مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

(تقديم الأصل الموضوعيّ على البراءة)

الأوّل : أنّه يشترط في جريان البراءة العقليّة والنّقليّة في كلّ شبهة مطلقا ـ موضوعيّة كانت أو حكميّة ، تحريميّة كانت أو وجوبيّة ـ بعدم وجود أصل حاكم أو وارد عليها من استصحاب موضوعيّ أو حكميّ موافق أو مخالف لها ، وإلّا فلا تجري في مورد الشّبهة بلا ريب ؛ وذلك ، لأنّ موضوع البراءة العقليّة هو عدم البيان والبرهان ، وموضوع البراءة الشّرعيّة هو عدم العلم ، فكلّ ما يصلح أن يكون بيانا أو علما ولو بنحو التّعبّد يتقدّم على البراءة ، إمّا بالحكومة ، كما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (١) ، وإمّا بالورود ، كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢).

والجدير هنا أن نذكر بعض الأمثلة في المقام ، مزيدا للإيضاح ، فنقول :

أمّا الشّبهة الموضوعيّة ، فهو نظير ما إذا علم بخلّيّة مائع ثمّ شكّ في صيرورته خمرا ، ففي مثل هذا الشّكّ وإن كان مقتضى البراءة هو جواز الشّرب والحلّيّة ، إلّا أنّ هنا أصلا آخر موافقا لمقتضاها وهو استصحاب الخلّيّة السّابقة المتيقّنة. ولا ريب ، أنّ هذا الأصل يرفع موضوع البراءة وهو الشّكّ ، لكونه علما تعبّدا وبالعناية ، فيكون واردا أو حاكما عليها ، هذا بالنّسبة إلى الأصل الموافق للبراءة.

وأمّا الأصل المخالف لها ، فهو نظير عكس ما ذكر في المثال المتقدّم ، بأن علم خمريّة مائع ، ثمّ شكّ في صيرورته خلّا ، ففي هذا المورد وإن تقتضي البراءة ـ أيضا ـ

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ١٠٩.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ١٩٠ و ٣٥١ و ٣٥٤.

٣٤١

جواز الشّرب والحلّيّة ، إلّا أنّ هنا أصلا آخر مخالف لمقتضاها وهو استصحاب الخمريّة السّابقة ، فيرفع به موضوع البراءة وهو الشّكّ ؛ إذ الاستصحاب يكون علما تعبّدا ، فلا يبقى المجال لجريان البراءة حتّى يحكم بجواز الشّرب والحلّيّة. هذا في الشّبهة الموضوعيّة.

أمّا الشّبهة الحكميّة ، فهو نظير ما إذا شكّ في جواز وطء الحائض بعد النّقاء وانقطاع الدّم وقبل الاغتسال ، ففي مثل هذا الشّكّ وإن تقتضي البراءة ، حلّيّة الوطء ، إلّا أنّ هنا أصلا آخر مخالفا لها وهو استصحاب الحرمة السّابقة المتيقّنة ، فيرفع به موضوع البراءة وهو الشّكّ ، لما علمت من أنّ الاستصحاب علم تعبّديّ فيكون حاكما أو واردا عليها.

(أصالة عدم التّذكية)

تفريع : قد فرّع العلمان (الشّيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني قدس‌سرهما) على الأمر الأوّل ، جريان أصالة عدم التّذكية فيما إذا شكّ في قابليّة حيوان للتّذكية وعدمها ، ولا بأس أن نتكلّم حول هذا الأصل ، لترتّب الفائدة عليه ، فنقول :

إنّ الشّبهة البدويّة في حرمة اللّحم وحلّيّته ، تارة : تكون موضوعيّة ؛ واخرى : حكميّة ، أمّا الموضوعيّة فلها صور أربعة : الاولى : أن يكون الشّكّ في الحرمة لأجل تردّد اللّحم بين ما يؤكل كالشّاة ، وبين ما لا يؤكل كالأرنب ، بعد الفراغ من إحراز وقوع التّذكية الجامعة للشّرائط على الحيوان أيّا ما كان ، والحكم في هذه الصّورة هو جريان أصالة الحلّ والإباحة فيها ، بلا أصل موضوعيّ متقدّم عليها بالورود أو الحكومة.

٣٤٢

وما حكي عن الشّهيد قدس‌سره (١) من أنّ الأصل في اللّحوم مطلقا هو الحرمة أجنبيّ عن هذه الصّورة ؛ إذ المفروض فيها هو العلم بوقوع التّذكية ، فلا مجال معه ، لهذا الأصل بالمرّة.

لا يقال : إنّ في المقام أصلا آخر يقتضي حرمة أكل اللّحم وهو استصحاب الحرمة السّابقة المتيقّنة حال حياة الحيوان وقبل زهاق روحه ، فيكون هذا الأصل حاكما أو واردا على أصالة الحلّ والاباحة.

لأنّه يقال : أوّلا : أنّ متيقّن الحرمة كان هو الحيوان الحيّ ، وأمّا مشكوك الحرمة فهو ليس إلّا اللّحم ، فهما موضوعان متغايران عرفا وفي مثل ذلك لا يجري الاستصحاب.

