة خارجة عن المسائل الاصوليّة الّتي تقع نتيجتها في طريق استنباط الأحكام الكلّيّة الإلهيّة.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ١٦٥ و ١٦٧.

٢٧٦

وجه الإلحاق هو أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو اريد من الطّهارة والنّجاسة أنّهما حكمان ناشئان من المصلحة والمفسدة ، وليستا من المجعولات الجزافيّة ، فالشّكّ فيهما على هذا يرجع إلى الشّكّ في ذلك المنشأ الّذي هو من الامور الواقعيّة.

نعم ، لا يوجب ذلك ، كون الشّكّ فيهما دائما من الشّبهة المصداقيّة ، وإلّا لزم كون الشّكّ في جميع الأحكام كذلك ، لأجل أنّها ناشئة عن الملاكات في نفسها أو متعلّقاتها.

وأمّا لو اريد من الطّهارة والنّجاسة أنّهما ليستا من الأحكام ، بل تكونان من قبيل الخواص والآثار الطّبيعيّة الّتي لا يعرفها إلّا الشّارع ، كخواص الأشياء والامور والأدوية الّتي لا يعرفها إلّا الطّبيب ، فلا يتمّ ذلك الكلام ؛ إذ مقتضى ظاهر الأدلّة هو كونهما من الأحكام المجعولة ، لا من الخواص والآثار ، كما هو واضح.

وإن شئت ، فقل : إنّ الأدلّة الّتي وردت في اعتبار قاعدة الطّهارة ، ظاهرة في أنّ الشّارع حكم بهما وجعلهما كسائر المجعولات الشّرعيّة ، لا أنّه أخبر بهما من باب إخبار أهل الخبرة والمعرفة.

على أنّه لو سلّم كونهما من الخواص والآثار ، فلا نسلّم كون الشّبهة مصداقيّة ، بل الشّبهة حينئذ تكون حكميّة ، حيث إنّ المرجع عند الشّكّ في طهارة شيء ونجاسته كالعصير المغليّ وعرق الجنب من الحرام ، وعرق الإبل الجلّالة ، هو الشّرع ، لا العرف ، كما في الشّبهة المصداقيّة ، وهذا هو المائز بين الشّبهتين.

فتحصّل : أنّ قاعدة الطّهارة ، كقاعدة الحلّ ، تكون من المسائل الاصوليّة ، إلّا أنّها لم يبحث عنها في الاصول ، لكونها من الامور الثابتة المسلّمة الّتي لا خلاف فيها البتّة.

٢٧٧

(المقام الأوّل : أصالة البراءة)

ثمّ إنّ الكلام في كلّ واحد من الاصول الأربعة من البراءة والتّخيير والاشتغال والاستصحاب يتمّ في مقامات أربعة :

المقام الأوّل : في أصالة البراءة وهي الّتي موردها هو الشّكّ في التّكليف فنقول : إنّ الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) جعل الشّكّ في التّكليف الّذي هو مجرى البراءة ثمانية أقسام ؛ لأجل أنّ الشّبهة إمّا تحريميّة ، أو وجوبيّة ، وعلى على كلا التّقديرين : إمّا يكون الشّكّ ناشئا من فقدان النّص ؛ أو إجماله ؛ أو تعارض النّصين ؛ أو امور خارجيّة كالجهل والعمى والظّلمة ونحوها من الشّبهات الموضوعيّة ، وقد بحث قدس‌سره عن كلّ واحد من تلك الأقسام على حدة ؛ وذلك لاختصاص بعض أدلّة الأربعة بالشّبهة التّحريميّة فقط ، نظير قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» ، ولاختصاص النّزاع الّذي وقع بين الاصوليّ القائل بالبراءة ، وبين الأخباريّ القائل بالاحتياط ، بهذه الشّبهة ، بخلاف الشّبهة الوجوبيّة ، فإنّ الأخباريّ ـ أيضا ـ قائل فيها بالبراءة كالاصوليّ ، إلّا المحدّث الأمين الأسترآبادي فقال : بالاحتياط فيها ـ أيضا ـ هذا ما صنعه الشّيخ قدس‌سره.

وأمّا المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) فقد بحث عن مطلق الشّكّ في التّكليف بلا إفراد بحث لكلّ واحد من الأقسام ، بل جعل جميع تلك الأقسام مجرى للبراءة عدا فرض

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ١٧ و ١٨.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ١٦٧.

