مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

لا يوجب انعقاد الظّهور كما لا يوجب انعقاد الإرادة والحكم ؛ وذلك ، لأنّ العلم والظّنّ والوثوق ونحوها يكون من الصّفات الحقيقيّة ذات الإضافة ، فلا بدّ من معلوم أو مظنون أو موثوق به ، في رتبة سابقة حتّى تتعلّق هذه الأوصاف بها ، فالظّهور إمّا معلوم أو مظنون أو موثوق به ، فلا مناص من كونه في رتبة سابقة على العلم والظّنّ والوثوق.

(الإجماع المنقول)

النّحو الثّالث : من أنحاء الأمارات الّتي قيل : بخروجها عن أصالة حرمة التّعبّد بالظّن هو الإجماع المنقول.

والتّحقيق في ذلك ، يتوقّف على بيان أمر وهو أنّه اشتهر بين الأعلام : أنّ خبر الواحد يفارق عن قول الخبرة باشتراط حجّيّته بكون إخباره عن حسّ ، بخلاف قول الخبرة ، فإنّه حجّة ولو كان عن حدس. وعليه ، فيندرج نقل الإجماع تحت خبر الواحد ويشمله أدلّة حجّيّته إذا كان ذلك النّقل عن حسّ.

تفصيل ذلك : أن الإخبار عن الشّيء يكون على أقسام خمسة :

الأوّل : الإخبار عن حسّ ، بلا إعمال شيء من الحدس والفكرة. ولا ريب ، أنّ الحكم في هذا القسم هي الحجّيّة ، لاندفاع احتمال الكذب تعمّدا ، بعدالة المخبر أو وثاقته ، واندفاع احتمال الغفلة ، بأصالة عدم الغفلة الّتي تكون من الاصول العقلائيّة.

الثّاني : الإخبار عن أمر محسوس ، لكن مع احتمال استناد إخباره عنه إلى الحدس ، لا إلى الحسّ ، نظير الإخبار عن نزول المطر وهو أمر حسي ، لكن يحتمل أنّ

٢٢١

المخبر لم يره ، ومع ذلك أخبر عنه لاعتماده على المقدّمات المستلزمة للمطر ، كالرّعد والبرق ، والسّحب الممطرة.

والحكم في هذا القسم ، هل هي الحجّيّة أو عدمها؟ وجهان ، بل قولان : ذهب جملة من الأعلام منهم المحقّق الخراساني والعراقي قدس‌سرهما إلى الأوّل ؛ وذهب شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره إلى الثّاني ، فقال ما حاصله : إنّه مع الشّكّ في أنّ الإخبار ، هل يكون عن حسّ أو حدس؟ يشكّ في الحجّيّة ولا أصل يحرز به كونه عن ذلك أو عن هذا ، فالأصل عدم الحجّيّة ، كما حقّق سابقا. (١)

وهذا هو الحقّ على ما سيأتي تحقيقه في مبحث حجّيّة خبر الواحد ، فلا وجه ظاهرا لما عن المحقّق الخراساني قدس‌سره من قوله : «فإنّ عمدة أدلّة حجّيّة الإخبار هو بناء العقلاء وهم كما يعملون بخبر الثّقة إذا علم أنّه عن حسّ ، يعملون فيما يحتمل كونه عن حدس ، حيث إنّه ليس بناءهم إذا اخبروا بشيء على التّوقّف والتّفتيش عن أنّه عن حدس أو حسّ ، بل العمل على طبقه ، والجري على وفقه بدون ذلك». (٢)

وكذا لا وجه لما عن المحقّق العراقي قدس‌سره من قوله : «كما أنّه مع الشّكّ في كونه حدسيّا أم حسّيّا ـ أيضا ـ يلحق بالحسّ». (٣)

القسم الثّالث : الإخبار عن حدس قريب من الحس فيما إذا لم يكن له مقدّمات بعيدة.

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

(٢) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٧٢.

(٣) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٤٧. انظر هامشه.

٢٢٢

والحكم في هذا القسم هو الحجّيّة ؛ إذ يبعد في مثله احتمال الخطأ ، ولو كان ، لكان مندفعا بأصل العقلاء ، كاندفاع احتمال تعمّد الكذب ، بما أشرنا إليه في القسم الأوّل.

القسم الرّابع : الإخبار عن حدس مستند إلى الآثار واللّوازم الحسّيّة الّتي تكون من آثار المخبر به ولوازمه حسب العرف والعادة ، كالإخبار بالشّجاعة والعدالة والكرم واللّئامة ، مستندا إلى آثارها المحسوسة العادية ، ولوازمها الحسّيّة العرفيّة.

والحكم في هذا القسم هو الحكم في القسم الأوّل من الحجّيّة ، بلا ريب وشبهة ؛ إذ الإخبار هنا وإن كان عن حدس ، إلّا أنّه حيث كان مستندا إلى الآثار واللّوازم الحسّيّة يكون ملحقا بالحس ، فيجري ما حكم في الحسّ ، هنا ، أيضا.

