مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

مباحث الظّنّ

* إمكان التّعبّد بالظّنّ وعدمه

* مقتضى الأصل عند الشّكّ

١٤١
١٤٢

(مباحث الظّنّ)

اعلم : أنّ البحث هنا يقع في امور ثلاثة:

الأمر الأوّل : في بيان الفرق بين الأمارة العلميّة (١) ، كالقطع ، وبين غيرها كالظّنّ.

الأمر الثّاني : في إمكان التّعبّد بالأمارة غير العلميّة شرعا ، وعدم لزوم محذور منه عقلا.

الأمر الثّالث : في أنّ مقتضى الأصل عند الشّكّ في حجّيّة شيء من الأمارات هي اللّاحجّيّة.

أمّا الأمر الأوّل : فالفرق بين الأمارة العلميّة وغيرها ، واضح ؛ ضرورة ، أنّ في مثل القطع ـ على ما حرّر في مبحثه ـ جهات ثلاث مسلّمة عند العقل والعقلاء :

الاولى : أن يكون طريقا وكاشفا تامّا. ولا ريب ، أنّ هذه الجهة من آثار القطع ولوازمه ، سواء قيل : بأصالة الوجود ، أو أصالة الماهيّة.

الثّانية : أن يكون حجّة ، ولا كلام في أنّ هذه الجهة ـ أيضا ـ من آثار القطع وشئونه ، فالقطع منجّزة عند الإصابة ، معذّرة عند عدمها قطعا.

نعم ، في وجه الحجّيّة خلاف عند أرباب الدّراية ؛ فقيل : وجهها ، بناء العقلاء

__________________

(١) الأمارة بالفتح في العرف واللّغة ، بمعنى : الوقت والعلامة ؛ وفي اصطلاح علماء الاصول تطلق على امور تكون علائم على الواقع وكواشف عنه كشفا تامّا أو ناقصا قبال الاصول العمليّة الّتي لا تحكي عن الواقع ، كالبراءة ونحوها.

١٤٣

حفظا للنّظام وإبقاء للنّوع ؛ وقيل : وجهها ، حكم العقل وإلزامه بالعمل على وفق القطع وبالمشي والحركة على طبقه نحو حكم المولى.

الجهة الثّالثة : أن يكون القطع ممّا لا يمكن الرّدع عن العمل به من ناحية الشّرع ، وهذه الجهة ممّا لا إشكال فيه ؛ ضرورة ، أنّ وزان المنع الشّرعيّ عن العمل به هو وزان المنع التّشريعيّ عن تأثير النّار والماء في الحرارة والبرودة ، فيلزم من المنع عن العمل بالقطع ، اجتماع الضّدّين واقعا ـ لو كان القطع مصيبا ـ واعتقادا فقط ـ لو لم يكن كذلك ـ أو يلزم اجتماع الإرادتين المختلفتين على مراد واحد لو لم نقل بتضادّ الأحكام. هذا بالنّسبة إلى القطع الّذي هو من الأمارة العلميّة.

وأمّا الظّنّ الّذي هو من الأمارة غير العلميّة ، فكاشفيّته تكون ناقصة ؛ ولذا ثبوت الحجّيّة له يحتاج إلى جعل ـ كما في الظّنون الخاصّة ، أو مطلق الظّنون الانسداديّة ، بناء على مسلك الكشف ـ أو إلى ثبوت مقدّمات وطروّ حالات موجبة لاقتضائها الحجّيّة ، كمطلق الظّنون الانسداديّة ، بناء على مسلك الحكومة.

ومنه ينقدح : أنّ ردع الشّرع عن العمل بها ممكن لا ممتنع ، كما في الأمارة العلميّة.

وإن شئت ، فقل : إنّ القطع حجّة ذاتا فهو فوق الجعل ، وأجلّ من أن يناله الجعل التّشريعيّ من حيث الحجّيّة. نعم ، يناله الجعل التّكوينيّ من حيث الوجود والحقيقة ، وبمجرّد جعله كذلك يكون حجّة منجّزة ، أو معذّرة قهرا البتّة. وفي قباله الشّكّ فليس بحجّة ذاتا ، ولذا يكون دون الجعل ، لا يناله لخسّته وحقارته. وأمّا الظّنّ فهو ـ لو خلّي وطبعه ـ ليس بحجّة أو لا حجّة كى لا يمسّه الجعل ، لعلوّ شأنه أو لدنوّ قدره ، بل هو قابل لكلا الأمرين ، فإن جعل له الحجّيّة فحجّة ، وإلّا فليس بحجّة.

