مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

المتناقضين ، فالصّحيح هو تثليث الأقسام في القطع الموضوعي. (١)

والحقّ في المقام أن يقال : إنّ معنى كون القطع تمام الموضوع بما هو كاشف وطريق ، هو أخذه وجعله تمام الموضوع بالنّسبة إلى أمر بما هو حاك وكاشف عن متعلّقه ، فالقطع بعدالة زيد ـ مثلا ـ يكون تمام الموضوع لجواز الاقتداء به ، فهو طريق بالإضافة إلى متعلّقه ، وموضوع بالإضافة إلى أمر آخر ، وهو جواز الاقتداء.

وبعبارة اخرى : القطع بالعدالة ، أخطأ أو أصاب ، يؤخذ موضوعا تامّا لجواز الايتمام ، فلا يلزم الجمع بين اللّحاظين المتنافيين ولو كان الجاعل الآخذ هو نفس القاطع ، ولا يلزم ـ أيضا ـ دخل الواقع وعدم دخله كي يكون من قبيل الجمع بين المتناقضين ؛ إذ الدّخل وعدمه إنّما يكونان بالنّسبة إلى أمرين متمايزين.

ومن هنا يظهر ضعف مقالة المحقّق النّائيني قدس‌سره وهو لزوم الجمع بين اللّحاظين المتنافيين ، وضعف ما عن الإمام الرّاحل قدس‌سره في الايراد عليه من تماميّة الجمع بين اللّحاظين بالنّسبة إلى ما لو كان الجاعل الآخذ هو نفس القاطع بخلاف غيره ، وضعف ما ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره في تقريب الإشكال من لزوم دخل الواقع وعدم دخله.

فتحصّل : أنّه لا محذور في جعل القطع تمام الموضوع على وجه «الطّريقيّة» حتّى بالنّسبة إلى القاطع ، لا من جهة التّهافت في اللّحاظ ، ولا من جهة دخل الواقع وعدم دخله.

ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره فيما أفاده ، ردّا على محذور الدّخل

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٣٣ و ٣٤.

٨١

وعدمه ، حيث قال : «إنّ القطع طريق محض بالنّسبة إلى متعلّقه ، غير دخيل في ثبوته وتحقّقه ، وموضوع بالنّسبة إلى حكم من الأحكام ، كأن يقال : «إذا قطعت بحرمة شيء ، يجب عليك التّصدّق بكذا» فالقطع طريق بالإضافة إلى الحرمة ، وموضوع بالإضافة إلى وجوب التّصدّق ، فالدّخل وعدمه يكونان بالإضافة إلى أمرين متمايزين». (١)

بقي هنا جهات :

الاولى : أنّ المراد من القطع الموضوعيّ هو القطع المأخوذ في موضوع الحكم واقعا ، نظير العلم المأخوذ في ركعات صلاة المغرب والصّبح والاوليين من الرّباعيّات على ما يستفاد من الرّوايات ، فلو شكّ بين الواحدة والاثنتين في صلاة الصّبح والرّباعيّات ، أو بين الاثنتين والثّلاث في المغرب ، فأتمّ الصّلاة رجاء ، كانت فاسدة ولو انكشف أنّه أتى بركعتين ، أو ثلاث ركعات ؛ وذلك ، لكون العلم بعدد الرّكعات حال الصّلاة مأخوذا في الحكم بصحّتها ، فالقطع الّذي له دخل في ترتّب الحكم واقعا هو المراد بالقطع الموضوعي.

وأمّا القطع المأخوذ في لسان الدّليل فقط ، فلا يراد به القطع الموضوعيّ ؛ إذ ربما يكون مأخوذا في الدّليل وليس بموضوع ، كقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ)(٢) حيث إنّ التّبيّن هنا طريق محض ، لا دخل له في حكم وجوب الإمساك رأسا ، لا تماما ولا بعضا ؛ ضرورة ، أنّ الحكم مترتّب على

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

(٢) البقرة (٢) ، الآية ١٨٧.

٨٢

طلوع الفجر ، وكقوله جلّ جلاله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)(١) بناء على أن يكون المراد مشاهدة الهلال ، لا حضور «شهر رمضان» وحلوله ، فليس للمشاهدة دخل في وجوب الصّوم ، بل المعيار هو دخول الشّهر وحلوله وإن لم يشاهد هلاله ، بل قامت عنده بيّنة على ذلك.

الجهة الثّانية : اعلم ، أنّ القطع المأخوذ تمام الموضوع أو جزئه في الحكم ، أقساما.

منها : ان يكون مأخوذا في موضوع الحكم المخالف لما تعلّق به. ومنها في موضوع الحكم المماثل له. منها : في موضوع الحكم المضادّ له. منها : في موضوع نفس الحكم الّذي تعلّق به.

فالحريّ أن نبحث هنا في جميع تلك الأقسام ، فنقول : أمّا القسم الأوّل ، فلا محذور ولا إشكال فيه ، نظير ما «إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة ، يجب عليك التّصدّق» أمّا القسم الثّاني وكذا الثّالث ، ففيهما إشكال ، نظير ما «إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة ، يجب عليك صلاة الجمعة» بوجوب آخر مثل وجوبها الأوّل ، أو «يحرم عليك صلاة الجمعة» والإشكال هنا من وجوه :

الأوّل : اجتماع المثلين في فرض المماثلة ، أو الضّدّين ، في فرض المضادّة ، كما صرّح به المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢).

