مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

اختياريّة الفعل المتجرّى به بما هو مقطوع.

اللهم إلّا أن يريد قدس‌سره عدم اختياريّته ، لعدم اختياريّة القطع ، وهذا ، كما ترى أكل من القفاء.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم قدس‌سره بعد ردّ مقالة المحقّق الخراساني قدس‌سره في عدم إمكان جعل القطع من العناوين المحسّنة أو المقبّحة ، أقام برهانا على ذلك سمّاه قدس‌سره برهانا آخر أبسط ، فقال ، ما حاصله (١) : إنّ القبح المتوهّم استتباعه للحكم الشّرعي بمعونة قاعدة الملازمة ، إمّا مختصّ بعنوان التّجرّي ومخالفة القطع ، أو عامّ شامل للمعصية ـ أيضا ـ وكلا الفرضين ممنوع ، أمّا فرض الاختصاص فلأنّه يرد عليه أوّلا : بفساده وبطلانه لمكان حكم العقل بالقبح في كلتا الصّورتين ، وهما مخالفة القطع للواقع وموافقته له ؛ وذلك ، لوجود ملاك القبح وهو الهتك والجرأة على المولى فيهما.

وثانيا : بعدم قبول هذا الحكم للبعث والمحرّكيّة أصلا ؛ إذ يعتبر في صحّة التّكليف ، القدرة ، ومن مبادي القدرة على الامتثال هو الالتفات إلى الموضوع ، والمفروض أنّه في عنوان التّجرّي لا يمكن الالتفات إلى عنوان القطع المخالف للواقع ، إذ الالتفات إليه مساوقة لزواله ، نظير الالتفات إلى النّسيان ، فكما لا يمكن توجيه التّكليف إلى النّاسي بعنوانه لاشتراط التّكليف بالالتفات ، ومع الالتفات إلى كونه ناسيا ينقلب الأمر إلى الذّكر ، كذلك لا يمكن تكليف القاطع بعنوان مخالفة قطعه للواقع. هذا في فرض اختصاص القبح المستتبع للحكم الشّرعيّ بالتّجرّي.

وأمّا فرض شموله وعمومه للمعصية ـ أيضا ـ بجامع الهتك والجرأة ، فلأنّه

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٢٦ و ٢٧.

٦١

يرد عليه بأن جعل الحكم الشّرعي مستلزم للتّسلسل ؛ بتقريب : أنّ التّجرّي أو العصيان قبيح عقلا على الفرض ، وقبحهما يستتبع الحرمة الشّرعيّة ، ومن المعلوم : أنّ عصيان هذه الحرمة أو التّجرّي فيها ـ أيضا ـ قبيح عقلا ، والقبح العقلي مستلزم للحرمة الشّرعيّة وهكذا إلى ما لا نهاية له ، فحكم العقل بقبح العصيان والتّجرّي وبحسن الاطاعة والانقياد ، لا يستلزم حكما شرعيّا مولويّا ، بل لا يمكن جعل الحكم في مورده على ما عرفت ؛ ولذا حملوا الأوامر الشّرعيّة الدّالّة على وجوب الإطاعة والنّواهي الشّرعيّة الدّالّة على حرمة المعصية على الإرشاد دون المولويّ (١).

وفيه : أنّ هذا الكلام ، كما ترى ، خلط بين التّجرّي والفعل المتجرّى به ؛ إذ المفروض في الجهة الثّالثة من البحث ، كما عرفت ، هو كون القطع من العناوين المغيّرة الموجبة لصيرورة الفعل المتجرّى به قبيحا عقلا ، ثمّ يصير حراما شرعا بقاعدة الملازمة.

وعليه : فليس الكلام في قبح التّجرّي حتّى يسأل ويقال : هل هو مختصّ بعنوان التّجرّي ، أو عامّ شامل للمعصية ـ أيضا ـ وقد مرّ مرارا ، أنّ عدم جريان قاعدة الملازمة إنّما هو في التّجرّي ، حيث إنّه كالمعصية يكون قبحه في سلسلة المعلول ، كحسن الانقياد والإطاعة ، وجريان القاعدة فيها مستلزم للتّسلسل وعدم الوقوف إلى نهاية.

وأمّا الفعل المتجرّى به الّذي هو مورد البحث ، فلا مانع من جريان القاعدة فيه ، حيث إنّ قبحه يكون في سلسلة العلل ـ نظرا إلى أنّه لا قبح للمتجرّى به عقلا إلّا بحدوث مفسدة فيه بواسطة القطع ـ وأنت ترى ، أنّ جريانها في العلل لا يستتبع محذور التّسلسل.

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٢٧.

٦٢

فتحصّل : أنّ الفعل المتجرّى به لا يخرج عمّا كان عليه ، فلا يصير حراما بعد ما كان حلالا ، أو قبيحا بعد ما كان حسنا ، والدّليل عليه ما ذكرناه : من أنّ القطع الطّريقيّ لا يكون دخيلا في الملاكات ، ولا يكون من محدثات المناطات من المصالح والمفاسد ، بل الملاكات تدور مدار نفس العمل حدوثا وبقاء ، وجودا وعدما ؛ وأمّا الدّليل الّذي أقامه المحقّق الخراساني قدس‌سره وبعض الأعاظم قدس‌سره على ذلك ، فقد علمت ما فيه من الضّعف.

