مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

تتوقّف على جهات ثلاثة :

الاولى : كونه ذات جهة كاشفيّة وطريقيّة ؛ إذ لو لم يكن كذلك ، لا يكون صالحا لجعله أمارة شرعيّة ، بل يكون حينئذ دون الجعل ، كالشّكّ.

الجهة الثّانية : عدم كونه بنفسه أمارة ـ عقليّة أو عقلائيّة ـ إذ لو كان كذلك لما يقبل الجعل ، بل يكون حينئذ فوقه ، كالقطع.

الجهة الثّالثة : كون العناية في مقام الجعل إلى جهة الطّريقيّة وحيثيّة الكاشفيّة.

وهذا الجهات الثّلاثة الدّخيلة في جعل الأماريّة ، كلّها موجودة في الاستصحاب.

أمّا الجهة الاولى ، فلأنّ اليقين بالحالة السّابقة كاشف عن البقاء ؛ ولذا قيل : ما ثبت يدوم ، وليس هو في الآن اللّاحق كالشّكّ المحض غير القابل للأماريّة.

وأمّا الجهة الثّانية ، فلأنّ أساس عمل العقلاء بالاستصحاب ، ليس مجرّد اليقين بالحالة السّابقة ، بل لعلّه لاحتفاف المقام بامور موجبة للوثوق والاطمئنان ، لا لكون الاستصحاب ذات كشف عن الواقع كشفا ناقصا حتّى يكون أمارة ، كخبر الثّقة. وعليه : فالاستصحاب يصلح أن يناله يد الجعل الشّرعيّ.

وأمّا الجهة الثّالثة ، فلأنّ المستفاد من الرّوايات الواردة في باب الاستصحاب هو أنّ العناية فيه إنّما يكون بإبقاء اليقين وإطالة عمره تشريعا ، نظير قوله عليه‌السلام : «... وإلّا فإنّه على يقين من وضوءه ولا ينقض اليقين بالشّكّ أبدا ...» (١).

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١ ، ص ١٧٤ و ١٧٥.

١٠١

وأمّا احتمال كون الاستصحاب أصلا ، فمستنده هو أنّ الأماريّة إنّما تتقوّم بكون الشّيء ذات جهة كاشفيّة وطريقيّة إلى الواقع ولو ناقصا ، والمفروض ، أنّ الاستصحاب ليس كذلك ؛ إذ اليقين السّابق قد زال ، ولا حظّ للمكلّف حين الاستصحاب إلّا الشّكّ ، وأمّا اقتضاء وجود المستصحب للبقاء فيما كان فيه الاقتضاء ، وكون الوجود الكذائي كاشفا ـ ولو ناقصا عن بقاءه ـ موجبا لحصول الظّنّ به ، فهو وإن كان كذلك ، لكنّه أجنبيّ عن اليقين السّابق وأماريّته ، كما أشار إليه الإمام الرّاحل قدس‌سره (١).

مع أنّه لا يكون بناء العقلاء على العمل بهذه المرتبة من الظّنّ بلا حصول وثوق واطمينان ، كما هو واضح.

أضف إلى ذلك ، أنّ الأمارة تتقوّم ـ أيضا ـ بكون العناية في مقام الجعل إلى الكاشفيّة والطّريقيّة ، والمفروض ، أنّه لا عناية في روايات الاستصحاب إلى كاشفيّة الوجود السّابق ، عن البقاء حتّى يجعل ذلك الوجود أمارة عليه باعتبار كونه موجبا لحصول ظنّ ما ، وإنّما العناية إلى أنّ اليقين لإبرامه لا ينبغي أن ينقض بالشّكّ الّذي لا إبرام فيه.

وعليه : فالاستصحاب يكون من الاصول التّعبّديّة الشّرعيّة ، كما أشار إليه الإمام الرّاحل قدس‌سره (٢).

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إنّ مقتضى التّحقيق في المسألة هو ما اختاره الإمام

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ١١٤.

(٢) راجع ، أنوار الهداية : ج ٢ ، ص ١١٠.

١٠٢

الرّاحل قدس‌سره من أنّ الاستصحاب يكون من الاصول لا الأمارات ، ويدلّ عليه ، الأخبار ، حيث إنّ مفادها عبارة عن حرمة نقض اليقين بالشّكّ والحكم ببقائه في ظرف الشّكّ من حيث العمل.

وإن شئت ، فقل : إنّ غاية ما يستفاد من الرّوايات ، أنّ الاستصحاب عبارة عن حكم الشّرع ببقاء نفس اليقين ، أو بترتيب آثاره في ظرف الشّكّ من حيث الجري العمليّ ، فكأنّه قيل : ما هو مقطوع الحدوث ومشكوك البقاء ، باق على حاله تعبّدا ، كما قيل في باب الطّهارة : ما هو مشكوك الحلّيّة أو الطّهارة ، حلال وطاهر.