والجواب : ما مرّ في الأوامر (مبحث التّرتّب) ؛ وفي النّواهي (مبحث اجتماع

__________________

(١) البقرة (٢) ، الآية ١٨٥.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥.

٨٣

الأمر والنّهي) ، من أنّ التّضادّ إنّما يكون بين الامور الوجوديّة المتأصّلة المتعاقبة على موضوع واحد ، أو المندرجة تحت جنس واحد قريب. وواضح : أنّ هذا التّعريف لا ينطبق على الأحكام الشّرعيّة بأنحائها ؛ وذلك ، لما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره بقوله : «إنّ تعلّق الأحكام بموضوعاتها ومتعلّقاتها ليس حلوليّا ، عروضيّا نحو قيام الأعراض بالموضوعات ، بل قيامها بها قيام اعتباري ، لا تحقّق لها أصلا ، فلا يمتنع اجتماعها في محلّ واحد ؛ ولذا يجوز الأمر والنّهي بشيء واحد من جهة واحدة من شخصين أو شخص واحد مع الغفلة ، ولو كان بينها تضادّ لما صار ممكنا مع حال الغفلة» (١). هذا حال المضادّة ، وأمّا المماثلة فيظهر حالها ممّا ذكرناه.

الثّاني : اجتماع المصلحتين في موضوع واحد ، بناء على المماثلة ، أو المصلحة مع المفسدة كذلك ، بناء على المضادّة.

والجواب : أنّه لا مانع من هذا الاجتماع إذا كان من جهتين ، بأن تكون «صلاة الجمعة» مثلا ، ذات مصلحة بنفسها وبعنوانها الذّاتيّ ؛ وذات مصلحة أو مفسدة بعنوانها الطّاري من كونها مقطوعا بوجوبها.

الثّالث : اجتماع الحسنيين في موضوع واحد ، بناء على المماثلة ، أو الحسن والقبح ، كذلك بناء على المضادّة.

وفيه ما مرّ في الجواب المتقدّم : من أنّه لا مانع منه إذا كان باعتبار عنوانين (نفسيّ وغير نفسيّ).

الرّابع : اجتماع الحبّين في موضوع واحد على فرض المماثلة ، أو الحبّ والبغض

__________________

(١) تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٩٥ و ٩٦.

٨٤

كذلك على فرض المضادّة.

وفيه : أنّ الحبّ والبعض إنّما يكونان من الأوصاف النّفسانيّة ، يتعلّقان بصور نفسانيّة ذهنيّة. ومن المعلوم : أنّ صورة الموضوع تختلف باختلاف العنوان ، فيتعلّق بصورة حبّ ، وبصورة اخرى حبّ آخر أو بغض.

الخامس : اجتماع الإرادتين في موضوع واحد على المماثلة ، أو الإرادة والكراهة كذلك على المضادّة. والجواب عن هذا الإشكال ، هو الجواب عن الإشكال الرّابع ، فلا نعيد.

السّادس : لزوم اللّغويّة على بعض التّقادير ، نظير ما إذا علم أنّ المكلّف ينبعث بمجرّد حصول القطع له بحكم ، فلو جعل حكم آخر مثله حينئذ ، يكون لغوا ، لعدم ترتّب الانبعاث عليه.

نعم ، لا يلزم محذور اللّغويّة لو علم عدم انبعاث المكلّف إلّا بأمر وحكم آخر ، بل الأمر الثّاني حينئذ يكون لازما.

وفيه : ما اشير إليه في المباحث الماضيّة وأصرّ عليه الإمام الرّاحل قدس‌سره في مبحث التّرتّب في إحدى المقدّمات السّبع ، من أنّ الأحكام مجعولة على نهج القانون. وعليه : فحيث إنّ المكلّفين مختلفون من جهة الانبعاث وعدمه ، ومن جهة أنّ بعضهم لا ينبعث عن أمر وحكم واحد ، فلا بأس لجعل حكم آخر مماثل على نهج القانون ولو لأجل حصول الانبعاث في ذلك البعض وحينئذ لا تلزم اللّغويّة.

نعم ، إذا كانت الأحكام والخطابات شخصيّة جزئيّة ، تلزم اللّغويّة على بعض التّقادير دون بعض ، ففيما لو علم انبعاث المكلّف بالأمر الأوّل وحده أو عدم انبعاثه

٨٥

أصلا ، تلزم اللّغويّة ، وفيما لو علم أنّه لا ينبعث إلّا بأمر ثان أو ثالث أو ... مماثل للأوّل ، لا تلزم اللّغويّة حينئذ ، كما هو واضح.

السّابع : لزوم طلب المحال ونقض الغرض فيما إذا جعل حكم مضادّ لمتعلّق القطع ، نظير ما إذا «قطعت بحرمة شرب الخمر ، يجب عليك شرب الخمر» ولا ريب : أنّه يلزم حينئذ طلب المحال ونقض الغرض الّذي جعل الحرمة للخمر لأجله ، وهكذا يلزم نقض الغرض لو جعل مقطوع الخمريّة أو الحرمة مرخّصا فيه ، نظير ما إذا «قطعت بحرمة شرب الخمر ، يجوز عليك شرب الخمر» ، هذا في مورد القطع بالحرمة.