ثمّ إنّه قد يدّعى ويقال : بحرمة الفعل المتجرّى به بنفس ملاك الحرام الواقعي وباعتبار شمول إطلاقات الأدلّة الأوّليّة لموارد التّجرّي.

وقد أشار بعض الأعاظم قدس‌سره إلى دليل ذلك ، تبعا للمحقّق النّائيني قدس‌سره (١) فقال ، ما حاصله : إنّ الدّليل مركب من ثلاث مقدّمات : الاولى : لزوم مقدوريّة متعلّق التّكليف ؛ الثّانية : كون سبب حركة العضلات نحو العمل ، هو القطع بالنّفع ، وسبب الزّجر عن العمل ، هو القطع بالضّرر ، فالمحرّك التّكوينيّ هو نفس القطع والانكشاف ، وأمّا المصادفة وعدمها ، فأجنبيّة عن المحرّكيّة أو الزّاجريّة ؛ ولذا يتحرّك القاطع العطشان إلى ما قطع بكونه ماء وإن كان في الواقع سرابا ويموت عطشا ، ولا يتحرّك نحو ماء موجود لعدم علمه به ؛ الثّالثة : تعلّق التّكليف باختيار الفعل وإرادته ؛ لأنّ الإرادة التّشريعيّة إنّما تتعلّق بالفعل الصّادر عن المكلّف بالاختيار ، لا بالصّادر عنه ولو اضطرارا ، فلا محالة يكون متعلّق التّكليف إرادة الفعل واختياره حتّى يكون الفعل صادرا عنه بالإرادة والاختيار ، والمفروض تبعيّة إرادة المكلّف لقطعه بالنّفع أو

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٧ و ٣٨ و ٣٩.

٦٣

الضّرر ، فلا محالة يكون متعلّق البعث والزّجر عين ما تعلّق به القطع مطابقا للواقع أو غير مطابق له. وعليه ، فنسبة العصيان إلى المطابق والمخالف للواقع على حدّ سواء ؛ لخروج المطابقة والمخالفة عن حيطة اختيار المكلّف ، فلا معنى لإناطة العقاب والتّكليف بهما ، فمعنى : «أكرم العلماء» بعث إلى إكرام من قطع بكونه عالما ، ومعنى : «لا تشرب الخمر» زجر عن شرب ما قطع بكونه خمرا ، وإطلاقهما يعمّ صورة مخالفة القطع للواقع ، أيضا. (١).

هذا ، ولكن يمكن الجواب عن تلك الدّعوى : بأنّ اعتبار القدرة في التّكليف ، وكذا دخل العلم والقطع في الانبعاث إلى العمل أو الانزجار عنه ، أمر بيّن واضح ؛ فلا بدّ في حصولهما من التّصوّر وتصديق الفائدة وغيرهما.

وأمّا الأحكام والتّكاليف من الأوامر والنّواهي ، فهي تابعة للملاكات ، والملاكات كامنة في أفعال المكلّفين وأعمالهم ، فالأحكام متعلّقة بالأفعال والأعمال لا بالإرادة والاختيار ، ولا شأن للعلم والقطع ، ولا دخل له في التّكليف إلّا الكشف والحكاية ، والمنجّزيّة لدى الإصابة أو المعذّريّة عند المخالفة ، فمعنى : «أكرم العلماء» هو البعث إلى إكرام العلماء ، لا إكرام من قطع بكونه عالما ، ومعنى : «لا تشرب الخمر» هو الزّجر عن شرب الخمر ، لا الزّجر عن شرب ما قطع بكونه خمرا.

وعليه ، فليس القطع مأخوذا في متعلّق التّكليف حتّى يؤخذ بإطلاقه ويقال : ولو كان مخالفا للواقع ، كما في التّجرّي ، ثمّ يستنتج ويقال : بحرمة الفعل المتجرّى به ، بدعوى شمول الإطلاقات له.

__________________

(١) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٢٠ و ٢١.

٦٤

على أنّ معنى أخذ القطع في المتعلّق وأخذ الإطلاق ، هي الموضوعيّة وترتيب الحكم على نفس القطع ، والكلام فعلا إنّما يكون في القطع الطّريقي.

وقد أجاب المحقّق النّائيني قدس‌سره وكذا بعض الأعاظم قدس‌سره (١) ـ أيضا ـ عن الدّعوى المذكورة ، ولكن لا حاجة إلى ذكر جوابهما بعد ما عرفت من الجواب الّذي ذكرناه.

نعم ، لا بأس بذكر الجواب النّقضي الّذي ذكره بعض الأعاظم قدس‌سره لأنّه متين جيّد ، فقال : «والجواب عنه أوّلا : بالنّقض بالواجبات ؛ لعدم اختصاص الدّليل المذكور بالمحرّمات ، فلو فرض أنّ الواجب المستفاد من قول المولى : «صلّ في الوقت» هو اختيار ما قطع بكونه صلاة في الوقت ، فصلّى المكلّف مع القطع بدخول الوقت ثمّ بان خلافه ، فلا بدّ من الالتزام بسقوط التّكليف لتحقّق المأمور به الواقعي وهو ما قطع بكونه صلاة في الوقت ، فلزم القول بالإجزاء في موارد الأوامر العقليّة الخياليّة ، ولم يلتزم به أحد من الفقهاء» (٢).

ولشيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره في مبحث التّجرّي تبعا للمحقّق العراقي قدس‌سره (٣) مسلك سلكناه سابقا ، وقرّرناه في تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة ، ولكن عدلنا عنه أخيرا ، محصّل المسلك : أنّ التّجرّي يقتضي قبح الفعل المتجرّى به واستحقاق العقوبة عليه ؛ وذلك ، لا لاجل أنّ التّجرّي مستتبع لتحريم شرعيّ مولوي وأنّ مجرّد

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٣٩ و ٤٠ ؛ ومصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٢١ و ٢٢.

(٢) مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٢١.

(٣) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٣ ، ص ٣٠ و ٣١.

٦٥

القطع موجب لصيرورة العمل قبيحا ومعاقبا عليه ، بل لصدق عنوان الطّغيان على ذلك الفعل ، كصدقه على العمل في فرض العصيان ، فهذا عنوان جامع مشترك موجب لاستحقاق العقوبات والنّيران.

والوجه في العدول ما أشرنا إليه سابقا : من أنّ مخالفة الأوامر والنّواهي المولويّة المسّماة بالمعصية ، هو تمام الموضوع والملاك المستقلّ التّامّ لاستحقاق المؤاخذة والعقوبة مع قطع النّظر عن أيّ عنوان آخر ، وهذه هي الجهة الخاصّة بصورة المصادفة وصدق عنوان المعصية ، فلو كانت الجهة المشتركة بين التّجرّي والمعصية من مثل عنوان العزم على العصيان ، موجبة لاستحقاق العقوبة وكانت هي ـ أيضا ـ علّة مستقلّة لذلك ، لزم تعدّد الاستحقاق على تقدير المصادفة وتحقّق المعصية.

على أنّ تلك العناوين منها امور قلبيّة ، لا عقوبة لها ، كعقوبة المخالفة والمعصية. نعم ، لها عقوبات اخرى مسانخة لها.

وممّا ذكرناه ، ينقدح ما في مسلك المحقّق الخراساني قدس‌سره من اقتضاء التّجرّي لاستحقاق العقوبة على مجرّد العزم على المعصية ، لا على الفعل المتجرّى به لبقائه على ما هو عليه من المحبوبيّة والمصلحة ؛ لعدم كون القطع من الوجوه والعناوين المغيّرة المقبّحة. (١)

فالحقّ في المسألة ما ذهب إليه الشّيخ الأنصاري قدس‌سره (٢) من عدم اقتضاء التّجرّي عدا الكشف عن خبث الباطن وسوء السّريرة الّذي لا يترتّب عليه سوى

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ١٣.

(٢) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ٣٩ إلى ٥٠ ، الطّبعة الجديدة.

٦٦

الملامة ، مثل البخل والحسد وغيرهما من الأوصاف المذمومة ، والمحرّمات الجنانيّة الّتي لا يترتّب عليها عقوبة المعصية مع بقاء الفعل المتجرّى به على ما هو عليه من المحبوبيّة والمصلحة.

فتحصّل : أنّ الفعل المتجرّى به باق على ما كان عليه ، ولا يصير قبيحا ومبغوضا بالتّجرّي بعد أن كان حسنا ومحبوبا بذاته. نعم ، لو قلنا : بالقبح والمبغوضيّة ، فليس فيه محذور اجتماع الضّدّين من ناحية اجتماع الحسن والقبح أو الحبّ والبغض. والوجه فيه ، ما حرّر في الأوامر والنّواهي من أنّ مصبّ الأحكام ومتعلّق التّكاليف هو العنوان لا الخارج ، والعنوان هنا مختلف ، فشرب الماء أو الخلّ ـ مثلا ـ بما هو شرب الماء أو الخلّ حلال مباح ، وبما هو أنّه تجرّ وهتك ، قبيح مبغوض ، فلا اجتماع للضّدّين في البين.

ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره فيما أفاده هنا ، حيث قال : «قد تقرّر في محلّه ، أنّ البعث ومباديه ، وكذا الزّجر ، لا يمكن أنّ يتوجّه إلى الخارج ؛ إذ هو ظرف سقوطه ، بل يقف على العنوان. وعليه : فإن كان العنوانان ممتازين في صقع تقرّرهما ومرحلة ذاتهما بحيث لا يكون بينهما جهة اشتراك ، كالصّلاة والتّجرّي ـ مثلا ـ فلا مانع من أن يكون أحدهما : حسنا محبوبا مصبّا للمصلحة ؛ والآخر : قبيحا مبغوضا مصبّا للمفسدة ، وكذا لا مانع من أن يكون أحدهما : مبعوثا إليه ؛ والآخر : مزجورا عنه وإن تصادقا على مورد واحد ؛ وذلك ، لعدم سراية تلك الامور إلى الخارج حتّى يلزم اجتماع المتقابلات». (١)

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

٦٧

كما أجاد قدس‌سره ـ أيضا ـ فيما قال به ، تبعا للمحقّق العراقي قدس‌سره (١) من أنّ العناوين هنا طوليّان ، فلا بأس بالقول بالحكمين ولو قيل : بامتناع الاجتماع في عنوانين عرضيين.

