مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

وبعبارة اخرى : الافتراء ليس مطلق إسناد الشّيء إلى الشّارع ولو مع عدم العلم بأنّه منه ، بل هو إسناد خصوص ما علم أنّه ليس منه ؛ إذ المراد من الإذن في الآية هو الإذن الواقعي ، فلا مناص من أن يراد بالافتراء بقرينة المقابلة هو ما ليس فيه إذن ، أو ما علم عدم الإذن فيه واقعا ، وهذا أجنبيّ عن مورد المشكوك حجّيّته وهو التّعبّد بالظّنّ ؛ بداهة ، أنّه ممّا يحتمل وجود الإذن فيه واقعا ، فليس في مورده افتراء.

نعم ، لو كان المراد من الإذن هو الإذن الواصل إلى المكلّف ، فالافتراء يصدق في مورد الشّكّ في الحجّيّة ، لصدق عدم وصول الإذن مع الشّكّ.

هذا ، ولكنّ الالتزام الجزميّ والاستناد القطعيّ مع الشّكّ أمر مستحيل عقلا ، فلا يكون حراما ؛ إذ الحركة ، كالوجوب منوطة بالاختيار والإرادة ، كما أشار إليه الإمام الرّاحل قدس‌سره. (١)

وهنا آيات آخر (٢) ، ربما يستدلّ بها على حرمة التّعبّد بالظّنّ ، ولكنّ الإنصاف ، أنّ تلك الآيات إرشادات إلى ما سيجيء من حكم العقل ، كما تفطّن به السّيّد البروجردي قدس‌سره حيث قال : «فليس مضمون الآيات إلّا نفس ما دلّ عليه العقل ، وليست الآيات دليلا مستقلّا في قباله» (٣).

وأمّا السّنة ، فقد اكتفى قدس‌سره (٤) ـ أيضا ـ بذكر حديث القضاء ، كقول

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ١ ، ص ١٥٨.

(٢) سورة النّجم (٥٣) ، الآية ٢٨ ؛ سورة الإسراء (١٧) ، الآية ٣٦.

(٣) نهاية الاصول : ص ٤٦٤.

(٤) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٢٦.

١٨١

أبي عبد الله عليه‌السلام : «القضاة أربعة : ثلاثة في النّار ، وواحد في الجنّة ...» (١).

وفيه : أوّلا : أنّ التّوبيخ ، لعلّه لأجل تصدّي هذا المنصب الّذي هو أمر خطير مع عدم الأهليّة ، لا لأجل القضاء بما لا يعلم ؛ وثانيا : أنّ مقام القضاء مقام إنشاء الحكم ، لا إسناده إلى الله تعالى ، فيقول القاضي : «حكمت وقضيت بكذا وكذا» ولا يقول : «الله يقول : كذا وكذا» فتأمّل.

وأمّا الإجماع ، فقد اكتفى قدس‌سره بنقل (٢) ما ادّعاه الفريد البهبهاني قدس‌سره في بعض رسائله ، من كون عدم الجواز بديهيّا عند العوام ، فضلا عن العلماء.

ولكن ضعفه واضح ؛ إذ هو مدركيّ مستند إلى ما ذكر من الأدلّة ، أو لا أقلّ من كونه محتمل المدركيّة ، فلا يعتمد عليه. هذا بالنّسبة إلى الأدلّة الثّلاثة (الكتاب والسّنّة والإجماع).

وأمّا العقل ، فيبقى سالما عن المناقشة. بتقريب : أنّ العقلاء حكموا بتقبيح من يتكلّف من قبل مولاه بما لا يعلم بوروده عن المولى ولو كان جاهلا مع التّقصير ، وهذا ممّا لا ينكر.

بقي هنا امور :

الأوّل : أنّ الغرض من تأسيس الأصل عند الشّكّ في الحجّيّة هو تأسيسه فيما لا دليل على اعتباره بالخصوص من الظّنون حتّى يكون مرجعا متّبعا في موارد الشّكّ.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦ ، ص ١١.

(٢) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٢٦.

١٨٢

وأمّا البحث عن التّشريع هنا بشئونه وجوانبه وبجهاته الأربعة الّتي تعرّض لها المحقّق النّائيني قدس‌سره (١) وأورد عليها الإمام الرّاحل قدس‌سره (٢) فكلّ ذلك خارج عن المقام ، فلا ينبغي الورود في هذا البحث ، نقلا ونقدا ، نقضا وإبراما.

الثّاني : أنّ الأنسب بعلم الاصول فيما ذكر من الأصل ، هو ما قرّره المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ على ما عرفت سابقا ـ من أنّ الأصل عدم الحجّيّة ؛ لكون الشّكّ في الحجّيّة مساوقا للقطع بعدمها (٣) ؛ وجه الأنسبيّة هو كون الحجّيّة من المسائل الاصوليّة ، كما لا يخفى.

