مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

خطاب المترتّب عليه ، بحيث يتوقّف الخطاب المترتّب ، على ترك الخطاب المترتّب عليه ، كما هو كذلك في المسألة الصّلاة والإزالة ، فإنّ خطاب الصّلاة متوقّف على ترك خطاب الإزالة ، فيجمع عندئذ بين صحّة المأتيّ به وبين استحقاق العقوبة لترك الواجب الأوّل ، ومن الواضح ، عدم إمكان ذلك في مثل المقام ؛ إذ المكلّف عند التفاته إلى كونه عاصيا للتّكليف بالقصر ، ينقلب كونه جاهلا بوجوب القصر إلى كونه عالما به ، فيخرج من عنوان الجاهل بالحكم ، فلا يحكم بصحّة المأتيّ به ، وعند عدم التفاته إلى ذلك ، لا يعقل أن يكون حكم المجعول بهذا العنوان محرّكا له في مقام العمل.

الثّاني : أنّ عصيان الخطاب في المقام لكونه وجوبا موسّعا ، إنّما يكون بانقضاء تمام الوقت وترك الواجب فيه ، وأمّا تركه في جزء منه ، كما هو المفروض في المقام ، لا يكون عصيانا له حتّى يؤخذ في موضوع خطاب آخر لتحقّق التّرتّب.

الثّالث : أنّه لو سلّم كون الخطاب التّرتّبي ممكنا في المقام ثبوتا ، إلّا أنّه لا دليل عليه إثباتا ، مع أنّ وقوعه فيه محتاج إلى دليل يدلّ عليه. (١)

هذا ، ولكن لا يمكن المساعدة على شيء من تلك الامور ؛ أمّا الأمران الأوّلان ، فلمنع توقّف الخطاب التّرتّبي على كون موضوعه هو عصيان التّكليف الآخر ، بل يمكن ذلك مع كون الموضوع فيه هو مطلق التّرك ، فيقال في المقام : إنّ القصر واجب مطلق ، والتّمام واجب مشروط بترك القصر جهلا بوجوبه. وأمّا الأمر الأخير ، فلأجل أنّ صحّة العمل المأتيّ به جهلا في المقام ، ممّا قد دلّ الدّليل عليها ، وهذا لا كلام فيه ، إنّما الكلام في إمكانها ، فحينئذ لو أمكن القول بالتّرتّب ، لا يحتاج

__________________

(١) راجع ، أجود التّقريرات : ج ٢ ، ص ٣٣٦ و ٣٣٧.

٣٦١

وقوعه إلى أزيد من الأدلّة الدّالّة على صحّة المأتيّ به جهلا.

والتّحقيق يقتضي أن يقال في مقام الجواب عن أصل الإشكال : أنّه لا مانع من الالتزام بأنّ الجاهل بالقصر يكون مخيّرا بين القصر والتّمام وإن لم يكن ملتفتا إلى التّخيير ، نظير التّخيير بينهما الثّابت في مواضع أربعة. وعليه ، فيصحّ ما أتى به من التّمام موضع القصر ، كما ورد فيه النّص الخاصّ ، ولا موجب لاستحقاق العقاب عند الإتيان بالتّمام وترك القصر.

هذا تمام الكلام في الأمر الثّاني (من الأمور الّتي ينبغي الإشارة إليها في خاتمة البحث).

(الشّرطان الآخران للبراءة)

الأمر الثّالث : قد ذكر الفاضل التّوني قدس‌سره للبراءة شرطين آخرين ، بعد الفراغ عن شرطيّة الفحص لها.

الأوّل : أن لا يكون إجراء البراءة موجبا لإثبات حكم آخر شرعيّ ، نظير إجراء البراءة في أحد الإنائين المشتبهين ، فإنّه يثبت الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر لمكان العلم الإجماليّ بنجاسة أحدهما.

الثّاني : أن لا يكون إجراءها موجبا للضّرر على مسلم أو من بحكمه ، نظير إجراء البراءة في ما لو فتح إنسان قفص طائر فطار ، فإنّه يوجب الضّرر على المالك. (١)

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ٤٤٩ و ٤٥٥.

٣٦٢

هذا ، ولكن يمكن المنع عن هذين الشّرطين :

أمّا الشّرط الأوّل ، فلأنّ عدم جريان البراءة في المثال المتقدّم ، إنّما هو لأجل ابتلاءه بالمعارض ، لوجود العلم الإجماليّ بنجاسة أحد الإنائين ، لا لما ذكره الفاضل التّوني قدس‌سره من كون أصل البراءة فيه مثبتا ؛ ولذا لو فرضنا قيام الأمارة في الطّرفين ، لا يمكن العمل بها لأجل المعارضة مع حجّيّة المثبتات من الأمارات.