إذا عرفت هذا ، فاعلم ، أنّ الاستصحاب بناء على القول بكونه أمارة يقوم مقام القطع الطّريقيّ أو الموضوعيّ المأخوذ على وجه الكاشفيّة ، بل الاستصحاب على هذا يكون مصداقا للقطع لا قائما مقامه.

نعم ، لا يقوم مقام القطع الموضوعيّ المأخوذ على وجه الصّفتيّة ؛ والسّر فيه : ما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره من أنّ مفاد أدلّة حجّيّة الاستصحاب أجنبيّة عن ذلك ؛ إذ هي لا تدلّ إلّا على جعل الوسطيّة في الإثبات وإعطاء صفة الإحراز. ومن المعلوم : أنّه لا جامع بين الوسطيّة في الإثبات ، وبين القطع الموضوعيّ المأخوذ على وجه الصّفتيّة.

وبعبارة اخرى : أنّ أدلّة الاستصحاب تفيد كون المجعول هو القطع الطّريقيّ تعبّدا وإطالة عمر اليقين الطّريقي ، فتكون قاصرة عن تنزيل الاستصحاب منزلة القطع الصّفتيّ ، بل يمكن دعوى استحالة قيامه مقام هذا القطع ؛ وذلك ، للزوم الجمع بين اللّحاظين المتنافيين ، حيث إنّ لحاظ الصّفتيّة يقتضي لحاظ القطع بلا نظر إلى جهة كشفه ، بخلاف لحاظ الطّريقيّة ، فإنّه يقتضي لحاظه مع النّظر إلى جهة كشفه ، وهذا

١٠٣

كما ترى ، جمع بين اللّحاظين المتنافيين ، واستحالة ذلك واضح. هذا كلّه بناء على القول بكون الاستصحاب أمارة.

وأمّا بناء على القول المختار من كون الاستصحاب أصلا ، فلا يقوم ـ أيضا ـ مقام القطع الصّفتيّ ؛ وذلك ، لما عرفت ـ في فرض كون الاستصحاب أمارة ـ من أنّ أدلّة الاستصحاب قاصرة عن تنزيله منزلة هذا القطع ، فلا معنى لقيامه حينئذ مقامه ؛ والّذي يسهّل الخطب هو عدم وجود هذا النّوع من القطع في الكتاب والسّنة.

أمّا القطع الطّريقيّ بجميع أقسامه ، سواء كان طريقا محضا أو مأخوذا في الموضوع تماما أو بعضا ، فلا يبعد أن يقوم الاستصحاب مقام هذا القطع ؛ إذ كبرى دليل الاستصحاب وهي قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشّكّ» حاكمة على الدّليل المأخوذ فيه القطع مطلقا ، سواء كانت الحكومة حاصلة بنفسها ، أو نتيجتها ؛ وذلك ، لما اشير إليه ، من أنّ معنى الاستصحاب ، إمّا هو التّعبّد ببقاء نفس اليقين من حيث العمل والأثر ، فالحكومة نفسها حاصلة ، وإمّا هو التّعبّد بلزوم ترتيب أثر اليقين في زمان الشّكّ ، فنتيجة الحكومة حاصلة ، كما لا يخفى.

(تنبيهان)

الأوّل : هنا عويصة يصعب حلّها على القائلين بكون الاستصحاب من الاصول المحرزة.

توضيحها : أنّه لو كان الاستصحاب أصلا عمليّا ، فما معنى كونه محرزا ؛ إذ المحرز يكون من الطّرق والأمارات ، سواء كانت معتبرة أو غيرها ، ولو كان أمارة مع

١٠٤

فرض حجّيّته واعتباره بدليل الرّوايات ، فما معنى كونه فرش الأمارات وحكومتها عليه؟ ـ كما هو المشتهر بين الأصحاب ـ ولو كان أصلا عمليّا محضا غير محرز ، فما معنى كونه عرش الاصول الأخر وحكومته عليها؟ ـ كما هو المشتهر بينهم ـ بل كيف يقوم حينئذ مقام القطع الطّريقيّ أو الموضوعيّ المأخوذ في الموضوع على وجه الطّريقيّة.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال ـ وفاقا للفحول ـ : إنّ الاستصحاب لأجل كونه كسائر الاصول ، يكون بالإضافة إلى الأمارات فرشا ومحكوما لها ، ولأجل كون الشّكّ فيه مسبوقا باليقين ، وأنّ الرّوايات الواردة فيه ، يدلّ على النّهي عن نقضه به ـ مطابقة ـ وعلى الأمر بالجري العمليّ على وفقه ـ التزاما ـ يكون بالنّسبة إلى الاصول الأخر من البراءة العقليّة والنّقليّة ، والاشتغال والتّخيير عرشا وحاكما عليها ، ولو لا ذلك ، لزم لغويّة دليل اعتبار الاستصحاب وصيرورته بلا مورد ؛ إذ المفروض ، جريان الاصول الأخر في صورة عدم مسبوقيّة الشّكّ باليقين ، فلو فرض جريانها ـ أيضا ـ في صورة مسبوقيّة الشّكّ باليقين ، لزم كون الاستصحاب بلا مورد ولغويّة دليل اعتباره.

