مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

تلك الدّلالة ، وأجنبيّة عمّا كنّا بصدد إثباته.

كيف ، وإنّ عزل العقل عن الحكم في الفروع والاصول ممّا لا يساعده النّقل ، بل يكذّبه الكتاب والسّنّة.

أمّا الكتاب ، ففيه آيات كثيرة صريحة في أصالة العقل وعظم شأن أولى الباب.

وأمّا السّنة : فهي الرّوايات الكثيرة المتضافرة من صحاح وموثقات مذكورة في كتاب العقل والجهل من اصول الكافي وغيره من الكتب المعتمدة ، فراجع.

ثمّ إنّه قد ورد في الفقه فروع يتراءى منها المنع عن العمل بالقطع :

منها : ما لو كان لأحد درهم عند الودعيّ وللآخر درهمان ، فسرق أحد الدّراهم أو تلف من عند الودعيّ ، فحكموا بأنّ لصاحب اثنين ، واحدا ونصفا ، وللآخر نصفا.

قد يتوهّم : إنّ الحكم بالتّنصيف مخالف للعلم الإجمالي ، بأنّ تمام هذا الدّرهم المنصّف لأحدهما وهو إمّا صاحب الدّرهمين ، أو صاحب الدّرهم ، كما أنّه ربما يكون مخالفا للعلم التّفصيلى ؛ وذلك فيما إذا أخذ الدّرهم المشترك بينهما شخص ثالث واشترى به متاعا ، فإنّه حينئذ يقطع تفصيلا بعدم دخوله في ملكه ؛ للقطع بكون بعض الثّمن ملكا للغير ، فجواز التّصرّف في هذا المتاع مخالف للعلم التّفصيلي ، ومانع عن العمل بالقطع.

وفيه : أنّ حكم الشّرع بالتّنصيف يكون لأحد أمرين : أحدهما : أنّه من باب الصّلح القهريّ الصّادر من له الولاية على الأنفس فضلا عن الأموال ، فملّك هو

١٢١

بولايته نصف الدّرهم لغير مالكه ، حسما لمادّة الخصومة ، وعليه ، فيدخل النّصف في ملك الغير تعبّدا ، ومعه لا مخالفة للعلم الإجمالي ولا التّفصيليّ.

ثانيهما : أنّه من باب قاعدة العدل والإنصاف وهي من القواعد العرفيّة العقلائيّة قد أمضاها الشّرع في غير مورد ، نظير ما إذا تداعى شخصان في مال يكون تحت يدهما معا ، أو أقام كلّ واحد البيّنة أو حلفا ، أو نكلا مع عدم التّمكن من إقامة البيّنة ، فالحكم حينئذ هو التّنصيف لأجل تلك القاعدة ، حيث إنّه لو عمل هنا بالقرعة ـ مثلا ـ ودفع جميع المال إلى أحدهما المقروع له ، احتمل وصوله بتمامه إلى مالكه ، كما احتمل عدم وصول شيء منه إلى مالكه ، بخلاف العمل بقاعدة العدل والإنصاف في الحكم بتنصيفه ؛ إذ حينئذ يقطع بوصول بعض المال إلى مالكه وعدم وصول بعضه الآخر إليه ، وعليه ، فيلزم الموافقة القطعيّة وكذا المخالفة القطعيّة في الجملة.

وأمّا دفع التّوهّم المذكور ، بأنّ الامتزاج موجب للاشتراك القهريّ وكلّ منهما يكون شريكا قهرا في كلّ واحد واحد من الدّراهم الثّلاثة ـ مثلا ـ ولازمه أن يكون المسروق أو التّالف لهما معا لا لأحدهما ، ففيه :

أوّلا : أنّ الشّركة القهريّة إنّما تتمّ فيما إذا امتزج شيئان امتزاجا موجبا للوحدة عرفا بارتفاع الاثنينيّة ، كامتزاج السّكّر والماء ، أو امتزاج الحليب والماء ونحوهما من الأجناس المختلفة ، أو امتزاج الماء والماء ، أو الحليب والحليب ونحوهما من الأجناس المتّحدة ، وأنت ترى ، أنّ اختلاط الدّراهم ليس من هذا القبيل ، ولا امتزاج هنا موجبا للوحدة وارتفاع الاثنينيّة ، وهذا واضح غاية الوضوح.

وثانيا : أنّه لو سلّمت الشّركة القهريّة في مثل المقام ، لزم إعطاء ثلث الدّرهمين

١٢٢

وهو ثلثا درهم واحد ، لصاحب الدّرهم ، وإعطاء ثلثي الدّرهمين وهو درهم وثلث لصاحب الدّرهمين ، وهذا خلاف ما هو المنصوص من إعطاء ربع الدّرهمين وهو النّصف لصاحب الدّرهم ، وإعطاء ثلاثة أرباع الدّرهمين وهو درهم ونصف ، لصاحب الدّرهمين.