أمّا الشّرط الثّاني ، فلأنّ عدم جريان البراءة في المثال المذكور ، إنّما هو لأجل التّمسّك بالدّليل الاجتهاديّ وهو «قاعدة لا ضرر» لوقوع الضّرر فيه لا محالة على المالك ، فلا يبقى المجال في مثل ذلك لجريان البراءة عن الضّمان ، لكونه خلاف الامتنان على المالك ، فيحكم بالضّمان ـ لإطلاق قوله عليه‌السلام : «من أتلف مال الغير ، فهو له ضامن» ـ في ما إذا ترتّب الطّيران على فعل هذا الشّخص ، ترتّب المعلول على العلّة بنظر العرف ، بحيث يعدّ فعله إتلافا بنظرهم.

وإن شئت ، فقل : إنّ البراءة إنّما هو أصل عمليّ يجري عند الشّك في الحكم الواقعي ، وواضح ، أنّه إذا دلّ دليل اجتهاديّ ناظر إلى الحكم الواقعي على حكم شيء ، فلا مجال عندئذ لإجراء البراءة ، وذلك لحكومة دليل الاجتهاديّ على الأصل العمليّ ، بحيث يرفع ذلك الدّليل موضوع البراءة وهو الشّك ، ففي المقام بعد جريان «قاعدة لا ضرر» الّتي يكون دليلا اجتهاديّا ناظرا إلى الواقع ، لا يصل الدّور إلى إجراء البراءة ، فعدم إجراءها إنّما هو لأجل ذلك الدّليل الاجتهاديّ ، لا لأجل كونه مثبتا.

٣٦٣

(جريان البراءة في الشّبهات الموضوعيّة والحكميّة)

الأمر الرّابع : ربما يتوهّم أنّ لا مجال لأصالة البراءة العقليّة أو النّقليّة في الشّبهات الموضوعيّة ، وأنّها تختصّ بالشّبهات الحكميّة.

بتقريب : أنّ مورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، هو ما إذا لم يرد بيان من الشّارع أو ورد ولم يصل إلى المكلّف. ومن المعلوم ، أنّ البيان ورد في الشّبهات الموضوعيّة ووصل إلى المكلّف بلا كلام ، إذ ليست وظيفة الشّارع إلا بيان الكبريات ، كقوله تعالى : (حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) والمفروض أنّه قد بيّنها.

وإن شئت ، فقل : إنّ الحكم الكلّيّ الإلهيّ في الشّبهات الموضوعيّة واصل معلوم ، فلا شكّ في مقام الجعل والتّشريع ، إنّما الشّكّ في موقف الامتثال والتّطبيق ، فالمرجع حينئذ هو قاعدة الاشتغال ، لا البراءة ، لأنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقينيّ.

أو فقل : إنّه لا شكّ في الأحكام الكلّيّة في الموضوعات الخارجيّة ، مطلقا لا بالذّات ولا بالاستتباع ، بل هي ممّا قد بيّنها الشّارع وواصلة إلى المكلّف ، وهذا بخلاف الموضوعات الخارجيّة ، فإنّها مشكوكة بالذّات وبخلاف الأحكام الجزئيّة فيها فإنّها مشكوكة بالاستتباع ، بمعنى : الشّكّ إنّما يكون في الموضوعات أوّلا وبالذّات ، ثمّ يكون في أحكامها الجزئيّة ثانيا وبالعرض ، وليس دفع الشّكّ فيهما من وظيفة الشّارع. وبالجملة : فما كانت وظيفته قد بيّن ، وما لم يبيّن لم تكن وظيفته.

وقد دفع هذا التّوهّم بوجهين : الأوّل : ما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من أنّ

٣٦٤

الأحكام الشّرعيّة إنّما تكون مجعولة بنحو القضايا الحقيقيّة وهي القضايا الّتي علّق الحكم فيها على الأفراد المقدّر وجودها ، فإذا تنحلّ تلك القضايا إلى أحكام متعدّدة بتعدّد أفراد الموضوع ، فيكون مع هذا الانحلال حكم مستقلّ لكلّ فرد من أفراد الموضوع ، فالشّكّ في فرديّة شيء للموضوع كان شكّا في ثبوت الحكم لذلك الشّيء ، فكان شكّا في التّكليف والاشتغال ، لا في التّفريغ والامتثال ، فالمرجع هو البراءة لا الاشتغال. (١)

وفيه : ما عرفت في بعض مباحث الألفاظ من عدم صحّة قضيّة الانحلال ، فراجع.