١٤٤

فتحصّل : أنّ القطع واجب الحجّيّة ؛ والشّكّ ممتنع الحجّيّة ؛ والظّنّ ممكن الحجّيّة ، فيحتاج إلى الجعل حتّى يصير حجّة فعليّة بعد ما كان بذاته حجّة شأنيّة ، فالظّنّ يفارق القطع في الحجّيّة بأن لا يكون بذاته حجّة مطلقا ، لا في مقام الإثبات والاشتغال ، فتجري فيه البراءة ، ولا في مقام الإسقاط والامتثال ، فتجري فيه قاعدة الاشتغال. هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل.

(إمكان التّعبّد بالظّنّ وعدمه)

الأمر الثّاني (إمكان التّعبّد بالأمارة غير العلميّة) : فقد حكي عن ابن قبة ، امتناع التّعبّد بالخبر الواحد (١) مستدلّا له بوجهين : الأوّل : أنّه لو جاز التّعبّد بالخبر الواحد في الإخبار عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجاز التّعبّد به في الإخبار عن الله تعالى ، والتّالي باطل إجماعا ، وكذلك المقدّم.

الثّاني : أنّ العمل به موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ؛ إذ لا يؤمن أن يكون ما اخبر بحليّته حراما وبالعكس ، وسيبيّن ضعف هذين الوجهين. إن شاء الله.

والحريّ هنا ذكر ما استدلّ به للقول بإمكان التّعبّد به ، فنقول :

إنّ القائلين بالإمكان قد استدلّوا : بأنّا قاطعون بعدم لزوم أيّ محال من التّعبّد بالظّنّ ؛ وقد أورد عليه الشّيخ الأنصاري قدس‌سره بعدم إمكان حصول هذا القطع ، لتوقّفه على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة وعلمه بانتفائها ، وهو غير حاصل في المقام.

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٠٥ ، الطّبعة الجديدة.

١٤٥

ثمّ قال قدس‌سره : «فالأولى أن يقرّر هكذا ، إنّا لا نجد في عقولنا بعد التّأمّل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان» (١).

هذا ، ولكن التّحقيق في المقام يقتضي التّكلّم في جهات ثلاث :

الاولى : في أنحاء الإمكان.

الثّانية : في ما هو المراد من الإمكان الماخوذ في المسألة.

الثّالثة : في ضعف ما قرّره الشّيخ الأنصاري قدس‌سره.

أمّا الجهة الاولى : فالإمكان ، كما ثبت في محلّه ، له انحاء ستّة :

أحدها : الإمكان الذّاتي ، وقد يعبّر عنه بالإمكان بالذّات ، قبال الامتناع الذّاتي الّذي يعبّر عنه بالامتناع بالذّات.

ثانيها : الإمكان الاستعداديّ الّذي موضوعه هي المادّة الموجودة وهو غير الإمكان الخاصّ الماهويّ الّذي موضوعه هي الماهيّة ، فالإمكان الخاصّ وصف عقليّ لا يتّصف بقرب وبعد ، ولا بضعف وشدّة ، بخلاف الإمكان الاستعداديّ فهو وصف وجوديّ يقبل به المادّة الصّور والفعليّات المختلفة ، والقرب والبعد ، والضّعف والشّدّة.

ثالثها : الإمكان الاستقباليّ الّذي هو سلب جميع الضّرورات حتّى بشرط المحمول ، وهذا النّحو يكون في الامور المستقبلة بالنّسبة إلى من لا علم له بها ؛ لعدم علمه وإحاطته بالعلل والأسباب الدّخيلة.

رابعها : الإمكان الوقوعيّ ، بمعنى : كون الشّيء بحيث لا يلزم من وقوعه محال قبال الامتناع الوقوعيّ ، بمعنى : كون الشّيء بحيث يلزم من وقوعه محال.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٠٦.

١٤٦

خامسها : الإمكان الوجوديّ والفقريّ ، قبال الإمكان الماهويّ.

سادسها : الإمكان الاحتماليّ ، الّذي أشار إليه الشّيخ ابن سينا بقوله : «كلّ ما قرع سمعك من الغرائب ، فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان» (١). فمعنى هذا الإمكان هو الاحتمال وعدم المبادرة في الحكم بالنّفي والإثبات بلا قيام البرهان على أحد ذينك الطّرفين.

ولا ريب : أنّ هذه الأنحاء السّتّة هي الّتي ذكروها أرباب الحكمة ، وذكر بعض هذه الأنحاء كالإمكان الوقوعي في كتب الاصوليين ، ليس بمعنى أنّه من مختصّات أرباب الاصول ، كما زعمه السّيّد البروجرديّ قدس‌سره حيث قال : «وقد ذكر الاصوليّون معنى آخر للإمكان سمّوه بالوقوعيّ و...» (٢) بل إنّهم ـ أيضا ـ أخذوا ذلك عن كتب الحكمة.