القسم الخامس : الإخبار عن أمر محسوس مع كونه ناشئا عن حدس من سبب حسّي مستلزم لذلك الأمر المحسوس المخبر به ، عند المخبر النّاقل وبنظره ، مع كون ذلك السّبب مستلزما لذلك المخبر به عند المنقول إليه ، فيحدس هو ـ أيضا ـ كالنّاقل.

والحكم في هذا القسم هو الحجّيّة ؛ إذ هو إخبار عن أمر حسّي وهو السّبب ، والمفروض سببيّته واستلزامه للمخبر به عند المنقول إليه ، أيضا.

القسم السّادس : الإخبار عن أمر محسوس ناش عن حدس من سبب حسّي مستلزم لذلك الأمر المحسوس المخبر به ، عند المخبر النّاقل مع كون ذلك السّبب غير مستلزم لذلك المخبر به عند المنقول إليه.

والحكم في هذا القسم هو عدم الحجّيّة ؛ وذلك ، لاحتمال الخطأ في الحدس مع

٢٢٣

عدم إحراز البناء من العقلاء على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال. ومن الواضح ، أنّه لا يؤخذ بالإخبار مع عدم اندفاع احتمال الخطأ.

نعم ، احتمال تعمّد الكذب مندفع بالعدالة ، بل الوثاقة ، ولكن هذا لا يستلزم اندفاع احتمال الخطأ والعثرة في الفكرة والحدسة.

إذا عرفت تلك الأقسام السّتّة ، فنقول : إنّه لا شكّ في أنّ نقلة الإجماعات لم يدركوا زمن الحضور ، فلا يتأتّى لهم الإخبار عن رأي المعصوم عليه‌السلام عن حسّ أو عن حدس قريب منه حتّى ينقلونه بلفظ : «الاجماع» ؛ وذلك ، لأنّ الإجماع على أنواع خمسة ، بعضها غير حاصل زمن الغيبة ، وبعضها غير حجّة.

النّوع الأوّل : أنّ يسمّى بالإجماع الدّخولي ، والمراد به اتّفاق جميع العلماء حتّى الإمام عليه‌السلام أو اتّفاق عدّة منهم وفيهم الإمام عليه‌السلام ، فالنّاقل لمثل هذا الإجماع كأنّه نقل رأي المعصوم عليه‌السلام عن حسّ ، لدخول المعصوم عليه‌السلام في المجمعين. هذا النّوع ، كما ترى ، وإن كان حجّة ، إلّا أنّه غير حاصل في زمن الغيبة ، وهو واضح.

النّوع الثّاني : أن يسمّى بالإجماع التّشرفيّ ، والمراد به هو قول الإمام عليه‌السلام وحده ، بمعنى : أنّ واحدا من النّاس تشرّف بخدمة الإمام عليه‌السلام وأخذ الحكم منه ، إلّا أنّه لا يريد إظهار الأمر ويدّعي الإجماع لبعض دواعي الإخفاء. هذا النّوع ـ أيضا ـ ملحق بالنّوع الأوّل.

النّوع الثّالث : أن يسمّى بالإجماع اللّطفي ، والمراد به اتّفاق الجميع غير الإمام عليه‌السلام ولو في عصر واحد ، فالنّاقل للإجماع حينئذ نقل رأي المعصوم عليه‌السلام عن حدس من سبب مستلزم له بالملازمة العقليّة ، بين اتّفاقهم على حكم وبين قول

٢٢٤

الإمام عليه‌السلام لأجل قاعدة اللّطف.

هذا النّوع وإن أمكن حصوله في زمن الغيبة ، إلّا أنّه ليس بحجّة ، وذلك لعدم تماميّة قاعدة اللّطف ؛ إذ أحسن ما قيل في تقريرها وجهان : الأوّل : ما ذكره الشّيخ الطّوسي قدس‌سره من قوله : «متى اتّفق ذلك وكان على القول الّذي انفرد به الإمام عليه‌السلام ، دليل من كتاب أو سنّة مقطوع بهما ، لم يجب عليه الظّهور ، ولا الدّلالة على ذلك ، لأنّ ما هو موجود من دليل الكتاب والسّنّة كاف في باب إزاحة التّكليف ؛ ومتى لم يكن على القول الّذي انفرد به عليه‌السلام دليل ، وجب عليه الظّهور أو إظهار من يبيّن الحقّ في تلك المسألة ...». (١)

الثّاني : ما ذكره المحقّق التّستري قدس‌سره من قوله : «الثّالث من وجوه الإجماع أن يستكشف عقلا رأي الإمام عليه‌السلام من اتّفاق من عداه من العلماء على حكم وعدم ردعهم عنه ، نظرا إلى قاعدة اللّطف الّتي لأجلها وجب على الله تعالى نصب الحجّة المتّصف بالعلم والعصمة ، فإنّ من أعظم فوائده ، حفظ الحقّ وتمييزه من الباطل كي لا يضيع بخفائه ويرتفع عن أهله أو يشتبه بغيره ، وتلقينهم طريقا يتمكّن العلماء وغيرهم ، من الوصول به إليه ومنعهم وتثبيطهم عن الباطل أوّلا ، أو ردّهم عنه إذا أجمعوا عليه». (٢)

ولكن أنت ترى ما في هذين الوجهين من الضّعف ؛ إذ أوّلا : لا يتوقّف صحّة التّكليف ـ بعثا كان أو زجرا ـ إلّا على التّمكن والقدرة على الامتثال ، فيعتبر فيه

__________________

(١) عدّة الاصول : ج ٢ ، ص ٦٣١ و ٦٣٧.