الثّاني : ما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من أنّ النّهي على قسمين : أحدهما : أن يكون انحلاليّا ، بمعنى : أنّ لكلّ فرد من أفراد الموضوع حكما مستقلا ، بحيث يكون الشّكّ في فرديّة شيء للموضوع وانطباقه عليه شكّا في ثبوت الحكم والتّكليف ، فيرجع إلى البراءة ؛ ثانيهما : أن يكون غير انحلاليّ ، بمعنى : أنّ النّهي متعلّق بالطّبيعة على نحو صرف الوجود ، بحيث لا بدّ أن تترك رأسا ، وهذا لا يتأتّى إلّا بترك جميع ما يكون انطباق الطّبيعة عليه محتملا ، فلا بدّ في المشكوكات من الرّجوع إلى الاشتغال ، نظرا إلى أنّ اشتغال الذّمّة بترك الطّبيعة معلوم البتّة وهو يقتضي الامتثال على نحو يحصل القطع بتفريغ الذّمّة ، ولا يمكن ذلك إلّا بترك جميع أفراد الطّبيعة حتّى المشكوكات.

وعليه ، فلا تنحصر جريان البراءة في الشّبهات الحكميّة. (٢)

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ١٢١.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٠٠.

٣٦٥

وفيه : أوّلا : أنّك عرفت آنفا في الجواب عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره أنّ الانحلال غير صحيح ؛ وثانيا : أنّ التّحقيق في مسألة النّهي عن الطّبيعة على وجه صرف الوجود ، يقتضي أن يكون المرجع في الفرد المحتمل هو البراءة لا الاشتغال ؛ وذلك ، لأنّ استحقاق العقوبة إنّما يترتّب على مخالفة التّكليف عند التّنجيز ، والتّنجيز لا يتحقّق إلّا بتحصيل علمين : أحدهما : العلم بالكبريات المجعولة ، كالعلم بحرمة الخمر ـ مثلا ـ ثانيهما : العلم بالصّغريات الخارجيّة ، كالعلم بخمريّة هذا أو ذاك المائع ـ مثلا ـ فالكبرى وحدها بلا إحراز الصّغرى لا يفيد التّنجيز ، ولا يصحّ استحقاق العقوبة على مخالفتها ، كما أنّ الصّغرى وحدها لا تستتبع حكما ، إلّا أن تكون معها كبرى محرزة معلومة.

ولا يخفى عليك : أنّه لا صغرى في الشّبهات الموضوعيّة حتّى تتمّ الحجّة وتحسن العقوبة على المخالفة ، فإذا لا مناص من جريان البراءة في تلك الشّبهة ، حتّى في فرض عدم الانحلال في النّهي.

(حسن الاحتياط)

الأمر الخامس : لا ريب في أنّ الاحتياط ممكن وحسن في موارد جريان البراءة ، والوجه فيه هو تدارك المصلحة الواقعيّة على تقدير وجودها لو كان في الواقع وجوب ، أو عدم الوقوع في المفسدة الواقعيّة على تقدير وجودها لو كان في الواقع حرمة ، وهذا لا فرق بين الواجبات التّوصّليّات ؛ لكونه انقيادا وإطاعة حكميّة ، وبين الواجبات التّعبّديّات المتردّدة بين الواجبة والمندوبة ، حيث يؤتى حينئذ العمل

٣٦٦

بدعوة أصل الأمر وجوبيّا كان ، أو ندبيّا.

والقول بمنع هذا الاحتياط من جهة كونه منافيا لقصد الوجه في العبادات ممنوع ، أوّلا : بأنّ اعتبار قصد الوجه في العبادات غير ثابت ، بل الثّابت خلافه ، كما هو المقرّر في محلّه ؛ وثانيا ، بأنّه لو سلّم اعتباره فيها ، لكان ذلك فيما إذا أمكن ، لا مطلقا ، وحيث إنّه في المقام غير ممكن ، فيسقط اعتباره.

نعم ، يشكل على الاحتياط في التّعبّديّات المتردّدة بين الحكمين اللّذين ليس بينهما قدر مشترك وهو الرّجحان والأمر ، كي يؤتى العمل بدعوة ذلك ، نظير ما إذا دار الأمر بين الوجوب والإباحة.

وجه الإشكال ، هو أنّ إتيان العمل حينئذ لو كان بدعوة الأمر ، لكان تشريعا محرّما ، ولو كان بدونها لم يكن عملا عباديّا.

والقول باستكشاف الأمر شرعا من حسن الاحتياط عقلا بنحو «اللّم» ، ممنوع ؛ بداهة ، أنّ حسن الاحتياط متوقّف على إمكان الاحتياط وثبوته ، والمفروض عدم إمكانه وثبوته ، كما أنّ القول باستكشاف الأمر من ترتّب الثّواب على الاحتياط بنحو «الإنّ» ، بناء على تسليمه ، ممنوع ـ أيضا ـ ؛ إذ ترتّب الثّواب على الاحتياط متوقّف على إمكانه ، فكيف يكون من مبادي جريانه.