وأمّا تقرير الأصل بما ذكره الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (٤) من أنّ التّعبّد بالظّنّ الّذي لم يدلّ دليل على وقوع التّعبّد به ، محرّم بالادلّة الأربعة ، فهو الأنسب بعلم الفقه ، وهو واضح.

الثّالث : أنّ الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (٥) قد تعرّض وجها آخر لتقرير الأصل وهو استصحاب عدم الحجّيّة عند الشّكّ فيها. بتقريب : أنّ الحجّيّة إنشاء أو إمضاء مسبوقة بالعدم ، فيجري استصحاب عدمها عند الشّكّ في حدوثها ؛ ولكن أورد قدس‌سره على هذا الاستصحاب بعدم ترتّب الأثر العمليّ على مقتضاه ، فإنّ حرمة العمل بالظّنّ يكفي في موضوعها ، عدم العلم بورود التّعبّد وعدم إحرازه ، فلا حاجة إلى إحراز عدم

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٢٠.

(٢) راجع ، أنوار الهداية : ج ١ ، ص ٢٢٥.

(٣) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٥٥.

(٤) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٢٥.

(٥) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٢٧.

١٨٣

ورود التّعبّد به ، ليحتاج إلى إجراء أصل الاستصحاب.

محصّل إيراده قدس‌سره هو أنّ التّمسّك بالاستصحاب المذكور يكون لغوا ، لا يترتّب عليه فائدة أصلا ؛ إذ المفروض ترتّب الأثر على نفس الشّكّ في الحجّيّة وعدم العلم بها ، فلا يصل الدّور إلى إحراز عدم الحجّيّة وتحصيل العلم بعدمها تعبّدا بإجراء الأصل التّعبّدي وهو الاستصحاب.

ولقد أجاب المحقّق الخراساني قدس‌سره عن هذا الإيراد بوجهين : (١)

الأوّل : أنّ الحاجة إلى الأثر في الأصل الجاري للعمل ، إنّما هي في الاصول الجارية في الشّبهات الموضوعيّة ؛ وأمّا الاصول الجارية في الشّبهات الحكميّة ، فيكفي في صحّة جريانها ثبوت نفس الحكم والمؤدّى من بقاء الحكم ، أو عدمه في الاستصحابات الوجوديّة أو العدميّة ، فوجوب شيء ، أو عدم وجوبه بنفسه ، يكون من الآثار الّتي يصحّ جريان الأصل بلحاظها ، بلا حاجة إلى أثر آخر وراءها.

ومن المعلوم : أنّ الحجّيّة وعدمها ، يكون من الأحكام ، فاستصحاب عدم الحجّيّة ، كاستصحاب عدم الوجوب أو الحرمة ، ممّا لا يحتاج إلى أثر آخر وراء نفس عدم الحجّيّة.

الثّاني : لو سلّمنا ، أنّ الحجّيّة من الموضوعات الخارجيّة ، فيتوقّف جريان الأصل فيها على ترتّب أثر عمليّ ، لكن ذلك ، لا يمنع عن استصحاب عدمها ، فإنّ حرمة التّعبّد ، كما تكون أثرا للشّكّ في الحجّيّة ، كذلك تكون أثرا لنفس عدم الحجّيّة واقعا.

وعليه : فالشّكّ في الحجّيّة مورد لكلّ من الاستصحاب والقاعدة المضروبة

__________________

(١) راجع ، حاشية الرّسائل : ص ٥.

١٨٤

لحال الشّكّ ويقدّم الاستصحاب على القاعدة بالحكومة ، نظير حكومة استصحاب الطّهارة على قاعدة الطّهارة ، أو حكومة استصحاب الحليّة على قاعدة الحلّ.

وبالجملة : أنّ الضّابط هنا هو كون الأثر على أحد أنحاء ثلاثة :

أحدها : أن يترتّب الأثر على الواقع فقط ، فلا مجال إلّا للاستصحاب.

ثانيها : أن يترتّب على الشّكّ فقط ، فلا مجال إلّا للقاعدة المضروبة للشّكّ.

ثالثها : أن يترتّب على كلّ من الواقع والشّكّ ، فلكلّ من الاستصحاب والقاعدة مجال ، إلّا أنّ الاستصحاب يقدّم على القاعدة بالحكومة.