والأمر كذلك في مورد القطع بالوجوب ، فيلزم طلب المحال ونقض الغرض فيما إذا جعل حكم مضادّ لمتعلّق القطع ، نظير ما إذا «قطعت بوجوب صلاة الجمعة ، يحرم عليك صلاة الجمعة» وكذا يلزم ذلك فيما إذا جعل حكم مرخّص فيه ، نظير ما «إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة ، يجوز عليك صلاة الجمعة».

ولا يخفى : أنّ هذا الإشكال وارد لا دافع له البتّة.

هذا تمام الكلام في القسم الثّاني والثّالث ، فقد عرفت الإشكالات السّبعة فيهما واندفاع الجميع إلّا الأخير.

وأمّا القسم الرّابع (القطع المأخوذ في نفس الحكم الّذي تعلّق به) ، فقد اختلفت كلمات الأعلام في إمكانه وعدمه ، نظير ما «إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة ، يجب عليك صلاة الجمعة بنفس وجوبها الأوّل» فقد ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى عدم إمكانه ، فقال : «لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع

٨٦

نفس هذا الحكم ، للزوم الدّور» (١).

تقريب الدّور هو توقّف القطع بالحكم على وجود الحكم ، والمفروض توقّف الحكم ـ أيضا ـ على القطع به لكونه موضوعا.

هذا ، ولكن التّحقيق يقتضي التّفصيل بين القطع المأخوذ تمام الموضوع ، فلا يلزم فيه محذور الدّور ، وبين المأخوذ جزءه ، فيلزم فيه محذور الدّور ؛ ضرورة ، أنّ القطع في فرض ما إذا اخذ جزء الموضوع ، يكون موضوعا مع الواقع ؛ ولذا لا حكم لو لم يصب القطع.

وعليه : فالقطع بالحكم يتوقّف على وجود الحكم ، والمفروض توقّف الحكم على القطع ـ أيضا ـ لكونه جزء الموضوع ، وكما يتوقّف الحكم على تمام الموضوع ويكون في طوله ، كذلك يتوقّف على جزءه ويكون في طوله ، وهذا هو الدّور المصرّح.

وأمّا في فرض ما إذا اخذ القطع تمام الموضوع ، سواء أصاب أم لم يصب ، فلا يتوقّف القطع على وجود الواقع المقطوع به المعلوم بالعرض ، بمعنى : لا يتوقّف القطع بالحكم على أن يكون ذلك الحكم موجودا في الخارج ، بل يتوقّف على الحكم بصورته الذّهنيّة المعلومة بالذّات. ومن المعلوم : عدم توقّف هذه الصّورة على القطع ، بل المتوقّف عليه إنّما هو الحكم بوجوده العيني الخارجي ، فلا يلزم الدّور.

وبعبارة اخرى : المتوقّف عليه القطع غير المتوقّف على القطع ؛ إذ المتوقّف عليه القطع هو المعلوم بالذّات وهي الحكم بصورته الذّهنيّة ووجوده العلميّ ، وأمّا المتوقّف على القطع هو المعلوم بالعرض وهو الحكم بوجوده العينيّ الخارجيّ أو

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥.

٨٧

الجعليّ الاعتباريّ ، ومعه فلا دور في البين ؛ لعدم التّوقّف إلّا من أحد الطّرفين.

ومن هنا يظهر : أنّه لا مجال لما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من لزوم الدّور مطلقا ، وكذا ما عن السّيّد البروجردي قدس‌سره من أنّ معنى كون القطع مأخوذا في موضوع حكم ، عدم تحصّل هذا الحكم مع قطع النّظر عنه ؛ ومعنى كونه متعلّقا بهذا الحكم ، تحصّل الحكم مع قطع النّظر عنه ، ومرجع ذلك إلى كون القطع بالنّسبة إلى حكم واحد طريقيّا وموضوعيّا ، فيلزم كون الحكم متحصّلا في حد نفسه على الطّريقيّة ، وغير متحصّل على الموضوعيّة ، فيجتمع النّقيضان. (١)

ثمّ إنّ شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره قد التزم بأنّه ليس هنا محذور الدّور ، بل محذور آخر وهو التّهافت في اللّحاظ. أمّا عدم محذور الدّور ، فقال في تقريبه : إنّ الحكم وإن يتوقّف على القطع ؛ لكونه في رتبة موضوعه ، لكنّ القطع بالحكم لا يتوقّف على الحكم ، فقد يحصل القطع ولا مقطوع به واقعا.

وبعبارة اخرى : المعلوم على قسمين : أحدهما : بالذّات ؛ وثانيهما : بالعرض ؛ وما يتوقّف القطع والعلم عليه هو الأوّل ، وهي الصّورة الحاصلة للنّفس ؛ وأمّا الثّاني وهو الأمر الخارج عن صقع النّفس ، فلا يتوقّف القطع عليه ، فلا دور.