هذا ، ولكن الّذي يسهّل الخطب هو ما حقّق في محلّه ، من عدم توقّف العباديّة على إتيان العمل بدعوة الأمر الجزميّ ، بل يكفي إضافة العمل إلى المولى ، وأنت تعلم ، أنّ إتيان العمل بداعي احتمال الأمر ، وبرجاء المحبوبيّة يكون من أحسن أنحاء الإضافة ، بل هو أتمّ وأكمل من الإتيان بداعي الأمر المعلوم الجزميّ ، فتأمّل.

٣٦٧

(تنبيه)

إنّما يحسن الاحتياط ، إذا لم يستلزم اختلال النّظام ، وإلّا يكون قبيحا وحراما ، كما هو كذلك إذا كان مستلزما للضّرر أو تشويه وجه المذهب أو غير ذلك ، فالاحتياط حسن مطلقا وفي جميع الشّبهات من الحكميّة والموضوعيّة ، ومن الوجوبيّة والتّحريميّة ، سواء قامت الحجّة على عدم التّكليف أم لم تقم ، وسواء كان احتمال التّكليف قويّا ، كالظّن غير المعتبر أو ضعيفا ، كالشّكّ والوهم أو كان المحتمل قويّا أو ضعيفا ، وسواء كان الاحتياط في الامور المهمّة ، كالدّماء والفروج أو في غيرها.

ولكن كلّ ذلك إذا لم يستلزم الاختلال ، أو الضّرر أو تشويه المذهب أو غير ذلك ، وإلّا فلا حسن للاحتياط ، بل يكون قبيحا ، كما هو واضح.

ولا يخفى عليك : أنّ ما هو الموجب لما ذكر من الاختلال ونحوه ، ليس إلّا الاحتياط التّامّ بالجمع بين المحتملات والأخذ بالاحتياط والعمل به في جميع الشّبهات ، ولكن هذا لا مانع من حسن التّبعيض في الاحتياط. وعليه ، فلا بأس بالتّبعيض فيه إذا كان الاحتياط التّامّ مستلزما للاختلال ونحوه.

وإن شئت ، فقل : إنّ قبح الاحتياط التّامّ لا ينافي حسن الاحتياط النّاقص ولو كان ذلك بترجيح بعض الاحتياطات احتمالا وإن لم يكن المحتمل ذات أهميّة ، أو كان بترجيح بعضها محتملا وإن كان أضعف احتمالا ، كالاحتياط في موارد النّفوس والأعراض والأموال.

٣٦٨

(أخبار من بلغ)

الأمر السّادس : لا بأس بالإشارة هنا إلى أخبار «من بلغ» ودلالتها ، فنقول :

قد وردت في الشّريعة روايات دالّة على أنّ «من بلغه ثواب من الله على فعل وأتى به لأجل ذلك ، فعلى الله أن يعطيه هذا الثّواب وإن لم تكن الرّوايات على ما بلغه» وهي كثيرة :

منها : رواية صفوان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من بلغه شيء من الثّواب على شيء من الخير ، فعمل (فعمله) به كان له أجر ذلك وإن كان (وإن لم يكن على ما بلغه خ ل) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله» (١).

ومنها : رواية محمّد بن مروان ، قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : «من بلغه ثواب من الله على عمل ، فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثّواب ، اوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه» (٢).

ومنها : رواية هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من سمع شيئا من الثّواب على شيء ، فصنعه ، كان له وإن لم يكن على ما بلغه» (٣).

هذه جملة من تلك الأخبار ، ولا كلام فيها من جهة السّند ؛ إذ بعضها مشتمل على الصّحاح ، إنّما الكلام فيها من جهة الظّهور والدّلالة ، فنقول :

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١ ، ص ٥٩.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٧ ، ص ٦٠.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١٨ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٦ ، ص ٦٠.

٣٦٩

إنّ في دلالتها احتمالات أربعة : أحدها : أنّها تدلّ على استحباب العمل الّذي بلغ عليه الثّواب بخبر ضعيف بعنوانه الأوّلي ، فتكون من أدلّة «قاعدة التّسامح في أدلّة السّنن والمستحبّات».

ثانيها : أنّها تدلّ على استحباب ذلك العمل بعنوانه الثّانوي وهو عنوان بلوغ الثّواب عليه ، بحيث كان وزان عنوان «البلوغ» وزان عنوان «الضّرر والعسر» ونحوهما من سائر العناوين الثّانويّة الموجبة لحسن الفعل ، أو قبحه تكوينا وتغيّر حكمه ، تشريعا.