وبالجملة : التّجرّي والانقياد ، كالعصيان والإطاعة يكونان من العناوين المتأخّرة المعلولة للأمر والنّهي ، فلا يسري إليهما أحكام العناوين المتقدّمة المعروضة للأمر والنّهي السّابقة عليهما ؛ والفرق بينهما وبين العصيان والإطاعة هو أنّ الأمر أو النّهي هنا يكون زعميّا وهناك يكون حقيقيّا ، فعنوان شرب الماء ـ مثلا ـ عنوان ذاتيّ سابق على الأمر المولويّ والإرادة المولويّة ، فيكون حسنا محبوبا ، وأمّا عنوان التّجرّي والطّغيان ، فعنوان عرضيّ لا حق معلول للأمر والإرادة المولويّة ، كالعصيان ، فيكون قبيحا مبغوضا.

وإن شئت ، فقل : العناوين الذّاتيّة تكون في سلسلة موضوعات الأحكام أو متعلّقاتها ـ حسب ما اصطلحوا ـ وأمّا التّجرّي والانقياد ، أو العصيان والإطاعة تكون في سلسلة معاليل الأحكام. وعليه : فلا يسري حسن شرب الماء إلى التّجرّي ولا قبح التّجرّي إلى شرب الماء لو تجرّى وارتكب الشّرب مع القطع بالخمريّة ، مثلا.

ومن هنا يظهر : أنّ ما قال به الإمام الرّاحل قدس‌سره : من الإشكال وأنّ قياس التّجرّي بالإطاعة ، قياس مع الفارق ، وأنّ الإرادة لم تتعلّق بشرب الماء ، بل تعلّقت بإتيان ما هو مقطوع الحرمة ، غير وارد ظاهرا ؛ وظنّي ، أنّه وقع فيه الخلط بين إرادة

__________________

(١) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٣ ، ص ٣٣.

٦٨

الآمر وإرادة العامل ، فراجع (١) ، وتأمّل ، لعلّك تصل إلى ما لم أصل إليه من حقيقة الأمر ؛ إذ كان صاحب هذا الكلام في المرتبة العليا من الدّقة والفهم.

هذا تمام الكلام في الجهة الثّالثة (أنّ الفعل المتجرّى به ، هل يخرج عمّا كان هو عليه لو لا التّجرّي ، أم لا؟).

(أقسام التّجرّي)

أمّا الجهة الرّابعة : (أقسام التّجرّي) ، فنقول : إنّ التّجرّي له أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يكون مع القطع بالمعصية.

الثّاني : مع الظّنّ بها.

الثّالث : مع احتمالها.

ثمّ إنّ كلّ واحد من الظّنّ والاحتمال على أنحاء ثلاثة :

أحدهما : أن يكون الإقدام على العمل برجاء المصادفة.

ثانيهما : أن يكون برجاء عدمها.

ثالثها : أن يكون لمجرّد دعوة الشّهوة.

ولا يخفى : أنّ التّجرّي إنّما يتحقّق ويصدق في القسم الأوّل (القطع بالمعصية) ، وكذا الثّاني (الظّنّ بها) بأنحائه الثّلاثة إذا كان من قبيل الظّنّ المعتبر ، كالأمارات المعتبرة ، وكذا الاصول المحرزة المعتبرة المثبتة للتّكليف ، بخلاف النّافية له كالبراءة ،

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٩٢.

٦٩

فلا تجرّي في موردها ؛ لعدم الحجّة على التّكليف ، بل البراءة تكون مؤمّنة ، وكذلك لا تجرّي في مورد الظّنّ الّذي لم يقم عليه دليل معتبر ؛ إذ المفروض ، عدم تنجّز الواقع عليه بعد عدم حجّيّة ظنّه.

وأمّا القسم الثّالث (احتمال المعصية) : فلا أثر للتّجرّي فيه ، بل يمكن أن يقال :

بعدم صدق التّجرّي هنا ، بلا فرق فيه بين أنحائه الثّلاثة المتقدّمة (رجاء المصادفة وعدمها ، ودعوة الشّهوة).

نعم ، لو فعل محتمل الحرمة ـ مثلا ـ برجاء المصادفة وإدراك الحرام واقعا ، كان هذا نوعا خفيفا من التّجرّي.

)تنبيهات(

الأوّل : قد ظهر لك من المباحث المتقدّمة ، أنّ مورد الكلام في التّجرّي هو القطع الطّريقيّ ، حيث إنّه ممّا يتطرّق إليه كشف الخلاف بالنّسبة إلى الحكم ، فيوجب ذلك صدق عنوان التّجرّي ، وكذلك الظّنّ المعتبر ، فيقع فيه الكلام ، نظرا إلى كشف الخلاف فيه ـ أيضا ـ كالقطع.