التّنبيه الثّاني : قد يقال : إنّ الرّوايات الواردة في باب جواز الشّهادة بالاستصحاب ، تؤيّد أماريّته ، وهي ثلاثة رواها معاوية بن وهب من أصحاب الصّادقين عليهما‌السلام :

الاولى : وهي مضمرة ، قال : «قلت له : إنّ ابن أبي ليلى يسألني الشّهادة عن هذه الدّار ، مات فلان وتركها ميراثا وأنّه ليس له وارث غير الّذي شهدنا له ، فقال :

١٠٥

اشهد بما هو علمك ، قلت : إنّ ابن أبي ليلى يحلفنا الغموس ، فقال : احلف ، إنّما هو على علمك» (١).

الثّانية : قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرّجل يكون في داره ، ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع فيها عياله ، ثمّ يأتينا هلاكه ، ونحن لا ندري ما أحدث في داره ، ولا ندري ما أحدث له من الولد ... ولا تقسم هذه الدّار على ورثته الّذين ترك حتّى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدّار دار فلان بن فلان مات وتركها ميراثا بين فلان وفلان ، أو نشهد على هذا؟ قال : نعم ... ، فقال : كلّ ما غاب من يد المرء المسلم ، غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد به» (٢).

الثّالثة : قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرّجل يكون له العبد والأمة ، قد عرف ذلك ، فيقول : أبق غلامي أو أمتى ، فيكلّفونه القضاة الشّاهدين بأنّ هذا غلامه أو أمته ، لم يبع ولم يهب ، أنشهد على هذا إذا كلّفنا؟ قال : نعم» (٣).

وفيه : أوّلا : أنّ الرّوايات ، كما ترى ، يستظهر منها ، أنّ البناء في الشّهادة إنّما هو على اليد لا الاستصحاب ؛ ولذا جاء في ذيل الثّانية التّصريح باليد وهو قوله عليه‌السلام «كلّ ما غاب من يد المرء المسلم ...».

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٧ من أبواب الشّهادات ، الحديث ١ ، ص ٢٤٥ و ٢٤٦.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٧ من أبواب الشّهادات ، الحديث ٢ ، ص ٢٤٦.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٧ من أبواب الشّهادات ، الحديث ٣ ، ص ٢٤٦.

١٠٦

وثانيا : أنّ أخبار الاستصحاب جلّها لو لا الكلّ مشتملة على التّعليل وأنّه لا ينقض اليقين بالشّكّ (١) ؛ وهذا بخلاف الرّوايات المتقدّمة ، فإنّها عارية عن هذا التّعليل ، حيث إنّه ورد في الاولى : «... اشهد بما هو علمك ...» ولم يرد «اشهد بعلمك ويقينك السّابق ولا تنقضه بشكّك اللّاحق» ؛ وفي الثّانية : «... أو نشهد على هذا؟ قال : نعم ... كلّ ما غاب من يد المرء المسلم ...» ؛ وفي الثّالثة : «... أنشهد على هذا إذا كلّفنا؟ قال : نعم ...».

وبالجملة : ليست الرّوايات المذكورة مؤيّدة لأماريّة الاستصحاب ، بل تكون من أدلّة قيام اليد ـ الّتي تكون من الأمارات ـ مقام القطع والعلم المعتبر في الشّهادة ، بل لا قيام في البين.

ولعلّ الاشتباه نشأ من تسمية عنوان الباب ، المذكورة فيه تلك الرّوايات وهو باب السّابع عشر من أبواب الشّهادات في وسائل الشّيعة ؛ بعنوان «باب جواز البناء في الشّهادة على استصحاب بقاء الملك وعدم المشارك في الإرث ...» (٢).

وتؤيّد ما ذكرناه ، رواية حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال له الرّجل : إذا رأيت شيئا في يدي رجل ، يجوز لي أن أشهد أنّه له ، قال : نعم ، قال الرّجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له ، فلعلّه لغيره ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أفيحلّ الشّراء منه؟ قال : نعم ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فلعلّه لغيره ، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير

__________________

(١) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١ ، ص ١٧٤ و ١٧٥ ؛ ج ٢ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٣٧ من أبواب النّجاسات ، الحديث ١ ، ص ١٠٥٣ ؛ وج ٥ ، كتاب الصّلاة ، الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصّلاة ، الحديث ٣ ، ص ٣٢١.

(٢) راجع ، وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٧ ، ص ٢٤٥.