أمّا الجهة الثّانية : فالمراد من الإمكان هنا هو النّحو الرّابع وهو الإمكان الوقوعيّ قبال الامتناع الوقوعيّ ، حيث إنّ المدّعي للامتناع لا ينبغي أن يتفوّه بأنّ التّعبّد بالظّنّ من الممتنعات الذّاتيّة ، كاجتماع النّقيضين ، بل مقصوده هو الامتناع من ناحية أنّه يترتّب على التّعبّد به ، امور مستحيلة ومحاذير عقليّة مطلقا ، كاجتماع الضّدّين والمثلين ، أو بالنّسبة إلى الحكيم تعالى لا مطلقا ، كتحليل الحرام وتحريم الحلال والإلقاء في المفسدة ، أو تفويت المصلحة ؛ كما أنّ المدّعي للإمكان ، مقصوده عدم ترتّب المحال والمحذور العقلي ـ كاجتماع الضّدّين ونحوه ـ على التّعبّد بالظّنّ.

__________________

(١) الإشارات والتّنبيهات : ج ٢ ، ص ١٤٣.

(٢) نهاية الاصول : ص ٤٣٧ ، الطّبعة الجديدة.

١٤٧

وهذا هو ظاهر كلمة : «الجواز» أو «الإمكان» المأخوذة في العنوان.

ويؤيّد ذلك ، ما في عبارة المحقّق الخراساني قدس‌سره من قوله : «ثانيها في بيان إمكان التّعبّد بالأمارة الغير العلميّة شرعا ، وعدم لزوم محال منه عقلا» (١) فإنّه قدس‌سره قد عبّر عن الإمكان بعدم لزوم محال من التّعبّد بها عقلا ، لا عدم استحالة ، وهذا هو معنى الإمكان الوقوعي.

ومن هنا ظهر ضعف ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره من الإشكال بأنّ تفسير الإمكان بالوقوعيّ في غير محلّه ؛ إذ مع أنّه لا طريق إليه ، غير محتاج إليه ، وأنّ ما هو المحتاج إليه في هذا المقام هو الإمكان الاحتماليّ الواقع في كلام الشّيخ الرّئيس. (٢)

وجه ظهور الضّعف : أوّلا : أنّ كون المراد من الإمكان هو الاحتماليّ أجنبيّ عن ظاهر العنوان ، كما عرفت. وثانيا : أنّا نسلّم أنّه لا طريق لنا إلى إثبات الإمكان الوقوعيّ ولا يكون محتاجا إليه ، ولكن عدم طريق الإثبات إنّما هو لقصور عقلنا وعدم إحاطته بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة ، كما أنّ عدم الحاجة إليه إنّما هو لأجل أنّ المحتاج إليه هو الوقوع لا إمكانه بدونه ، فإن وقع التّعبّد بالظّنّ فهو ، وإلّا فمجرّد إمكان وقوعه لا يجدي ولا يترتّب عليه ثمرة عمليّة. وهذا ، كما أشرناه ، أمر آخر لا يوجب صرف ظهور العنوان في الإمكان الوقوعيّ عنه إلى الإمكان الاحتماليّ ، كما لا يخفى.

والّذي يسهّل الخطب ، أنّ العمدة هنا ردّ أدلّة الامتناع ، لا إثبات الإمكان حتّى يورد عليه بفقد البرهان.

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٤٢.

(٢) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٣٠.

١٤٨

وكيف كان ، فلو شكّ في الإمكان الوقوعيّ ، لا مجال لإجراء الأصل العقلائي ، لعدم جريانه في الامور العقليّة الفلسفيّة ، فليس من العقلاء بناء على الإمكان ، لأجل مصلحة من مصالح الإنسان ، فلو شكّوا في إمكان شيء لم يحكموا بأحد طرفي الشّكّ ولا يقولون : إنّ مقتضى الأصل هو الإمكان.

ومعنى كلام ابن سينا : «فذره في بقعة الإمكان» هو تجويز الوقوع وعدم الإنكار والنّفي بلا بيّنة وبرهان ، لا الحكم بالإمكان الوقوعيّ. وبعبارة اخرى : معنى الإمكان في كلامه هو الاحتمال ، وقوله : «فذره» يراد به «احتمله ولا تنكره بلا برهان» وهذا ، كما ترى ، من الأحكام العقليّة الّتي يدركه العقل ، لا من الاصول العقلائيّة الّتي يعمل بها لأجل مصالح العرف والعقلاء ، على أنّ حجّيّة الأصل تتوقّف على إمكان التّعبّد به وهو أوّل الكلام والمتنازع فيه ، في المقام ، كما أشار إليه السّيّد البروجردي قدس‌سره. (١) هذا في الجهة الثّانية.