وثانيا : أنّه لا دليل على حرمة أكل الحيوان إذا كان حيّا ، ولذا يفتي جماعة بحليّة بلع السّمك الصّغير ، وحلّية بلعه حيّا مع أنّه غير مذكّى ؛ بداهة ، أنّه لا يصير مذكّى بمجرّد إخراجه من الماء حيّا ، بل تذكيته هو خروجه من الماء كذلك بعد عروض الموت عليه.

الصّورة الثّانية : أن يكون الشّكّ في حرمة اللّحم وحلّيّته ، لأجل احتمال طروّ ما يمنع عن قبول التّذكية ، كالجلل أو الوطء ، أو الارتضاع من لبن خنزيرة في مثل الشّاة.

ولا يخفى : أنّ في هذه الصّورة يجري الأصل الحاكم على الحلّ والبراءة ، وهو استصحاب عدم طروّ المانع من التّذكية ، فيحكم بالحلّيّة بعد تحقّق التّذكية الواجدة للشّرائط المقرّرة في محلّه ، وهذا من موارد وجود الأصل الحاكم على البراءة الموافق لها في النّتيجة.

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ١١٠.

٣٤٣

الصّورة الثّالثة : أن يكون الشّكّ في الحرمة والحلّية لأجل احتمال عدم قبول التّذكية رأسا مع العلم بوقوع الذّبح وفري الأوداج الأربعة مع سائر شرائطه ، نظير ما إذا كان الحيوان المذبوح أو لحمه المطروح ، مردّدا بين شاة وخنزيرة ، لعلل وامور خارجيّة ، كالجهل أو العمى أو الظّلمة ، وفي هذه الصّورة بناء على القول بوجود العموم الدّال على قابليّة كلّ حيوان للتّذكية إلّا ما خرج بالدّليل ، كالكلب والخنزير ، على ما إدّعاه صاحب الجواهر قدس‌سره (١) ، لا مجال للحكم بالحلّيّة والطّهارة ؛ إذ المفروض ، أنّ الحيوان مردّد بين مأكول اللّحم وغيره ، فيكون التّمسّك بالعامّ حينئذ تمسّكا به في الشّبهة المصداقيّة للمخصّص وهو غير جائز.

اللهم إلّا أن يتمسّك به ، بعد إجراء استصحاب عدم الكلبيّة ـ مثلا ـ إذا قيل بجريانه في الأعدام الأزليّة حتّى في العناوين الذّاتيّة ، فيحكم على هذا الوجه بالحلّيّة والطّهارة.

وأمّا بناء على القول بإنكار العموم ، كما هو الظّاهر ، فإذا قلنا : بكون التّذكية أمرا وجوديّا بسيطا حاصلا من الذّبح بشرائطه ـ نظير الطّهارة الحاصلة من الوضوء والغسل ، ونظير الملكيّة الحاصلة من الإيجاب والقبول ـ يستصحب عدمها ، فلا يحكم بالطّهارة والحلّيّة ؛ وإذا قلنا : بكونها نفس الذّبح مع شرائطه الخاصّة ، فلا مجال لأصالة عدمها ؛ إذ لا شكّ حينئذ فيها ، بل القطع حاصل بتحقّقها ، فالمرجع هو أصالة الحلّ والطّهارة.

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٣٦ ، ص ١٩٦.

٣٤٤

الصّورة الرّابعة : أن يكون الشّكّ في الحرمة والحلّيّة لأجل احتمال عدم تحقّق التّذكية بعد إحراز القابليّة ، إمّا لأجل عدم تحقّق الذّبح وفري الأوداج الأربعة ، أو عدم تحقّق شرائطه المقرّرة ؛ وهذه الصّورة تجري فيها أصالة عدم التّذكية بلا شبهة ، والنّتيجة هي الحرمة وعدم الحلّيّة البتّة. هذا تمام الكلام في الشّبهة الموضوعيّة.

وأمّا الشّبهة الحكميّة ، فهي ذات صور ثلاثة :

إحداها : أن يكون الشّكّ في الحرمة والحلّيّة من غير ناحية التّذكية ، نظير ما إذا شكّ في حلّيّة أكل لحم الأرنب ، أو بعض أنواع السّمك وحرمته ، مع العلم بوقوع التّذكية عليه ؛ وذلك ، لفقد الدّليل على الحرمة والحلّيّة ، وفي هذه الصّورة يكون المرجع أصالة الإباحة والحلّيّة ، ولا أصل حاكما أو واردا عليها.

اللهم إلّا أن يقال : باستصحاب الحرمة السّابقة المتيقّنة حال الحياة وقبل وقوع التّذكية. وقد عرفت : في الصّورة الاولى من الشّبهة الموضوعيّة ، ما فيه من الإشكال ، فراجع.

ثانيتها : أن يكون الشّكّ في الحرمة والحلّيّة من ناحية التّذكية ، إمّا لأجل الشّكّ في اعتبار شيء في التّذكية وعدمه ، نظير الشّكّ في اشتراط كون الذّبح بالحديد أو بإسلام الذّابح ، أو غير ذلك من سائر الشّرائط ، وإمّا لأجل الشّكّ في مانعيّة شيء فيها ، وفي هذه الصّورة لا مانع من الحكم بنفي اعتبار الأمر المشكوك فيه ، تمسّكا بالدّليل الاجتهاديّ وهو إطلاق أدلّة التّذكية ، نظير قوله تعالى : (... إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)(١) وقول أبي عبد الله عليه‌السلام : «... وكلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكّي و

__________________

(١) سورة المائدة (٥) ، الآية ٣.