١٠٧

ملكا لك ، ثمّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك ، ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» (١). هذا تمام الكلام في الاستصحاب.

وأمّا قاعدة الفراغ والتّجاوز ، فالحقّ أنّهما من الاصول ، لا الأمارات ، فلا يقومان مقام القطع ؛ إذ مفاد الأخبار الدّالّة عليهما هو وجوب المضيّ العمليّ ، والبناء على الإتيان بعدم الاعتناء بالشّكّ ، لا أنّ مفادها هو إسقاط الشّكّ وإعطاء الكاشفيّة حتّى يكونا من الأمارات ، وإليك بعض تلك الأخبار :

منها : رواية زرارة ، «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل شكّ في الأذان وقد دخل في الإقامة ، قال : يمضي ، قلت : رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر ، قال : يمضي ، قلت : رجل شكّ في التّكبير وقد قرأ ، قال : يمضي ، قلت : شكّ في القراءة وقد ركع ، قال : يمضي ، قلت : شكّ في الرّكوع وقد سجد ، قال : يمضي على صلاته ، ثمّ قال : يا زرارة! إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره ، فشكّك ليس بشيء» (٢).

ومنها : رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال : كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى ، فامضه كما هو» (٣).

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٢٥ من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدّعوى ، الحديث ٢ ، ص ٢١٥.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ٥ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصّلاة ، الحديث ١ ، ص ٣٣٦.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ٥ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصّلاة ، الحديث ٣ ، ص ٣٣٦.

١٠٨

ومنها : ما عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام : «قال : سألته عن رجل ركع وسجد ولم يدر هل كبّر أو قال : شيئا في ركوعه وسجوده ، هل يعتدّ بتلك الرّكعة والسّجدة؟ قال : إذا شكّ فليمض في صلاته» (١). هذا تمام الكلام في الأمر السّادس.

(الموافقة الالتزاميّة للقطع)

الأمر السّابع : أنّ تنجّز التّكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملا ، فهل يقتضي موافقته التزاما والتّسليم له اعتقادا وانقيادا ، بحيث يحصل امتثالان عند الموافقة الالتزاميّة ـ أحدهما : بحسب القلب والجنان ؛ واخرى : بحسب العمل بالأركان ـ ويحصل العقوبة عند عدم الموافقة ، أو لا يقتضي ذلك؟ فلا يستحقّ العقوبة على عدم الموافقة ، بل إنّما يستحقّها على المخالفة العمليّة فقط.

ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) إلى الثّاني وهو الصّحيح ، والدّليل عليه : يكون مركّبا من صغرى وجدانيّة ، وكبرى برهانيّة بصورة الشّكل الأوّل من القياس ، فالصّغرى هو قولنا : الموافقة الالتزاميّة ، أو عقد القلب ، أو نحوهما من أمثال هذه العناوين ، تكون من الامور القلبيّة ، نظير الخوف والرّجاء ، والسّخط والرّضاء ، والكبرى هو قولنا : وكلّ أمر قلبيّ نفسيّ يحصل في أفق القلب وصقع النّفس قهرا

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ٥ ، كتاب الصّلاة ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصّلاة ، الحديث ٩ ، ص ٣٣٧ و ٣٣٨.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٢٧ و ٢٨.

١٠٩

بتبع حصول علله ومباديه الخاصّة بلا دخل اختيار وإرادة فيه.

والنّتيجة هو قولنا : فالالتزام بشيء وعقد القلب عليه ، يتحقّق ويتكوّن تبعا لحصول علله ومباديه الخاصّة بلا اختيار وإرادة.

ثمّ تجعل هذه النّتيجة صغرى لكبرى قياس آخر ، فيقال في الصّغرى : عقد القلب أمر تبعيّ غير اختياريّ ، بحيث يجب حصوله لو حصلت مباديه ويمتنع لو امتنعت ؛ وفي الكبرى : وكلّ أمر كذلك لا يصلح لأن يصير واجبا شرعا ؛ وفي النّتيجة : فالموافقة الالتزاميّة وعقد القلب لا يصلح لأن يصير واجبا شرعا ، وهذا لا فرق فيه بين اصول الدّين وفروعه.

وإن شئت ، فاختبر نفسك في هذه المسألة ، فهل يمكن لك بعد العلم بوجود شيء ، عقد قلبك على عدمه والالتزام بخلاف وجوده ، وكذا لو تيقّنت بعدم شيء ، فهل تتمكّن من عقد القلب على وجوده والالتزام بخلاف عدمه؟

هذا ، ولكن قد يقال : بإمكان ذلك ، مستشهدا بآية الجحود مع الإيقان وهي قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً)(١).