أمّا الجهة الثّالثة (ضعف ما قرّره الشّيخ قدس‌سره) : فوجه ضعف ما عن في تقرير الاستدلال الشّيخ الأنصاري قدس‌سره : «من أنّا لا نجد في عقولنا بعد التّأمّل ما يوجب الاستحالة ، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان» (٢) ، هو أنّ عدم وجدان ما يوجب الاستحالة ، ليس دليلا على عدم وجود ما يوجبها ؛ ولذا قالوا : «عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود». نعم ، مع عدم وجدان ما يوجب امتناع شيء ، يذره العقل في بقعة الإمكان والاحتمال ولا ينكره ، وهذا أمر عقليّ ، اشير إليه في كلام

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ص ٤٣٧.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٠٦.

١٤٩

الشّيخ الرّئيس ، فليس هذا طريقا عقلائيّا يسلكونه في حكمهم بالإمكان.

ولو اريد من كلام الشّيخ الأنصاري قدس‌سره هو أنّه إذا شكّ في الإمكان الذّاتيّ أو الوقوعيّ وعدمهما ولم يوجد ما يوجب الاستحالة ، كان الأصل عند العقلاء هو الإمكان ، وهذا طريق يسلكونه ؛

ففيه ما لا يخفى : من عدم المجال لإجراء الأصل العقلائيّ في الامور العقليّة ، بل لا بدّ من إقامة البرهان ، كما أشرنا إليه سابقا.

وقد أورد المحقّق الخراساني قدس‌سره على الشّيخ الأنصاري قدس‌سره بما يرجع حاصله إلى وجوه ثلاثة :

الأوّل : منع الصّغرى ، وهو إنكار أصل البناء والسّيرة على ترتيب آثار الإمكان عند الشّكّ والحيرة.

الثّاني : منع الكبرى ، وهو إنكار حجّيّة البناء والسّيرة ـ لو سلّم أصلها ـ لعدم دليل قطعيّ عليها.

الثّالث : منع الغاية والفائدة ، بمعنى : أنّه مع قيام الدّليل على وقوع التّعبّد لا حاجة إلى البحث عن الإمكان لأخصّيّة الوقوع عن الإمكان ، ومع عدم الدّليل على الوقوع ، لا ثمرة عمليّة في البحث عن الإمكان. نعم ، له ثمرة علميّة إلّا أنّها مطلوبة في المسائل العلميّة المحضة والمباحث الاصوليّة العقليّة ، لا في الاصول العمليّة الّتي يتوصّل بها لاستنباط الأحكام الفرعيّة ، أو لتعيين كيفيّة العمل في موقف الشّكّ وعدم الحجّة. (١)

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٤٣.

١٥٠

ولكنّ الحقّ أن يقال : إنّ وجه الثّالث من تلك الوجوه تامّ ، جيّد ، وأمّا الوجهان الآخران ، فلا مجال للتّعرّض لهما هنا أصلا ، إثباتا ومنعا ؛ وذلك ، لأنّ الإمكان بالمعني الوقوعيّ يكون من الامور العقليّة والمقولات الفلسفيّة ، فلا بدّ فيه من التّمسّك بالبرهان.

وعليه : فلا ينبغي أن يقال ـ كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ : ليس الإمكان أصلا متّبعا عند العقلاء لمنع السّيرة تارة ، ومنع الحجّيّة اخرى ؛ بل لا بدّ أن يقال : إنّ ما كان مصبّا للبرهان ، لا يناله بناء العقلاء ، ولا يمكن أن يتطرّق إليه سيرتهم ، لا أنّه يمكن ويعقل تحقّقها وتطرّقها إليه ، إلّا أنّها لم تتحقّق ولم تتطرّق إليه ، أو تحقّقت ولكن لا حجّيّة لها ، نظرا إلى قيام دليل قطعيّ على اعتبارها.

ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره (١) ذهب إلى أنّ المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التّشريعيّ ، بمعنى : أنّه هل يلزم من التّعبّد بالأمارة غير العلميّة محذور في عالم التّشريع من تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة واستلزامه الحكم بلا ملاك واجتماع الحكمين المتنافيين وغير ذلك ، أو لا؟ وليس المراد من الإمكان هو التّكوينيّ بحيث يلزم من التّعبّد بها محذور في عالم التّكوين ، فإنّ الإمكان التّكوينيّ لا يتوهّم البحث عنه في المقام.

وقد أورد عليه عدّة من الأساطين بوجه مشترك وإن كان عباراتهم مختلفة ، منهم المحقّق العراقي قدس‌سره فقال : «وكون موضوع هذا الإمكان والاستحالة أمرا تشريعيّا لا يقتضي خروج إمكانه عن التّكوين ، كما لا يخفى» (٢).

