مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

الخطاب العامّ الشّامل للنّاسي ـ أيضا ـ في ذلك كالذّاكر ، وهما منبعثان بالأمر المتعلّق بالصّلاة وهو أمر واحد لا تعدّد فيه ، إلّا أنّ مصاديق طبيعة الصّلاة مختلفة حال الذّكر والنّسيان ، والاختيار والاضطرار ، والحضر والسّفر وغيرها من أنحاء المصاديق ، فحديث الرّفع بالحكومة يجعل النّاقص من مصاديق الطّبيعة ، كالكامل ، وهذا نظير تنزيل التّراب منزلة الماء ، وتنزيل الطّهارة التّرابيّة منزلة الطّهارة المائيّة وغير ذلك.

ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره قد التزم في ذيل كلامه المتقدّم أمران آخران ، لا يمكن المساعدة عليهما ، أحدهما : أنّه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة للجزء أو الشّرط بمثل حديث الرّفع ، لعدم تعلّقه بالامور العدميّة ، بل لا بدّ من التماس دليل آخر وهو في الصّلاة ، قوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصّلاة إلّا عن خمس» مضافا إلى أنّه لو كان المدرك في صحّة الصّلاة هو حديث الرّفع ، كان اللّازم صحّة الصّلاة بمجرّد نسيان الجزء أو الشّرط مطلقا من غير فرق بين الأركان وغيرها ، لعدم استفادة التّفصيل من الحديث ، ويؤيّد ذلك ، أنّه لم يعهد من الفقهاء التّمسّك بحديث الرّفع لصحّة الصّلاة وغيرها من سائر المركّبات.

وفيه : أوّلا : أنّ حديث الرّفع يتعلّق بالأمر العدمي على ما مرّ بيانه ؛ وثانيا : أنّ إطلاق الحديث أو عمومه بالنّسبة إلى الأركان وغيرها ، ممنوع ، وذلك لورود التّقييد أو التّخصيص بدليل آخر دالّ على التّفصيل بين الرّكن وغيره ، فلا يلزم من تصحيح الصّلاة بالحديث هو تصحيحها حتّى بالنّسبة إلى ترك الأركان.

وثالثا : أنّ عدم معهوديّة التّمسّك بالحديث لصحّة الصّلاة من الفقهاء ،

٣٠١

غير ثابت بل الثّابت أنّ جماعة منهم قد تمسّكوا لتصحيح الصّلاة بحديث الرّفع ، كالسّيّد المرتضى قدس‌سره (١) وابن زهرة (٢) والمحقّق (٣) والعلّامة (٤) والأردبيلي قدس‌سرهم (٥).

هذا ، مضافا إلى أنّ عدم تمسّك الفقهاء بالحديث ، إنّما كان لعدم الحاجة إليه في تصحيح الصّلاة لوجود أدلّة خاصّة تدلّ على صحّتها في غالب الموارد ، كما لم يتمسّكوا بحديث «لا تعاد» أيضا ، لذلك.

ثانيهما : أنّه لا فرق في عدم جريان حديث الرّفع بين أن يكون النّسيان للجزء أو الشّرط مستوعبا لتمام الوقت المضروب للمركّب أو يكون غير مستوعب له ، بل الأمر في غير المستوعب أوضح ، لعدم صدق نسيان المأمور به عند نسيان الجزء في

__________________

(١) المسائل النّاصريّات في ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، ص ٢٤٢ ، حيث قال : «دليلنا على أنّ كلام النّاسي لا يبطل الصّلاة بعد الإجماع المتقدّم ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع عن امّتي النّسيان وما استكرهوا عليه ولم يرد رفع الفعل ، لأنّ ذلك لا يرفع ، وإنّما أراد رفع الحكم ، وذلك عامّ في جميع الأحكام».

(٢) غنية النّزوع في ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة : ج ٤ ، كتاب الصّلاة ، ص ٥٧١ ، حيث قال : «ويعارض من قال : من المخالفين بأنّ كلام السّاهي يبطل الصّلاة بما روي من طرقهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع عن امّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه ، لأنّ المراد رفع الحكم ، لا رفع الفعل ؛ وذلك عام في جميع الأحكام إلّا ما خصّ الدّليل».

(٣) المعتبر : ص ١٢٢ ، (الطّبعة القديمة) ، حيث قال : «الثّاني علم النّجاسة ، ثمّ نسيها وصلّى ، ثمّ ذكر ، فروايتان ... ورواية اخرى ، لا يعيد ... قال الشّيخ قدس‌سره هذا خبر شاذ ... وعندي أنّ هذه الرّواية حسنة والاصول يطابقها ، لأنّه صلّى صلاة مشروعة مأمورا بها ، فيسقط بها الفرض ، ويؤيّد ذلك قوله عليه‌السلام عفي لامّتي عن الخطأ والنّسيان ...».

(٤) تذكرة الفقهاء : ج ٣ ، كتاب الصّلاة ، ص ٢٧٨ ، حيث قال : لو تكلّم ناسيا لم تبطل صلاته ، ويسجد للسّهو عند علماءنا ... لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع عن امّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه».

(٥) راجع ، مجمع الفائدة والبرهان : ج ٣ ، ص ٥٥.

٣٠٢

جزء من الوقت مع التّذكّر في الباقي ؛ إذ المأمور به هو الكلّي الواجد لجميع الأجزاء والشّرائط ولو في جزء من الوقت ، فمع التّذكر في الأثناء يجب الإتيان بالمأمور به لبقاء وقته لو كان المدرك حديث الرفع ؛ بداهة ، عدم انطباق المأتي به على المأمور به ، فلو لا حديث «لا تعاد» كان اللّازم إعادة الصّلاة الفاقدة للجزء نسيانا عند التّذكر في الأثناء. (١)

وفيه : ما مرّ آنفا من أنّ حديث الرّفع ، لأجل كونه حاكما على أدلّة الأجزاء والشّرائط ، يوجب صيرورة المركّب الفاقد للجزء والشّرط بمنزلة الواجد ، وهذا لا فرق فيه بين كون النّسيان مستوعبا أو غير مستوعب.