ومنها : ما إذا وجد المني في ثوب مشترك بين شخصين ، فلو قيل : بجواز اقتداء أحدهما بالآخر أو ثالث بهما في صلاة واحدة ، أو في صلاتين مترتّبتين كالظّهرين أو العشاءين ، لزم أن يعلم المقتدي تفصيلا ببطلان صلاته ، إمّا لجنابة نفسه أو إمامه ، كما هو في فرض اقتداء أحدهما بالآخر ؛ وإمّا لجنابة الإمام الأوّل أو الثّاني ، كما هو في فرض اقتداء الثّالث بهما في صلاة واحدة أو لزم أن يعلم ببطلان صلاته العصر أو العشاء إمّا لجنابة الإمام ، أو لفوات التّرتّب ، كما هو في فرض اقتداء الثّالث بهما في صلاتين مترتّبتين.

وهنا ـ أيضا ـ فرض آخر وهو اقتداء الثّالث بهما في صلاتين غير مترتّبتين ، كالعصر والمغرب ، أو العشاء والصّبح ، فيعلم حينئذ ببطلان إحدى صلاتيه إمّا لجنابة الإمام الأوّل أو الثّاني.

ففي هذه الفروض حكم بجواز الايتمام وصحّة الصّلاة ، وأنت ترى ، أنّ هذا الحكم مخالف للعلم والقطع ومانع عن العمل به.

وفيه : أنّ الحكم بجواز الايتمام في الفروض المذكورة إنّما هو فيما إذا قلنا : بكفاية صحّة صلاة الإمام عنده فيه ولو لم تكن صحيحة عند المأموم ، فيجوز له الاقتداء ويصحّ صلاته ولو علم ببطلان صلاة الإمام تفصيلا من دون أن يعلم الإمام ببطلانه ،

١٢٣

فحينئذ لا علم للمأموم ببطلان صلاته كي يكون الفرع من موارد مخالفة القطع والعلم.

وهذا بخلاف ما إذا قلنا : بعدم الكفاية نظرا إلى أنّه يعتبر في جواز الاقتداء صحّة صلاة الإمام عند المأموم ، أيضا.

وإن شئت ، فقل : إنّ ما حكم في الفروض المتقدّمة من جواز الايتمام يدور مدار القول بكفاية صحّة الصّلاة عند الإمام دون المأموم ، فهو يعلم حينئذ بصحّة صلاته ، لا أنّه يعلم ببطلانها كي يكون المقام من مصاديق المنع عن العمل بالعلم والقطع.

(تنجيز العلم الاجماليّ)

الأمر التّاسع : هل القطع الإجماليّ بالتّكليف الفعليّ ، كالقطع التّفصيليّ به ممّا يوجب تنجّز التّكليف وثبوته ،

وكذا يوجب سقوطه عند امتثاله ، أم لا؟

فهنا مقامان :

الأوّل : ثبوت التّكليف بالعلم الإجماليّ وعدمه.

الثّاني : سقوط التّكليف بالامتثال الإجمالي وعدمه.

أمّا المقام الأوّل : فالكلام فيه يقع في مراحل ثلاثة :

الاولى : هل للعلم الإجماليّ اقتضاء بالنّسبة إلى التّكليف ، أم لا؟ بل يكون وجوده كالعدم ، لا يؤثّر في ثبوت التّكليف والحكم أصلا.

الثّانية : بعد الفراغ عن الاقتضاء وأصل التّأثير ، هل يكون ذلك التّأثير بحدّ العلّيّة التّامّة ، أم لا؟

الثّالثة : بعد تسليم كون التّأثير بحدّ العلّيّة التّامّة ، هل تكون تلك العلّيّة مطلقا

١٢٤

حتّى بالنّسبة إلى وجوب الموافقة القطعيّة ، أم لا؟ بل تختصّ بالإضافة إلى حرمة المخالفة القطعيّة.

أمّا المرحلة الاولى : فلا شبهة في اقتضاء العلم الإجماليّ وتأثيره ، بمعنى : ليس حاله حال الشّكّ البدويّ أو الظّنّ حال الانفتاح المحتاج إلى الجعل والاعتبار ، كما هو ظاهر كلام المحقّق القمي قدس‌سره (١).

والوجه في اقتضاءه وتأثيره ، أنّه لا فارق بين العلم الإجماليّ والتّفصيليّ من حيث حقيقة العلم ، فليس الإجماليّ طورا من العلم ، والتّفصيليّ طورا آخر منه ، بل هما مشتركان في العلميّة ، والامتياز إنّما هو في وصف الإجماليّ والتّفصيليّ ، وواضح ، أنّ هذا الوصف إنّما هو بحال المتعلّق ، فلا إجمال في العلم والمعلوم بالذّات ، بل الإجمال في المعلوم بالعرض وما ينطبق عليه المعلوم بالذّات وهو الّذي قد يكون مجملا مردّدا بين أمرين أو امور ، وقد يكون مفصّلا متعيّنا.

وعليه : فالعلم الإجمالي ، كالتّفصيلي علم ، له تأثير واقتضاء ، ولو قلنا : بعدم الاقتضاء وجواز التّرخيص في أطرافه ، كما يجوز في مورد الشّكّ البدويّ ، لزم صدور ترخيص من الشّرع لارتكاب المعصية القطعيّة ، والعقل يستقلّ بقبحه.