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٨٨.

(٢) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٨٨. انظر هامشه.

١٥١

ومنهم الإمام الرّاحل قدس‌سره حيث قال : «فإنّ الإمكان التّشريعيّ قسم من الوقوعيّ وليس قسيما له ، ولو صحّ تقسيمه حسب المورد لصحّ تقسيمه إلى أنّه فلكيّا» (١).

ومنهم بعض الأعاظم قدس‌سره فقال : «إنّ الإمكان والاستحالة من الامور الواقعيّة الّتي يدركها العقل ، وليس للإمكان قسمان : تكوينيّ وتشريعيّ ، بل الإمكان دائما تكوينيّ ، غاية الأمر ، أنّ متعلّقه قد يكون من الامور التّكوينيّة ... وقد يكون من الامور التّشريعيّة ...» (٢).

ومنهم شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره حيث أفاد : «أنّ الامور التّشريعيّة كالتّكوينيّة قد تكون موضوعا للإمكان ومصبّه ، لا نفسه وعينه فهو في المقام ـ كسائر المقامات ـ تكوينيّ» (٣).

هذا ، ولكن التّأمّل في كلام المحقّق النّائيني قدس‌سره يستدعي أن يقال : إنّ ظاهر ما عنونه في كلامه قدس‌سره من الإمكان التّشريعيّ وإن كان موهما لما استظهره المشايخ والأساطين من كونه قسما مقابلا للإمكانات ، قسيما للوقوعيّ وغيره ، إلّا أنّه من المستبعد جدّا أن يكون هذا المعنى الّذي لا ينبغي أن يتفوّه به هو مراده قدس‌سره بل مراده هو الإمكان الوقوعيّ قبال الامتناع الوقوعيّ.

غاية الأمر : الممكن الوقوعيّ أو الممتنع في المقام هو التّعبّد بالأمارات غير

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٣١.

(٢) مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٩١.

(٣) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

١٥٢

العلميّة ، فيفسّر ـ بناء على الإمكان ـ بما لا يلزم من وقوعه محال ومحذور في عالم التّشريع من الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة ونحوه ؛ وبناء على الامتناع ، بما يلزم من وقوعه محال ومحذور في عالم التّشريع ، ولو كان هذا المحذور أمرا تكوينيّا ، كاجتماع الضّدّين ونحوه ، ومن هنا يصحّ أن يعبّر عن الإمكان والامتناع بالتّشريعيين.

ويشهد على ما ذكرناه هو أنّه قدس‌سره بعد ما قال : «المراد من الإمكان هو التّشريعيّ» فسرّه بقوله : «يعنى : أنّ من التّعبّد بالأمارات ، هل يلزم محذور في عالم التّشريع من تفويت المصلحة ... أو أنّه لا يلزم شيء من ذلك» (١) ، ولعلّ هذا التّفسير إشارة إلى دفع الإيهام المذكور.

وبالجملة : إنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره قد سمّى الإمكان الوقوعيّ بالإمكان التّشريعيّ ، لمناسبة المقام ، وفسّره بما لا يلزم من وقوعه محذور في عالم التّشريع ولو كان المحذور نفسه تكوينيّا ، وفسّر مقابله وهو الامتناع ، بما يلزم من وقوعه محذور في عالم التّشريع ولو كان نفس المحذور تكوينيّا.

وعليه : فالإمكان التّكوينيّ ، بحسب اصطلاحه قدس‌سره ما لا يلزم من وقوعه محذور في عالم التّكوين قبال الامتناع التّكوينيّ ، والإمكان التّشريعيّ ما لا يلزم من وقوعه محذور في عالم التّشريع قبال الامتناع التّشريعيّ ، وليس هذان الإمكانان إلّا نفس الإمكان الوقوعيّ لا غير. غاية الأمر : أنّ الإمكان التّكوينيّ متعلّقه هي الامور التّكوينية ؛ وأنّ الإمكان التّشريعيّ متعلّقه هي الامور التّشريعيّة.

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٨٨.

١٥٣

وإن شئت ، فقل : إنّ الإمكان الوقوعيّ تكوينيّ دائما ، قد يكون متعلّقه أمرا تشريعيّا ، وقد يكون تكوينيّا ، فتوصيف الإمكان بالتّشريعيّ إنّما يكون باعتبار متعلّقه لا بلحاظ نفسه ، ومثل المحقّق النّائيني قدس‌سره أجلّ من أن لا يعرف أمثال هذه الامور.