٣٤٥

قد ذكّاه الذّبح ...» (١) أو بالأصل العمليّ وهو البراءة لو لم يكن إطلاق في البين ، أو كان ولكن لا يجوز التّمسّك به ، فترفع بهذا الأصل ، الشّرطيّة أو المانعيّة المشكوكة ، ومع رفعهما لا يشكّ في التّذكية وعدمها حتّى تجري أصالة عدمها.

نعم ، لو جرت أصالة عدم التّذكية ، تترتّب عليها الحرمة والنّجاسة ، كما بيّناه سابقا.

هذا ، ولكن ذهب بعض الأعاظم قدس‌سره (٢) إلى عدم جواز التّمسّك بإطلاق الأدلّة في المقام ، معلّلا بعدم كون التّذكية من الامور العرفيّة حتّى ينزّل الخطاب على ما هو الرّائج عرفا ويرفع احتمال التّقييد بإطلاقه ، كما كان الأمر كذلك في مثل قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ).

وفيه ما لا يخفى ؛ إذ ليس معنى التّذكية حسب العرف واللّغة إلّا الذّبح وفري الأوداج الأربعة ، فهو أمر عرفيّ ـ كالبيع والإجارة ونحوهما ـ ليس للشّرع فيها تأسيس وإبداع. نعم ، زاد فيها قيودا ، كما زاد في غيرها من العناوين المعامليّة المذكورة آنفا.

وعليه : فلا مانع من التّمسّك بإطلاق أدلّة التّذكية لنفي ما شكّ في كونه معتبرا في التّذكية ، كما لا مانع من التّمسّك بإطلاق (أحلّ الله البيع) ونحوه فيما إذا شكّ في اعتبار شيء في صحّة البيع.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ١ ، ص ٢٥٠.

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٣١٣.

٣٤٦

هذا ، مضافا إلى أنّ التّمسّك بإطلاق الخطابات الواردة من ناحية الشّرع في الموضوعات الشّرعيّة ، كالصّلاة والصّوم والحجّ ونحوها ، يكون من المسلّمات عند أرباب فنّ الاصول وأصحاب الاجتهاد من الفحول ؛ ونتيجة ذلك ، جواز التّمسّك في المقام بالإطلاق الوارد في التّذكية ولو كانت من الموضوعات الشّرعيّة غير العرفيّة.

ثالثتها : أن يكون الشّكّ في الحرمة والحلّيّة من ناحية التّذكية ، لأجل الشّكّ في قابليّة الحيوان للتّذكية وعدمها ، كالحيوان المتولّد من شاة وخنزير بلا صدق اسم أحدهما عليه ، فعلى مسلك صاحب الجواهر قدس‌سره ـ من قبول كلّ حيوان للتّذكية إلّا ما خرج بالدّليل ، كالكلب والخنزير ، استنادا إلى رواية عليّ بن يقطن ، الواردة في الجلود ـ كان المرجع هو العموم (١) ، فلا مجال لأصالة عدم التّذكية ؛ إذ الأصل غير معتبر مع وجود العموم والأمارة.

وعليه : فالحكم في هذه الصّورة هو الطّهارة والحلّيّة ، بلا حاجة في الرّجوع إلى العموم إلى إجراء استصحاب العدم الأزليّ ، بل لا مجال له ، لأنّ المفروض هو أنّ الشّبهة في المقام حكميّة لا موضوعيّة كي ترفع بالاستصحاب ، هذا بناء على القول بالعموم.

وأمّا بناء على القول بعدم العموم ، فهل تجري حينئذ أصالة عدم التّذكية أولا؟ وعلى فرض جريانها ، هل يحكم بالنّجاسة ـ أيضا ـ أو يحكم بالحرمة فقط؟ فهنا نزاعان :

أمّا النّزاع الأوّل : فالحقّ فيه جريان أصالة عدم التّذكية بلا فرق بين الأقوال

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٣٦ ، ص ١٩٦.

٣٤٧

المختلفة في حقيقة التّذكية من كونها أمرا واحدا وهو الذّبح وفري الأوداج الأربعة مع الشّرائط المقرّرة فيها (كالقابليّة ، وكون الذّبح بحديد واستقبال القبلة وإسلام الذّابح والتّسمية) وهو القول المختار ، أو كونها مركّبة من تلك الامور أو كونها أمرا بسيطا محصّلا منها أو كونها أمرا انتزاعيّا منها.

والوجه في ما ذكرناه : هو أنّ الشّكّ في القابليّة يوجب الشّكّ في تحقّق الأمر الواحد ، أو الأمر المركّب أو الأمر البسيط المحصّل أو المنتزع من تلك الامور ، فتجري أصالة عدم التّذكية.

ومن هنا ظهر : أنّ ما عن بعض الأعاظم قدس‌سره من جريان أصالة الحلّ في المقام دون أصالة عدم التّذكية ، غير وجيه. نعم ، لو علم قبول الحيوان للتّذكية وشكّ في الحلّيّة والحرمة كانت أصالة الإباحة هناك محكّمة ؛ إذ الشّكّ حينئذ ليس في التّذكية ، بل هو في الحلّيّة والحرمة ، ولا أصل معه إلّا الإباحة والحلّيّة.