وبعبارة اخرى : قبح التّرخيص في مخالفة التّكليف المعلوم يكون من الأحكام العقليّة المستقلّة مطلقا ، سواء كان معلوما بالإجمال أو بالتّفصيل.

ثمّ إنّه قد يقال : بأنّ العقل إنّما يحكم بالقبح والمخالفة إذا علم المكلّف بالمخالفة والعصيان ، حين العمل ، وفي المقام لا علم له كذلك حينما يرتكب كلّ واحد من الطّرفين

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ٢ ، ص ٢٧.

١٢٥

أو الأطراف ، لاحتمال وجود التّكليف في الطّرف الآخر ، فإذا لا حكم للعقل بالقبح والمخالفة.

نعم ، يعلم المكلّف بالمخالفة بعد ارتكاب الكلّ ، ومن المعلوم ، عدم الحرمة في تحصيل العلم بالمخالفة ، بل الحرام هي نفس المخالفة ؛ ولذا لو ارتكب مشكوك الحرمة بشكّ بدويّ لإجراء أصالة البراءة ، لا مانع له عن تحصيل العلم بالحرمة بسبب السّؤال من المعصوم عليه‌السلام ، أو بمعونة الرّمل والجفر وغيرهما من العلوم الغريبة.

وفيه : أنّ حكم العقل بقبح المخالفة يدور مدار أمرين : أحدهما : قيام الحجّة ؛ ثانيهما : وجود القدرة ، والمفروض وجود هذين الأمرين في المقام ؛ ضرورة ، أنّ المكلّف يعلم بوصول التّكليف إليه من حيث الكبرى لعلمه بحرمة كذا أو وجوب كذا ، ومن حيث الصّغرى لعلمه بأنّ هذا هو ذاك الحرام أو ذاك الواجب ، فيتمّ البيان بهذا المقدار ، بحيث لو خالف وعوقب ، لم يكن عقابا بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان.

ولقد أجاد فيما مثّل للمقام بعض الأعاظم قدس‌سره فقال : «إنّا لا نرى فرقا في الحكم بالقبح بين ما إذا عرف العبد ، ابن المولى بشخصه فقتله ، وما إذا علمه إجمالا بين عدّة أشخاص فقتلهم جميعا» (١).

أمّا المرحلة الثّانية : فالحقّ فيها أن يكون العلم الإجمالي علّة تامّة لإثبات اشتغال الذّمّة ولتنجيز التّكليف ، بحيث لا مجال لأن يرد التّرخيص على خلافه ؛ إذ لو كان التّرخيص بالنّسبة إلى جميع الأطراف لكان إذنا في المعصية القطعيّة ، وبالنّسبة إلى بعضها لكان إذنا في المعصية المحتملة مع العلم بوجود تكليف في البين ، ولا شبهة

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٧٠.

١٢٦

في كلا التّرخيصين عقلا ، بل العقل يراهما مناقضا لما علم ثبوته في العهدة من التّكليف.

وإن شئت ، فقل : إنّ العلم الإجماليّ كالتّفصيليّ في انكشاف الحكم وإحراز التّكليف به ، وفي كونه رافعا لموضوع البراءة عقلا ، فينجّز التّكليف بنحو العلّيّة التّامّة كتنجيز العلم التّفصيليّ له بهذا النّحو.

غاية الأمر : يكون المكلّف في العلم الإجمالي جاهلا بمتعلّق التّكليف بعد إحراز نفسه وانكشاف التّامّ به ، وهذا الجهل لا يقدح ولا يكون عذرا شرعيّا أو عقليّا ، بل لا بدّ عقلا من الخروج عن عهدة ذلك التّكليف الإلزاميّ ، ولا يتأتّى الخروج عنها إلّا بفعل كلا الطّرفين ، أو كلّ الإطراف أو بالتّرك كذلك ؛ لكون الحكم والتّكليف في هذه الدّائرة وعدم خروجه عنها ، فإذا لا مساغ عقلا لجعل التّرخيص حول العلم الإجماليّ أصلا ، لا كلّا ولا بعضا ؛ لما عرفت : من لزوم التّرخيص في المعصية المقطوعة أو المحتملة وهو قبيح عند العقل والشّريعة ، بل مناقض لدى الارتكاز والفطرة.

فتحصّل : أنّ جعل التّرخيص في أطراف العلم الإجماليّ غير ممكن ثبوتا ، وأنّ اشتغال الذّمّة بالتّكليف في مورد العلم الإجماليّ يقينيّ تنجيزيّ غير منوط بعدم جريان الأصل. وواضح ، أنّ التّكليف اليقينيّ يقتضي الفراغ كذلك وهو لا يحصل إلّا بالموافقة القطعيّة بإتيان جميع الأطراف أو بتركها.

أمّا المرحلة الثّالثة : فقد انقدح حالها ممّا ذكر في المرحلة الثّانية ، بأنّ العلّيّة التّامّة للعلم الإجماليّ تكون مطلقة ، وبالنّسبة إلى الموافقة القطعيّة ، أيضا.