)تنبيه(

لا يخفى عليك : أنّ المحاذير المتوهّمة في التّعبّد بالأمارات غير العلميّة كاجتماع الضّدّين أو المثلين أو تحليل الحرام وتحريم الحلال ، لا يختصّ بها ، بل تترتّب ـ أيضا ـ على الأمارات العقليّة العلميّة عند الخطاء وعدم الإصابة ، وكذا الامارات العقليّة غير العلميّة ، كالظّنّ الانسداديّ بناء على الحكومة ، فالتّعبّد بها يستلزم فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة ، أو اجتماعهما ، أو غير ذلك من سائر المحاذير المتقدّم ذكرها ؛ ولذا أورد الشّيخ الأنصاري قدس‌سره على الدّليل الثّاني المحكيّ عن ابن قبة ، بقوله : «بالنّقض بالامور الكثيرة الغير المفيدة للعلم ، كالفتوى والبيّنة واليد ، بل القطع ـ أيضا ـ لأنّه قد يكون جهلا مركّبا» (١).

نعم ، هذا النّقض إنّما يرد على ابن قبة إذا كان ذكر الخبر الواحد في كلامه من باب الانحصار ، وأمّا إذا كان من باب المثال فلا يرد النّقض عليه ، كما هو واضح.

ثمّ إنّه بقي الكلام فيما استدلّ به ابن قبة على عدم امكان التّعبّد بالخبر الواحد ، بل بمطلق الظّنّ ـ على ما عرفت في التّنبيه ـ وهو كما مرّ لا يخلو من أحد وجهين :

أحدهما : راجع إلى قياس الإخبار عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخبر الواحد ، على

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٠٧.

١٥٤

الإخبار عن الله تعالى به ، فكما أنّ الإجماع قام على بطلان الإخبار عن الله تعالى به ، كذلك الإخبار عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به.

والجواب عنه ، ما أفاده الشّيخ الأنصاري قدس‌سره فراجع كلامه. (١)

ثانيهما : راجع إلى كون العمل بالخبر الواحد موجبا لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، ولكنّ الأصحاب ذكروا هنا محاذير أخر للتّعبّد بالخبر الواحد ؛ ولذا ينبغي قبل الورود في الجواب عن هذا الوجه من الاستدلال ، تنويع المحاذير المتوهّمة وتقسيمها ، ثمّ تبيينها وتفسيرها كي يتّضح الجواب عنه ، فنقول :

أمّا تنويع المحاذير ، فالمعروف المتلقى من الأساطين ، منهم المحقّق النّائيني قدس‌سره (٢) وتلميذه بعض الأعاظم قدس‌سره وكذا شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره أنّ المحذور قسمان : الأوّل : ملاكيّ ؛ الثّاني : خطابيّ ، إلّا أنّ الإمام الرّاحل قدس‌سره خالفهم ، فقسّم المحاذير إلى أقسام أربعة :

أحدها : ما يرجع إلى الملاك ، كمحذور اجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين بلا كسر وانكسار ؛ ثانيها : ما يرجع إلى نفس الخطاب ، كمحذور اجتماع الضّدّين والنّقيضين والمثلين ؛ ثالثها : ما يرجع إلى مبادي الخطاب ، كمحذور اجتماع الإرادة والكراهة والحبّ والبغض ؛ رابعها : ما يرجع إلى لازم الخطاب ، كمحذور الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة ، ثمّ اعترض قدس‌سره على المحقّق النّائيني قدس‌سره بأنّ حصر المحذور في الملاكيّ والخطابيّ ممّا لا وجه له. (٣)

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ١٠٦.

(٢) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٨٩.

(٣) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٣١.

١٥٥

هذا ، ولكنّ يمكن أن يقال : بإمكان التّصالح والتّوفيق بين هذين الرّأيين ، بأنّ المحذور إمّا ملاكيّ أو خطابيّ ، والخطابيّ على أنحاء ثلاثة : منها : ما هو راجع إلى نفس الخطاب ؛ ومنها : إلى مبدئه ؛ ومنها : إلى لازمه.

وبعبارة اخرى : إنّ المحاذير الثّلاثة الّتي جعلها الإمام قدس‌سره قسيمة للمحذور الملاكيّ كلّها خطابيّة راجعة إلى الخطاب نفسه ومبدئه ولازمه. وعليه ، فترجع الأقسام الأربعة إلى القسمين وهما الملاكيّ والخطابيّ.

نعم ، عدّ الإلقاء والتّفويت من المحذور الخطابيّ ومن لوازم الخطابات ، إنّما هو باعتبار كونهما في طول الخطاب ، وإلّا فهما أمران قبيحان محذوران للمخاطب (بالكسر) ، فيكون المحذور إذا ملاكيّا أو خطابيّا أو مخاطبيّا.