أمّا النّزاع الثّاني : فالحقّ فيه هو ترتّب النّجاسة والحرمة على الحيوان بجريان أصالة عدم التّذكية فيه ؛ بداهة ، أنّ ما هو المؤثّر في الطّهارة والحلّيّة هو تحقّق التّذكية الشّرعيّة فيه ، فمجرّد إحراز كون الحيوان غير المذكّى بإجراء الأصل عند الشّكّ في واحد من الشّرائط المذكورة في التّذكية ، كاف في الحكم بالنّجاسة والحرمة عليه.

هذا ، ولكن اشكل على أصالة عدم التّذكية وترتيب أثر النّجاسة والحرمة عليها ، بأنّها معارضة بأصالة عدم الموت. وواضح ، أنّ الحرمة والنّجاسة من أحكام الميتة ، فلا مناص من الرّجوع في المقام إلى أصالة الإباحة والطّهارة. (١)

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ١٢٨.

٣٤٨

توضيح الإشكال : أنّ الميتة عبارة عن خصوص ما مات حتف أنفه ، وأمّا غير المذكّى ، فهو أعمّ منه ومن كلّ ما لم يذكّ بوجه شرعيّ ، فلا مجال لإثبات خصوص الميتة الّتي كانت أحد أفراد غير المذكّى بأصالة عدم التّذكية وإحراز أنّ الحيوان غير مذكّى.

وببيان أخصر يقال : كلّ ميتة غير مذكّى ، ولكن ليس كلّ غير مذكّى بميتة ، فلا مجال لإثبات الميتة بنفي التّذكية وإحراز عدمها. وعليه ، فلا تثبت الحرمة والنّجاسة اللّتان تترتّبان على الميتة ، بأصالة عدم التّذكية.

والجواب عنه ما أفاده الشّيخ الأنصاري قدس‌سره وهو راجع إلى وجهين : أحدهما : أنّ الميتة شرعا عبارة عن غير المذكّى ، لا خصوص ما مات حتف أنفه ، فبأصالة عدم التّذكية يحرز أنّ الحيوان في المسألة المفروضة ، ميتة محرّمة ونجسة ، فلا مجال لأن يقال : كيف تثبت الميتة بأصالة عدم التّذكية.

ثانيهما : أنّ الحرمة والنّجاسة ، كما تترتّبان على الميتة ، كذلك تترتّبان على عنوان غير المذكّى ، فلا حاجة إلى إثبات الموت بأصالة عدم التّذكية حتّى يقال : بالمعارضة بينها وبين أصالة عدم الموت ، ويدلّ على ترتّبهما على عنوان غير المذكّى مفهوم قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) حيث إنّ المذكّى طاهر ، حلال بحكم المنطوق وغير المذكّى نجس ، حرام بحكم المفهوم. (١)

هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل (من الامور الّتي ينبغي الإشارة إليها في خاتمة البحث).

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ١٢٨ و ١٢٩.

٣٤٩

(وجوب الفحص)

الأمر الثّاني : أنّه يشترط في جريان البراءة ـ عقليّة كانت أو نقليّة ـ وجوب الفحص واليأس عن الظّفر بالدّليل في المسألة ؛ أمّا البراءة العقليّة ، فلأنّ موضوعها هو عدم البيان ، وهذا لا يحرز إلّا بالفحص والتّفتيش.

وأمّا البراءة النّقليّة ، فلأنّ قضيّة إطلاق أدلّتها ـ كحديث الرّفع ـ وإن كان هو عدم اعتبار الفحص فيها ، سواء كانت الشّبهة موضوعيّة ، أو حكميّة ، لكنّها مقيّدة بما بعد الفحص بالقرينتين (العقليّة المتّصلة الهادمة لظهور تلك الاصول في الإطلاق ، والنّقليّة المنفصلة من الكتاب والسّنّة الهادمة لحجّيّة إطلاق تلك الاصول).

وبالجملة : لا كلام في أصل وجوب الفحص واليأس عن الظّفر بالدّليل في جريان البراءة ، إنّما الكلام في موارد :

الأوّل : هل يجب الفحص بمقدار حصول العلم بعدم الدّليل ، أم يكفي حصول الاطمئنان أو الظّن ، وجوه ، والأقوى هو الثّاني ، فلا يلزم حصول العلم به ، كما لا يكفي مجرّد الظّن به.

أمّا عدم لزوم حصول العلم ، فلأنّه أوّلا : ممّا لا دليل عليه ؛ وثانيا : أنّه يوجب العسر والحرج ؛ وثالثا : أنّه يستلزم سدّ باب الاجتهاد ، إذ لا يحصل العلم بعدم الدّليل بسبب الفحص عادة وإن كان الفاحص ملحّا.

وأمّا عدم كفاية مجرّد الظّن ، فلأنّه ـ أيضا ـ ممّا لا دليل عليه ، كيف ، وأنّ الظّن ممّا لا يغني من الحقّ شيئا ، فلا اعتداد به قطعا. وعليه ، فالمتعيّن هو حصول

٣٥٠

الاطمئنان ، لكونه حجّة كالعلم ، بل هو نفس العلم عرفا وعادة.