هذا ، ولكن ردّ هذين الوجهين المحقّق النّائيني قدس‌سره (١) ذابا عن مقالة الشّيخ الأنصاري قدس‌سره فقال في ردّ الوجه الأوّل ، ما حاصله : إنّ الحجّيّة وإن كانت من الأحكام الوضعيّة المجعولة ، إلّا أنّها بوجودها الواقعيّ لا يترتّب عليها أثر عمليّ أصلا ، والأثر المترتّب عليها نوعان : أحدهما : ما يترتّب عليها بوجودها العلميّ من المنجّزيّة عند الإصابة ، والمعذريّة عند المخالفة ؛ ثانيهما : ما يترتّب على نفس الشّكّ في الحجّيّة ، كحرمة التّعبّد بها ، وعدم جواز إسناد المؤدّى إلى الشّارع ، فعدم الحجّيّة الواقعيّة بنفسه لا يقتضي الجري العمليّ حتّى يستصحب ؛ إذ لا أثر لإثبات هذا العدم إلّا حرمة التّعبّد وهو حاصل بنفس الشّكّ في الحجّيّة وجدانا ، لأنّ الشّكّ تمام الموضوع لحرمة التّشريع وعدم جواز التّعبد ، ومعه لا مجال للاستصحاب في إثبات هذا الأثر ، لكونه من تحصيل الحاصل.

وقال في ردّ الوجه الثّاني ، ما حاصله : إنّه لا يعقل أن يكون الشّكّ في الواقع

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٢٩ إلى ١٣٢.

١٨٥

موضوعا للأثر في عرض الواقع ، مع أنّه على هذا الفرض لا يجري الاستصحاب ـ أيضا ـ لترتّب الأثر بمجرّد الشّكّ ، فلا يبقى مجال للاستصحاب ؛ بداهة ، أنّه لا يصل الدّور إلى إثبات بقاء الواقع كي يجري فيه الاستصحاب ؛ إذ المفروض تحقّق موضوع الأثر في الرّتبة السّابقة على هذا الإثبات وترتّب الأثر عليه ، فأيّ فائدة في جريان الاستصحاب.

وما قرع سمعك من حكومة الاستصحاب على القاعدة المضروبة لحال الشّكّ ، فإنّما هو فيما كان ما يثبته الاستصحاب غير ما تثبته القاعدة ، نظير قاعدتي الطّهارة والحلّ واستصحابهما ، فإنّ القاعدة لا تثبت الطّهارة والحلّيّة الواقعيّة ، بل مفادها ليس إلّا ترتيب آثارهما من جواز الاستعمال وحليّة الأكل ونحو ذلك ، بخلاف الاستصحاب ، فإنّ مفاده بقاء الطّهارة والحليّة الواقعيّة ، وقد يترتّب على بقاءهما غير جواز الاستعمال وحلّيّة الأكل من آثار أخر ، نظير جواز الصّلاة في أجزاء الحيوان المشكوك حلّيّته إذا جرى فيه استصحاب الحليّة ، وعدم جواز الصّلاة فيها إذا لم يجر فيه استصحابها وإن جرت أصالة الحلّ ، فالإنصاف ، أنّه لا مجال لتوهم جريان استصحاب عدم الحجّيّة عند الشّكّ فيها.

هذا ، ولكنّ الحقّ مع المحقّق الخراساني قدس‌سره فيما ذكره في الوجه الأوّل : من أنّ استصحاب عدم الحجّيّة ، كاستصحاب عدم الوجوب. وما قال المحقّق النّائيني قدس‌سره في ردّه غير وجيه ظاهرا ؛ وذلك ، لأنّ اللّازم في الاستصحاب هو كون المستصحب ممّا يترتّب على وجوده العمل في ظرف العلم به ، أو يترتّب على عدمه نفي العمل في ظرف العلم بالعدم ، وهذا إمّا بلا واسطة أو مع الواسطة ، والحجّيّة المجعولة ، نظير الوجوب

١٨٦

المجعول ، إلّا أنّها يكون أمرا وضعيّا.

وعليه : يترتّب على استصحابها العمل ، فيحكم العقل بوجوب الموافقة ولزوم الحركة على وفق الحجّة في مقام العمل ، كما يترتّب على استصحاب عدمها ، عدم وجوب الموافقة ، نظير استصحاب الوجوب وحكم العقل بلزوم العمل ووجوب الإطاعة ، ونظير استصحاب عدم الوجوب وحكم العقل بعدم لزوم العمل ووجوب الإطاعة.

كما أنّ الحقّ مع المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ أيضا ـ فيما ذكره في الوجه الثّاني من حكومة الاستصحاب على القاعدة ، ولا مجال لما أورده المحقّق النّائيني قدس‌سره عليه قدس‌سره إذ مع الشّكّ في الحجّيّة وإن كان تجري القاعدة فيها ـ أيضا ـ كالاستصحاب ، لكنّه يقدّم عليها بالحكومة ، لإزالة الشّكّ ورفعه تعبّدا وبالعناية ، فلا يبقى الشّكّ مع جريان الاستصحاب حتّى يصل الدّور إلى القاعدة.