ثالثها : أنّها تدلّ على الإرشاد إلى حسن الانقياد الّذي يحكم به العقل ، كما يحكم بقبح التّجري ، فيترتّب الثّواب على العمل الّذي بلغ عليه الثّواب لأجل هذا العنوان وإن لم يكن الأمر كما بلغه.

رابعها : أنّها تدلّ على حجّيّة الخبر الضّعيف في باب المستحبّات بإسقاط شرائط حجّيّة الخبر في هذا الباب.

ولا يخفى : أنّ الاحتمال الأخير وإن كان هو المناسب لما اشتهر بين الأصحاب من «قاعده التّسامح في أدلّة السّنن» إلّا أنّه لا تساعده الأخبار المتقدّمة ؛ بداهة ، أنّه ليس لسان الأخبار ، لسان إسقاط شرائط الحجّيّة في باب المندوبات ، وجعل الحجّيّة للخبر الضّعيف في هذا الباب ؛ ولذا لا أساس لما اشتهر بينهم من «قاعدة التّسامح في أدلّة السّنن» كيف ، وأنّه ورد في بعض الكلمات : «وما يقال : من أنّ أدلّة السّنن يتسامح فيها بما لا يتسامح في غيرها فمنظور فيه ؛ لأنّ الاستحباب حكم شرعيّ يتوقّف على دليل شرعي» (١).

__________________

(١) نهاية الدّراية : ص ٢٨٥ ، للسّيّد حسن الصّدر.

٣٧٠

وكذا لا تساعد تلك الأخبار ، الاحتمال الأوّل والثّاني ـ أيضا ـ لعدم كونها ظاهرة في استحباب العمل وصيرورته مندوبا شرعيّا ، لا بنفسه وبعنوانه الأوّليّ ، ولا بغيره وبعنوانه الثّانويّ وهو عنوان «البلوغ».

وأمّا الاحتمال الثّالث ، فهو ممّا تساعده تلك الأخبار ، حيث إنّ لسانها لسان الإخبار عن فضل الله الّذي يؤتيه من يشاء ، فتدلّ على أنّه سبحانه يعطي العامل ، الثّواب الّذي بلغه وإن لم يكن الأمر كما بلغه.

ألا ترى ما في رواية محمّد بن مروان ، المتقدّمة ، من قول أبي جعفر عليه‌السلام «فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثّواب» ، فالمتعيّن عندئذ هو الاحتمال الثّالث.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرناه ، من عدم ظهور أخبار من بلغ في الاستحباب الشّرعيّ ، أنّه لا مجال لما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من قوله : «لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثّواب ، فإنّ صحيحة هشام بن سالم ... ظاهرة في أنّ الأجر كان مترتّبا على نفس العمل الّذي بلغه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه ذو ثواب ... إلّا أنّ الثّواب في الصّحيحة إنّما رتّب على نفس العمل» (١).

كما ظهر ـ أيضا ـ أنّه لا مجال لجملة من المباحث المطروحة في المقام ، منها : البحث في أنّ المستفاد من تلك الأخبار ، هل هو استحباب نفس العمل بما هو هو ، أو استحباب العمل إذا أتى به بعنوان الرّجاء والاحتياط؟

وجه عدم المجال لهذا البحث هو ما عرفت آنفا من عدم دلالة الأخبار على الاستحباب رأسا. غاية الأمر ، أنّها دالّة على ترتّب الثّواب إذا أتى بالعمل بعنوان الرّجاء واحتمال المطلوبيّة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ١٩٧.

٣٧١

ومنها : البحث عن ظهور الثّمرة بين أن يكون مفاد الرّوايات هو إسقاط شرائط حجّيّة الخبر في باب المندوبات وجعل الحجّيّة للخبر الضّعيف ، وبين أن يكون مفادها هو استحباب العمل ، فيما إذا دلّ خبر ضعيف على ترتّب الثّواب على فعل ما ثبتت حرمته بعموم أو إطلاق ، فعلى القول بقاعدة التّسامح وحجّيّة ذلك الخبر الضّعيف كان الخبر مخصّصا أو مقيّدا للعامّ أو المطلق ، وعلى القول بالاستحباب يقع التّزاحم بين الحكمين وهما : الحكم الاستحبابيّ بالعنوان العرضيّ ، والحكم التّحريميّ بالعنوان الأوّليّ ، فيقدّم التّحريميّ لكونه إلزاميّا على الاستحبابيّ لكونه غير إلزاميّ.