وإن شئت ، فقل : إنّ الاطمئنان حجّة ببناء العقلاء ، ولم يرد الرّدع عنه من الشّارع ، كما هو واضح.

ولا يخفى : أنّه لا صعوبة في تحصيل الاطمئنان بمعونة الفحص بعد ضبط الأحاديث وترتيبها وتبويبها وتمييز صحاحها ومعتبراتها من ضعافها ، من جانب أصحابنا الأقدمين ، وكذا بعد الفحص والبحث عن الأحاديث الفقهيّة والتّحقيق الجامع فيها من نواح شتّى في الكتب الاستدلاليّة من جانب فقهائنا الأساطين.

المورد الثّاني : هل وجوب الفحص وتعلّم الأحكام نفسيّ ، نظير وجوب الصّوم والصّلاة ونحوهما حتّى يعاقب تاركه وإن لم يخالف الواقع ، أو طريقيّ ، نظير وجوب العمل بالطّرق والأمارات المعتبرة؟ وجهان ، بل قولان :

ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى الأوّل ، حيث قال : «فلا محيص عن الالتزام بكون وجوب التّعلم نفسيّا ، لتكون العقوبة ـ لو قيل بها ـ على تركه ، لا على ما أدّى إليه من المخالفة ، ولا بأس به ، كما لا يخفى ...» (١).

والصّواب هو القول الثّاني ، وقبل الورود في بيان وجه ذلك ، لا بدّ من تحرير محلّ النّزاع ، فنقول : إنّ النّزاع في المقام ليس إلّا في مواطن ثلاثة :

أحدها : وجوب تعلّم الفروع ، لا الاصول الاعتقاديّة ؛ إذ تعلّمها واجب ، عقليّ ، نفسيّ ، عينيّ قطعا ، بلا كلام فيه.

ثانيها : وجوب تعلّم الأحكام التّكليفيّة الإلزاميّة ، كالوجوب والحرمة أو

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥٩.

٣٥١

تعلّم ما يؤول إليها من الأحكام الوضعيّة ، كالنّجاسة والطّهارة والزّوجيّة والملكيّة ونحوها ؛ وذلك ، لعدم وجوب تعلّم الاستحباب والكراهة أصلا ولو كان طريقيا.

ثالثها : وجوب التّعلم على كلّ مكلّف بالنّسبة إلى تكاليفه المختصّة به الّتي يبتلي هو نفسه بها ؛ وأمّا بالنّسبة إلى تعلّم جميع الأحكام من الحلال والحرام ، فهو خارج عن محلّ الكلام ؛ إذ هو واجب على طائفة من الأنام بنحو الوجوب الكفائيّ ، كما اشير إليه في قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(١).

إذا عرفت محل النّزاع ، فاعلم ، أنّ الصّواب ـ كما أشرنا ـ هو أنّ وجوب التّعلم طريقيّ ، وإثبات وجوبه النّفسيّ ، دونه خرط القتاد ؛ إذ ليس نفس الفحص عن شيء والسّؤال عنه ، إلّا طريقا ، للاعتقاد به وعقد القلب عليه ، أو طريقا لأجل العمل والإتيان به ، فقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢) ظاهر في وجوب السّؤال طريقيّا وأنّه لأجل العمل القلبيّ والجانحيّ ، أو الخارجيّ الجارحيّ ، وكذا وجوب التّفقّه في آية النّفر.

والشّاهد عليه ، أنّه قد وردت الرّوايتان في المقام وهما صريحتان في كون وجوب التّعلم للعمل ، فيكون طريقا بلا ريب :

إحداهما : رواية مسعدة بن زياد الرّبعي ، قال : «سمعت جعفر بن محمّد عليهما‌السلام وقد سئل عن قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) فقال : إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم

__________________

(١) سورة التّوبة (٩) ، الآية ١٢٢.

(٢) سورة الأنبياء (٢١) ، الآية ٧.

٣٥٢

القيامة : أكنت عالما ، فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت ، وإن قال : كنت جاهلا ، قال له : أفلا تعلّمت حتّى تعمل ، فيخصمه ، وذلك الحجّة البالغة». (١)

ثانيتهما : رواية محمّد بن مسكين وغيره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قيل له : إنّ فلانا أصابته جنابة وهو مجدور ، فغسّلوه ، فمات ، فقال : قتلوه ألّا سألوا؟! ألّا يمّموه؟! إنّ شفاء العيّ ، السّؤال». (٢)

أضف إلى ذلك كلّه ، أنّ القول : باستحقاق العقاب على ترك التّعلم مع إتيان العمل ، وفقا للواقع على سبيل التّصادف ، بعيد جدّا ، إلّا على القول باستحقاق المتجرّي له.

وأبعد من ذلك هو القول : باستحقاقه على مجرّد ترك التّعلم المؤدّي إلى مخالفة الواقع ، من دون استحقاقه على نفس مخالفة الواقع ، كيف ، وأنّ وجوب التّعلم إنّما هو لأجل الواقع ، وهل يمكن أن يقال : باستحقاق العقاب على ترك الفحص عن الواقع ، وعدم استحقاقه على ترك نفسه؟

وبالجملة : إذا لم يثبت القول باستحقاق العقاب على ترك الفحص ، مضافا إلى استحقاقه على ترك الواقع ، يتعيّن القول باستحقاق العقاب على مجرّد ترك الواقع ، لا على ترك الفحص ـ أيضا ـ ونتيجة ذلك ، هو أنّ وجوبه يكون طريقيّا.