وفيه : أنّ المراد من الجحود ليس هو الالتزام القلبيّ على خلاف ما في القلب من اليقين ، بل المراد منه هو الإنكار اللّساني وعدم الالتزام العمليّ قبال الإذعان اللّساني ، والالتزام العمليّ مع عدم الالتزام القلبي ، بل مع الالتزام القلبي على خلاف اللّسان والعمل ، فيذعن لسانا ويعمل ظاهرا لجهات وحكم.

وانقدح ممّا ذكرناه ، ضعف ما عن جمع من الأكابر منهم شيخنا الاستاذ

__________________

(١) سورة النّمل (٢٧) ، الآية ١٤.

١١٠

الآملي قدس‌سره من : «أنّ الاعتناق والبناء القلبيّ فعل من أفعال النّفس بشهادة الوجدان وأخبار باب الكفر والإيمان ، ويدلّ عليه بعض آيات القرآن ، فكثير ما يعلم الإنسان حقّيّة شيء أو شخص ويكون تلك عنده كالشّمس في السّماء ، لكنّه لا ينقاد له قلبا ولا يعتنق به باطنا لما فيه من خباثة ورذالة ، أو لجهة اخرى من الجهات المانعة.

نعم ، يطبّق نفسه في مقام العمل على وفق أوامره ونواهيه احتشاما منه ، وهكذا كان حال كثير من الكفّار في الصّدر الأوّل من الإسلام ، فكانوا قاطعين بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا بناء قلبيّ واعتناق باطنيّ نفسانيّ ؛ ولذا كانوا كفّارا غير مؤمنين ، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً)(١) فملاك الكفر والإيمان هو هذا البناء ، لا العلم المجرّد وعدمه ، ولا مجرّد الإقرار اللّساني والبناء اللّفظيّ الظّاهري وعدمه» (٢).

فتحصّل : أنّ الموافقة الالتزاميّة ، بمعنى : عقد القلب على الدّين باصوله وفروعه والالتزام به اختيارا ، أمر غير ممكن فلا مجال لإيجابه. نعم ، يمكن البناء القلبيّ على العمل والتّصميم لإطاعة أمر المولى ونهيه ، كالبناء على عدم العمل والتّصميم لمخالفة أمر المولى ونهيه ، وكذا لا مجال لحرمة التّشريع ، بمعنى : الالتزام القلبي بكون حكم من الشّرع مع علمه بعدم كونه منه ، أو مع عدم علمه بكونه منه ؛ وذلك ، لعدم إمكان هذا الالتزام لكونه التزاما بخلاف علمه ، وقد عرفت امتناعه ، فلا يمكن النّهي عنه وتحريمه.

__________________

(١) سورة النّمل (٢٧) ، الآية ١٤.

(٢) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

١١١

نعم ، التّشريع ، بمعنى : إدخال ما ليس من الدّين في الدّين ، يكون أمرا ممكنا مقدورا ، فيكون منهيّا عنه. أضف إلى ذلك كلّه ، أنّه لو سلّم إمكان وجوب الموافقة الالتزامية حسب مقام الثّبوت ، فلا مجال لوجوبها حسب مقام الإثبات ، لعدم دليل عليه نقلا وعقلا.

أمّا النّقل ، فلأنّ المستفاد منه هو البعث إلى العمل أو الزّجر عنه والتّرغيب إلى الإتيان أو التّرهيب عنه خارجا ، بلا عين ولا أثر فيه من البعث إلى الالتزام قلبا ووجوب عقد القلب شرعا ، فلم يؤخذ الالتزام موضوعا للوجوب في دليل ، مضافا إلى أنّه لو وجب لزم التّسلسل ، فتأمّل جيّدا.

وأمّا العقل ، فلأنّه لا يدلّ على وجوب الالتزام ولزوم عقد القلب بوجه ، لا من باب الملازمة ؛ لعدم الملازمة بين الامتثال ، وبين العقد والالتزام حتّى يجب بوجوبه ؛ ضرورة ، حصول الامتثال بمجرّد الإتيان خارجا وإن لم يكن معه التزام ؛ ولا من باب وجوب دفع الضّرر المحتمل ؛ لاندفاعه بالبراءة لو كان اخرويّا ، ولعدم وجوب دفعه لو كان دنيويّا ؛ ولا من باب اقتضاء رسم العبوديّة ؛ إذ الرّسم يقتضي العمل بما أمر به ، والمفروض أنّه لم يؤمر بعقد القلب حتّى يكون تركه خلاف رسم العبوديّة ؛ ولا من باب اقتضاء شكر المنعم ؛ بداهة ، أنّ مقتضى شكر المنعم وإن كان وجوب عقد القلب على أحكامه ، لكن عقد القلب على ما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنحو الجملة والإجمال ، لا يقتضي عقده على كلّ واحد واحد من الأحكام تفصيلا ؛ على أنّ معنى عقد القلب على ما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الاعتقاد والالتزام بأنّه من قبل الله تعالى ، لا من قبل نفسه ، ومرجعه إلى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفتر على الله كذبا ، لا وجوب عقد

١١٢

القلب على أحكامه تعالى شرعا.