وجه عدم المجال لهذا البحث ـ أيضا ـ هو ما عرفت ، من عدم دلالة الرّوايات على إسقاط الحجّيّة ، ولا على الاستحباب ، فلا تخصيص ولا تقييد ، ولا تزاحم في البين ، بل يحكم بالحرمة بلا اعتناء بالخبر الضّعيف الدّال على الاستحباب.

ومنها : البحث عن معارضة أخبار «من بلغ» لأدلّة اعتبار العدالة أو الوثاقة في حجّيّة الخبر ، وتقديم هذه الأخبار على تلك الأدلّة ، إمّا لأجل كونها أخصّ من تلك الأدلّة ، فيقدّم الخاصّ على العامّ ، حيث إنّها تدلّ على إسقاط شرائط الحجّيّة في خصوص باب المستحبّات ، وتلك الأدلّة تدلّ على اعتبارهما في الحجّيّة في جميع الأبواب ، وإمّا لأجل كونها أشهر من تلك الأدلّة.

وجه عدم المجال لهذا البحث ـ أيضا ـ هو أنّه مبتن على دلالة أخبار «من بلغ» على حجّيّة الخبر الضّعيف في باب المندوبات وتماميّة قاعدة التّسامح في أدلّة السّنن.

وقد عرفت : عدم دلالتها عليها ، وعدم تماميّة قاعدة التّسامح ، فلا معارضة بين هذه الأخبار وتلك الأدلّة.

٣٧٢

ومنها : البحث عن ثبوت استحباب العمل ، بفتوى الفقيه ، نظرا إلى صدق عنوان البلوغ عليها وفي فرض الصّدق ثبت الاستحباب بها.

وجه عدم المجال لهذا البحث ـ أيضا ـ هو ما عرفت : من عدم دلالة الأخبار على الاستحباب.

بقي هنا أمران :

الأوّل : لا يخفى عليك : أنّ أخبار «من بلغ» تختصّ بما بلغ فيه الثّواب فقط ، فلا تعمّ ما ثبتت حرمته بعموم أو إطلاق ، فإذا قام خبر ضعيف على ترتّب الثّواب على عمل وقامت حجّة معتبرة على حرمة ذلك العمل ، لا ترفع اليد عن تلك الحجّة المعتبرة بذلك الخبر الضّعيف لترتّب العقاب على العمل المفروض حرمته بحجّة معتبرة.

الثّاني : قد يقال : بعدم الفرق بين القول بدلالة أخبار «من بلغ» على الحكم المولويّ والاستحباب أو دلالتها على حجّيّة الخبر الضّعيف ، وبين القول بدلالتها على الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد ؛ إذ مقتضى كلا القولين هو ترتّب الثّواب على العمل الّذي بلغ الثّواب عليه ، فلا فائدة ولا ثمرة في البحث عن الدّلالة على الحكم المولويّ أو الدّلالة على حجّيّة الخبر الضّعيف أو الدّلالة على الإرشاد إلى حكم العقل.

هذا ، ولكن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره قد تعرّض أنّه تظهر الثّمرة بين القولين في موردين : أحدهما : لو دلّ خبر ضعيف على غسل المسترسل من اللّحية ، فيحكم بجواز المسح ببلّته في الوضوء ، بناء على ثبوت الاستحباب والحكم المولويّ بالخبر الضّعيف ، وعدم جواز المسح بتلك البلّة ، بناء على عدم ثبوت الاستحباب ، حيث إنّه لا يحرز حينئذ كون غسل المسترسل من أجزاء الوضوء حتّى يجوز المسح ببلّته.

٣٧٣

وأورد قدس‌سره عليه بعدم دليل من إطلاق أو عموم على جواز الأخذ من بلّة الوضوء مطلقا ، إنّما المتيقّن الثّابت هو جواز الأخذ للمسح من أجزاء بلّة الوضوء الأصليّة الواجبة ، وغسل المسترسل من اللّحية ليس منها ، فالقول باستحباب غسل المسترسل منها ولو صحّ ، لا يستلزم جواز المسح ببلّته.

ثانيهما : ارتفاع الحدث بالوضوء الّذي دلّ خبر ضعيف عليه لغاية خاصّة ، كالنّوم والأكل ، بناء على القول بثبوت الاستحباب بهذا الخبر ، وعدم ارتفاع الحدث بذلك الوضوء ، بناء على القول بعدم ثبوته. (١)

وقد اشكل عليه : بأنّه لم تثبت رافعيّة كلّ وضوء مستحبّ ، للحدث ، ألا ترى ، استحباب الوضوء للجنب والحائض لبعض الغايات ، كالنّوم والأكل ، مع أنّه لا يرتفع بها الحدث ، وكذا الوضوء التّجديديّ فهو مع استحبابه ، لا يرفع الحدث.