نعم ، قد اشكل على وجوب التّعلم طريقيّا في الواجب المشروط بشرط غير حاصل ، والواجب الموقّت قبل حلول وقته ، بأنّه لا وجوب للواجب قبل حصول

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١ ، ص ١٧٧ و ١٧٨ ، الحديث ٥٨.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٥ من أبواب التّيمّم ، الحديث ١ ، ص ٩٦٧.

٣٥٣

شرطه أو حلول وقته ، كي يجب تعلّمه وسائر مقدّماته ، وأمّا بعد حصول الشّرط وحلول الوقت ، فلأجل ترك التّعلّم قبل ذلك ، لا يكون قادرا على الامتثال ، فالتّكليف ساقط. وعليه ، فلا وجوب للتّعلم في الفرض أصلا ، لا قبل الشّرط والوقت ، ولا بعدهما.

ولعلّه لأجل هذا الإشكال التجأ جمع من الأساطين ، كالمحقّق الأردبيلي قدس‌سره وصاحب المدارك قدس‌سره والمحقّق الخراساني قدس‌سره (١) إلى الوجوب النّفسيّ في الفحص والتّعلم.

هذا ، ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال بوجهين :

الأوّل : أنّ وجوب التّعلّم إنّما هو لأجل المقدّميّة ، لكن لا على وجه النّشوء ، بأن يكون وجوب التّعلّم ناشئا من وجوب الواجب ـ في فرض اشتراطه بشرط أو توقيته بوقت ـ حتّى يقال : بعدم معقوليّة المقدّميّة النّشوئيّة هنا ، للزوم وجود وجوب المقدّمة وهو المعلول قبل وجوب ذي المقدّمة وهو العلّة.

والوجه في ما ذكرناه ، هو ما حقّق في محلّه ، من أنّه ليس المراد من المقدّميّة هو كون وجوبها ناشئا من وجوب ذي المقدّمة ، ولا إرادتها ناشئة من إرادته ، كما توهّم ذلك من عبائرهم المحكيّة ، نظير ما قالوا : من كون وجوب المقدّمة ترشّحيّا ، أو ظلّيّا أو نحوهما ، بل المراد منها هو امتناع إرادة الشّيء وإيجابه ، من دون إرادة مقدّماته وإيجابه ، وإلّا يلزم أن يكون كلّ من المقدّمة وذيها مباد ومقدّمات خاصّة ، بحيث إذا وجدت وجب كلّ منهما ، وإلّا فلا.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥٨ و ٢٥٩.

٣٥٤

ولا ريب : أنّ مقتضى هذا القول هو أنّه إذا تحقّقت مقدّمات وجوب مقدّمة الواجب ومباديها ، وجبت ، سواء وجب ذو المقدّمة ، أم لا ، وهذا بخلاف القول بالنّشء والمعلوليّة ، فإنّ مقتضاه عدم وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها ، كما هو واضح.

وانقدح ممّا ذكرناه ، أنّه يجب التّعلّم في الواجبات المشروطة أو الموقّتة قبل حصول الشّرط ، أو حلول الوقت ، فلو ترك الفحص والتّعلم وأدّى ذلك إلى ترك الواجب عند حصول شرطه أو حلول وقته بلا عذر ، استحقّ العقوبة بلا شبهة.

الوجه الثّاني : أنّه يستقلّ العقل والعقلاء في الحكم بكون تفويت الواجب المشروط أو الموقّت ـ الّذي يحصل شرطه أو يحلّ وقته ـ عند ترك التّعلّم قبل الشّرط والوقت ، بلا عذر ، موجبا لاستحقاق العقوبة واستيجاب المؤاخذة ؛ وذلك للقاعدة المعروفة من قولهم : «الامتناع بالاختيار ، لا ينافي الاختيار» وهذه القاعدة وإن كانت عقليّة فلسفيّة ، إلّا أنّ للتّمسّك بها في مسألتنا هنا مجالا واسعا بلا إشكال.

ومن هنا ظهر ، ضعف ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره من إنكار شمول القاعدة للمقام ، بدعوى : أنّ الامتناع بالاختيار هنا ، ينافي الاختيار ، لأنّ من ترك السّير إلى أن ضاق الوقت ، خرج إتيان الحجّ عن اختياره ولو كان الخروج باختياره. (١)

وجه ظهور الضّعف ، هو أنّ المراد من عدم المنافاة هنا ، أنّه لا ينافي الاختيار عقابا ، لا خطابا.

ولا يخفى عليك : أنّه لا فرق في هذا الحكم العقليّ والعقلائيّ ، بين الواجب المطلق والمشروط ، فلو ترك تعلّم الواجب فأدّى تركه إلى ترك الواجب ، عدّ عند

__________________

(١) راجع ، أنوار الهداية : ج ٢ ، ص ٤٢٧.

٣٥٥

العقل والعقلاء مقصّرا وإن كان الواجب الّذي ترك تعلّمه ، موقّتا أو مشروطا ، ولأجل ذلك ، أفتى الفقهاء بوجوب تعلّم مسائل الشّك والسّهو قبل الابتلاء وإن لم يكن وجوب نفس الواجب فعليّا.