هذا ، ولكن التزم المحقّق الخراساني قدس‌سره بخصوص الاقتضاء والتّأثير في العلم

١٢٧

الإجماليّ ـ قبال الشّكّ البدويّ ـ لا العلّيّة التّامّة ، فقال ما محصّله (١) : إنّ حكم العقل بوجوب متابعة العلم الإجماليّ تعليقيّ ، لا تنجيزي. بتقريب : أنّ موضوع الحكم الظّاهري وهو الجهل منحفظ في كلّ واحد من الطّرفين أو الأطراف ؛ وذلك ، لعدم انكشاف التّكليف بالعلم الإجماليّ انكشافا تامّا ، فإذا لا مانع من الإذن والتّرخيص بالمخالفة مطلقا ، احتمالا كان أو قطعا.

نعم ، قد يتوهّم مناقضة حكم الظّاهريّ مع الواقعيّ هنا ، ولكن يدفع بأنّ محذور المناقضة يأتي في الشّبهة غير المحصورة والشّبهة البدويّة ـ أيضا ـ فيتفصّى عنها هنا بما يتفصّى عنها هناك ، من أنّه يحمل حكم الواقعيّ على الفعليّ التّعليقي ، بمعنى : أنّه لو علم به المكلّف لتنجّز عليه ، والحكم الظّاهريّ على الفعليّ التّنجيزيّ ، وعليه ، فالحكمان خلافان لا متناقضان.

ولا يخفى : أنّ في كلامه قدس‌سره مواقع للنّظر :

أحدها : أنّه لا معنى لقوله قدس‌سره : بعدم انكشاف التّكليف بالعلم الإجماليّ تمام الانكشاف ، بل فيه خلط بين التّكليف ومتعلّقه ؛ إذ التّكليف منكشف به كذلك ، كالعلم التّفصيليّ ، فلا إجمال فيه من هذه الجهة ، إنّما الإجمال في متعلّقه ، ولا غرو فيه ؛ لعدم اعتبار تمييز متعلّق التّكليف عن غيره ، بل اللّازم هو وصول التّكليف وقيام الحجّة عليه بعد فرض وجود القدرة ، والمفروض أنّه واصل.

ثانيها : أنّه لا وجه لما التزم به من وجود محذور المناقضة في الشّبهة غير المحصورة ، والشّبهة البدويّة ؛ إذ لا معنى لتطرّق ذلك في هاتين الشّبهتين.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٥.

١٢٨

أمّا الشّبهة البدويّة ، فلأنّ المفروض ، أنّ التّكليف لم يكن في موردها واصلا حتّى يناقضه الحكم الظّاهري ، وهذا بخلاف مورد العلم الإجماليّ والشّبهة المحصورة المقرونة به.

وبعبارة اخرى : قياس العلم الإجماليّ والشّبهة المحصورة المقرونة به بالشّبهة البدويّة يكون مع الفارق ، كيف ، وأنّه لا بيان للتّكليف ولا وصول في مثل الشّبهة البدويّة ، بل تجري فيها قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بخلاف الشّبهة المقرونة به ، فإنّ فيها وصولا وبيانا ، لا تجري معه قاعدة القبح بلا كلام. هذا في الشّبهة البدويّة.

وأمّا الشّبهة غير المحصورة ، فلما سيجىء في مبحث الاشتغال من أنّ وجه جريان الأصل في أطرافها هو عدم منجّزيّة العلم الإجماليّ فيها ؛ لعدم التّمكن من إتيان جميع الأطراف أو تركها أو لوجود الضّرر أو الحرج في ذلك التّرك أو لضعف احتمال وجود المعلوم بالإجمال في مورد الارتكاب.

ولقد أجاد الإمام الرّاحل قدس‌سره فيما مثّل لتقريب المسألة ، حيث قال : «ألا ترى أنّه إذا كان ولدك العزيز في بلد مشتمل على مائة ألف نفس ، وسمعت بهلاك نفس واحدة من أهل البلد ، فإنّك لا تفزع ، لاحتمال كون الهالك ولدك ، ولو فزعت لكنت على خلاف المتعارف وصرت موردا للاعتراض ، وهذا ليس من باب قصور في المعلوم ، كما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره بل لضعف الاحتمال لا يعتني به العقل والعقلاء» (١).

ثالثها : أنّه لا أساس لقوله قدس‌سره : بالفعليّة التّعليقيّة في الحكم ، بمعنى : أنّه لو تعلّق

__________________

(١) أنوار الهداية : ج ١ ، ص ١٦١.

١٢٩

به القطع لتنجّز ؛ وذلك ، لما عرفت منّا في المباحث الماضية ما هو معيار الفعليّة والإنشائيّة ، بل لم يقل ، ولا ينبغي أن يقول أحد : بدخل العلم في الفعليّة ، بل العلم دخيل في التّنجّز كالقدرة ؛ ولذا نقول : باشتراك العالمين والجاهلين في الأحكام الشّرعيّة. على أنّ المفروض هو كون متعلّق العلم الإجماليّ حكما فعليّا من جميع الجهات ، فيكون فرض عدم الفعليّة من بعض الجهات خلفا.