وإن شئت ، فقل : إنّ محذور الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة خطابيّ باعتبار ، ومخاطبيّ باعتبار آخر ، كما يمكن أن يكون ملاكيّا باعتبار ثالث ، بمعنى : أنّه يكون محذورا ناشئا من الملاك ، ولولاه لم يلزم التّفويت والإلقاء ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ في المقام قسم آخر من المحذور ـ أيضا ـ يسمّى بنقض الغرض وهو المحذور الّذي يلزم من ناحية الآمر أو النّاهي المخاطب ، بتقريب ، أنّ الغرض من الأمر هو تحصيل العبد للمصلحة وتلبّسه بها ، والغرض من النّهي هو تبعّده عن المفسدة والتّحرز عنها ، فلو جاز التّعبّد بالأمارة غير العلميّة وورود الأمر به من جانب الشّرع ، لزم نقض الغرض والتّلبّس بالمفسدة ، أو التّبعّد عن المصلحة عند المخالفة وعدم الإصابة للواقع.

ولا يخفى عليك : أنّ محذور اجتماع الضّدّين أو النّقيضين إنّما يلزم لو خالفت

١٥٦

الأمارة ولم تصب الواقع ، وإلّا يلزم اجتماع المثلين. هذا كلّه في تقسيم المحاذير.

وأمّا تفسير المحاذير ، فنقول : بنحو الإيجاز والإشارة ، أمّا عنوان تحريم الحلال الواقع في كلام ابن قبة ، فالمراد منه ـ على تقدير قيام الأمارة على الوجوب ـ هو الإلزام بفعل شيء مع كونه مباحا ، حلالا تركه واقعا ، و ـ على تقدير قيام الأمارة على الحرمة ـ هو الإلزام بتركه مع كونه مباحا ، حلالا فعله واقعا ، فيلزم تحريم ترك المباح أو تحريم فعله ، وهذا كما ترى.

وأمّا عنوان تحليل الحرام الواقع في كلامه ، فالمراد منه هو التّرخيص في الفعل أو التّرك مع كونه ممنوعا واقعا ، فقامت الأمارة على جواز ارتكاب شيء مع كونه حراما واقعا أو على جواز تركه مع كونه واجبا واقعا ، وهذا هو الموجب للإلقاء في المفسدة أو تفويت المصلحة ، وكلّ ذلك صدوره من الحكيم ، محال بحكم العقل والفطرة.

وأمّا محذور اجتماع المثلين ، فيلزم عند إصابة الأمارة للواقع ، فيجتمع حينئذ الوجوبان أو الحرمتان ؛ كما أنّ محذور اجتماع الضّدّين يلزم إذا كان الواقع أحد الأحكام الخمسة وأدّت الأمارة إلى خلافه ؛ ومحذور اجتماع النّقيضين يلزم إذا أدّت إلى نفيه.

وأمّا محذور اجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين أو غير الملزمتين أو محذور لزوم الحكم بلا ملاك ، فهو فيما إذا قامت الأمارة على وجوب شيء أو استحبابه مع كونه في الواقع حراما ومكروها ، فمع بقاء ملاك كلّ من الوجوب والحرمة ، أو الاستحباب والكراهة ، يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة ، ومع عدم الملاك لأحدهما ، يلزم وجود الحكم بلا ملاك.

١٥٧

وأمّا المحذور الّذي أشرنا إليه وهو نقض الغرض ، فقد عرفت تقريبه وتفسيره بما حاصله : أنّ المفروض في الأوامر والنّواهي تعلّق الإرادة الجدّيّة بإيجاد الفعل وإعدامه ، فلو ورد الأمر من ناحية الشّارع بالتّعبّد بالأمارة المفضية إلى خلاف الواقع ، لزم نقض الغرض المستحيل حتّى عند الأشعريّ المنكر للحسن والقبح العقليّ.

هذه هي المحاذير المتوهّمة وتفاسيرها ، فلنشرع الآن في دفعها :

فنقول : يقع الكلام في مقامين :

الأوّل : في دفع المحاذير على مبنى انسداد باب العلم.

الثّاني : في دفعها على مبنى انفتاحه.

أمّا الأوّل : فبناء على المختار في باب الأمارات من كونها حجّة على وجه الطّريقيّة المحضة ، تندفع المحاذير كلّها البتّة ؛ إذ على هذا الوجه لا حكم إلّا الواقع ولا ملاك إلّا ملاكه فقط ، ليس وراءه حكم آخر ، وليس وراء ملاكه ملاك آخر ، وعليه ، فلا مجال للزوم أيّ محذور من المحاذير المتقدّمة ، لا تحريم الحلال ولا تحليل الحرام ولا اجتماع المثلين عند الإصابة أو الضّدّين أو النّقيضين عند الخطاء ولا لزوم الحكم بلا ملاك.