ثمّ إنّه قد اجيب عن الإشكال المتقدّم بوجهين آخرين ، لا يمكن المساعدة عليهما :

أحدهما : أنّه لا مانع من الالتزام بفعليّة الوجوب واستقباليّة الواجب في المشروط والموقّت قبل حصول الشّرط وحلول الوقت ، كما هو الحال في الواجب المعلّق ، ففي مثل الحجّ يكون الوجوب فعليّا قبل أشهره ، والواجب (نفس الحجّ) استقباليّا. وعليه ، فتجب مقدّماته الّتي منها التّعلّم.

وفيه : أنّ هذا مبتن على القول برجوع القيود إلى المادّة ، لا إلى الهيئة ، وقد تقدّم في مباحث الأوامر ، أنّ الظّاهر هو رجوعها إلى الهيئة ومعه يصير الوجوب كالواجب استقباليّا.

ثانيهما : أنّ التّعلّم يكون واجبا نفسيّا تهيئيّا لواجب آخر ، ولا بدع فيه ، وعليه ، فيجب التّعلم قبل حصول الشّرط أو حلول الوقت ، ولو تركه فأدّى تركه إلى ترك الواجب في وقته ، كان مقصّرا مستحقّا للعقوبة. (١)

وفيه : أوّلا : أنّه خلاف ظاهر الأدلّة ؛ إذ ظاهرها ـ لو قيل : بوجوب التّعلم شرعا ـ هو الوجوب المقدّمي أو الطّريقي لأجل العمل ، لا النّفسي ، وما هو النّفسي ليس إلّا المعرفة والتّعلّم للمعارف الإلهيّة ؛ وثانيا : أنّ نفسيّة الوجوب تنافي تهيّئيّته ، فلا تجتمعان ؛ وثالثا : أنّه لو قيل : بوجوبه النّفسي ، لزم انه لو ترك الفحص فأدّى إلى

__________________

(١) راجع ، أنوار الهداية : ج ٢ ، ص ٤٢٨.

٣٥٦

ترك الواقع ، ان يعاقب التّارك إمّا على خصوص ترك الفحص والتّعلّم ، أو على تركه وترك الواقع بعقابين.

وأنت ترى ، أنّ العقاب على خصوص ترك الفحص ، بعيد غاية البعد ؛ وأبعد منه هو العقاب على تركه وترك الواقع ، فيتعيّن العقاب على ترك خصوص الواقع ، وقضيّة هذا هي طريقيّة وجوب التّعلّم ، لا نفسيّته ، فالمناسب أن يقال : إنّ وجوبه غيريّ تهيّئيّ. هذا تمام الكلام في المورد الثّاني.

المورد الثّالث : هل يجب تعلّم الأحكام بمجرّد احتمال الابتلاء بها ولو لم يعلم المكلّف أو لم يطمئنّ بابتلائه بها ، أو يجب على تقدير العلم أو الاطمئنان بالابتلاء بها فقط؟ وجهان :

ذهب المشهور إلى الأوّل وهو الحقّ ؛ إذ هذا هو مقتضى إطلاق أدلّة وجوب التّعلّم ؛ وتوهّم تقييده بموارد العلم أو الاطمئنان بالابتلاء ، مندفع بندرة هذه الموارد ، فيلزم تقييد الأكثر وهو مستهجن ، كما لا يخفى.

وعليه : فلا يبقى المجال للقول بوجوب التّعلّم على تقدير العلم والاطمئنان فقط ، تمسّكا باستصحاب عدم الابتلاء ، في مورد احتمال الابتلاء ، فإذا احرز عدمه ولو بالتّعبّد ، فلا يجب التّعلم.

ثمّ إنّه بقى هنا شيء وهو أنّ العمل الجاهل المقصّر قبل الفحص ، باطل بلا إشكال على تقدير عدم انكشاف الحال بالحجّة ، ونتيجة هذا البطلان ، عدم الإجزاء وعدم جواز الإجتزاء به في موقف الامتثال بحكم العقل ، حيث إنّ مطابقة العمل للواقع غير محرزة.

٣٥٧

وأمّا على تقدير انكشاف الحال بها ، ففيه صور أربعة :

الاولى : انكشاف مخالفة المأتيّ به لفتوى من كان فتواه حجّة له حين العمل ، ولفتوى من يجب الرّجوع إليه فعلا ، والحكم في هذه الصّورة هو البطلان واقعا ، لأجل عدم المطابقة للواقع الّذي قامت عليه الحجّة.

الثّانية : انكشاف مطابقة المأتيّ به للفتويين المذكورتين ، والحكم في هذه الصّورة هو الصّحة الواقعيّة لأجل المطابقة للواقع الّذي قامت عليه الحجّة.

الثّالثة : انكشاف مخالفة المأتيّ به للحجّة الفعليّة ومطابقته لما كان حجّة حين العمل ، والحكم في هذه الصّورة هو البطلان لعدم المقتضي للصحّة.

أمّا الأدلّة الخاصّة الدّالّة على الصّحة ، كحديث «لا تعاد الصّلاة إلّا من خمسة ...» بناء على عدم اختصاصه بالنّاسي ، فلأنّها لا تشمل الجاهل المقصر التّارك لوظيفة العبوديّة ، حيث إنّه عامد ، لا يستحقّ الإرفاق والمنّة.