وأمّا المحذور الآخر (التّهافت في اللّحاظ) : فقال في تقريبه : إنّ القطع وإن كان لا يحتاج إلى وجود المقطوع به ، إلّا أنّه بالنّظر إلى كونه موضوعا ، يرى متقدّما ويلاحظ سابقا ، وبالنّظر إلى كونه متعلّقا بالحكم ، محتاجا إليه ـ لكونه من الصّفات الحقيقيّة ذوات الإضافة ـ يرى متأخّرا عن الحكم ويلاحظ لاحقا ، فيلزم اجتماع

__________________

(١) راجع ، نهاية الاصول : ص ٤٠٣.

٨٨

اللّحاظين المتهافتين في القطع وهو محال.

وقد أشار قدس‌سره في ذيل كلامه قدس‌سره إلى محذور اللّغويّة وتحصيل الحاصل ـ أيضا ـ وأنّ المقام مثل ما أن يقال : في موقف الإخبار «إذا قطعت بأنّ النّار حارّة ، فالنّار حارّة» (١).

وفيه : أوّلا : أنّ الدّور قد عرفت : لزومه على تقدير الجزئيّة للموضوع فقط ، دون ما لو جعل القطع تمام الموضوع ، لما اشير إليه سابقا ؛ وثانيا : أنّ الظّاهر عدم التّهافت في اللّحاظ إذا لوحظ شيء واحد متقدّما ومتأخّرا باعتبارين ، كما في المقام ؛ وثالثا : أنّ محذور اللّغويّة إنّما يلزم على بعض التّقادير وهو ما لو جعل حكم آخر مماثل ، بخلاف ما لو جعل شخص الحكم ونفسه. نعم ، يلزم هنا تحصيل الحاصل وإيجاد الموجود وإنشاء المنشأ واعتبار المعتبر ، وهذا أمر محال ، كما لا يخفى.

هذا ، ولكن قد ذهب المحقّق النّائيني قدس‌سره إلى إمكان أخذ القطع بالحكم في موضوع نفس هذا الحكم بنحو نتيجة التّقييد ، فقال : «وأمّا أخذه موضوعا بالنّسبة إلى نفس الحكم الّذي تعلّق العلم به ، فهو ممّا لا يمكن إلّا بنتيجة التّقييد. وتوضيح ذلك : هو أنّ العلم بالحكم لمّا كان من الانقسامات اللّاحقة للحكم ، فلا يمكن فيه الإطلاق والتّقييد اللّحاظي لاستلزامه الدّور ، كما أوضحناه في مبحث التّعبّديّ والتّوصّليّ.

وقلنا : إنّ أخذ العلم قيدا أو جزءا أو شرطا أو مانعا ، ممّا لا يمكن في مرتبة الجعل والتّشريع ، وإذا امتنع التّقييد امتنع الإطلاق ؛ لأنّ التّقابل بين الإطلاق والتّقييد ، تقابل العدم والملكة ، ولكن الإهمال الثّبوتي ـ أيضا ـ لا يعقل ، بل لا بدّ ، إمّا

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

٨٩

من نتيجة الإطلاق ، أو من نتيجة التّقييد ، فإنّ الملاك الّذي اقتضى تشريع الحكم ، إمّا أن يكون محفوظا في كلتي حالتي الجهل والعلم ، فلا بدّ من نتيجة الإطلاق ، وإمّا أن يكون محفوظا في حالة العلم فقط ، فلا بدّ من نتيجة التّقييد ، وحيث لم يمكن أن يكون الجعل الأوّلي متكفّلا لبيان ذلك ، فلا بدّ من جعل آخر يستفاد منه نتيجة الإطلاق أو التّقييد ، وهو المصطلح عليه بمتمّم الجعل ، فاستكشاف كلّ من نتيجة الإطلاق والتّقييد يكون من دليل آخر» (١).

وقد قرّر شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره تلك المقالة ، ثمّ أجاب عنه بما هو الصّحيح عندنا ، فلنذكر أوّلا ما أفاده قدس‌سره في التّقرير ـ لانّ ذكره لا يخلو عن فائدة ـ وثانيا ما أفاده في الجواب عنه. أمّا التّقرير ، فقال «إنّ التّقييد وإن كان محالا للزوم الدّور فيستحيل الإطلاق ، لكن هذا إذا كان إنشاء الحكم وجعله بخطاب واحد وجعل فارد كأن يقال : إذا علمت بوجوب شيء يجب عليك ذلك الشّيء ، وأمّا إذا كان ذلك بخطابين : أحدهما : لجعل اصل الحكم ؛ وثانيهما : لتتميمه وتكميله ، فلا يلزم محال ، فللشّارع المقنّن أن يقول : تجب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ وهذا خطاب أوّل جاء لتشريع أصل الوجوب وإبراز الإرادة الحتميّة بالنّسبة إلى صلاة الجمعة ، ثمّ يقول بعد ذلك : الحكم مختصّ بالعالم فقط ، وهذا خطاب ثان متمّم للأوّل ، المعبّر عنه به «متمّم الجعل» ينتج نتيجة التّقييد بلا لزوم دور ، أو يقول : الحكم الملقى بالخطاب الأوّل مشترك بين العالم والجاهل ، فينتج نتيجة الإطلاق ، كما قرّر ذلك في مثل قصد القربة. وعليه ، فلا إهمال ثبوتا حتى يقال : بعدم معقوليّة ولا تقييد ـ أيضا ـ كى يقال : باستلزامه للدّور ،

__________________

(١) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١١ و ١٢.