وفيه : أنّ عدم ارتفاع الحدث الأصغر بوضوء الحائض والجنب ، إنّما هو لعدم قابليّة المورد للارتفاع ، لكونهما محدثين بالحدث الأكبر ، والكلام هنا في مورد القابل ، فلا مجال لهذا الانتقاض ، كما لا مجال له بالوضوء التّجديديّ ؛ إذ عدم رافعيّته للحدث يكون من باب السّلب بانتفاء الموضوع ، حيث لا حدث حتّى يرفع به ، فلا إشكال على هذه الثّمرة.

نعم ، لو قلنا : باستحباب الوضوء نفسيّا بلا حاجة إلى قصد غاية ، فلا محلّ لهذه الثّمرة ـ أيضا ـ لكون الوضوء على هذا المبنى مستحبّا ذاتا ، رافعا للحدث ، سواء كان مستحبّا ـ أيضا ـ لغاية خاصّة من الغايات ، أم لا.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل (أصالة البراءة).

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ٢ ، ص ١٥٨.

٣٧٤

المسألة الثّامنة : الاصول العمليّة

مباحث الشّكّ

المقام الثّاني : أصالة التّخيير

دوران الأمر بين المحذورين في التّوصّليّات مع وحدة الواقعة

دوران الأمر بين المحذورين في التّعبّديّات مع وحدة الواقعة

دوران الأمر بين المحذورين في تعدّد الواقعة

٣٧٥
٣٧٦

(المسألة الثّامنة : الاصول العمليّة)

(مباحث الشّكّ)

(المقام الثّاني : أصالة التّخيير)

المقام الثّاني : في أصالة التّخيير وهي الّتي موردها الشّكّ في المكلّف به مع العلم بأصل التّكليف وعدم إمكان الاحتياط ، كمورد دوران الأمر بين المحذورين ، نظير ما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته لعدم نهوض حجّة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا.

فالمسألة ذات صور وأقوال مختلفة ، لكن قبل ذكر الصّور والأقوال فيها وبيان ما هو الحقّ في المسألة ، لا بدّ من الإشارة إلى محلّ النّزاع فيها.

فنقول : إنّ النّزاع يختصّ بما وإذا لم ينحلّ العلم الإجماليّ المتعلّق بأحد الحكمين ؛ إذ لو انحلّ كما لو كان أحد الحكمين مجرى للاستصحاب نفيا أو اثباتا ، فلا يبقى المجال للنّزاع ، بل المتعيّن حينئذ هو الرّجوع إلى هذا الاستصحاب.

إذا عرفت هذا ، فاعلم ، أنّ لدوران الأمر بين المحذورين أربع صور :

الاولى : دورانه بينهما في التّوصّليّات مع وحدة الواقعة.

الثّانية : في التّعبّديّات مع وحدتها وفرض كون العبادات مستقلّة.

الثّالثة : هي الصّورة الثّانية مع فرض كون العبادات ضمنيّة.

الرّابعة : دورانه بينهما مع فرض تعدّد الواقعة بلا فرق بين التّعبّديّات والتّوصّليّات.

٣٧٧

(دوران الأمر بين المحذورين في التّوصّليّات مع وحدة الواقعة)

أمّا الصّورة الاولى ، فالأقوال فيها خمسة :

الأوّل : الحكم بالبراءة عقلا ونقلا.

الثّاني : الأخذ باحتمال الحرمة تعيينا.

الثّالث : الأخذ بأحد الحكمين تخييرا شرعيّا.

الرّابع : الأخذ بأحدهما تخييرا عقليّا مع الحكم عليه بالإباحة شرعا ، وهذا هو مختار المحقّق الخراساني قدس‌سره. (١)

الخامس : الأخذ بأحدهما تخييرا عقليّا ، بمعنى : تخيير المكلّف تكوينا من دون جعل الوظيفة له ، لا عقلا ولا شرعا ، فتسقط الاصول العمليّة حينئذ من أصالة التّخيير (عقليّا ونقليّا) وأصالة الإباحة وأصالة البراءة (عقلا ونقلا) واستصحاب عدم الوجوب والحرمة ، وهذا هو مختار المحقّق النّائيني قدس‌سره. (٢)

والّذي يقوى في النّظر هو القول الأوّل دون سائر الأقوال ؛ وذلك لأنّه لا مانع من جريان البراءة العقليّة والنّقليّة في مثل المقام.

أمّا العقليّة ، فلأجل قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث إنّ المفروض عدم ورود البيان بالإضافة إلى خصوص الوجوب أو الحرمة ، فيقبح العقاب عليه عقلا.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٠٣.

(٢) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٤٤٨.