٢٧٨

تعارض النّصين ، حيث إنّه قدس‌سره أدرجه في مبحث التّعادل والتّرجيح ، بدعوى : أنّ البحث عنه لا يرجع إلى البراءة ، بل المتعيّن فيه هو الرّجوع إلى المرجّح لو كان ، وإلّا فالتّخيير ، وبعبارة اخرى : البراءة هو المرجع عند فقد الدّليل ، ومن المعلوم ، أنّ أحد النّصين هو الدّليل تعيينا مع وجود المرجّح ، وتخييرا مع عدمه ، ومعه لا يصل الدّور إلى البراءة.

ولا يخفى عليك : أنّ ما صنعه المحقّق الخراساني قدس‌سره قبال الشّيخ الأنصاري قدس‌سره هو الصّحيح ؛ وذلك ، لأنّ ملاك جريان البراءة في جميع الصّور هو عدم قيام الحجّة على التّكليف وعدم وصوله إلى المكلّف ، مع أنّ جلّ أدلّة البراءة من اللّفظيّة واللّبيّة ، ومن النّقليّة والعقليّة جارية في جميع الأقسام. وعليه ، فلا ينبغي تكثير الأقسام وإفراد كلّ قسم بالبحث.

نعم ، يرد على المحقّق الخراساني قدس‌سره بأنّ إخراج تعارض النّصين مطلقا عن بحث البراءة ، لا دليل عليه ، لما سيجيء من أنّ الأصل في التّعارض هو التّساقط ، والمرجع حينئذ هو العامّ الفوق إن كان ، وإلّا فالأصل العمليّ.

وواضح : أنّ التّعارض لا ينحصر في النّصين والخبرين ، بل يقع بين ظاهري الكتاب فيرجع بعد التّساقط إلى الأصل العمليّ قطعا ، كما أنّه يرجع إلى هذا الأصل في فرض التّعارض بين الخبرين العامّين من وجه ، لو كان العموم فيهما من ناحية الإطلاق لا الوضع ؛ وذلك لسقوط كلا الإطلاقين حينئذ ، وهكذا بعض صور التّعارض الآخر على ما سيجيء في مبحث التّعادل والتّرجيح.

وليعلم ، أنّ قبح العقاب بلا بيان وعدم استحقاق المؤاخذة بلا حجّة وبرهان

٢٧٩

أمر عقلىّ ونقليّ مسلّم عند جميع الأعلام من الاصوليين والأخباريين ، فلا نزاع في هذه الكبرى المسلّمة عند العقل والنّقل ، إنّما النّزاع بينهما في الصّغرى وفي قيام الحجّة وعدمه وتماميّة البيان وعدمها من ناحية المولى ، فالأخباريّون قالوا : بقيام الحجّة وتماميّة البيان بالنّسبة إلى الأحكام الواقعيّة لوجود الأمرين : أحدهما : العلم الإجماليّ بثبوت التّكاليف وهو يقتضي وجوب الاحتياط لمنجّزيّته كالعلم التّفصيلى ؛ ثانيهما : روايات وجوب الاحتياط في المشتبهات ووجوب التّوقّف عند الشّبهات ، وسيأتي التّعرض لهذين الأمرين عند استدلال الأخباريين.

ولكن الأصوليّين أنكروا قيام الحجّة وتماميّة البيان بالنّسبة إلى الأحكام وقالوا : بالبراءة ، فينبغي أن يبحث في البراءة ، عن صغرى المسألة وهي هل الحجّة قائمة على الأحكام ، أم لا؟ وهل العلم الإجماليّ بثبوت التّكاليف الّذي إدّعاه الأخباري باق حتّى يجب الاحتياط أو منحلّ؟ وهل الرّوايات تدلّ على وجوب الاحتياط في الشّبهات البدويّة بعد الفحص واليأس ، أم لا تدلّ ، بل تكون ناظرة إلى قبل الفحص أو إلى الشّبهات المقرونة بالعلم الإجماليّ أو إلى غير ذلك؟ وأمّا كبرى المسألة وهي عدم استحقاق العقاب عند عدم تماميّة البيان ، فلا تحتاج إلى البحث لما أشرنا آنفا من أنّها أمر مسلّم عند العقل والنّقل ، إلّا أنّ الشّيخ الأنصاري قدس‌سره قد بحث عنها لبعض الأغراض والفائدة ، ولأجل ذلك نبحث عنها ـ أيضا ـ فنقول :

قد استدلّ الاصوليّون على البراءة عند الشّكّ في التّكليف بالأدلّة الأربعة : من الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل.

٢٨٠