وأمّا القطع الموضوعي ، أو الظّنّ ، بل الاحتمال ـ أيضا ـ إذا اخذ في موضوع الحكم ، فخارج عن مورد الكلام ؛ لعدم كشف الخلاف حتّى يصدق عنوان التّجرّي ، بل الحكم في الجميع ثابت واقعا ولو كان القطع أو الظّنّ أو الاحتمال مخالف للواقع ؛ إذ المفروض ، أنّ موضوع الحكم ليس إلّا نفس القطع ونحوه ، لا الواقع وحده ، ولا هو والقطع ونحوه معا.

٧٠

وعليه : فعند كشف الخلاف في مثل ذلك ، ينتفي الحكم بانتفاء موضوعه ، ولا معنى للتّجرّي حينئذ ، وهذا نظير الظّنّ بالتّضرّر من الوضوء أو الغسل ـ مثلا ـ حيث يكون موضوعا لوجوب التّيمّم ، فلا يتحقّق التّجرّي فيما إذا توضّأ أو اغتسل مع هذا الظّنّ ، ثمّ انكشف وبان عدم الضّرر ؛ ضرورة عدم كشف الخلاف هنا بالنّسبة إلى الحكم (وجوب التّيمّم) ؛ إذ عرفت : أنّ موضوع الحكم هو نفس القطع أو الظّنّ أو الاحتمال ، وبعد انكشاف أنّ كلّ واحد منها مخالفا للواقع ، ينتفي الحكم بانتفاء موضوعه ، فليس هناك تجرّ أصلا.

التّنبيه الثّاني : حكي عن صاحب الفصول قدس‌سره أنّ قبح التّجرّي لا يكون ذاتيّا ، بل يختلف بالوجوه والاعتبارات ، فإذا كان الفعل المتجرّى به حراما في الواقع ، ففيه ملاكان للقبح (أحدهما : ملاك التّجرّي ؛ ثانيهما : ملاك الحرمة الواقعيّة) فلا محالة يتداخل العقابان وقبح التّجرّي في هذا الفرض يكون أشدّ ممّا إذا كان الفعل المتجرّى به في الواقع مكروها ، كما أنّ القبح في هذا الفرض ـ أيضا ـ أشدّ ممّا إذا كان الفعل المتجرّى به مباحا ، والقبح فيه أشدّ ممّا إذا كان الفعل المتجرّى به مستحبّا ، وأمّا إذا كان الفعل المتجرّى به واجبا في الواقع ، فيقع التّزاحم بين ملاك الوجوب وملاك قبح التّجرّي ، فربما يتساويان ، وربما يكون ملاك الوجوب أقوى ، فيتقدّم ؛ وربما يكون ملاك قبح التّجرّي أقوى ، فيكون قبيحا. (١)

أقول : إنّ هذا الكلام يرجع إلى دعا وثلاثة كلّها مردودة :

الاولى : أنّ قبح التّجرّي لا يكون ذاتيّا ، بل يختلف الأمر حسب اختلاف

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ٥٤ و ٥٥ ؛ ومصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٣٠ و ٣١.

٧١

الوجوه والاعتبارات ، فيمكن أن يغلب مصلحة الواقع على مفسدة التّجرّي فيصير حسنا ، كما يمكن أن تكونا متساويين ، فلا حسن ولا قبح.

وفيها : أنّ قبح التّجرّي لو سلّم ، لكان ذاتيّا لصدق عنوان الظّلم والطّغيان وهتك الحرمة عليه ، فليس مثل الصّدق والكذب.

الدّعوى الثّانية : تداخل العقابين عند مصادفة الفعل المتجرّى به ، المعصية الواقعيّة. (١)

وفيها : أنّ هذه الدّعوى مبنيّة على القول باستحقاق العقوبة للتّجرّي بما هو هو ، وقد قرّرنا بما لا مزيد عليه ، أنّ قبح التّجرّي لا يستلزم الحرمة والعقوبة.

على أنّ قبح التّجرّي لو كان ، لم يكن من سنخ قبح المعصية ، بل لو كان موجبا للعقوبة ، لم تكن نوع عقوبة المعصية ، كيف ، وأنّ التّجرّي أمر جانحيّ ، والعصيان أمر جارحيّ ، فلا عقوبة للتّجرّي حتّى يقال : بالتّداخل ، ولو كانت ، لكانت سنخا آخر غير عقوبة المعصية فلا مجال ـ أيضا ـ للتّداخل.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم قدس‌سره قد أورد على هذه الدّعوى : بأنّ مناط استحقاق العقاب في التّجرّي والمعصية أمر واحد وهو هتك المولى والتّعدّي عليه ، فليس في المعصية الحقيقيّة إلّا هتك واحد ، فلا ملاك لتعدّد العقاب حتّى نلتزم بالتّداخل ، ولعلّه لوضوح أنّ العاصي لا يستحقّ إلّا عقابا واحدا. (٢)

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ص ٧٠ من مبحث التّنبيه الرّابع من تنبيهات مقدّمة الواجب ، وإليك نصّ كلامه قدس‌سره : «فإنّ التّحقيق ، أنّ التّجرّي على المعصية ـ أيضا ـ معصية ، لكنّه إن صادفها تداخلا وعدّا معصية واحدة».

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ٣١.