وبعبارة اخرى : تحقّق الطّبيعة إنّما يكون بتحقّق الفرد الكامل في غير النّاسي ، والفرد النّاقص في النّاسي بسبب حكومة حديث الرّفع على أدلّة الأجزاء والشّرائط مستوعبا كان النّسيان ، أو غير مستوعب.

فتحصّل : أنّ مع تحقّق النّسيان في جزء من الوقت وإتيان النّاسي للفرد النّاقص فيه وحصول المأمور به لكون النّاقص فردا للطّبيعة ، كالكامل ، يحصل الامتثال ، فيسقط الأمر بلا شبهة ؛ وأنّ حكومة الحديث في جزء من الوقت على دليل المركّب الأوّلي كافية في انطباق عنوان المأمور به على المأتي به ، وبالانطباق يحصل الامتثال ، وبه يسقط الأمر بلا إشكال. هذا تمام الكلام في الجهة الثّانية من الجهات الّتي ينبغي أن يبحث عنها حول حديث الرّفع.

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٥٥.

٣٠٣

الجهة الثّالثة : أنّ الشّكّ في المانعيّة ، كالشّكّ في الجزئيّة والشّرطيّة ، فكما لو شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للصّلاة ـ مثلا ـ يتمسّك لرفعها ولتصحيح العبادة مع ترك مشكوك الجزئيّة أو الشّرطيّة ، بحديث الرّفع ، كذلك الأمر لو شكّ في مانعيّة شيء للصّلاة ، فيتمسّك لرفع المانعيّة وتصحيح العبادة المأتي بها مع مشكوك المانعيّة ، بالحديث ، أيضا.

والوجه في هذا التّعميم هو ما عرفت من حكومة الحديث على الأدلّة الأوّليّة ، كما لا يخفى ، فلا وجه للتّفرقة بين الموردين ، كما لا وجه للفرق في شمول الحديث للشّكّ في المانعيّة بين أن يكون الشّكّ فيها من قبيل الشّكّ في الموضوع ، نظير ما لو صلّى مع لباس شكّ في أنّه من مأكول اللّحم أو غيره أو أنّه من الميتة أو غيرها ، وبين أن يكون من قبيل الشّكّ في الحكم ، نظير ما لو صلّى مع عرق الجنابة من الحرام مع الشّكّ في مانعيّته عن الصّلاة.

هذا ، ولكن فرّق المحقّق الحائري قدس‌سره بين الشّكّ في الموضوع والشّكّ في الحكم ، بحيث التزم في الشّبهة الحكميّة بتصحيح العبادة ، تمسّكا بالحديث ما دام الشّكّ في المانعيّة باقيا ، وأمّا عند الالتفات والقطع بالمانعيّة أو قيام الحجّة المعتبرة عليها ، فحكم بوجوب القضاء أو الإعادة ، معلّلا بكونه مقتضى القاعدة في الأحكام الظّاهريّة ، وأنّه لا مجال للقول بتخصيص المانع بما إذا علمت مانعيّته ، وإلّا لزم اختصاص المانعيّة بالعالم بها وهو مستحيل ، وهذا بخلاف الشّبهة الموضوعيّة ، فإنّه قدس‌سره التزم فيها بتصحيح العبادة ، تمسّكا بالحديث مطلقا حتّى بعد الالتفات ، معلّلا بأنّ مقتضى رفع الآثار عن هذا المشكوك هو تخصيص المانع بما إذا علم أنّه من غير المأكول. (١)

__________________

(١) راجع ، درر الفوائد : ص ٤٤٥ و ٤٤٦.

٣٠٤

وفيه ما لا يخفى ؛ إذ أوّلا : أنّ استحالة تخصيص المانع بالعالم بالمانعيّة ، إنّما هي في جعل المانعيّة له ابتداء ، وأمّا جعلها بنحو الإطلاق وتشريعها بوجه التّعميم ثمّ رفعه والعفو عنها في مرحلة الشّكّ والجهل وفي موقف الامتثال والتّطبيق ، كما هو مقتضى حكومة حديث الرّفع على أدلّة الأوّليّة للإرفاق والمنّة ، فليس فيه وجه للإشكال والتّرديد.

وإن شئت ، فقل : المحذور إنّما يلزم فيما إذا قلنا : بالتّخصيص في موقف الجعل والتّشريع ، بخلاف ما إذا قلنا : به في موقف التّنجيز ومرحلة الإطاعة والتّطبيق ، فلا محذور فيه أصلا ، أو فقل : إنّ مقتضى حديث الرّفع هو الرّفع والتّضييق في مقام الامتثال والتّطبيق دون مقام الجعل والتّشريع ، فإنّه مصون عن الرّفع ؛ إذ رفعه لا يكون إلّا بالنّسخ ، فتأمّل.

وثانيا : أنّ إشكال الاستحالة لو تمّ في صورة الشّكّ في المانعيّة لجرى في صورة الشّكّ في الجزئيّة والشّرطيّة ـ أيضا ـ فيقال : يستحيل تخصيص الجزء أو الشّرط بما إذا علمت جزئيّته أو شرطيّته ، وقضيّة ذلك ، أنّه لو شكّ المصلّي في جزئيّة شيء للصّلاة أو شرطيّته لها ، فحديث الرّفع ينفع لصحّة صلاته ما دام شاكا ، وأمّا إذا قطع بالجزئيّة أو الشّرطيّة أو قامت عليها الحجّة يجب عليه القضاء أو الإعادة ، كما هو مقتضى القاعدة في الأحكام الظّاهريّة ، فلا وجه لاختصاص الإشكال بالشّكّ في المانعيّة.