وبعبارة اخرى : يعمل في الاستصحاب على وفق اليقين السّابق ، فلا ينقض بالشّكّ اللّاحق ، ومعه لا يصل الدّور إلى القاعدة الّتي لا حالة سابقة متيقّنة في موردها.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل ، وقد عرفت : أنّ مقتضاه عدم حجّيّة ما شكّ في حجّيّته من الظّنون والأمارات غير العلميّة ، وأنّه لا يجوز التّعبّد به عقلا وشرعا ، فلا بدّ في الخروج عن هذا الأصل من دليل قطعيّ محرز للحجّيّة.

ولا يخفى عليك : أنّ إثبات الحجّيّة وإحرازها للطّرق والأمارات غير العلميّة ، يكون من الامور المهمّة ومن المسائل الأصليّة الّتي لها فائدة كثيرة ، بل عليه يدور الفقه ؛ إذ جلّ الأحكام من الوضعيّة والتّكليفيّة تكون مستنبطة من الكتاب والسّنّة

١٨٧

اللّذان ظهوراتهما طرق وأمارات ظنيّة ، أو تكون مستنبطة من مطلق ما يفيد الظّنّ ولو لم يكن كتابا وسنّة ، كما ذهب إليه الميرزا القميّ قدس‌سره (١) ومن تبعه ، فقالوا : بحجّيّة الظّنّ مطلقا ، بناء على الانسداد.

وعليه : فلنشرع في بيان الأمارات الّتي قيل : بخروجها عن أصالة حرمة التّعبّد بالظّنّ وهي على أنحاء :

__________________

(١) راجع ، قوانين الاصول : ج ١ ، ص ٤٤٠ ؛ وج ٢ ، ص ١٤٤.

١٨٨

الأمارات الخارجة عن أصالة

حرمة التّعبّد بالظّنّ

* ظواهر الكتاب والسّنّة

* قول اللّغوي

* الإجماع المنقول

* الشّهرة الفتوائيّة

* الخبر الواحد

١٨٩
١٩٠

(ظواهر الكتاب والسّنّة)

النّحو الأوّل : ظواهر الكتاب والسّنّة ، بل مطلق الظّواهر.

ولا ريب : في أنّ تلك الظّواهر حجّة عند العقلاء ، وهم متسالمون على حجّيّتها في المحاورات ، وبانون على العمل بها في امورهم قاطبة ، وهذا التّسالم والبناء كان منهم في الأزمنة السّابقة واستمرّ إلى أزمنتها اللّاحقة ، ولا اختراع للشّارع في محاوراته طريقة خاصّة ، بل سلك على هذا المسلك وأمضاه.

وعليه : فأصل حجّيّة الظّواهر يكون متسالما عليه ، لا خلاف فيه ظاهرا ، كما أشار إليه الأعلام ؛ ولذا كانت هذه المسألة من المسائل المسلّمة في علم الاصول بلا حاجة إلى البحث عنها والمداقّة في أطرافها.

ولقد أجاد الشّيخ الأنصاري قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال ، ما حاصله : إنّ الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشّرعيّة من الكتاب والسّنّة على قسمين : أحدهما : ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادته خلاف ذلك ، كأصالة الحقيقة والعموم والإطلاق ، ومرجع الكلّ إلى أصالة عدم القرينة الصّارفة عن المعنى الّذي يقطع بإرادة المتكلّم الحكيم له إذا حصل القطع بعدم القرينة.

ثانيهما : ما يعمل لتشخيص أوضاع اللّفظ وتشخيص مجازاتها من حقائقها وظواهرها عن خلافها ، نظير تشخيص أنّ لفظ : «الصّعيد» موضوعة لمطلق وجه الأرض أو التّراب الخالص. ولا ريب : أنّ المطلوب في هذا القسم ، هو أنّ اللّفظ هل يكون ظاهرا في هذا المعنى ، أو غير ظاهر؟ كما أنّ المطلوب في القسم الأوّل ، هو

١٩١

أنّ الظّاهر المفروغ عن كونه ظاهرا ، هل يكون مرادا أم لا؟

ومن المعلوم : أنّ القسم الأوّل معتبر في الجملة بلا خلاف وإشكال ؛ إذ المفروض اعتبار تلك الامور عند أهل اللّسان في محاوراتهم المقصود بها التّفهيم ، وليس طريق محاورات الشّارع في تفهيم مقاصده مغايرا لطريقهم (١). ولقد أفاد تلك المقالة ـ أيضا ـ المحقّق الخراساني قدس‌سره ونعم ما أفاده. (٢)

ولا يخفى : أنّ مقتضى كلمات الأصحاب هو أنّ الظّهورات مطلقا ، سواء كانت من الكتاب والسّنّة ، أو غيرهما ، تكون من الأمارات الظّنيّة ، إلّا أنّها خارجة بالدّليل عن أصالة حرمة التّعبد بالظّنّ خروجا تخصيصيّا.