رابعها : أنّه لا معنى لقوله قدس‌سره : بانحفاظ موضوع الحكم الظّاهريّ وهو الجهل في مورد العلم الإجماليّ ؛ ضرورة ، أنّ العلم الإجماليّ بيان للتّكليف ، رافع للجهل به منكشف به الحكم انكشافا تامّا ، ومعه كيف يعقل أن يقال : بحفظ مرتبة الحكم الظّاهريّ وبقاء موضوعه وهو الجهل.

ثمّ إنّ شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره قد استفاد من كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره أنّه أراد حلّ عويصة المناقضة بين الحكم الواقعيّ والظّاهريّ باختلاف الرّتبة بينهما ؛ ولذا أورد عليه : بأنّ المانع لا يكون تضادّ الأحكام كي يجاب باختلاف الرّتبة بينها ، بل المانع عبارة عن حكم العقل بوجوب متابعة العلم تنجيزا من غير فرق بين العلمين. (١)

واستفاد ذلك ـ أيضا ـ بعض الأعاظم قدس‌سره (٢) من كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره.

ولكنّ الإنصاف ، أنّ هذه الاستفادة بعيدة عن مرامه قدس‌سره غاية البعد ؛ كيف ، وأنّه قدس‌سره قد صرّح هنا : بأنّ التّفصّي عن محذور المناقضة هو التّفصّي الّذي أشرنا إليه سابقا ، ويأتي إن شاء الله مفصّلا ، ومحصّل كلامه قدس‌سره الماضي والآتي ، هو ما ذكرناه من

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٧١.

١٣٠

الجمع بين الحكم الظّاهريّ والواقعيّ بالحمل على الفعليّ التّقديريّ والتّنجيزيّ ، كما لا يخفى على من راجع كلامه قدس‌سره.

والشّاهد على ما قلناه : هو أنّه قدس‌سره ـ على ما سيجيء ـ أجاب عن القول بالجمع بينهما باختلاف الرّتبة ، كما عن المحقّق الفشاركي قدس‌سره وظاهر كلام الشّيخ الأنصاري قدس‌سره في أوّل مبحث البراءة والتّعادل والتّراجيح ، فقال قدس‌سره : «كما لا يصحّ التّوفيق بأنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة ، بل في مرتبتين ... فإنّ الظّاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعيّ ، إلّا أنّه يكون في مرتبته ـ أيضا ـ وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة» (١).

فتحصّل : أنّ المستفاد من كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره هو أنّه كان بصدد الجمع بين الحكمين بإمكان جعل الحكم الظّاهريّ مع العلم الإجماليّ لانحفاظ مرتبته معه ، وأمّا الجمع بينهما باختلاف الرّتبة ، فقد أخطأه وصرّح بعدم صحّته. وعليه ، فلا مجال لما عن شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره وبعض الأعاظم قدس‌سره من الإيراد عليه قدس‌سره مبتنيا على ما استفادا من كلامه قدس‌سره من أنّه قال : بالجمع باختلاف الرّتبة ، نعم ، يرد عليه ما ذكرناه آنفا ، فراجع.

هذا كلّه في الإذن والتّرخيص حول العلم الإجماليّ حسب مرتبة الجعل والتّشريع ، فقد عرفت : أنّه لا مجال للإذن والتّرخيص في هذه المرتبة أصلا ، لا بالنّسبة إلى جميع الأطراف ، ولا إلى بعضها.

وأمّا الإذن والتّرخيص حسب مرتبة الفراغ وتفريغ الذّمّة عمّا اشتغلت به ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٥٣ إلى ٥٥.

١٣١

فهو أمر ممكن ثبوتا ، فللشّرع أن يكتفي بالامتثال الاحتماليّ مكان الامتثال اليقينيّ ، حتّى في موارد ثبوت التّكليف وإحرازه بالعلم التّفصيلي ، كما في الاستصحابات الجارية في الموضوعات المنقّحة لموضوع الفراغ ، كاستصحاب الطّهارة ونحوها ، وكما في موارد جريان قاعدة التّجاوز والفراغ ، ففي هذه الموارد ترخيص وتوسعة في مقام الفراغ مع أنّ العلم التّفصيلي بالتّكليف يكون علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة بلا شبهة.

ولا يخفى عليك : ان التّرخيص في مقام الفراغ لا ينافي كون العلم الاجماليّ علّة تامّة ، بل يؤكّد ذلك ؛ إذ لو لا العلّيّة التّامّة لما احتاج إلى التّرخيص والتّوسعة من قبل الشّارع.

بقي هنا شيء : وهو أنّ العلم الإجماليّ بناء على كونه علّة تامّة لتنجّز التّكليف كالعلم التّفصيلي ، يوجب استحالة التّرخيص والإذن في أطرافه ، ومعه لا يصل الدّور إلى الاصول العمليّة في مقام الإثبات.