٣٧٨

لا يقال : يمنع عن جريان تلك القاعدة ، لتماميّة البيان بالعلم الإجماليّ ؛ إذ هو وإن لم يكن عند الدّوران منجّزا ، نظرا إلى عدم تمكّن المكلّف من الموافقة أو المخالفة القطعيّة ، إلّا أنّ الموافقة الاحتماليّة هنا ممكنة ، فيكون بيانا بالنّسبة إليها.

لأنّه يقال : ليس المراد من البيان الّذي يجوّز العقل معه العقاب إلّا البيان على نوع التّكليف وهو الوجوب أو الحرمة ، والمفروض أنّه مفقود في باب الدّوران ؛ إذ البيان وهو العلم الإجماليّ إنّما هو بالإضافة إلى جنس التّكليف وهو الإلزام لا نوعه ، كما هو واضح. وعليه : فالعلم الإجماليّ لم يكن مؤثّرا في المقام ولو على نحو الامتثال بالموافقة الاحتماليّة ، ولا مناص إذا من جريان البراءة فيه ، لصيرورته ، كالشّبهة البدويّة.

أمّا البراءة النّقليّة ، فلأجل شمول حديث الرّفع لمثل المقام بلا ريب ؛ والإشكال بأنّ البراءة إنّما تجري في مورد الشّكّ في التّكليف ، وهذا أجنبيّ عن مورد الدّوران ؛ إذ المفروض هنا معلوميّة جنس التّكليف وهو الإلزام ، مندفع ـ أيضا ـ بما عرفت آنفا ، من أنّ العلم بالإلزام لا أثر له ، بل الأثر إنّما هو للعلم بنوع التّكليف ، وهذا منتف في المقام ، فتجري فيه البراءة ، لرجوع الشّكّ حينئذ إلى الشّكّ في التّكليف ، كما هو واضح. هذا كلّه بالنّسبة إلى القول الأوّل.

أمّا القول الثّاني (الأخذ باحتمال الحرمة تعيينا) ، فغاية ما يستدلّ عليه هو أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة.

وفيه ما لا يخفى ؛ إذ ربّ واجب يكون أهمّ من الحرام ، فلا يصحّ أن يقال : بكون دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة على وجه الضّابطة الكلّيّة.

٣٧٩

أمّا القول الثّالث (التّخيير الشّرعيّ) ، فلو اريد بالتّخيير الشّرعيّ ، هو التّخيير في المسألة الفرعيّة وهو الأخذ بالفعل أو التّرك في مقام العمل ، لكان أمرا غير معقول ، لحصول التّخيير تكوينا ، فيلزم تحصيل الحاصل ؛ ولو اريد به هو التّخيير في المسألة الاصوليّة وهو الأخذ بأحد الحكمين في مقام الإفتاء ، كالأخذ بأحد الخبرين المتعارضين في ذلك المقام ، لكان بلا دليل ، إذ لا أثر من الخبرين هنا حتّى يحكم بالتّخيير الاصوليّ.

أمّا القول الرّابع (الإباحة شرعا والتّخيير عقلا) ، فلا دليل عليه ، بل الدّليل على خلافه ، كما ستعرف ممّا أفاده المحقّق النّائيني قدس‌سره.

أمّا القول الخامس (التّخيير التّكوينيّ مع عدم حكم ظاهريّ أصلا) ، فغاية ما يقال في وجهه : هو ما أفاده المحقّق النّائيني قدس‌سره من عدم إمكان جعل الوظيفة الظّاهريّة بلا فرق بين الشّرعيّة والعقليّة ، كالتّخيير الشّرعيّ والعقليّ والإباحة والبراءة الشّرعيّة والعقليّة واستصحاب عدم الوجوب والحرمة.

فقال قدس‌سره ، ما حاصله : أمّا التّخيير الشّرعيّ ، فلأنّ الحكم الظّاهريّ لا بدّ له من أثر شرعيّ ، وإلّا لكان جعله لغوا ، والمفروض عدم ترتّب الأثر على جعل التّخيير الشّرعيّ في المقام ، لا الواقعيّ ، ولا الظّاهريّ ؛ وذلك لحصول التّخيير بنفسه تكوينا بين فعل شيء وتركه ، فلا يمكن جعل ما هو حاصل بنفسه ولو ظاهريّا.

وأمّا التّخيير العقليّ ، فلاختصاصه بما إذا كان في طرفي التّخيير ملاك يلزم استيفائه ولم يتمكّن المكلّف من الجمع بين الطّرفين ، كالتّخيير الّذي يحكم به في باب التّزاحم ، والمقام ليس كذلك ، لعدم ثبوت الملاك في كلّ من طرفي الفعل والتّرك.

٣٨٠