٧٢

وضعفه واضح ؛ إذ قد عرفت : أنّ قبح التّجرّي لو كان ، لا يستلزم الحرمة والعقوبة ، ولو استلزم العقوبة لكانت سنخا آخر غير عقوبة المعصية ، والقول بأنّ الملاك مطلقا واحد وهو هتك الحرمة ، خلاف الضّرورة ، كما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره حيث قال : «إنّ الالتزام بأنّ التّجرّي والهتك لحرمة المولى ، لا يوجب شيئا أصلا ، خلاف الضّرورة والوجدان الحاكم في باب الطّاعة والعصيان» (١) وذلك ، للزوم أن لا يكون للمنهى عنه مفسدة اخرويّة ، بل لازمه أن يكون في الطّاعة والانقياد منشأ واحد للاستحقاق ، وأن لا يكون للمأمور به مصلحة أصلا ، وهو خلاف ارتكاز المتشرّعة ، وخلاف الآيات الكريمة والأخبار الشّريفة الواردتين في باب الثّواب والعقاب.

الدّعوى الثّالثة : أنّ الجهات الواقعيّة ، كالحرمة والكراهة ، والإباحة والاستحباب والوجوب ، توجب اختلاف التّجرّي ومراتب قبحه من جهة الأشدّيّة وعدمها ، بل توجب أحيانا زوال القبح رأسا مع عدم الالتفات إلى تلك الجهات.

وفيها : أنّ الجهات الواقعيّة عند عدم الالتفات إليها لا تؤثّر في التّجرّي ، ولا في اختلاف مراتبه من حيث القبح ، فضلا عن زوال قبحه.

التّنبيه الثّالث : قال المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ بعد البناء على إيجاب التّجرّي لاستحقاق العقوبة ـ ما هذا لفظه : «العقاب إنّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطّغيان» (٢).

وقد أورد قدس‌سره على نفسه : بأنّ القصد والعزم إنّما يكون من مبادي الاختيار

__________________

(١) أنوار الهداية : ج ١ ، ص ٨٩.

(٢) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ١٤ إلى ١٦.

٧٣

وهي ليست باختياريّة ، وإلّا لتسلسل ؛ فأجاب قدس‌سره عن هذا الإيراد بوجهين : الأوّل : أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار ، إلّا أنّ بعض مباديه غالبا يكون وجوده بالاختيار للتّمكن من عدمه بالتّأمّل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللّوم والمذمّة. الثّاني : أنّ العقوبة إنّما تكون من تبعة بعده عن المولى بالتّجرّي كما في العصيان ، فكما أنّ التّجرّي يوجب البعد ، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة ، فإنّه وإن لم يكن باختياره ، إلّا أنّه بسوء سريرته وخبث باطنه بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتا ، والذّاتي ضروريّ الثّبوت للذّات ؛ ولذلك ـ أيضا ـ ينقطع السّؤال عن أنّه لم اختار الكافر والعاصي ، الكفر والعصيان ، واختيار المؤمن والمطيع ، الإطاعة والإيمان ، فإنّه يساوق السّؤال عن أنّ الحمار لم يكون ناهقا ، والإنسان لم يكون ناطقا.

هذا ، ولكن أمثال هذه المسائل الدّقيقة العميقة ، لا بدّ إيكالها إلى محالّها ، فلا ينبغي البحث عنها في الاصول ونحوه من العلوم الاعتباريّة.

التّنبيه الرّابع : قد يستدلّ لإثبات حرمة التّجرّي بالآيات والرّوايات الدّالتان على المؤاخذة والمعاقبة بمجرّد قصد المعصية.

أمّا الآيات ، فكقوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ)(١). وقوله جلّ جلاله : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)(٢). وقوله عزّ من قائله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ

__________________

(١) سورة البقرة (٢) ، الآية ٢٨٤.

(٢) سورة البقرة (٢) ، الآية ٢٢٥.

٧٤

مَسْؤُلاً)(١). وقوله جلّ وعلا : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)(٢).

تقريب الاستدلال هو أنّ هذه الآيات ظاهرها جعل المؤاخذات والعقوبات على ما في القلب من الخطرات والخطورات ، فمقتضاها حرمة التّجرى واستحقاق المتجرّي الخارج عن زيّ العبوديّة ، للعقوبة.

وأمّا الرّوايات ، فكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «... ونيّة الكافر شرّ من عمله» (٣) ، وكقوله عليه‌السلام : «القضاة أربعة : ثلاثة في النّار ، واحد في الجنّة ، رجل قضى بجور وهو يعلم ، فهو في النّار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم ، فهو في النّار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم ، فهو في النّار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم ، فهو في الجنّة» (٤).

دلالة هاتين الرّوايتين على استحقاق المتجرّي للعقوبة واضحة ، حيث إنّ في الاولى ، جعل التّجرّي وهو قصد الكافر للمعصية ، مدار الشّرّ المترتّب عليه العقاب ولو لم يطابق قصده للواقع ولم يتحقّق منه المعصية ؛ وفي الثّانية ، جعل التّجرّي وهو القضاء بالجور وكذا القضاء بالحقّ مع عدم علم القاضي ، مدار العقوبة ودخول النّار ولو انكشف أنّه قضى بالحقّ.

__________________

(١) سورة الإسراء (١٧) ، الآية ٣٦.