والّذي يسهّل الخطب هو ما عرفت آنفا : من أنّ الرّفع والعفو ليس بحسب مقام الجعل والتّقنين حتّى يلزم تخصيص الحكم بالعالم به ، بل يكون بحسب مقام

٣٠٥

الامتثال والتّطبيق ، وأنّ حكومة حديث الرّفع على الأدلّة الأوّليّة ، تنتج العفو والرّحمة الملاءمة لسقوط القضاء والإعادة. وعليه ، فينفع الحديث لصحّة الصّلاة دائما ، لا ما دام شاكّا من غير فرق بين كون الشّبهة حكميّة أو موضوعيّة ، فافهم واغتنم.

الجهة الرّابعة : أنّ ما ذكرناه في الأجزاء والشّرائط والموانع في مثل الصّلاة من العبادات ، يجري في أجزاء أسباب المعامليّة من العقود والإيقاعات وشرائطها وموانعها ـ أيضا ـ فعند اشتراط العربيّة ـ مثلا ـ في العقد لو اضطرّ العاقد إلى إيقاعه «بالفارسيّة» أو اكره عليه أو نسي العربيّة ، يحكم بصحة العقد وتأثيره في المسبّب لأجل حديث الرّفع.

وقد خالف في ذلك ، المحقّق النّائيني قدس‌سره فقال : بأنّ وقوع النّسيان والإكراه والاضطرار في أجزاء الأسباب وشرائطها ، لا يقتضي صحّتها وتأثيرها في السّبب واندراجها في حديث الرّفع ؛ وذلك لما تقدّم منه قدس‌سره في باب الشّرائط والأجزاء في العبادات من عدم تكفّل الحديث لتنزيل الفاقد منزلة الواجد وعدم إثباته لأمر لم يوجد ولم يكن ، ولأجل ذلك حكم قدس‌سره ـ بناء على اشتراط العربيّة في العقد ـ بأنّه لو اضطرّ العاقد إلى إيقاع العقد «بالفارسيّة» أو اكره عليه أو نسي العربيّة كان العقد باطلا ، فإنّ رفع العقد الفارسيّ لا يقتضي وقوع العقد العربيّ ، وليس للعقد الفارسيّ أثر يصحّ رفعه بلحاظ رفع أثره ، وشرطيّة العربيّة ليست هي المنسيّة حتّى يكون الرّفع بلحاظ رفع الشّرطيّة. (١)

والجواب عنه ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره من أنّ هنا تفصيل بين عنوان

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٥٥ و ٣٥٦.

٣٠٦

النّسيان والإكراه والاضطرار ، فقال : ما حاصله : أمّا عنوان النّسيان فلا يخلو تعلّقه بأحد امور ثلاثة : أحدها : أن يتعلّق بنفس السّبب (العقد) فحينئذ لا مجال للتّمسّك لحديث الرّفع لتصحيحه ؛ إذ لا عقد عند النّسيان حتّى يصححه ، والمفروض ـ أيضا ـ عدم ترتّب الأثر على تركه حتّى يرفعه. نعم ، لو نذر أن لا يوقع عقدا فأوقعه نسيانا فلا خلف ولا حنث لأجل حديث الرّفع ؛ ثانيها : أن يتعلّق بما يتقوّم به العقد عرفا من شروطه العرفيّة ، كقصد تحقّق مفهوم العقد ـ مثلا ـ فلا مجال حينئذ ـ أيضا ـ للتّمسّك بحديث الرّفع ، إذ لا عقد عرفا بطروّ النّسيان حتّى يصححه الحديث تعبّدا ؛ ثالثها : أن يتعلّق بشروط العقد الشّرعيّة ، كالعربيّة وتقديم الإيجاب على القبول ـ مثلا ـ فلا إشكال عندئذ في التّمسّك بالحديث لتصحيح العقد عند نسيان تلك الشّروط ؛ وذلك لتحقّق العقد العرفيّ وجدانا ، وكون الشّرط الشّرعيّ قابلا للرّفع لأجل نسيانه ، بمعنى : رفع شرطيّته.

فما أفاده المحقّق النّائيني قدس‌سره : من أنّ رفع العقد الفارسيّ لا يقتضي وقوع العقد العربيّ ، غير وجيه ؛ الرّفع تعلّق بالعربيّة المنسيّة لا بالعقد الفارسيّ كي يقال : إنّ رفعه لا يقتضي وقوع العقد العربيّ.

ونتيجة ذلك كلّه ، هو أنّ رفع الشّرط لأجل نسيانه ، كالعربيّة ، أو تقديم الإيجاب على القبول ، إنّما هو لأجل حكومة حديث الرّفع على دليل الشّرط ، كحكومته على دليل الجزء والمانع ، هذا كلّه في عنوان «النّسيان».

وأمّا عنوان الإكراه ، فلا يخلو تعلّقه ـ أيضا ـ بأحد امور ثلاثة ؛ إذ هو إمّا إكراه على ترك السّبب وهو العقد ـ مثلا ـ أو ترك ما يتقوّم به عرفا ، فلا مجال للتّمسّك

٣٠٧

بالحديث للصّحّة كما عرفت في عنوان «النّسيان» ، وإمّا إكراه على إيجاد سبب ومسبّب ، فلا قدح في جواز التّمسّك بالحديث للبطلان ، وإمّا إكراه على ترك شرط أو جزء شرعيّ أو على إيجاد مانع كذلك ، فيتمسّك بالحديث لرفع ما اكره عليه إذا كان العاقد مكلّفا بإيجاد العقد لحاجة ضروريّة ، أو لجهة شرعيّة من نذر وشبهه ، فيكرهه المكره ، ولو لا تلك الحاجة أو هذه الجهة لما صدق الإكراه حتّى يتمسّك بالحديث.