٩٠

ولا إطلاق كى يقال : بامتناعه لامتناع التّقييد ، لكون التّقابل بينهما تقابل العدم والملكة».

وأمّا الجواب عنه ، فقال : «وفيه : أوّلا : أنّه لو سلّم كون الإطلاق والتّقييد متقابلين تقابل العدم والملكة ، كان ذلك بين اللّحاظين منهما ، فاستحالة التّقييد اللّحاظي تستلزم استحالة الإطلاق اللّحاظي ، وأمّا الإطلاق الذّاتيّ ، فلا يكون مستحيلا باستحالة التّقييد ، بل ربما يقال : بتعيّنه حينئذ ؛ ضرورة ، أنّ معنى الإطلاق الذّاتي هي سعة الانطباق على كلتا الحالتين من العلم والجهل بحكم العقل ، وهذا ناش من عدم لحاظ الإناطة والتّقييد ، سواء أمكن لحاظه ، أم لم يمكن كما في مثل المقام.

وثانيا : ليس الإشكال منحصرا في مرحلة الإثبات وناحية البيان والخطاب حتّى يدفع بتعدّد الجعل وتثنية الخطاب ، بل هو جار في مقام الثّبوت ـ أيضا ـ إذ دخل القطع بالحكم في موضوع نفسه لا يكون جزافا ، بل لا بدّ أن يكون ذلك بدخله في المصلحة المترتّبة على المتعلّق. وعليه : يلزم الدّور هنا ؛ ضرورة ، أنّ تحقّق المصلحة وترتّبها متوقّف على القطع بالحكم ، لكونه دخيلا في الموضوع ، تماما أو بعضا. وواضح : أنّ القطع المتعلّق بالحكم ، متأخّر عنه ، والحكم متأخّر عن المصلحة ، متوقّف عليها ، فيتوقّف القطع على المصلحة ، كما هو قضيّة المساواة ، وهذا هو الدّور ، فالصّواب ما أشرنا إليه آنفا من الإطلاق الذّاتي» (١).

الجهة الثّالثة : هل يجوز أخذ القطع بمرتبة الحكم في مرتبة اخرى منه أو من مثله أو من ضدّه ، أم لا؟

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

٩١

ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) إلى جواز ذلك وهو الصّحيح ؛ إذ لا يلزم منه محذور الدّور ولا غيره ؛ وذلك ، مثل أن يقال : إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة وجوبا إنشائيّا ، تجب عليك صلاة الجمعة وجوبا فعليّا ؛ أو يقال : إذا قطعت بوجوبها الاقتضائيّ ، تجب عليك وجوبا إنشائيّا ؛ أو إذا قطعت بوجوبها الفعليّ ، تجب عليك وجوبا تنجيزيّا وكذلك المماثل أو المضادّ.

والوجه في عدم لزوم الدّور وغيره في المقام واضح ، حيث إنّ ما يتوقّف عليه القطع هو الوجوب الإنشائيّ في المثال الأوّل ، فلا بدّ أن يكون في مرتبة سابقة على القطع ، وما يتوقّف على القطع هو الوجوب الفعلي.

وهذا ، كما ترى ، ممّا لا يلزم منه محذور الدّور.

وما عن بعض الأعاظم قدس‌سره من أنّ القطع بالجعل ملازم للفعليّة ، فلا محالة يتعلّق القطع بالحكم الفعليّ ، وحيث إنّ المفروض دخل القطع في فعليّة الحكم لزم الدّور (٢) ؛ غير سديد ، ضرورة ، أنّه ربما يكون المصلحة في مجرّد إنشاء الحكم وإخفاءه وعدم إبلاغه إلى حين ، فلا يصير فعليّا حتّى يحين حينه ـ ولو قطع به أحيانا ـ فلا ملازمة بين القطع بالجعل والفعليّة ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه ، معيار فعليّة الأحكام في المباحث الماضيّة ، على ما قرّره الإمام الرّاحل قدس‌سره.

وممّا ذكرناه ، ينقدح ضعف ما أورده بعض الأعاظم قدس‌سره على المحقّق الخراساني قدس‌سره فقال ـ بعد الإشارة إلى الملازمة بين القطع بالجعل والفعليّة ولزوم

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥.

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٤٧.

٩٢

الدّور ـ ما هذا لفظه : «توضيح ذلك (الملازمة ولزوم الدّور) أنّ وجوب الحجّ ـ مثلا ـ المجعول على المستطيع بنحو القضيّة الحقيقيّة ، لا يشمل هذا المكلّف ، ولا يكون حكما له إلّا بعد حصول الاستطاعة خارجا ، وإلّا فليس حكما مجعولا له ، بل هو حكم مجعول لغيره ، فلا يمكن تعلّق القطع بشمول الحكم له جعلا ، إلّا بعد حصول الاستطاعة له خارجا ، ومعه يكون الحكم فعليّا في حقّه ، فلو فرض أخذ القطع بالحكم بنحو القضيّة الحقيقيّة في موضوع مرتبة الفعليّ منه ، لا يعلم بثبوت الحكم له جعلا ، إلّا بعد حصول القطع ، وحصول القطع به يتوقّف على ثبوته له جعلا ؛ إذ القطع طريق إلى الحكم ، فلا بدّ في تعلّقه به من تحقّق الحكم وثبوته في رتبة سابقة على تعلّق القطع به ، وهذا هو الدّور» (١).