(٢) سورة الأحزاب (٣٣) ، الآية ٥.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٣ ، ص ٣٥.

(٤) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦ ، ص ١١.

٧٥

نعم ، قد وردت روايات أخر يستفاد منها نفي العقوبة بمجرّد قصد المعصية :

منها : ما عن زرارة ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «... ومن همّ بسيّئة لم تكتب عليه ، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيّئة» (١).

ومنها : ما عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «... وإنّ المؤمن ليهمّ بالسّيّئة أن يعملها ، فلا يعملها فلا تكتب عليه» (٢).

ومنها : ما عن جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا همّ العبد بالسّيّئة لم تكتب عليه ...» (٣).

وقد تصدّوا للجمع بين هاتين الطّائفتين بوجوه : أهمّها اثنان :

الأوّل : أنّ الطّائفة الاولى تحمل على قصد المعصية مع الاشتغال ببعض مقدّماتها ؛ والطّائفة الثّانية تحمل على مجرّد قصدها بلا اشتغال بالمقدّمة أصلا.

وفيه : أنّ هذا الجمع تبرّعي لا شاهد له ، بل يشهد على خلافه ، قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فإنّه ينافي حمل الطّائفة الثّانية ، حيث إنّ مفاده هي المحاسبة بمجرّد القصد مع السّعي على إخفاءه وعدم إبداءه مطلقا حتّى بالاشتغال بإحدى المقدّمات ، وكذا قوله جلّ جلاله : (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) وقوله جلّ وعلا : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ ...).

وهكذا تشهد على خلاف هذا الجمع ، الرّوايات المتقدّمة الدّالّة على عدم

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٦ ، ص ٣٦.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ٧ ، ص ٣٦.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١ ، كتاب الطّهارة ، الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١٠ ، ص ٣٧.

٧٦

المؤاخذة بمجرّد قصد المعصية ولو اشتغل الإنسان ببعض مقدّماتها ، فإنّها تنافي حمل الطّائفة الاولى وهو واضح.

الوجه الثّاني : أنّ الطّائفة الاولى محمولة على صورة استمرار قصد المعصية وعدم الارتداع ورفع اليد عنه إلى أن حال الحائل بينه وبين العمل ، بحيث لولاه لكان عمل ؛ والطّائفة الثّانية محمولة على صورة الارتداع وعدم استمرار القصد والنّية.

ولا يخفى : أنّ هذا الجمع ممّا يشهد له ما عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّة ، فالقاتل والمقتول في النّار ، قيل يا رسول الله : هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأنّه أراد قتلا» (١) فإنّ المراد من إرادة قتله هو أنّه استمرّ ولم يرتدع عن قصده ، إلّا أنّه لم يتمكّن منه ، ولا مجال لتخيّل وجود خصوصيّة في إرادة القتل المستتبعة للحرمة ، لوضوح أنّه لا فرق بين القتل وبين سائر المعاصي من هذه النّاحية.

هذا ، ولكنّ الحقّ في المقام أن يقال : إنّ الطّائفة الاولى من الرّوايات كلّها قاصرة الدّالّة على المدّعى ، مضافا إلى ضعف سند بعضها ، كالنّبويّ المذكور.

والوجه في قصور الدّلالة ، هو أنّ مفاد هذه الرّوايات هي المؤاخذة والمحاسبة بالنّسبة إلى نيّة المعصية وقصد ارتكاب الحرام الواقعيّ ، لانيّة التّجرّي وقصد ارتكاب الحرام الزّعمي الاعتقاديّ غير الواقعيّ ، على أنّه لو سلّمنا دلالتها على ذلك ، فلا تدلّ إلّا على أنّ القصد ممّا يحاسب به ويعاقب عليه ، لا على ما هو مورد البحث

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١١ ، كتاب الجهاد ، الباب ٦٧ من أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه ، الحديث ١ ، ص ١١٣.

٧٧

والاستدلال من كون الفعل المتجرّى به من المحرّمات المولويّة كالمعاصي ، ولا بدع في ذلك.

وإن شئت ، فقل : لو سلّم دلالة الرّوايات على المؤاخذة حتّى بالنّسبة إلى قصد المعصية الزّعميّة ـ كما في مورد التّجرّي ـ لكنّها لا تدلّ على حرمة الفعل المتجرّى به واستحقاق العقوبة لأجله ، ولذا يجمع بينها وبين الطّائفة الثّانية : بحمل هذه الطّائفة على أنّ نفس السّيّئة المنويّة الّتي لم تعمل ، لا تكتب ولا محاسبة ولا مؤاخذة عليها ، لا أنّ القصد ـ أيضا ـ لا يكتب ولا يحاسب عليه ، بل يمكن أن يقال : بعدم التّنافي بين الطّائفتين من الرّوايات بهذه الملاحظة حتّى تحتاجا إلى التّوفيق والجمع.

هذا تمام الكلام في الأمر الرّابع وهو البحث عن «التّجرّي».