وأمّا عنوان الاضطرار ، فهو ملحق بعنوان الإكراه ، فيأتي فيه ما تقدّم في الإكراه من الصّور والحكم فيها ، إلّا أنّه يفارق عن الإكراه في صورة تعلّقه بإيجاد السّبب والمسبّب ، فلو اضطرّ شخص إلى إيجاد سبب ومسبّب ، كالعقد فأوقعه لا يرفع ذلك بالحديث لكونه خلاف الامتنان ، بخلاف ما إذا اكره على إيجاده فيرفع بالحديث ، كما تقدّم. (١)

ثمّ إنّ المحقّق العراقي قدس‌سره قد منع عن جريان حديث الرّفع في مورد شروط المعاملة أو غيرها حال النّسيان ، بدعوى : أنّ قضيّة نفي الشّرطيّة أو غيره في المعاملة إيجاب الوفاء بالفاقد وهو خلاف الامتنان في حق المكلّف. (٢)

وفيه : أنّ الأمر على عكس ذلك ؛ إذ رفع الشّرط أو غيره في الفرض يقتضي صحّة المعاملة ونفوذها. ومن المعلوم ، أنّ في ذلك منّة ورحمة على المتعاملين الّذين أقدما عليها لرفع الحوائج بها ، لا سيّما إذا كانت الحوائج الدّاعية إلى المعاملة مهمّة ضروريّة ، فليس الحكم بالصّحة خلاف الامتنان ، بل خلافه إنّما هو من ناحية الحكم بالبطلان. هذا تمام الكلام في الاستدلال على البراءة بالسّنة.

__________________

(١) راجع ، أنوار الهداية : ج ٢ ، ص ٦٢ إلى ٦٥ ؛ وتنقيح الاصول : ج ٣ ، ص ٢٤٢.

(٢) راجع ، هامش فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٥٧.

٣٠٨

(الاستدلال بالإجماع)

أمّا الإجماع ، فتقريره من وجوه :

أحدها : اتّفاق الأصوليّين والأخباريّين على قبح المؤاخذة عند مخالفة التّكليف الّذي لم يصل بنفسه أو بطريقه إلى المكلّف.

وفيه : أوّلا : أنّ هذا الاتّفاق إنّما هو على أمر عقليّ ومسألة كلاميّة اعتقاديّة ، لا على أمر شرعيّ ومسألة فرعيّة عمليّة ، ومثل هذا لا ينفع للمقام لعدم كونه إجماعا تعبّديّا كاشفا عن رأي المعصوم عليه‌السلام.

وثانيا : لو سلّم ذلك ، فلا يجدي مع الاختلاف بينهم في تحقّق الصّغرى ، حيث إنّ الأخباريّين يدّعون وصول التّكاليف المجهولة المشكوكة بطريق الاحتياط إلى المكلّف ، سواء كان في خصوص الشّبهات التّحريميّة وهو مسلك الكلّ أو الجلّ منهم ، أو في الشّبهات الوجوبيّة ـ أيضا ـ كما عليه المحدّث الأسترآبادي قدس‌سره وذلك لأجل الأخبار الدّالّة على التّوقف والاحتياط في مطلق الشّبهات والمشتبهات.

ثانيها : الاتّفاق على أنّ الحكم الشّرعيّ الظّاهريّ في موارد الجهل بالحكم الواقعيّ وعدم وصوله بنفسه ولا بطريقه إلى المكلّف ، هو الإباحة والتّرخيص.

وفيه : ما مرّ ، من أنّ الاتّفاق المذكور إنّما يجدي عند ثبوت الاتّفاق على الصّغرى ، والمفروض عدم ثبوته عند الأخباريّين ، كما علمت آنفا.

ثالثها : الاتّفاق على أنّ الحكم الظّاهري في موارد الجهل بالحكم الواقعيّ وعدم وصوله بنفسه إلى المكلّف ، هو الإباحة والتّرخيص.

٣٠٩

وفيه : أنّ هذا الاتّفاق لو ثبت لكان نافعا ، لكنّه لم يثبت ، كيف ، وقد اتّفق الأخباريّون على أنّ الحكم الظّاهريّ في تلك الموارد هو وجوب الاحتياط ، لا الإباحة.

هذا تمام الكلام في الاستدلال على البراءة بالإجماع.

(الاستدلال بالعقل)

أمّا العقل ، فتقريب دلالته على البراءة عند الشّكّ في التّكليف ، هو أنّه حكم بقبح العقوبة على مخالفة ما لم يرد فيه بيان من ناحية الشّرع ، وهذا هو المسمّى بقاعدة «القبح بلا بيان».

ولا يخفى : أنّ تلك القاعدة تامّة مسلّمة عند الكلّ ، بناء على القول بالحسن والقبح العقليّين ، كما عليه الإماميّة والمعتزلة ؛ إذ الغرض من البعث والزّجر هو الانبعاث والانزجار.

وواضح ، أنّهما لا يتأتّيان بلا وصول التّكليف ، وبلا علم بالبعث والزّجر ، فلا مجال عقلا للعقاب على عدم الانبعاث والانزجار حينئذ.