وجه ضعف هذا الإيراد هو ما عرفت : من معيار الإنشاء والفعليّة ، وإنكار الملازمة بينهما ، واندفاع الدّور بعد ذلك. بتقريب : أنّ فعليّة الحكم ـ مثلا ـ تتوقّف على القطع به جعلا وإنشاء ، ولا يتوقّف القطع به كذلك على ثبوته الفعليّ ، بل يتوقّف على ثبوته الجعليّ الإنشائيّ ، فلا يلزم الدّور.

هذا كلّه في القطع المأخوذ في موضوع الحكم ، وقد عرفت الأقسام فيه من جهة كونه مأخوذا فيه ، إمّا على نحو الصّفتية أو على نحو الطّريقيّة ، وعلى كلا التّقديرين ، إمّا يكون تمام الموضوع أو جزءه وعلى هذا التّقدير ـ أيضا ـ إمّا يكون مأخوذا في موضوع نفس الحكم الّذي تعلّق به ، أو الحكم المخالف لما تعلّق به ، أو الحكم المماثل له أو الحكم المضادّ له ، وقد مرّ أحكام جميع تلك الأقسام ، فراجع.

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٤٧.

٩٣

وأمّا الظّنّ المأخوذ في موضوع الحكم فتجري فيه ـ أيضا ـ تلك الأقسام ، مع إضافة تقسيم آخر إليها وهو أنّ الظّنّ على جميع التّقادير المتقدّمة ، إمّا يكون معتبرا أو غير معتبر.

هذا ، ولكن حيث إنّ البحث عن أكثر أقسامه يكون علميّا محضا لا يترتّب عليه ثمرة علميّة ـ أيضا ـ فلا جدوى في التّعرض لها والنّقض والإبرام حولها فندعها بحالها ، كما أشار إليه الإمام الرّاحل قدس‌سره (١) وكذا بعض الأعاظم قدس‌سره. (٢)

(قيام الأمارات مقام القطع)

الأمر السّادس : هل الطّرق والأمارات المعتبرة ، وكذا الاصول بأقسامها تقومان مقام القطع بأقسامه ، أم لا؟

فههنا بحثان :

الأوّل : قيام الطّرق والأمارات المعتبرة مقام القطع.

الثّاني : قيام الاصول بأقسامها مقام القطع.

أمّا البحث الأوّل : فالكلام فيه يقع تارة في القطع الطّريقي ؛ والاخرى في القطع الموضوعيّ.

أمّا القطع الطّريقيّ ، فقد ادّعى شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره : «أنّ الظّاهر وجود الاتّفاق على قيام الأمارات مقام القطع الطّريقيّ ، بنفس دليل اعتبارها ، وإنّما

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١٠١.

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٥٠.

٩٤

الاختلاف في وجه منجّزيّة الأمارات ، فالأقوال فيه أربعة :

منها : ما ذهب إليه الشّيخ الأنصاري قدس‌سره من : تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، بمعنى :

يستفاد من أدلّة اعتبار الأمارات ، أنّ مؤدّاها كالواقع وبمنزلته.

منها : ما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدس‌سره من : أنّ مفاد دليل اعتبار الأمارات هو جعل الحجّيّة أو الحجّة.

منها : ما اختاره المحقّق النّائيني قدس‌سره من : أنّ المجعول في باب الطّرق والأمارات هو نفس الوسطيّة والكاشفيّة ، وأنّه بتتميم الكشف يتحقّق فرد من العلم بالواقع ، ومصداق من القطع به ، كالقطع الوجداني ، فيتّبع بحكم العقل ، كوجوب الاتّباع الوجداني بحكمه من دون احتياج إلى حكم تكليفيّ من قبل الشّارع ، وهذا هو المستفاد من دليل اعتبار الأمارات.

منها : ما هو المختار ، من : أنّ مفاد دليل الاعتبار هو تنزيل الظّنّ منزلة العلم في الأثر المتمشّي جعله من الشّرع وهو وجوب الاتّباع والجري العمليّ على وفقه ، كما هو الأثر المرتّب على القطع» (١).

هذه هي الأقوال في المسأله ، ولكن التّحقيق فيها يقتضي قولا آخر وهو ما اختاره الإمام الرّاحل قدس‌سره (٢) من أنّ الطّرق العرفيّة والأمارات العقلائيّة ، كالظّواهر وخبر الثّقة واليد ونحوها ، ممّا هو الدّائر في ألسنة المحقّقين والعلماء ، إنّما تكون حججا معتبرة عند العقلاء كافّة ، ومعتمدة لدى أبناء البشر قاطبة وفي جميع الامور من

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

(٢) أنوار الهداية : ج ١ ، ص ١٠٥ إلى ١٠٨.