ولا يخفى عليك : أنّ عقد القلب على ما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا المعنى (أنّه من قبل الله) يكون بالنّسبة إلى جميع أحكام الله تعالى حتّى المباحات ، وحتّى ما يختصّ ببعض المكلّفين ، كوجوب عقد القلب للرّجال على أحكام الحيض المختصّة بالنّساء ، وهذا بخلاف عقد القلب على الأحكام أنفسها ، فإنّه لو صحّ ثبوتا وقام عليه الدّليل إثباتا ، يختصّ بالأحكام الإلزاميّة ، فلا يجب على المستحبّات ونحوها من الأحكام غير الإلزاميّة ، ويختصّ ـ أيضا ـ بالأحكام المتعلّقة بالمكلّف نفسه ، فلا يجب عقد القلب على أحكام متعلّقة بغيره من المكلّفين.

بقي هنا شيء وهو أنّه بعد تسليم وجوب الموافقة الالتزاميّة ، هل يمنع عن جريان الأصل في مورد دوران الأمر بين المحذورين وفي أطراف العلم الإجمالي ، أم لا؟

ذهب المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) إلى عدم المنع وهو الصّحيح ؛ وذلك ، لعدم المنافاة بين الالتزام بما هو الواقع بوجه الإجمال ـ في مثل دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ـ بمقتضى العلم الإجمالي ، وبين الالتزام بالإباحة الظّاهريّة بمقتضى الأصل العمليّ.

وأمّا الالتزام بخصوص الوجوب أو الحرمة ـ مثلا ـ فغير ممكن ، لعدم المعرفة ، والالتزام بأحدهما تخييرا ـ أيضا ـ غير وجيه ، لعدم اقتضاء التّكليف إلّا الالتزام بنفسه عينا ، لا الالتزام به أو بضدّه تخييرا.

ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «والتّحقيق

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٠.

١١٣

أن يقال : الالتزام إمّا يلاحظ مع الحكم الواقعي أو مع الظّاهريّ ، ولا موقع للأوّل مع وجود الأصل النّافي له تنزيلا ؛ والثّاني يتحقّق بعد جريان الأصل ويكون في طوله ، فلا يعقل منعه عن جريانه ، وإن أبيت ، فلا مزاحمة بين الالتزامين ولا يقع بينهما تمانع أصلا ، حيث يمكن الالتزام بالواقع المحتمل المتردّد وبالحكم الظّاهريّ المتعيّن لاختلاف صقعهما ، فلا يصادم الالتزام بالواقع ، الأصل ولا الأصل ، الالتزام بالواقع. ومن هنا يمكن أن يقال : الأخذ بالاصول في مورد العلم الإجماليّ ، ليس من باب الحكومة على أدلّة الواقع حتّى يصل الدّور إلى البحث عن أنّ حكم العقل بوجوب الالتزام تعليقيّ أو تنجيزىّ ، بل يكون ذلك الأخذ من باب عدم المزاحمة والمصادمة على ما أشرنا من اختلاف الصّقع ووجود الطّوليّة» (١).

فتحصّل : أنّ وجوب الالتزام لو سلّم لا يمنع عن جريان الأصل ، لا في مورد دوران الأمر بين المحذورين ، ولا في أطراف العلم الإجمالي ، فيجري لو لم يكن هناك مانع آخر عن جريانه. هذا تمام الكلام في الأمر السّابع.

(قطع القطّاع)

الأمر الثّامن : أنّ القطع المأخوذ طريقا ، يترتّب عليه الأثر العقليّ وهو الحجّيّة ، بلا تفاوت فيه عند العقل من حيث القاطع والمورد والسّبب بأن حصل بنحو متعارف ومن سبب ينبغي حصوله منه ، أو بنحو غير متعارف ومن سبب لا ينبغي حصوله منه ، كما هو الحال غالبا في القطّاع ، وهذا أمر واضح ، وقد ادّعي فيه

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

١١٤

الضّرورة ، كما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) ، هذا من ناحية العقل.

وأمّا من ناحية الشّرع ، فلا مجال للمنع أو التّحديد ـ أيضا ـ بالنّسبة إلى ذلك القطع ، لما عرفت في مبحث حجّيّة القطع من أنّه لا تناله يد الجعل والتّشريع أصلا.

وأمّا بالنّسبة إلى القطع المأخوذ في الموضوع شرعا ، فقد يقيّد بسبب خاصّ متعارف بعنوانه النّفسي ، بمعنى : عنوان ذوات الأسباب المتعارفة ، كالكتاب والسّنّة ، فيقال : ـ مثلا ـ إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة من طريق الكتاب والسّنّة ، يجب عليك التّصدّق ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ؛ إذ للشّرع أن يردع ويسلب الموضوعيّة عن القطع لو حصل من طريق آخر غير متعارف ، كالجفر والرّمل ونحوهما.