وإن شئت ، فقل : إنّ الباعث والزّاجر إنّما هو التّكليف الواصل إلى العبد ، لا الصّادر من المولى غير الواصل إليه ، فإذا لم يصل إليه وترك التّكليف ، لم يكن ذلك مستندا إلى تقصير من العبد حتّى يحسن عقابه ، بل هو مستند إلى عدم وصول التّكليف إليه وعدم قيام الحجّة عليه ، فيقبح عقابه حينئذ بلا كلام ، أو فقل : إنّ العبد يكون مسئولا بالنّسبة إلى التّكليف بوجوده العلميّ ، لا بوجوده الواقعيّ ، وهذا من أوضح أحكام العقل عند الكلّ حتّى الأخباريّ.

٣١٠

نعم ، في قبال تلك القاعدة قاعدة اخرى ، تستدعي الاحتياط عند الشّكّ في التّكليف وهي قاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل ، فلا مناص إذا من ملاحظة النّسبة بين تلك القاعدتين ، وأنّ أيّهما هو المقدّم على الاخرى ، فنقول :

ذهب المشهور إلى أنّ النّسبة بينهما هي الورود. بتقريب : أنّ مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لا يحتمل الضّرر حتّى يجب دفع احتماله بحكم العقل ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ، ومقتضي ذلك هو تقديم قاعدة القبح بلا بيان على قاعدة دفع الضّرر المحتمل.

وقد اشكل عليه : بأنّ الأمر معكوس ، فتكون قاعدة دفع الضّرر المحتمل واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك ، لأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل فيما إذا شكّ في التّكليف ، يكون بيانا على ذلك التّكليف الواقعيّ المشكوك غير الواصل إلى المكلّف بنفسه ، فيرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان وهو عدم البيان.

ونتيجة ذلك ، أنّه لا ترجيح لإحدى القاعدتين على الاخرى ، وأنّ احتمال كون قاعدة قبح العقاب بلا بيان رافعة لموضوع قاعدة دفع الضّرر المحتمل ، مندفع باحتمال عكس ذلك ، بأن تكون قاعدة دفع الضّرر رافعة لموضوع قاعدة القبح.

هذا ، ولكن التّحقيق يقتضي أن يقال : إنّه لا تنافي بين القاعدتين ؛ لعدم اجتماعهما في مورد أصلا ؛ بداهة ، أنّ قاعدة دفع الضّرر المحتمل تجري فيما إذا كان التّكليف المحتمل منجّزا على فرض ثبوته واقعا ، نظير موارد الشّبهات المقرونة بالعلم

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ١٧٩.

٣١١

الإجماليّ وموارد الشّبهات الحكميّة قبل الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة ، وأمّا قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنّما هي تجري في عدم كون التّكليف المحتمل منجّزا على تقدير ثبوته واقعا وهو مورد عدم وصوله إلى المكلّف تفصيلا ولا إجمالا بنفسه ولا بطريقه ، نظير الشّبهات الحكميّة بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة ، فالقاعدتان لا يجتمعان ، هذا بناء على كون المراد من الضّرر هو الضّرر الاخروي (العقاب).

وأمّا بناء على كون المراد من الضّرر هو الضّرر الدّنيوي ، فلا مجال لجريان قاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل عند الشّكّ في التّكليف كي تعارض قاعدة القبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لمنع جريانها صغرى وكبرى ، أمّا الصّغرى ، فلأجل أنّ ارتكاب الحرام غير مستلزم للضّرر الدّنيويّ ، بل ربما تكون في ارتكابه منفعة دنيويّة ، كما في الرّبا والانتفاع بمال الغير غصبا ونحوهما ، والأمر كذلك في ترك الواجب ؛ وأمّا الكبرى ، فلأجل أنّ العقل لا يرى وجوب دفع الضّرر الدّنيويّ لو كان ، كيف ، وأنّ العقلاء ربما يقدمون على المقطوع به من الضّرر الدّنيويّ فضلا عن المحتمل. غاية الأمر ، إنّ الإقدام عليه لا بدّ أن يكون مع غرض عقلائيّ ، وإلّا يعدّ سفهيا موجبا للملامة فقط ، لا أنّه قبيح عقلا مستلزم للعقوبة حتّى يصير من المحرّمات الشّرعيّة بمعونة قاعدة الملازمة (كلّ ما حكم به العقل حكم به الشّرع) ؛ إذ على هذا لزمت حرمة كلّ فعل خال من غرض عقلائيّ ، وهذا كما ترى ، واضح البطلان البتّة.

فتحصّل : أنّ كلّ واحدة من القاعدتين مستقلّة حسب المورد ، فلا تجتمعان على محلّ واحد أصلا ؛ إذ بناء على كون المراد من الضّرر في قاعدة دفع الضّرر المحتمل

٣١٢

هو الضّرر الاخرويّ ، يمنع الصّغرى في مورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان وهو الشّبهة بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة ؛ بداهة ، عدم احتمال الضّرر الاخرويّ حينئذ كي يحكم بوجوب دفعه عقلا ، وبناء على كون المراد منه هو الضّرر الدّنيويّ يمنع الصّغرى والكبرى معا ، فالتّنافي بين تلك القاعدتين مرفوع بحذافيره.

ثمّ إنّه ذهب الإمام الرّاحل قدس‌سره إلى أنّ النّزاع هنا ليس بين كبرى القاعدتين ، بل صحّتهما ممّا لا إشكال فيه ، ولا يتوقّف صدقهما على وجود مصداق لصغراه ، فالعقاب بلا بيان قبيح ، سواء كان في العالم بيان ، أو لا ، وكذا دفع الضّرر المحتمل واجب ، سواء كان هناك احتمال للضّرر ، أم لم يكن ، فلا تكون إحداهما حاكمة أو واردة على الاخرى قطّ ، وإنّما يكون أحد القياسين الموجودين هنا بعد تماميّة مقدّماته وجدانا أو برهانا دافعا لصغرى القياس الآخر.