٩٥

المعامليّة والسّياسيّة وغيرهما ، كحجّيّة القطع لديهم من دون أن يكون بينهما ترتّب وطوليّة ، فتلك الأمارات تكون كاشفة محرزة للواقع عند العقلاء ، ككون القطع كذلك ، فكما لا مجال لجعل الحجّيّة للقطع ، كذا لا مجال لجعلها للطّرق والأمارات المعتبرة عند العقلاء ، أيضا.

وعليه : فلا تنزيل هنا أصلا ، لا تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، كما عن الشّيخ الأنصاري قدس‌سره ، ولا تنزيل الظّنّ منزلة العلم في وجوب الاتّباع ، كما عن شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره ، وكذا لا جعل للحجّيّة أو الحجّة ، كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره ، ولا تتميم للكشف أو إعطاء جهة الكاشفيّة والطّريقيّة ، كما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره.

والسّر فيه : هو أنّه لا حاجة إلى هذه الامور ، بل بعضها غير معقول ، ولا دليل في مقام الإثبات يدلّ على صدور أمثال هذه الأعمال من الشّارع ، بل هو كأحد العقلاء قد عمل بها بلا جعل وتنزيل أصلا.

فمجموع ما ذكرناه امور ثمانية :

أحدها : أنّ الأمارات والطّرق العقلائيّة والعرفيّة ، يكون كالظّهورات وأخبار الثّقة ونحوهما ، حججا معتبرة عند العقلاء كافّة ، ولدى أبناء البشر قاطبة ، وفي جميع المسائل ، من المعامليّة أو السّياسيّة أو غيرهما.

ثانيها : أنّ وجه حجيّة الأمارات والطّرق هو أنّه لولاها ، لزم اختلال النّظام وتوقّف رحى الحياة الاجتماعيّة.

ثالثها : أنّه لا جعل للأماريّة والطّرق من قبل الشّارع أصلا ، لا من باب تتميم الكشف ، ولا تنزيل المؤدّى ، ولا جعل الحجّيّة ، ولا وجوب الاتّباع ، بل هو ـ أيضا ـ

٩٦

أحد العقلاء قد عمل بها من دون دخل وتصرّف فيها ، بل لا يعقل الدّخل للزوم تحصيل الحاصل.

رابعها : أنّه لا يمكن ردع الحجّيّة عنها من ناحية الشّرع ؛ إذ لو لا الحجّيّة لزم الاختلال وجاء الانحلال.

خامسها : أنّه لا دليل في مقام الإثبات ، من الكتاب والسّنّة على ما ذكره الأساطين والأعلام من وجوه الجعل ، كالتّنزيل ونحوه ، بل في نفس الرّوايات الدّالّة على حجّيّة خبر الثّقة (١) شواهد واضحة على تسلّم العمل بخبر الثّقة ، والسّؤال إنّما هو لأجل حصول العلم بالصّغرى وإحرازها ، وأنّ فلانا هل هو ثقة أم لا؟

سادسها : أنّ الأمارات والطّرق حجج مستقلّة في عرض القطع لا في طوله. غاية الأمر : يكون القطع طريقا عقليّا مقدّما عليها يعملون بها لولاه ، وإلّا فيعملون به.

سابعها : أنّ الطّريق ينحصر بالقطع عند العقلاء كي يكون العمل بغيره عند فقده من باب العناية والتّنزيل ، أو جعل الحجّيّة أو التّتميم أو وجوب الاتّباع.

ثامنها : أنّ العمل بالطّرق المتداولة المتعارفة ، ليس من باب قيامها مقام القطع الطّريقي بعد التّتميم أو التّنزيل أو غيرهما من الوجوه المشار إليها آنفا ، بل يكون من

__________________

(١) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء ، الباب ١١ من أبواب الصّفات القاضي ، الحديث ٤ ، ٩ ، ١٩ ، ص ٩٩ إلى ١٠٤ ؛ كقول أبي الحسن عليه‌السلام : «... العمري ثقتي ... فاسمع له وأطع ، فإنّه الثّقة المأمون ...».

وكالتّوقيع الشّريف لخطّ مولانا صاحب الزّمان عليه‌السلام : «... وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنّا حجّة الله ...» ؛ وكقول أبي عبد الله عليه‌السلام : «... فإذا أردت حديثنا ، فعليك بهذا الجالس [زرارة بن أعين] ...».

٩٧

باب العمل بها مستقلّا وبلا عناية وتأويل ، بل من غير التفات إلى تلك المعاني المدرسيّة ، والوجوه الدّقيقة الفنيّة الحوزويّة. هذا كلّه في القطع الطّريقيّ.

وأمّا القطع الموضوعي ، فالبحث عن قيام الأمارات والطّرق مقام القطع الموضوعيّ وعدم قيامها ، يحتاج إلى ذكر الجهات والخصوصيّات الموجودة في هذا القطع وهي ثلاثة :

الاولى : أصل الكاشفيّة ، بمعنى : أنّه يؤخذ في الموضوع تماما أو بعضا بما أنّه طريق وكاشف بلا اعتبار تماميّة كشفه.