ولكنّ الحقّ عندي خلافه وإن كنت في الأزمنة السّالفة من المعتقدين الظّانين بكون الظّهورات من الظّنون وأنّ حجّيّتها من باب إفادتها للظّنّ نوعا ، إلّا أنّه بعد التّأمّل والنّظر ، عدلت عن ذلك المبنى واعتقدت بأنّ الظّهورات ليست من الظّنون ، بل تكون من العلوم العرفيّة العقلائيّة ، لا الدّقيّة الفلسفيّة ، فيعامل العرف مع الظّهورات معاملة العلم ، فيحلف فلان باسم الجلالة ويقول : إنّ فلانا مراده من كلامه هذا ، كذا قطعا ، وأنّ كلامه هذا دالّ على مرامه ، كذا ، حتما ، بحيث يحتجّ بكلامه عليه احتجاجا على وجه الجزم ، وكذلك يحتجّ بظاهر كلامه على من ينكره ويكابره.

وعليه : فخروج الظّهور عن حيطة أصالة حرمة التّعبّد بالظّنّ يكون من باب التّخصّص ، لا التّخصيص ، ومعه لا مجال للقول بكون الظّنّ الشّخصي بالوفاق أو عدم

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٣٥ إلى ١٣٧. الطّبعة الجديدة.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٥٨ إلى ٦٤.

١٩٢

الظّنّ الشّخصي بالخلاف ، شرطا للحجّيّة ، كما لا مجال للقول بكون الظّنّ الشّخصي بالخلاف ، مانعا عنها ؛ إذ المفروض ، أنّ الدّلالات والظّهورات تكون علوما عرفيّة عقلائيّة وإن لم تكن كذلك بالدّقة وبحسب الميزان والفلسفة.

وإن شئت تحقيق المقام ، فنقول : إنّ كلام المتكلّم له صور ثلاثة :

الاولى : أن لا يقصد بكلامه الحكاية والتّفهيم ، بل يقصد به التّلفظ والتّمرين أو اختبار كيفيّة صوته ، بحيث لا دلالة للكلام إلّا التّصوّريّة ، نظير ما إذا سمعت كلمة أو كلاما من اصطكاك الأجسام والحركة على سبيل الاتّفاق والصّدفة ، وهذه الصّورة خارجة عن محلّ البحث بالمرّة ، كما هو واضح.

الثّانية : أن يقصد به التّفهيم والإفادة ، لكن لا بإرادة جدّيّة ، بل الغرض والدّاعي هو الهزل والسّخريّة أو الاختبار وغيره. وبعبارة اخرى : لا يريد المتكلّم في هذه الصّورة إلّا إرادة تفهيميّة ، استعماليّة ، ظاهريّة أو صوريّة ، لا جدّيّة واقعيّة.

ولنا في هذه الصّورة علم عادي وقطع عرفيّ بمراد المتكلّم في مقام الاستعمال ، وأنّه أراد من اللّفظ معناه ولو بداع مثل الهزل ؛ بداهة ، أنّه كان بصدد تفهيم المعنى وإحضاره في ذهن السّامع ولم ينسب قرينة على خلافه. وعليه : فالظّهور في هذه الصّورة وإن كان ظنّا بالدّقة ، لكنّه علم بحسب العرف والعادة.

الثّالثة : أن يقصد به التّفهيم والإفادة بإرادة جدّيّة واقعيّة ، لا بإرادة استعماليّة ظاهريّة ، ولنا في هذه الصّورة ـ أيضا ـ علم عادي وقطع عرفيّ بمراد المتكلّم جدّا ، وأنّ بين الإرادتين (الاستعمالي والجدّي) تطابقا ، إلّا أن يكون هناك قرينة على كون الدّاعي هو الهزل ، لا الجدّ ، والمفروض غير ذلك.

١٩٣

وعليه : فالظّهور في هذه الصّورة ليس ظنّا ، بل يكون علما ، كالصّورة الثّانية ، فيكون خارجا عن أصالة حرمة التّعبّد بالظّنّ تخصّصا ، ولا يصل الدّور إلى شرطيّة الظّنّ بالوفاق أو عدم الظّنّ بالخلاف فعلا ، أو إلى مانعيّة وجود الظّنّ بالخلاف فعلا ؛ إذ عرفت : أنّ الظّهور لا يكون من الظّنون ، بل هو من العلوم ، فلا مجال ـ أيضا ـ للتّفصيل بين ظاهر وظاهر ، ولا بين مستمع ومستمع ، وكيف كان ، فأصل حجّيّة الظّاهر مطلقا ، أمر مسلّم لا ينبغي الشّكّ فيها.