توضيحه : أنّه يمكن تقرير قاعدة قبح العقاب بلا بيان بصورة القياس بهذا النّحو : «إنّ العقاب على محتمل التّكليف بعد الفحص التّامّ وعدم العثور عليه عقاب بلا بيان ، والعقاب بلا بيان قبيح ، بمعنى : يمتنع صدوره عن المولى الحكيم العادل ، والنّتيجة هو أنّ العقاب على محتمل التّكليف ممتنع» ؛ وهكذا يمكن تقرير قاعدة دفع الضّرر المحتمل بصورة القياس بهذا النّحو : «إنّ ارتكاب محتمل الحرمة أو ترك محتمل الوجوب ممّا فيه الضّرر المحتمل (العقاب) ، والضّرر المحتمل يجب دفعه والتّحرّز عنه ، والنّتيجة أنّ ارتكاب محتمل التّكليف يجب دفعه والتّحرز عنه».

ومن الواضح : أنّ صغرى القياس الأوّل وجدانيّة ، وكبراه برهانيّة ، والنّتيجة المتحصّلة منهما قطعيّة ، وهذا بخلاف القياس الثّاني ؛ إذ صغراه ليست فعليّة

٣١٣

وجدانيّة ، لتوقّف صحّتها على أحد امور غير صحيحة ، من تقصير العبد في الفحص عن تكاليف المولى أو كون المولى بلا عدل وبلا حكمة أو كون العقاب بلا بيان غير قبيح ، والكلّ ، كما ترى.

وعليه : فالقياس الأوّل لكون صغراه وجدانيّة ، وكبراه برهانيّة ، دافع لصغرى القياس الثّاني ، بمعنى : أنّه دافع لاحتمال الضّرر ، فليس مع وجود القياس الأوّل ، احتمال للضّرر في البين حتّى يصير دفعه واجبا عقلا بلا رين ، هذا ملخص ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره من التّحقيق في المقام. (١)

ولكن أنت ترى ، أنّ هذا التّحقيق اللّطيف مرجعه ـ أيضا ـ إلى ورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان على قاعدة دفع الضّرر ، فيرفع موضوع هذه القاعدة بتلك ، سواء عبّر عنه بدفع الصّغرى ، أم عبّر برفع موضوع الكبرى ؛ إذ الصّغرى في المقام تدفع بمحموله الحدّ الأوسط الّذي صار موضوعا في كبرى القياس حسب ما هو الميزان في الشّكل الأوّل ، كما هو المقرّر في علم المنطق ، ولاجل ذلك يصالح بين الإمام الرّاحل قدس‌سره وبين جمع من الأكابر القائلين بورود قاعدة قبح العقاب بلا بيان على قاعدة دفع الضّرر المحتمل ؛ وكيف كان ، الحقّ ما حقّق آنفا من استقلال كلّ واحدة من القاعدتين وانفكاك مصبّ كلّ من الاخرى ، فلا حكومة ولا ورود في البين.

ثمّ إنّه قد يقال : بأنّ مقتضى حكم العقل عند الشّكّ في التّكليف هو وجوب الاحتياط وحسن العقاب على تقدير المخالفة ، على عكس ما قالوا : من أنّ مقتضى حكمه هو قبح العقاب بلا بيان. بتقريب : أنّ ملاك وجوب طاعة الله ـ جلّ جلاله ـ

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥٢ إلى ٢٥٤.

٣١٤

وقبح معصيته إنّما هو مولويّته ومالكيّته ، فلله تعالى حق الطّاعة على العبد ، لأنّه مولى حقيقيّ ومالك بجميع شئونه. ولا ريب ، أنّ دائرة هذا الحقّ وحدوده متّسعة ، تعمّ المحتملات والمشكوكات من التّكاليف ، حيث إنّ تحصيل أغراض المولى أهمّ من تحصيل أغراض العبد ، فكما أنّه يهتمّ بأغراض نفسه حتّى في المحتملات والمشكوكات ، فيسلك سبيل الاحتياط لتحصيل تلك الأغراض ، كذلك له أن يهتمّ بأغراض المولى حتّى في المحتملات والمشكوكات ، فيجب عليه الاحتياط لتحصيل تلك الأغراض. ونتيجة ذلك ، أنّ العقل مستقلّ في الحكم بوجوب الاحتياط ، في موارد المشكوكات مطلقا حتّى الشّكّ في التّكليف ، تحصيلا لأغراض المولى.

وفيه : أوّلا : أنّ قياس أغراض المولى بأغراض العبد ، إنّما يصحّ بالنّسبة إلى الموالي العرفيّة ، وأمّا المولى الحقيقيّ وهو الخالق الباري تعالى ، فليس له أغراض نفسيّة راجعة إلى شخصه الغنيّ بالذّات ، وإنّما الأغراض والمصالح المبتنية عليها أحكامها والكامنة في متعلّقات تلك الأحكام ، تكون راجعة إلى العباد الفقراء إليه تعالى ، وكذلك المضار والمفاسد ، ويشهد على هذا رواية ... عن الرّضا عليه‌السلام : «ووجدنا المحرّم من الأشياء ما لا حاجة للعباد إليه ، بل وجدناه مفسدا داعيا إلى الفناء والهلاك» (١).

وثانيا : أنّ العبد لعدم علمه المحيط بأغراضه ومنافعه ، لا بدّ أن يحتاط ويسلك سبيل الاحتياط كيلا تفوت منه تلك الأغراض ، وأمّا الله العليم المحيط بأغراضه ، فعليه أن يبيّن تلك الأغراض ويوصلها إلى عباده بحجج ظاهرة أو باطنة ويتمّ

__________________

(١) علل الشّرائع : ج ٢ ، ص ٥٩٢ ، ح ٤٣.