الثّانية : تماميّة الكشف ، بمعنى : أنّه يؤخذ في الموضوع كذلك ، بما أنّه كشف تامّ.

الثّالثة : كونه نعتا ووصفا نفسانيّا ، بمعنى : أنّه يؤخذ في الموضوع كذلك ، بما أنّه وصف ونعت نفسانيّ.

فعلى الاولى : ليس الموضوع إلّا الطّريق والكاشف بلا اعتبار خصوصيّة اخرى. وعليه : يعمل بالطّرق والأمارات العقلائيّة عند فقد القطع ، لكونها من مصاديق الطّرق والكواشف كالقطع ، لا لقيامها مقامه بإعمال عنايات زائدة من ناحية الشّرع ، كالتّتميم أو التّنزيل أو نحوهما من وجوه التّصرّف والتّأويل.

وأمّا على الثّانية والثّالثة : فلا يعمل بالطّرق والأمارات عند فقد القطع ، ولا يترتّب عليه الأثر لعدم كون الظّنّ كشفا تامّا ، ولا وصفا نفسانيّا من سنخ القطع ، بل يكون كشفا ناقصا ووصفا نفسانيّا خاصّا آخر.

وإن شئت ، فقل : إنّ الموضوع هنا (الجهة الثّانية والثّالثة) هو خصوص القطع فإن كان ، يترتّب عليه الأثر ، وإلّا فلا يترتّب الأثر من باب السّلب بانتفاء الموضوع.

٩٨

والّذي يسهّل الخطب ، أنّه لم نقف في الكتاب والسّنة على مورد اخذ فيه العلم موضوعا على وجه الصّفتيّة تماما أو بعضا ، كما أشار إليه المحقّقان النّائيني (١) والعراقي قدس‌سرهما (٢).

هذا تمام الكلام في البحث الأوّل (قيام الطّرق والأمارات مقام القطع).

(قيام الاصول مقام القطع)

وأمّا البحث الثّاني (قيام الاصول بأقسامها مقام القطع بأقسامه) فالكلام فيه يقع في موردين :

المورد الأوّل : في الاصول غير المحرزة وهي ـ على ما يستفاد من أدلّتها ـ الوظائف المقرّرة للجاهل بالواقع كي يرفع التّحيّر عنه في مقام العمل بالوظيفة ، نظير أصالة الطّهارة والحلّ ونحوهما. ولا ريب : أنّ هذه الاصول لا معنى لقيامها مقام القطع في التّنجيز أصلا.

نعم ، قد يتوهّم أنّ الاحتياط الّذي يكون من الاصول غير المحرزة ، يقوم مقام القطع في تنجّز التّكليف به لو كان.

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني قدس‌سره بقوله : «أمّا الاحتياط العقليّ فليس إلّا نفس حكم العقل بتنجّز التّكليف وصحّة العقوبة على مخالفة ، لا شيء يقوم مقام القطع في هذا الحكم ؛ وأمّا النّقليّ فإلزام الشّارع به وإن كان ممّا يوجب التّنجّز وصحّة

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٢٦ و ٢٧.

(٢) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٣ ، ص ٢٣.

٩٩

العقوبة على المخالفة كالقطع ، إلّا أنّه لا نقول به في الشّبهة البدويّة ، ولا يكون بنقليّ في المقرونة بالعلم الإجمالي ، فافهم» (١).

هذا ، ولكن لنا جواب آخر عنه ، وهو أنّ الاحتياط ليس إلّا إتيان جميع المحتملات كي يتحقّق الامتثال على كلّ تقدير ، فليس فيه جهة كشف وحيثيّة حكاية حتّى يقوم مقام القطع في حكمه ، وليس هو ـ أيضا ـ نفس حكم العقل أو الشّرع ـ كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ بل العقل يحكم بلزوم الاحتياط أو يدرك لزومه ، وكذا الشّرع.

وعليه : فليس الاحتياط إلّا نفس الإتيان المذكور ، لا نفس الحكم ، ولا شيئا كالقطع ، يقوم مقامه ، ولعلّ قول المحقّق الخراساني قدس‌سره : «فافهم» إشارة إلى هذا الجواب الّذي ذكرناه ، أو إلى أنّ الرّوايات بالنّسبة إلى الشّبهات المقرونة بالعلم الإجمالي تكون إشارات إلى حكم العقل.

المورد الثّاني : في الاصول المحرزة وهي قد تسمّى بالاصول التّنزيليّة ، نظير الاستصحاب وقاعدة التّجاوز والفراغ واليد ؛ والبحث عن قيام هذه الاصول مقام القطع ، يستدعي التّكلّم في كلّ واحد من تلك الأقسام المذكورة.

فنقول : أمّا الاستصحاب ، فقيامه مقام القطع أو عدم قيامه ، مبنيّ على البحث في أنّه ، هل يكون أمارة ، أو أصلا؟ والتّحقيق في ذلك يحتاج إلى ذكر مستند كلّ واحد من احتمال كون الاستصحاب أمارة ، أو أصلا.

أمّا احتمال كونه أمارة ، فيمكن استناده إلى أنّ جعل الأماريّة لكلّ شيء

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٣.

١٠٠