هذا ، ولكن ذهب المحقّق القميّ قدس‌سره وكذا الأخباري إلى خلاف ذلك ، والحريّ أن نذكر هنا مقالتهما كي يتّضح ضعفهما.

أمّا مقالة المحقّق القمي قدس‌سره (١) فهي راجعة إلى التّفصيل بين من قصد إفهامه بالخطاب ، فالظّواهر حجّة بالنّسبة إليه من باب الظّنّ الخاصّ ، وبين من لم يقصد إفهامه ، فلا تكون حجّة بالنّسبة إليه ، كأمثالنا بالإضافة إلى أخبار الأئمّة عليهم‌السلام الصّادرة عنهم عليهم‌السلام في مقام الجواب عن سؤال السّائلين ، وبالإضافة إلى الكتاب العزيز ، بناء على عدم كون خطاباته موجّهة إلينا ، وعدم كونه من باب تأليف المصنّفين ، فالظّهور اللّفظي ليس حجّة حينئذ ، إلّا من باب الظّنّ المطلق الثّابت حجّيّته عند انسداد باب العلم.

وقد استدلّ على هذه المقالة بأنّ الخطابات على قسمين : أحدهما : ما لا يختصّ إفهام المراد منه بشخص أو رهط ، كما في المؤلّفات والتّصانيف والسّجلّات الرّاجعة إلى الوصايا والأقارير والأوقاف ونحوها ، فالمقصود في أمثالها هو إفهام نفس مفاد

__________________

(١) راجع ، قوانين الاصول : ج ١ ، ص ٢٢٩ و ٣٩٨ و ٤٠٣ ؛ وج ٢ ، ص ١٠٣.

١٩٤

الكلام ، بمعنى : أنّ الغرض ليس إلّا تفهيم ما هو المراد منه بلا تخصيص بشخص خاصّ أو بطائفة خاصّة.

ثانيهما : ما يكون الغرض من إلقاء الخطاب ، إفهام شخص خاصّ ، أو طائفة خاصّة ، نظير ما إذا كان الكلام جوابا عن سؤال منهما ، فللسّائل حينئذ الأخذ بظاهره وهو حجّة بالنّسبة إليه ؛ إذ احتمال إرادة خلافه ، إمّا يكون ناشئا من احتمال غفلة المتكلّم عن إقامة القرينة أو غفلة المخاطب وعدم استماع القرينة. وكلّ ذلك مندفع بالأصل العقلائي ، وهي أصالة عدم الغفلة ، وهذا إنّما يتمّ بالنّسبة إلى من قصد إفهامه ؛ وأمّا من لم يقصد إفهامه ، فلا يكون سبيل له إلى الأصل المذكور ، لمكان احتمال آخر سوى الغفلة وهو احتمال وجود قرينة مقاليّة أو حاليّة سابقة أو لاحقة معهودة بين المخاطب والمخاطب ، فلا يمكن الوثوق بأنّ الظّاهر هو المراد ، بل لا يحصل الظّن به فضلا عن الوثوق سيّما إذا كان دأب المتكلّم الاعتماد على القرائن المنفصلة ، وغالب الرّوايات أجوبة عن أسئلة لأشخاص ، ودأب الشّارع ـ أيضا ـ الاعتماد على القرائن المنفصلة ، كما يظهر للمتتبّع في الرّوايات ، فحجيّة الأخبار ليست من صغريات حجيّة الظّهور والظّنّ الخاصّ ، بل تكون من صغريات حجيّة الظّنّ المطلق بمعونة مقدّمات الانسداد.

وفيه : منع صغرى وكبرى ؛ أمّا المنع الصّغروي ، فلأنّ الشّارع إنّما يكون في مقام التّشريع والتّقنين. وواضح ، أنّ مقتضاه كون النّاس والمكلّفين جميعا مقصودين بالإفهام ، بلا فرق فيه بين الخطابات الواردة في الكتاب ، وبينها الواردة في السّنّة ، كما لا فرق ـ أيضا ـ في الخطابات الرّوائيّة ، بين كونها مسبوقة بالأسئلة ، وبين عدم كونها كذلك.

١٩٥

إن شئت ، فقل : إنّ الخطابات الشّرعيّة لا تختصّ بالمخاطبين بها ، بل المقصود بالإفهام بها ، هم المكلّفون كافّة ، كما هو الشّأن في المؤلّفات والمصنّفات ونحوهما.

نعم ، نقلة الرّوايات في مبدإ السّلسلة كانوا هم المخاطبين بالكلام غالبا ، ولكن اختصاصهم بالمخاطبة لا يلازم اختصاصهم بالمفاهمة.