وقد لا يقيّد بذوات الأسباب ، كالكتاب والسّنّة ، بل يقيّد بعنوان «ما ينبغي حصول القطع منه» فيقال : ـ مثلا ـ إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة من طريق ما ينبغي أن يحصل منه القطع ، يجب عليك التّصدق بكذا ، وهذا ممّا لا يكاد يجدي الرّدع وسلب الموضوعيّة عنه لو حصل من طريق آخر ؛ إذ القاطع حال قطعه يعتقد بحصوله ممّا ينبغي أن يحصل منه ، ولا يلتفت إلى أنّه حصل ممّا لا ينبغي.

(خاتمة)

قد تقدّم : أنّ القطع الطّريقي موضوع لحكم العقل بوجوب الموافقة وحرمة المخالفة ، وهذا لا فرق فيه بين أن يحصل من أسباب ومقدّمات متعارفة ، وبين أن يحصل من غيرها ، كالرّمل والجفر ونحوهما.

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣١ و ٣٢.

١١٥

وكذا لا فرق فيه ، بين قاطع ـ كالقطّاع ـ وقاطع آخر ـ كغيره ـ ولا بين متعلّق ومقطوع به ، كالأحكام الفرعيّة ، وبين متعلّق ومقطوع به آخر ، كالمسائل الأصليّة الاصوليّة ؛ كما لا فرق ـ أيضا ـ في حجّيّته في الأحكام بين أن يحصل من مباد سمعيّة نقليّة ، ومباد ومقدّمات عقليّة. هذا هو الحقّ.

ولكن نقل الخلاف عن غير واحد من الأخباريين (١) في حجّيّة القطع النّاشى من المقدّمات العقليّة في الأحكام الشّرعيّة.

وعليه : فينبغي بسط الكلام لمقالة الأخباريّ نقلا ونقدا ، فنقول : إنّ ظاهر كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره (٢) بل صريحه ، أنّ النّزاع بين الأخباريّ والاصوليّ ، يرجع إلى الصّغرى وهي حصول القطع من المقدّمات العقليّة ، فأنكرها الأخباريّ دون الاصوليّ ؛ وأمّا الكبرى ، وهي أصل حجّيّة القطع ، فلا نزاع بينهما فيها.

ولكنّ الحقّ كما قال جمع من الفحول : أنّ كلام الأخباريين صريح في منع الكبرى ـ أيضا ـ فهم قد يمنعون الصّغرى وهي حصول القطع من المقدّمات العقليّة ، إمّا لأجل أنّ المقدّمات العقليّة لا تفيد إلّا الظّن ، أو لأجل منع الملازمة بين حكم العقل والشّرع نظرا إلى إنكارهم لأصل الحسن والقبح العقليين ، وإنكارهم لتمكّن العقل من إدراك الملاكات من المفاسد والمصالح ، وإنكارهم لتمكّنه من إدراك الموانع والمزاحمات ، وإنكارهم للملازمة بين حكم العقل والشّرع في سلسلة علل الأحكام ، أو في سلسلة معاليلها أو في سلسلة ملازمات الأحكام. وقد يمنعون الكبرى وهي

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ٥١ (التّنبيه الثّاني من تنبيهات القطع) الطّبعة الجديدة.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٣٢.

١١٦

حجّيّة القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة ؛ وذلك ، لأجل ورود المنع الشّرعي عن الرّجوع إلى تلك المقدّمات وإن انتجت القطع.

والتّحقيق في منع الصّغرى يقتضي أن يقال : إنّ مستند المنع لو كان عدم وجود الملازمة بين ما يدركه العقل من حسن شيء أو وجود المصلحة فيه ، وكذا قبح شيء أو وجود المفسدة فيه ، وبين الحكم الشّرعيّ بالوجوب أو الحرمة ، فهو تامّ ؛ إذ ـ كما عرفت في مبحث التّجرّي ـ ربما يحكم العقل ويدرك قبح شيء وهو خير ، حسن واقعا ، وكذا العكس ، كما ربما يدرك وجود المصلحة في شيء أو المفسدة فيه وهو مبتلى بوجود مزاحم ومانع واقعا.

والوجه فيه : أنّ العقل عاجز عن الإحاطة بجميع جهات المصالح والمفاسد ، وكذا المزاحمات والموانع.

نعم ، لا إشكال في حصول القطع بالحكم الشّرعيّ من ناحية حكم العقل بالملازمة ، نظير ما إذا أدرك العقل بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمة ، فلا ريب فيه : أنّه إذا ثبت وجوب شيء شرعا ، كالصّلاة ، حصل القطع بوجوب مقدّمته شرعا ، كالوضوء.