(القطع الموضوعيّ وأقسامه)

(الأمر الخامس : القطع الموضوعيّ وأقسامه)

اعلم ، أنّ القطع على قسمين : أحدهما : أنّه طريقيّ وكاشف محض ، لا شأن له إلّا المرآتيّة والحكاية عن متعلّقه بلا دخل له في الموضوع ، لا تماما ولا بعضا ، ولا على وجه الصّفتيّة ، ولا على نحو الكاشفيّة ، سواء تعلّق بموضوع عينيّ خارجيّ ، أو بموضوع ذي حكم أو بحكم شرعيّ مترتّب على موضوعه.

ثانيهما : أنّه موضوعيّ ، بمعنى : يؤخذ ويجعل دخيلا في الموضوع ، بحيث لا يترتّب الحكم عليه بدون القطع ، وهذا هو مورد الكلام فعلا.

فنقول : إنّ القطع الموضوعيّ قد قسّم على قسمين :

٧٨

الأوّل : أن يؤخذ تمام الموضوع ، بحيث لا شأن للواقع في ترتّب الحكم أصلا.

الثّاني : أن يؤخذ بعض الموضوع وجزءه ، بحيث لو كان هناك قطع بلا واقع ، أو واقع بلا قطع ، لم يترتّب عليه الحكم ، ففي المثال الّذي ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره من قوله : «إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التّصدّق بكذا» (١) يكون القطع بوجوب «الشّيء» حتّى عند الخطأ ، موجبا لوجوب التّصدّق لو اخذ تمام الموضوع ، ويكون عند الإصابة فقط موجبا لوجوبه لو اخذ بعض الموضوع وجزءه.

وفي كلّ من هذين القسمين قد يؤخذ القطع في الموضوع بما هو كاشف وحاك عن متعلّقه ، وقد يؤخذ بما هو وصف خاصّ للقاطع مع قطع النّظر عن جهة كشفه وخصوصيّة حكايته عن متعلّقه ، فأقسام القطع الموضوعي أربعة (وهي القطع المأخوذ تمام الموضوع على نحو الطّريقيّة ، والقطع المأخوذ كذلك على نحو الصّفتيّة ، والقطع المأخوذ بعض الموضوع على نحو الطّريقيّة ، والقطع المأخوذ كذلك على نحو الصّفتيّة.

ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره قد أشكل (٢) على إمكان أخذ القطع تمام الموضوع على وجه «الطّريقيّة» بل استظهر عدم إمكانه. بتقريب : أنّ أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصّورة بوجه من الوجوه ، وأخذه على وجه «الطّريقيّة» ، يستدعي لحاظ الواقع ؛ إذ على هذا يكون النّظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم ، كما هو الشّأن في كلّ طريق. وعليه : فأخذ القطع تمام الموضوع لا يمكن إلّا بأخذه على وجه «الصّفتيّة».

__________________

(١) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ١٨.

(٢) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١١.

٧٩

ولكن أورد عليه قدس‌سره الإمام الرّاحل قدس‌سره (١) أوّلا : بعدم اختصاص الإشكال بفرض أخذ القطع تمام الموضوع ، بل يجري في فرض أخذه بعض الموضوع ـ أيضا ـ فلا يبقى المجال لما التزم قدس‌سره به من إمكان جعل القطع جزء الموضوع على نحو «الطّريقيّة» ؛ وثانيا : بقوله : «فإنّ الجمع بين الطّريقيّة والموضوعيّة إنّما لا يمكن فيما إذا أراد القاطع نفسه الجمع بينهما ، فإنّ القاطع يكون نظره الاستقلاليّ إلى الواقع المقطوع به ويكون نظره إلى القطع آليّا طريقيّا ، ولا يمكن في هذا اللّحاظ الآلي أن ينظر إليه باللّحاظ الاستقلاليّ مع أنّ النّظر إلى الموضوع لا بدّ وأن يكون استقلاليّا غير آليّ ، هذا بالنّسبة إلى القاطع ، وأمّا غير القاطع إذا أراد أن يجعل قطع غيره موضوعا لحكم يكون نظره إلى قطع القاطع ـ الّذي هو طريق ـ لحاظا استقلاليّا ولا يكون لحاظه لذي الطّريق ، بل يكون للطّريق ، فلحاظ القاطع طريقيّ آليّ ولحاظ الحاكم لقطعه الطّريقي موضوعيّ استقلاليّ ، فأيّ محال يلزم إذا لحظ لاحظ باللّحاظ الاستقلاليّ القطع الطّريقي الّذي لغيره وجعله موضوعا لحكمه على نحو الكاشفيّة على وجه تمام الموضوع ، وهل هذا إلّا الخلط بين اللّاحظين».

ولعلّه لأجل إشكال الخلط بين اللّاحظين عدل بعض الأعاظم قدس‌سره عن التّقريب الّذي ذكره المحقّق النّائيني قدس‌سره في الإشكال على أخذ القطع تمام الموضوع على وجه الطّريقيّة ، إلى تقريب آخر.

فقال ، ما محصّله : إنّ أخذ القطع تمام الموضوع على نحو «الطّريقيّة» يؤول إلى دخل الواقع في الحكم وعدم دخله فيه ، وهذا كما ترى ، من قبيل الجمع بين

__________________

(١) راجع ، أنوار الهداية : ج ١ ، ص ٩٤ و ٩٥.

٨٠