وأمّا الأدلّة العامّة الدّالّة على الإجزاء والصّحة ، فلأنّها تختصّ بمورد الأوامر الظّاهريّة ، وعمدة تلك الأدلّة هو الإجماع على عدم وجوب الإعادة والقضاء بعد امتثال تلك الأوامر لو انكشف خلافها ، والجاهل المقصر التّارك للتّعلّم لا يكون عمله مستندا إلى الأوامر مطلقا حتّى الظّاهريّة منها ، كما لا يخفى ، فلا إجماع على الصّحة في حقّه.

الرّابعة : انكشاف مخالفة المأتيّ به للحجّة حين العمل ومطابقته للحجّة الفعليّة على عكس الصّورة الثّالثة ، والحكم في هذه الصّورة هو الصّحة والإجزاء وعدم وجوب الإعادة والقضاء ، لقيام الحجّة الفعليّة عليها ، فجاز للمكلّف الجاهل

٣٥٨

المقصّر أن يستند إليها في ترك الإعادة والقضاء.

ولا يخفى عليك : أنّ عقاب ترك الواجب في الوقت عصيانا مغاير لعقاب ترك قضاءه كذلك في خارج الوقت ؛ ولذا لا يرفع القضاء ، عقاب عصيان الأداء. وعليه ، فترك القضاء في الصّورة الرّابعة استنادا إلى الحجّة اللّاحقة الدّالّة على صحّة العمل وعدم وجوب القضاء والإعادة وإن لم يوجب العقوبة بلا شبهة ، لكنّه لا يوجب عدم العقوبة على ترك الأداء لو كان واجبا ؛ إذ لم يستند في تركه إلى الحجّة.

نعم ، قد استثنيت ممّا ذكر ، مسألة الجهر موضع الإخفات وبالعكس ، ومسألة الإتمام موضع القصر ، ومسألة الصّوم في السّفر ، حيث حكموا بالصّحّة في هذه الموارد مع الجهل بالحكم ولو عن تقصير ، ولكن التزموا باستحقاق العقاب على ترك الواقع النّاشي عن ترك التّعلّم والفحص.

والتّحقيق : أنّ حكمهم بالصّحّة في تلك المسائل ممّا لا إشكال فيه ولا شبهة عليه ، كما تدلّ عليه الرّواية والفتوى ، إنّما الإشكال في الجمع بين حكمهم بالصّحّة والتزامهم باستحقاق العقوبة على ترك الواجب الواقعيّ بترك التّعلّم عن حكم المسألة ، فيقال : كيف يعقل الحكم بصحّة العمل المأتيّ به وسقوط القضاء والإعادة ، مع الحكم باستحقاق ما اشير إليه من العقوبة.

وقد اجيب عن هذه العويصة بوجهين :

أحدهما : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره فقال ، ما محصّله : أنّه يمكن أن يشتمل المأتيّ به على ملاك ملزم ، وكذا يشتمل الواجب الواقعيّ المأمور به على ذلك الملاك ـ أيضا ـ مع زيادة غير قابلة للتّدارك بعد استيفاء مصلحة المأتيّ به جهلا ؛ وذلك

٣٥٩

لتضادّ المصلحتين ، فالحكم بالصّحّة إنّما هو لاشتمال المأتيّ به على المصلحة الملزمة واستيفائها مع عدم إمكان استيفاء الزّيادة الكامنة في المأمور به من المصلحة ، وأمّا الحكم باستحقاق العقاب ، فلأجل استناد فوات الزّيادة من المصلحة ، إلى جهله عن تقصير بتركه للتّعلّم البتّة ، فإذا لا منافاة بين الحكم بالصّحّة ، وبين الالتزام باستحقاق العقوبة. (١)

هذا ، ولكن أورد عليه بعض الأعاظم قدس‌سره بما لا يخلو عن قوّة ، محصّله : أنّ التّضادّ بين الملاكات مع إمكان الجمع بين الأفعال أمر موهوم ، كأنياب الأغوال ، على أنّ المصلحتين إن كانتا ارتباطيّتين ، فالحكم بالصّحّة مع عدم حصول المصلحة الزّائدة وعدم استيفائها غير وجيه ، وإن كانتا استقلاليّتين لزم تعدّد الواجب وتعدّد العقوبة على تقدير ترك الصّلاة ـ مثلا ـ وهذا خلاف الضّرورة ، ولا يلتزم به أحد. (٢)

ثانيهما : ما ذكره كاشف الغطاء قدس‌سره من الالتزام بالتّرتب كما في مسألة الصّلاة والإزالة ، بتقريب ، أنّ صلاة القصر ـ مثلا ـ واجب على المكلّف ابتداء ، فإذا تركه وارتكب المعصية يجب عليه التّمام ، وعندئذ ترتفع المنافاة بين الحكم بصحّة المأتيّ به واستحقاق العقاب على ترك الواجب الأوّل. (٣)

واستشكل عليه المحقّق النّائيني قدس‌سره بامور :

الأوّل : أنّه لا بدّ في الخطاب المترتّب من أن يكون موضوعه هو عصيان

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٦١.

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٥٠٧.

(٣) كشف الغطاء : ص ٢٧.

٣٦٠