وإن شئت ، فقل : إنّ الأمر في باب الأمارات ووجوب العمل على طبقها يكون طريقيّا ، لا شأن له إلّا حفظ الواقع ، كما لا شأن لنفس الأمارة إلّا كشف الواقع والحكاية عنه. غاية الأمر ، تكون منجّزة للواقع على المكلّف عند الإصابة ، ومعذّرة عند الخطاء من دون أن يكون هناك ملاك آخر وراء ملاك الواقع مقتض لحكم آخر من المولى قبال الواقع ، فإذا لا يلزم المحاذير المتقدّمة ، كما هو واضح.

١٥٨

نعم ، يبقى محذور تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ؛ ومحذور نقض الغرض ، بحالهما ؛ ولذا يقال : لم لم يجعل الشّارع وجوب الاحتياط في الشّبهات كلّها حتّى لا يلزم التّفويت والإلقاء.

هذا ، ولكن تصدّى المحقّق النّائيني قدس‌سره لدفع هذا المحذور على فرض الانسداد ، فقال : «فإنّ المكلّف لا يتمكّن من استيفاء المصالح في حال انسداد باب العلم ، إلّا بالاحتياط التّام ، وليس مبنى الشّريعة على الاحتياط في جميع الأحكام ، فالمقدار الّذي تصيب الأمارة للواقع يكون خيرا ، جاء من قبل التّعبّد بالأمارة ولو كان مورد الإصابة أقلّ قليل ، فإنّ ذلك القليل ـ أيضا ـ كان يفوت لو لا التّعبّد ، فلا يلزم من التّعبّد إلّا الخير» (١).

حاصل كلامه قدس‌سره يرجع إلى أنّ مبنى الشّريعة ـ وهي سمحة ، سهلة ـ ليس على الاحتياط ، وإجراء البراءة في كلّ مورد يوجب التّفويت رأسا ، فلا محيص عن جعل الأمارة والأمر بالتّعبّد بها وإن أوجب بعض الأحيان ، التّفويت والإلقاء ، بل المقدار الّذي تصيب الأمارة يكون خيرا ، جاء من قبل التّعبّد بالأمارة ولو كان مورد الإصابة أقلّ قليل.

وقد أورد عليه الإمام الرّاحل قدس‌سره بقوله : «يرد عليه بأنّ الأمر لو كان دائرا بين العمل على طبق الأمارة وترك العمل والإهمال رأسا ، كان الأمر كما أفاده قدس‌سره ، لكنّه ليس دائرا بينهما ، بل هو دائر بين العمل بالاحتياط أو التّجزّي فيه ، أو العمل بالأمارة ، فحينئذ يرد الإشكال عينا على التّرخيص في ترك الاحتياط أوّلا ، وعلى

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٩٠.

١٥٩

العمل بالأمارة دون التّجزّي في الاحتياط ثانيا» (١).

ولكن يمكن أن يقال في دفع هذا الإيراد : إنّ إصابة الواقع والوصول إليه بالاحتياط النّاقص ، ليست بأكثر من الوصول والإصابة بالأمارة ، مضافا إلى ما في العمل بها من التّسهيل والسّهولة ، أو يقال : إنّ العمل بالأمارة يكون ذا مصلحة جابرة ، أو العمل بالاحتياط يكون ذا مفسدة غالبة.

وقد أورد على المحقّق النّائيني قدس‌سره ـ أيضا ـ شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره ذلك الإيراد المذكور بتقرير آخر ، فقال : «إنّ المنافي لأساس السّهولة والسّماحة الشّريعة ليس إلّا الاحتياط التّام المخلّ بالنّظام ، أو الموجب للعسر والحرج ، وأمّا الاحتياط غير التّام ، فلا» (٢).

ولا يخفى : أنّ هذا التّقرير خال عن الإشكال والإيراد. هذا تمام الكلام في محذور التّفويت.

وأمّا محذور نقض الغرض ، فهو ـ أيضا ـ ممّا لا يدفع بالبيان الّذي تقدّم في دفع سائر المحاذير ، ووجهه ظاهر ، إلّا أنّ المحقّق العراقي قدس‌سره قد تصدّى لدفعه في ظرف الانسداد ، فقال ما هذا لفظه : «وأمّا شبهة نقض الغرض وتفويت المصلحة فهما غير جاريتين في ظرف الانسداد ؛ لأنّ فوت الغرض والمصلحة حينئذ أمر قهريّ لازم بمقتضى حكم العقل بالبراءة ، فلا يكون ذلك مستندا إلى التّعبّد بالأمارة ، كما هو واضح» (٣).

__________________

(١) أنوار الهداية : ج ١ ، ص ١٩٣.

(٢) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

(٣) نهاية الأفكار : ج ٣ ، ص ٥٩.

١٦٠