وأمّا بناء على الاقتضاء والتّأثير ، فهل يجري الاصول العمليّة وتسقط بالمعارضة ، أو لا تجري للزوم المناقضة؟ فيه وجهان. والتّحقيق في ذلك موكول إلى محالّها المقرّرة.

إن قلت : لا ثمرة للنّزاع في العلّيّة والاقتضاء ؛ إذ على العلّيّة لا تجري الاصول ، وعلى الاقتضاء وإن كانت تجري ، لكن تسقط بالمعارضة ، فأين الفائدة.

قلت : تظهر الثّمرة فيما إذا كان لجريان الأصل في بعض الأطراف مانع ، نظير ما إذا كان أحد الكأسين مسبوقا بالطّهارة دون الآخر ، حيث إنّ جريان استصحاب

١٣٢

الطّهارة في الطّرف المسبوق بها ، يعارض جريان قاعدة الطّهارة في الطّرف غير المسبوق بها ، فيسقطان ، وحينئذ يجري قاعدة الطّهارة في الطّرف المسبوق ـ بلا معارضة ـ بناء على الاقتضاء ، وأمّا بناء على العلّيّة التّامّة ، فلا يجري الأصل رأسا حتّى يصل الدّور إلى المعارضة وجريان قاعدة الطّهارة.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل (ثبوت التّكليف بالعلم الإجماليّ).

وأمّا المقام الثّاني (سقوط التّكليف بالامتثال الإجماليّ ، بمعنى : هل يكفي الامتثال بالعلم الإجماليّ في فراغ الذّمّة مع التّمكّن من الامتثال التّفصيليّ والعلم به تفصيلا ، أم لا؟).

فنقول : أمّا بناء على عدم التّمكّن من الامتثال التّفصيليّ ، فلا شبهة ولا كلام في كفاية الامتثال الإجماليّ مطلقا ، سواء كان في الامور التّعبّديّة أو التّوصّليّة ، وسواء كان في الشّبهات المقرونة بالعلم الإجماليّ أو غير المقرونة به ، وسواء كان في الشّبهات الحكميّة ـ قبل الفحص أو بعده ـ أو الموضوعيّة.

والسّر فيه : عدم طريق آخر غير الامتثال الإجماليّ.

وأمّا بناء على التّمكّن من الامتثال التّفصيلي ، فيقع الكلام فيه تارة في التّوصّليّات ، واخرى في التّعبّديّات.

أمّا التّوصّليّات ، فلا شبهة ولا كلام ـ أيضا ـ في كفاية الامتثال الإجماليّ فيها ؛ إذ ليس الغرض فيها إلّا حصول المأمور به ومجرّد وجوده بأيّ وجه اتّفق ، ومعه يسقط الأمر والتّكليف قطعا مطلقا ، سواء كان ذلك الأمر التّوصّليّ من قبيل الدّفن ، نظير دفن الميّتين فيما إذا اشتبه المسلم منهما بالكافر ، أو كان من قبيل الدّين ، نظير

١٣٣

إعطاء الدّرهم لزيد وعمرو إذا علم بدين درهم ، إمّا لزيد أو لعمرو ، أو كان من قبيل الغسل ، نظير غسل المتنجّس بمائعين طاهرين يعلم إجمالا ، أنّ أحدهما مطلق ، والآخر مضاف ، أو كان من قبيل غير تلك الامور من البيع والشّراء والإجارة والطّلاق والعتق ونحوها من العقود والإيقاعات.

وعليه : فلا وجه لما عن بعض الأعاظم قدس‌سره من إلحاق الوضعيّات ـ كالطّهارة والنّجاسة ـ وكذا العقود والإيقاعات ، بالتّوصّليّات (١) ؛ إذ كلّ هذه الموارد مشتملة على الأمر التّوصّليّ ولو لغير الوجوب. غاية الأمر ، قد يترتّب على إتيان المأمور به أمر وضعيّ من الطّهارة ، أو الملكيّة أو الرّقيّة ونحوها ، وإلّا فكلّ ذلك تكون من الأعمال التّوصّليّة. هذا في التّوصّليّات.

أمّا التّعبّديّات ، فلا إشكال ولا كلام ـ أيضا ـ في كفاية الامتثال الإجماليّ بالاحتياط في الصّور التّالية :

الاولى : فيما إذا كان التّكليف غير منجّز كما في الشّبهة البدويّة الموضوعيّة مطلقا أو الحكميّة بعد الفحص ، بل الاحتياط في هذه الصّورة انقياد يكون أرقى وأتمّ من الامتثال التّفصيليّ.

الثّانية : فيما إذا كان التّكليف منجّزا كما في الشّبهة المقرونة بالعلم الإجماليّ ، أو الشّبهة البدويّة الحكميّة قبل الفحص مع فرض كون التّكليف الإلزاميّ المحتمل ضمنيّا بلا لزوم تكرار العمل ، كما إذا شكّ في جزئيّة السّورة للصّلاة وجوبا أو ندبا ، فيحتاط بالإتيان ، وهذا لا مانع منه.

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٧٧ و ٧٨.