٣١٥

الحجّة عليهم حتّى يكون له تعالى الحجّة البالغة ، ولا يكون للعباد عليه تعالى حجّة ، كما ورد في قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(١) فحقّ الطّاعة لله تعالى على العبد يدور مدار دائرة تمام البيان وإتمام الحجّة ، وإلّا فالمؤاخذة على المخالفة تكون قبيحة.

بقي في المقام شيء وهو أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إنّما تتمّ في دلالتها على البراءة ، إذا لم تلاحظ مع أدلّة الاحتياط ، وإلّا فلو تمّت تلك الأدلّة من جهة السّند والدّلالة على وجوب الاحتياط في الشّبهات البدويّة بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة وجوبا طريقيّا لحفظ الواقع ، لكانت واردة على القاعدة ، رافعة لموضوعها بلا كلام ؛ وذلك لتماميّة البيان في الشّبهات على تقدير دلالة الأدلّة على وجوب الاحتياط ، وتنجّز الحكم الواقعيّ حينئذ على تقدير ثبوته ، لأنّه وإن لم يصل إلى المكلّف بنفسه ، لكنّه وصل إليه بطريقه ، وسنتكلّم في تماميّة تلك الأدلّة من حيث الصّدور والظّهور وعدم تماميّتها ، عند نقل أدلّة الأخباريّين ونقدها ، إن شاء الله تعالى. هذا تمام الكلام في الاستدلال على البراءة بالأدلّة الأربعة (الكتاب والسّنّة والإجماع والعقل).

وقد يستدلّ على البراءة عند الشّكّ في التّكليف ـ أيضا ـ باستصحاب البراءة المتيقّنة حال الصّغر أو الجنون. بتقريب : أنّه لم يكن للشّخص حال الصّغر وقبل البلوغ ، وكذا حال الجنون ، تكليف قطعا ، فبعد البلوغ أو الإفاقة إذا شكّ في توجّه التّكليف إليه ، يستصحب عدمه السّابق ويحكم بعدم التّكليف بعدهما.

__________________

(١) سورة الأنفال (٨) ، الآية ٤٢.

٣١٦

هذا ، ولكن أشكل عليه الشّيخ الأنصاري قدس‌سره بوجهين :

الأوّل : أنّ المستصحب ، إمّا يكون براءة الذّمة من التّكليف ، وإمّا عدم المنع من الفعل ، وإمّا عدم استحقاق العقاب ، والمطلوب في الآن اللّاحق ليست إلّا أحد الأمرين : أحدهما : القطع بعدم ترتّب العقاب على الفعل ؛ إذ مع احتمال العقاب يحتاج إلى انضمام حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حتّى يحصل له أمان بلا احتياج إلى الاستصحاب ولحاظ الحالة السّابقة ؛ ثانيهما : الإذن والتّرخيص في الفعل. ومعلوم ، أنّه لا يكون شيء من هذين الأمرين مترتّبا على المستصحبات المذكورة ، أمّا أمر الأوّل ، فلأنّه ليس من اللّوازم المجعولة الشّرعيّة حتّى يحكم بها الشّرع في الظّاهر ؛ وأمّا الأمر الثّاني ، فلأنّه وإن كان قابلا للجعل ويستلزم انتفاء العقاب واقعا ، إلّا أنّ الإذن الشّرعيّ ليس لازما شرعيّا للمستصحبات المذكورة ، بل هو من المقارنات لعدم انفكاك عدم المنع من الفعل عن كونه مرخّصا فيه ، فيلزم إثبات أحد المقارنين بإثبات الآخر ، نظير إثبات أحد الضّدّين بنفي الآخر ، وهذا من أوضح مصاديق الأصل المثبت. هذا كلّه بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب عدم جواز نقض اليقين بالشّكّ ، بمعنى : كونه من الاصول العمليّة الّتي لا تثبت بها إلّا الآثار المجعولة الشّرعيّة.

وأمّا بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّنّ ، بمعنى : كونه من الأمارات ، فللتّمسّك به لإثبات البراءة مجال ، وهكذا له مجال ـ أيضا ـ بناء على القول بالأصل المثبت ، بمعنى : أنّه يثبت بالاستصحاب من باب التّعبّد كلّ ما لا ينفكّ عن المستصحب لو كان معلوم البقاء ولو لم يكن من اللّوازم الشّرعيّة ، انتهى محصّل

٣١٧

كلامه قدس‌سره في الوجه الأوّل. (١)

والجواب عنه ما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره حاصله : أنّ الاستصحاب أصل تعبّديّ ، فكما يصحّ التّعبّد بثبوت حكم شرعيّ أو بموضوع ذي حكم شرعيّ ، كذلك يصحّ التّعبّد بنفي حكم شرعيّ أو بنفي موضوع شرعيّ مترتّب عليه نفي الحكم ولو كان ذلك بحسب البقاء فقط ، لا الحدوث ـ أيضا ـ لأجل كونه أزليّا ، ففي المقام يستصحب عدم المنع من الفعل ، وهذا المقدار كاف في صحة الاستصحاب.