على أنّ كثيرا من الأخبار غير مسبوق بالسّؤال أو موصول إلينا ومنقول لنا من ناحية غير المخاطب السّائل ، كقول الرّاوي : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فسأله رجل كذا عن أمر كذا ، فقال عليه‌السلام له : كذا.

وبالجملة : فالكلّ مقصودون بالإفهام ، فلا يلزم انسداد باب العلميّ. هذا كلّه في المنع الصّغروي.

أمّا المنع الكبروي ، فلأنّ الاعتماد على القرائن المنفصلة ، لا يوجب إلّا الفحص قبل التّمسّك بالخطابات حتّى بالنّسبة إلى من قصد بالإفهام دون السّقوط عن الاعتبار رأسا وعن الحجّيّة بالمرّة بالنّسبة إلى من لم يقصد إفهامه ، كما هو واضح.

كيف ، وأنّ المفروض كون الرّاوي عارفا بأساليب الكلام وشئون المكالمة وخصوصيّات المحاورة ، كما أنّ المفروض كونه أمينا وثقة ، لا يخلّ بالقرائن المقاليّة المتّصلة ولا يترك ذكرها ـ كما لا يخلّ بالقرائن الحاليّة المؤثّرة ـ بل يذكر وينبّه على تلك القرائن البتّة.

وعليه : فلا تختصّ حجّيّة الظّهور بمن قصد إفهامه ، بل يكون حجّة لكلّ شخص وطائفة.

وتوهّم أنّ ورود التّقطيع في الأخبار من ناحية نقلة الآثار ، مانع عن انعقاد

١٩٦

الظّهور أو عن حجّيّته ؛ لاحتمال وجود قرينة على خلاف ما نستظهر من الرّواية قد خفيت علينا لذلك التّقطيع ، مندفع بما أفاده بعض الأعاظم قدس‌سره (١) محصّله : أنّ ذلك إنّما يتمّ لو كان المقطّع غير عارف بشئون الكلام أو غير ورع في الدّين ، وهذا كلّه ممّا لا يجوز التّفوّه به بالنّسبة إلى دعائم الإسلام وأركان الفضيلة من أمثال الكليني قدس‌سره والشّيخ الطّائفة قدس‌سره.

فتحصّل : أنّ المكلّفين بأجمعهم مقصودون بالإفهام بالإضافة إلى الكتاب والسّنّة ، فظواهرهما تكون حجّة لهم بلا فرق بين كونهم مخاطبا في الخطابات أو غير مخاطب فيها ، ولو سلّم أنّ المقصودين بالإفهام هم المخاطبون خاصّة ، فنقول : لا دليل على اختصاص حجّيّة الظّواهر بمن قصد إفهامه ؛ لكون بناء العقلاء على التّفهيم.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «إنّ من المرسوم الدّائر في بعض الأحيان مراقبة الرّسائل الدّائرة بين الأصدقاء والإخوان من جانب الحكومة ، ولا شكّ أنّ الرّسائل الدّائرة لم يقصد كاتبها إلّا إفهام من أرسله إليه ، إلّا أنّ الحكومة والرّقابة العسكريّة إذا وجدوا فيها ما يستشمّ منه الخيانة أو التّجمع للفتنة صاروا إلى إحضار الكاتب وزجره وحبسه» (٢).

هذا تمام الكلام في مقالة المحقّق القميّ قدس‌سره.

وأمّا مقالة الأخباري ، فهي راجعة إلى التّفصيل بين ظواهر الكتاب ، فلا تكون حجّة ، ولا يجوز العمل بها ، وبين ظواهر غيره ، فتكون حجّة ويجوز العمل بها.

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ١٢١ و ١٢٢.

(٢) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٦٤ و ١٦٥.

١٩٧

وقد استدلّ عليه بوجوه ، يرجع بعضها إلى منع صغروي ، وبعضها الآخر إلى منع كبروي.

الأوّل : دعوى اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذرّيته عليهم‌السلام نظرا إلى أنّ ألفاظ القرآن الكريم رموز ، كفواتح السّور ، وكنايات عن مطالب ومقاصد لا يعرفها إلّا النّبي وآله عليهم‌السلام.