١٣٤

لا يقال : إنّ المانع هنا هو اعتبار قصد الوجه حيث إنّه لا يحصل بالاحتياط.

لأنّه يقال : أوّلا : لا دليل على اعتبار قصد الوجه في العبادات ؛ وثانيا : لو سلّم ذلك ، فعمدة ما يدلّ عليه هو الإجماع ، وأنت ترى ، أنّه لا إجماع على اعتباره في الواجبات الضّمنيّة ، كما أنّ المشهور هو عدم اعتباره فيها ؛ وثالثا : لو سلّم وجود الإجماع هنا ، فلا يعتمد عليه ؛ لكونه مدركيّا أو محتمل المدركيّة ، حيث إنّ المتيقّن أو المحتمل استناد المجمعين في اعتبار القصد إلى أنّ حسن الفعل وقبحه يدوران مدار القصد ، بمعنى : أنّ المعنون بعنوان خاصّ إنّما يصير حسنا أو قبيحا لو فعل مع قصده بعنوانه ، وإلّا فلا ؛ وذلك ، نظير ضرب اليتيم ، فإنّه بقصد التّأديب حسن وبدونه قبيح ، ففي المقام يحتمل إناطة حسن الفعل بعنوان خاصّ وهو الوجوب أو النّدب ، فلا بدّ من قصده كي يصير الفعل حسنا ، ومع الجهل به بخصوصه لا يمكن قصده ، فلا يمكن الاحتياط.

ولكن يندفع : بأنّ الحاكم في باب الإطاعة والعصيان هو العقل وهو لا يحكم إلّا بامتثال أمر المولى بإتيان متعلّقه أو نهيه بتركه ، والزّائد على ذلك ـ كقصد العنوان ـ فإن دلّ على اعتباره دليل من نقل أو عقل ، فهو ، وإلّا فالمرجع في دفع اعتباره هو الإطلاق اللّفظيّ أو المقاميّ ، أو الأصل العمليّ ، ولو وصل الدّور إلى الشّكّ يكون المرجع هو الإطلاق اللّفظيّ لو كان ، أو البراءة لو لم يكن ، أو الإطلاق المقاميّ لو لم يمكن اللّفظي. بتقريب : أنّ مجرّد عدم تنبيه الشّارع على اعتبار قصد الوجه كاشف عن عدم اعتباره ، وإلّا كان عليه التّنبيه بأيّ نحو ممكن ولو بالإخبار ، لكون مثل هذا

١٣٥

من القيود المغفول عنها عند نوع المكلّفين ، كما أشار إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ، هذا كلّه في قصد الوجه.

وأمّا قصد التمييز ، فإن كان بمعنى قصد العنوان فهو حاصل في الاحتياط ، وإن كان بمعنى قصد تمييز الواجب عن غيره ، ففيه : أنّ الواجب بوجوده الواقعي متميّز عن غيره قهرا بلا حاجة إلى قصد العنوان وقصد المكلّف وبوجوده العلمي ـ بأن يكون التّمييز بمعنى العلم ـ فليس قصديّا ، فلو كان المكلّف جاهلا بالواجب لم يرتفع جهله بمجرّد قصد العلم والتّمييز ، بل يرتفع بمجرد العلم بنفسه ، كما لا يخفى.

الصّورة الثّالثة : فيما إذا كان التّكليف المعلوم بالإجمال استقلاليّا مع عدم لزوم تكرار العمل بالاحتياط ، كما إذا شكّ في وجوب غسل الجمعة واستحبابه ، فيأتي به احتياطا.

وتوهّم مانعيّة اعتبار قصد الوجه هنا ـ أيضا ـ مندفع بالإطلاق اللّفظيّ ، أو البراءة أو الإطلاق المقاميّ على نحو ما ذكرناه آنفا ؛ ودعوى الإجماع على اعتبار قصد الوجه هنا مردودة بما أشرنا في الصّورة الثّانية ، والكلام في اعتبار قصد التّمييز في هذه الصّورة والجواب عنه ، هو ما مرّ في الصّورة الثّانية ، فراجع.

الصّورة الرّابعة : فيما إذا كان التّكليف محتملا محضا ، غير معلوم أصلا بلا استلزام التّكرار ، كما إذا دار الأمر بين الوجوب والإباحة ، فيحتاط ويأتي بالعمل برجاء الوجوب والأمر.

ودعوى مانعيّة اعتبار قصد الوجه في هذه الصّورة ـ أيضا ـ ممنوعة بما

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٩ و ٤٠.

١٣٦

عرفت : من عدم الدّليل على اعتباره وعدم الاعتماد على الإجماع والرّجوع إلى الإطلاق اللّفظيّ أو المقامي ، أو البراءة عند الشّكّ. كما أنّ دعوى مانعيّة اعتبار قصد التّمييز مردودة بما مرّ في الصّورة الثّانية.

هذا تمام الكلام فيما إذا لم يستلزم الاحتياط تكرار العمل ؛ وأمّا إذا استلزم ذلك ، كما إذا دار الأمر بين القصر والإتمام ، فهل يجوز الاحتياط ، أم لا؟ والحقّ جوازه وعدم الإشكال فيه ، أيضا.