نعم ، يترتّب عليه حينئذ عدم ترتّب العقاب قهرا وهو وإن كان لازما عقليّا لعدم المنع ، لكنّه لازم لمطلق عدم المنع ولو كان ظاهريّا ثابتا بمعونة الاستصحاب ، وذلك نظير وجوب الموافقة وحرمة المخالفة المترتّبين على التّكليف من الوجوب والحرمة ولو كانا ظاهريين ثابتين بالاستصحاب ، وهذا بخلاف ما لو كان الأثر مترتّبا عقلا على المستصحب بوجوده الواقعيّ ، لا بمطلق وجوده ولو كان ظاهريّا ، فإنّه لم يترتّب عليه باستصحابه. (٢)

الوجه الثّاني : أنّ الاستصحاب لا بدّ في جريانه من اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع القضيّة المشكوكة ببقاء الموضوع ؛ إذ لولاه لم يصدق عند عدم جريانه ، نقض اليقين بالشّكّ ، ولم يترتّب الأثر حين الشّكّ ، بل كان ترتيب الأثر مع عدم الاتّحاد بعدم بقاء الموضوع ، من قبيل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، فيكون من باب القياس لا الاستصحاب ، والمقام من هذا القبيل ؛ إذ الموضوع لبراءة الذّمّة المتيقّنة في

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٥٩ و ٦٠.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٣١.

٣١٨

السّابق أو الرّخصة كذلك ، كان هو الصّغير وهو حال الشّكّ لم يكن باقيا ؛ إذ المفروض أنّ المكلّف في هذا الحال كبير بالغ ، وهما موضوعان متغايران عرفا ، وليست براءة ذمّة أحدهما أو رخصته المشكوكة ، بقاء براءة ذمّة الآخر أو رخصته المتيقّنة حتّى يلزم نقض اليقين بالشّكّ لو لم يجر الاستصحاب وجرت البراءة. (١)

ولا يخفى : أنّ هذا الإشكال من الشّيخ الأنصاري قدس‌سره وارد. والوجه فيه : هو أنّ العنوان المأخوذ في موضوع الحكم إذا كان من حالات الموضوع ، كقولنا : «أكرم هذا الجالس» يجري الاستصحاب عند تبدّل الحالات ، كأن يكون الجالس «قائما» في مثال المتقدّم ، فيحكم بإكرام القائم ـ أيضا ـ عند الشّكّ فيه بالاستصحاب ، وأمّا إذا كان من مقوّماته بحيث ينتفي الموضوع بانتفاء العنوان ، كعنوان «العادل» لجواز الاقتداء ، وكعنوان «الفقيه» لجواز التّقليد ، فلا يجري الاستصحاب عند تبدّل العنوان بأن يكون العادل فاسقا ، أو الفقيه جاهلا في المثال المتقدّم ؛ إذ الفاسق والجاهل موضوعان آخران ، وإثبات حكم العادل والفقيه لهما يكون من قبيل إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ؛ وكذا لا يجري الاستصحاب فيما إذا شكّ في كون العنوان من المقوّمات أو من الحالات ، كالتّغيّر ، المأخوذ في نجاسة الماء إذا زال بنفسه ؛ إذ لو كان «مقوّما» لم يجر الاستصحاب ولا يكون عدم جريانه من باب نقض اليقين بالشّكّ ، لكون الموضوع حينئذ هو الماء المتغيّر ، والمفروض زوال تغيّره ، فلم يبق الموضوع بتمامه ، وأمّا لو كان «حالا» فيجري الاستصحاب ويكون عدم جريانه نقضا لليقين بالشّكّ ؛ إذ الموضوع وهو الماء باق ، وحيث يكون الأمر مشكوكا من حيث

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٦٠ و ٦١.

٣١٩

المقوّميّة والحاليّة ، كان التّمسّك بدليل الاستصحاب وهو قوله : «لا تنقض اليقين بالشّك» تمسّكا بالعامّ في الشّبهة المصداقيّة له ، فلا يجري الاستصحاب.

هذا ، ولا يبعد دعوى كون المقام من قبيل مقوّمات الموضوع ، بل الظّاهر أنّه كذلك حسب العرف ، فلا يجري الاستصحاب فيه ، لكونه أشبه بالقياس ، كما أشار إليه الشّيخ الأنصاري قدس‌سره ، أو لا أقلّ من كونه من باب الشّكّ في المقوّميّة والحاليّة ، فلا يجري فيه الاستصحاب ـ أيضا ـ لكونه من قبيل التّمسّك بالعامّ في الشّبهة الموضوعيّة.

ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره قد أشكل على استصحاب البراءة بوجه آخر ، محصّله :

أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان الأثر المطلوب مترتّبا على الواقع المشكوك فيه ، لا على الشّكّ فيه ولا على الأعمّ من الواقع والشّكّ فيه ؛ إذ بعد كفاية مجرّد الشّكّ في ترتّب الأثر ، لا حاجة إلى إحراز واقع المستصحب بالاستصحاب ، بل لازم هذا الاستصحاب تحصيل ما هو حاصل وجدانا وعقلا ، بالتّعبّد والنّقل ، وهذا من أردإ أنحاء تحصيل الحاصل ، والمقام من هذا القبيل ، فلا يجري استصحاب عدم التّكليف قبل البلوغ لترتيب أثر عدم العقاب وإحرازه بالتّعبّد لترتّبه على مجرّد الشّكّ في التّكليف وإحرازه عقلا وبالوجدان ، بمعونة قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ونظير المقام ، التّشريع المحرّم بناء على كونه عبارة عن إدخال ما لم يعلم أنّه من الدّين في الدّين ، أو الأعمّ منه ومن إدخال ما ليس منه فيه ، ففيما شكّ كونه من الدّين ، لا يجري استصحاب عدم كونه من الدّين لإثبات حرمة الإسناد إلى الشّارع وإحرازها ؛ بداهة ، أنّ هذا الأثر مترتّب على مجرّد الشّكّ في كونه شيء من الدّين بلا حاجة إلى الاستصحاب المحرز له بالتّعبّد. (١)

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٤ ، ص ١٢٩ و ١٨٦ و ١٨٧.

٣٢٠