وتشهد على ذلك روايتان : إحداهما : مرسلة شبيب بن أنس عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال لأبي حنيفة : «أنت فقيه العراق؟ قال : نعم ، قال : فبم تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : يا أبا حنيفة! تعرف كتاب الله حقّ معرفته ، وتعرف النّاسخ والمنسوخ؟ قال : نعم ، قال : يا أبا حنيفة! لقد ادّعيت علما ، ويلك ما جعل الله ذلك إلّا عند أهل الكتاب الّذين انزل عليهم ، ويلك ولا هو إلّا عند الخاصّ من ذرّية نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ورثك الله من كتابه حرفا ... يا أبا حنيفة! إذا ورد عليك شيء ليس في كتاب الله ولم تأت به الآثار والسّنّة ، كيف تصنع؟ فقال : أصلحك الله ، أقيس وأعمل فيه برأيي ، فقال : يا أبا حنيفة! إنّ أوّل من قاس إبليس الملعون ، قاس على ربّنا تبارك وتعالى ، فقال : أنا خير منه ، خلقتني من نار وخلقته من طين ، قال : فسكت أبو حنيفة ، فقال : يا أبا حنيفة! أيّما أرجس ، البول أو الجنابة؟ فقال : البول ، فقال : فما بال النّاس يغتسلون من الجنابة ولا يغتسلون من البول؟ فسكت ، فقال : يا أبا حنيفة! أيّما أفضل؟ الصّلاة أم الصّوم؟ قال : الصّلاة ، قال : فما بال الحائض تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ، فسكت» (١).

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٦ من أبواب الصّفات القاضي ، الحديث ٢٧ ، ص ٣٠.

١٩٨

ثانيتهما : رواية زيد الشّحام ، قال : «دخل قتادة على أبي جعفر عليه‌السلام فقال له :

أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : بلغني أنّك تفسّر القرآن ، فقال له قتادة : نعم ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : فإن كنت تفسّره بعلم فأنت أنت ... قال عليه‌السلام ويحك يا قتادة : إن كنت إنّما فسرّت القرآن من تلقاء نفسك ، فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة! إنّما يعرف القرآن من خوطب به» (١).

هذا الوجه ، كما ترى ، يرجع إلى منع الصّغرى ، وإنكار أصل ظهور الكتاب.

وفيه : أوّلا : أنّ اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به ، مخالف لما نجده فيه من الظّهور والوضوح ، ومناف لكونه معجزة خالدة ، ولكونه نورا وبيانا.

كيف ، وأنّ النّاس يفهمون ظاهره ويعترفون بإعجازه وعدم القدرة على الإتيان بمثله ، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين الّذين قالوا : بأنّه سحر عظيم.

وثانيا : أنّ المعصومين عليهم‌السلام أمرونا بالرّجوع إليه عند تعارض الخبرين ، بل مطلقا ، فلو كان رمزا فاقدا للظّهور ، لم يكن للإرجاع إليه وجه أصلا.

ومن هنا ظهر ، أنّ دعوى كون ألفاظ القرآن من قبيل الألغاز والأحاجي ومن قبيل فواتح السّور من دون ظهور له وفهم شيء منه ، في غاية الوهن والسّقوط.

نعم ، حيث إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآله عليهم‌السلام يفهمون من القرآن مطلقا ـ من المتشابهات والمحكمات والظّواهر والبواطن ـ ما لا يفهمون منه غيرهم ، فلا بدّ في العمل بظواهره من الرّجوع إلى الرّوايات والفحص عن المنافيات والمعارضات ، وهذا أمر آخر غير قابل للإنكار.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٣ من أبواب الصّفات القاضي ، الحديث ٥ ، ص ١٣٦.

١٩٩

ولعلّ ردع أبي حنيفة وتوبيخه ، وكذا قتادة في الرّوايتين المتقدّمتين ، إنّما هو لأجل استقلالهما في الفتوى واستدلالهما بلا الرّجوع إلى النّصوص ، وبلا التّفحّص عن المعارض.

كيف ، وقد أشرنا آنفا إلى أنّهم عليهم‌السلام كانوا قد يرجعون إلى الكتاب المبين في موقف التّعارض بين الخبرين ، بل مطلقا ، كما أنّهم عليهم‌السلام كانوا قد يشيرون إلى الاستدلال به وينبّهون عليه ، وقد ورد ذلك في روايات :

منها : رواية عبد الأعلى مولى آل سام ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة ، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عزوجل ، قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ،) امسح عليه» (١).

ومنها : رواية زرارة ، قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إنّ المسح ببعض الرّأس ، وبعض الرّجلين؟ فضحك عليه‌السلام فقال عليه‌السلام يا زرارة! قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل به الكتاب من الله عزوجل ... فقال تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) فعرفنا حين قال تعالى : (بِرُؤُسِكُمْ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان «الباء» ، ثمّ وصل الرّجلين بالرّأس ... فقال تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فعرفنا حين وصلهما بالرّأس أنّ المسح على بعضهما» (٢).

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٣٩ من أبواب الوضوء ، الحديث ٥ ، ص ٣٢٧.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث ١ ، ص ٢٩٠ و ٢٩١.

٢٠٠