والقول بلزوم اللّعبيّة بأمر المولى هنا فلا يصدق الامتثال ، مندفع بما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) من منع لزوم اللّعب إذا كان التّكرار لداع عقلائيّ ، كما هو كذلك فيما إذا كان تحصيل العلم التّفصيليّ ، أشقّ من الاحتياط ، أو مساويا معه ؛ ومنع كون الاحتياط ـ لو سلّم لزوم اللّعب ـ لعبا بأمر المولى كي يكون قادحا ، بل يكون لعبا بكيفيّة الإطاعة والامتثال بعد حصول الدّاعي إليها وهذا غير قادح ، كالصّلاة على سطح المنارة ، أو على أمكنة غير معروفة ، فتجزى وتصحّ وإن كان لاعبا في الضّمائم.

فتحصّل : أنّ كفاية الامتثال الإجماليّ مع فرض التّمكن من الامتثال التّفصيليّ ممّا لا مانع منه في جميع تلك الصّور المذكورة حتّى فيما إذا استلزم الاحتياط تكرار العمل.

هذا ، ولكن قد أورد على الاحتياط والامتثال الإجماليّ في العبادات بتقدّم الامتثال التّفصيليّ عليه عقلا ، وقد قرّره المحقّق النّائيني قدس‌سره بأنّ للامتثال والإطاعة مراتب أربعة مترتّبة طوليّة بحكم العقل والفطرة :

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٤٠.

١٣٧

إحداها : الامتثال التّفصيليّ ؛ ثانيتهما : الامتثال العلميّ الإجماليّ ؛ ثالثتها : الامتثال الظّنّيّ ؛ رابعتها : الامتثال الاحتماليّ ، فلا يكفي الامتثال الإجماليّ عند التّمكّن من التّفصيليّ.

وقال قدس‌سره في وجه ذلك ، ما حاصله : إنّ حقيقة الطّاعة عند العقل هو أن يكون عمل الفاعل حال العمل بداعي تعلّق الأمر به ، وهذا المعنى غير متحقّق في الامتثال الإجماليّ ؛ إذ المفروض فيه ، أنّ المكلّف يعلم بتعلّق الأمر بأحد فردي التّرديد ، وواضح ، أنّ مجرّد العلم به لا يقتضي أن يكون علمه بداعي تعلّق الأمر به ، أو انبعاثه عن بعث المولى ، بل أقصاه أن يكون العمل بداعي احتمال الأمر ، والانبعاث عن احتمال البعث بالنّسبة إلى كلّ من العملين.

نعم ، هذا النّحو من الانبعاث ـ أيضا ـ نحو من الطّاعة عند العقل ، إلّا أنّه في رتبة متأخّرة عن الامتثال التّفصيليّ ، وعليه ، فمدّعي القطع بتقدّم رتبة الامتثال التّفصيليّ على الامتثال الإجماليّ في الشّبهات الموضوعيّة والحكميّة مع فرض التّمكّن من إزالة الشّبهة ، غير مجازف.

ولو وصل الدّور إلى الشّكّ فالمرجع هو الاشتغال لا البراءة ، لرجوع الشّكّ حينئذ إلى الشّكّ في تعيين الامتثال التّفصيليّ ، والتّخيير بين الامتثال التّفصيليّ والإجماليّ. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ المكلّف عند إتيانه العمل بداعي احتمال الأمر كان أرقى وأطوع عند إتيانه بداعي الأمر القطعيّ ، كما هو واضح.

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٣ ، ص ٦٩ إلى ٧٣.

١٣٨

وثانيا : أنّ الانبعاث في الامتثال الإجماليّ ، إنّما يكون عن البعث بلا إجمال فيه ، بل هو مبيّن معلوم ، والإجمال إنّما هو في متعلّقه ، ولو لا ذلك البعث المعلوم لم يكن المكلّف منبعثا إلى الأطراف وآتيا بواحد منها ؛ ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «فالأمر وهو الدّاعي المحرّك ليس بمحتمل ، بل هو مقطوع به ، والاحتمال إنّما يكون في تطبيقه ، ولا يقدح هذا المقدار في تحقّق هذا الامتثال» (١).

وثالثا : أنّ العمدة في المقام هو الرّجوع إلى العقل الحاكم في باب الإطاعة. ولا ريب : في أنّه يحكم بصحّة العمل ولو لم يعلم المكلّف ، حين الإتيان به ، أنّ ما أتى به هو المأمور به بعنوان العبادة ؛ وذلك ، لأنّ العلم طريق إلى حصول المطلوب ، لا أنّه دخيل فيه بنحو الموضوع ، كما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره (٢).

هذا تمام الكلام في التّعرّض لأحكام القطع ، فيقع الكلام فيما هو المقصود من المسألة السّابعة وهي الأمارات الّتي قيل : باعتبارها أو صحّ أن يقال : به.

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

(٢) راجع ، أنوار الهداية : ج ١ ، ص ١٨٢ و ١٨٣.

١٣٩
١٤٠