وأمّا لو كان مستند منع الصّغرى هو عدم حصول القطع من المقدّمات العقليّة نظرا إلى أنّها لا تفيد إلّا الظّن ، فهو ممنوع.

وقد بحث الشّيخ الأنصاري قدس‌سره حول هذا الكلام بوجه أوفى ونحو مستقصى ، فراجع وانظر كيف خاض المدّعي وهو الأمين الأسترآبادي ـ من غير التفات وإرادة ـ في المقدّمات العقليّة ، واستدلّ بها لإثبات عدم إفادتها للقطع ، ولك أن تسأله ،

١١٧

هل أنت ـ أيّها المحدّث ـ قطعت من هذه المقدّمات العقليّة غير الحسيّة بأنّ المقدّمات العقليّة لا تفيد قطعا ، أم لا؟ فإن قلت : بحصول القطع ، فقد اعترفت بخلاف مدّعاك ، وإن قلت : بعدمه ، فلا دليل لك قطعيّا على دعواك. هذا بالنّسبة إلى منع الصّغرى.

وأمّا منع الكبرى ، فالتّحقيق فيه يقتضي الرّجوع إلى الرّوايات الّتي يتراءى منها منع حجّيّة القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة.

فنقول : إنّ تلك الرّوايات على طوائف ثلاثة :

الاولى : ما يدلّ على النّهي عن العمل بالرّأي.

الثّانية : ما يدلّ على انحصار أدلّة الأحكام في روايات أهل البيت عليهم‌السلام.

الثّالثة : ما يدلّ على عدم تمكّن العقول والأفكار من الوصول إلى الشّريعة ودين الله المتعال.

أمّا الطّائفة الاولى فهي كثيرة : منها : ما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه ، ولكن أتاه عن ربّه فأخذ به» (١).

ومنها : ما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستفرق امّتي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة منها ناجية ، والباقون هالكون ، والنّاجون الّذين يتمسّكون بولايتكم ويقتبسون من علمكم ولا يعملون برأيهم ، فاولئك ما عليهم من سبيل» (٢).

ومنها : ما عن إسحاق بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، قال : «يظنّ

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤ ، ص ٢٦.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٠ ، ص ٣١.

١١٨

هؤلاء الّذين يدّعون أنّهم فقهاء ، علماء ، أنّهم قد أثبتوا جميع الفقه والدّين ممّا يحتاج إليه الامّة ، وليس كلّ علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّموه ولا صار إليهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا عرفوه ؛ وذلك ، أنّ الشّيء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيسألون عنه ، ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويستحيون أن ينسبهم النّاس إلى الجهل ويكرهون أن يسألوا ، فلا يجيبون فيطلب النّاس العلم من معدنه ، فلذلك استعملوا الرّأي والقياس في دين الله ، وتركوا الآثار ودانوا بالبدع ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ بدعة ضلالة ...» (١).

وأمّا الطّائفة الثّانية ، فمنها : ما عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من أخذ دينه من أفواه الرّجال أزالته الرّجال ، ومن أخذ دينه من الكتاب والسّنّة زالت الجبال ولم يزل» (٢).

ومنها : ما عن الفضيل بن يسار ، قال : «سمعت أبا جعفر يقول : كلّ ما لم يخرج من هذا البيت ، فهو باطل» (٣).

ومنها : ما عن الصّادق عليه‌السلام : «يا نعمان! إيّاك والقياس ، فإنّ أبي حدّثني عن آبائه ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من قاس شيئا من الدّين برأيه ، قرنه الله مع إبليس في

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٩ ، ص ٤٠.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢ ، ص ٩٥.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٨ ، ص ٩٤.

١١٩

النّار ... فدع الرّأي والقياس ، وما قال قوم ليس له في دين الله برهان ، فإنّ دين الله لم يوضع بالآراء والمقاييس» (١).

وأمّا الطّائفة الثّالثة ، فمنها : ما عن عبد الرّحمن الحجّاج ، قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ليس شيء أبعد من عقول الرّجال عن القرآن» (٢).

ومنها : ما عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ليس شيء أبعد من عقول الرّجال من تفسير القرآن ، إنّ الآية ينزل أوّلها في شيء ، وأوسطها في شيء ، وآخرها في شيء» (٣).

ومنها : ما عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «... وإنّما هلك النّاس في المتشابه ، لأنّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ونبذوا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وراء ظهورهم» (٤).

هذه هي جملة من الرّوايات الّتي قد يتوهّم دلالتها على منع حجّيّة القطع الطّريقيّ الحاصل من المقدّمات العقليّة ، ولكن أنت ترى ، أنّها بأجمعها قاصرة عن

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٦ ، ص ٢٩.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٩ ، ص ١٤٩.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٣ ، ص ١٥٠.

(٤) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٢ ، ص ١٤٧ و ١٤٨.

١٢٠