(٢) كشف القناع : ص ١٦٤.

٢٢٥

وجود المقدّمات والامور الموجبة للتّمكن والقدرة على الإطاعة والعصيان ، كما أنّه يعتبر فيه عدم المقدّمات والامور الموجبة لسلب الاختيار والقدرة.

وهنا امور اخرى لا دخل لها في التّمكن والقدرة ، كما لا دخل لها في سلبهما وهي إمّا تكون من وظائف العبد ، كتعلّم الأحكام ، أو من شئون الرّب ، كبيان الأحكام ، بإنزال الكتب وإرسال الرّسل لكيلا يلزم نقض الغرض.

وعليه : فلا دليل على اعتبار الزّائد على ما ذكرناه في التّكليف ، لا قاعدة اللّطف ولا غيرها ، فلا يجب على الإمام عليه‌السلام الأمين على الحلال والحرام ، إلّا بيان الأحكام بالطّرق المتعارفة المعتادة عند الأنام ، والمفروض ، أنّ الإمام عليه‌السلام أدّى هذه الوظيفة بلا كلام ، وأمّا إلقاء الخلاف عند اتّفاق العلماء على الخلاف ، فلا دليل على أنّه ـ أيضا ـ كان من وظيفته حتّى يستكشف من عدم الإلقاء أنّ رأيه عليه‌السلام موافق لرأي هؤلاء المجمعين وأنّه راض بما قالوا.

وثانيا : أنّ ظهور الإمام عليه‌السلام وتصرّفه عليه‌السلام كأصل وجوده يكون لطفا قطعا ، ومع ذلك لم يظهر بعد ولم يتصرّف ؛ لمصلحة الاختفاء ، فلا بدع في اختفاء بعض الأحكام لمصلحة فيه أو لعدم مصلحة في إظهاره ، بل هذا أسهل وأولى من ذلك ، كما لا يخفى.

وثالثا : أنّ الإلقاء إمّا يكون مع إظهار الإمامة ، فهو غير واقع ، ولو سلّم الوقوع ، فلا موقع للإجماع أصلا ، كما لا يخفى ، وإمّا يكون مع إخفائها ، فهو غير نافع ؛ إذ مقتضاه مخالفة شخص مجهول ، فلا يترتّب عليه الفائدة ، ولا ينحلّ به العقدة عند أرباب العقول.

٢٢٦

ورابعا : أنّ اللّطف وإظهار الحقّ لو كان واجبا ، لكان واجبا في كلّ موارد الخطأ في الأمارات والاصول ، وبالنّسبة إلى كلّ واحد من المكلّفين وذوي العقول ، وهذا ، كما ترى ، لا دليل عليه ، لا في الفروع ، ولا في الاصول.

النّوع الرّابع : أن يسمّى بالإجماع الحدسي ، والمراد به ـ أيضا ـ كالنّوع الثّالث هو اتّفاق الجميع غير الإمام عليه‌السلام ولو في عصر واحد ، إلّا أنّ ناقل الإجماع هنا نقل رأي المعصوم عن حدس من سبب مستلزم له بالملازمة العادية بين اتّفاقهم على حكم ، وبين قول الإمام عليه‌السلام ؛ وذلك لتقريبين :

أحدهما : أنّ اتّفاق العلماء يستلزم القطع بقول المعصوم عليه‌السلام ولا أقلّ من الاطمئنان عادة ، لمكان تراكم الظّنون ، فيحصل من قول فقيه ، ظنّ ما ، ومن قول آخر موافق له ، يتقوّى هذا الظّنّ ، وهكذا إلى أن يصل إلى حدّ الاطمئنان ، أو يحصل القطع ، وهذا هو الحال في المتواتر من الأخبار ، حيث إنّه يحصل ظنّ من إخبار شخص ، فيتقوّى بإخبار بعد إخبار إلى أن يصل إلى حدّ الاطمئنان أو يحصل القطع.

ثانيهما : أنّ مقتضى العادة هو عدم انفكاك رأي الرّعيّة عن رأي الحاكم ، وعدم انفكاك رأي المرءوسين عن رأي الرّئيس ، وقد مثّل له الإمام الرّاحل قدس‌سره بقوله : «أنّ من ورد في مملكة فرأى في كلّ بلد وقرية وكورة وناحية منها ، أمرا رائجا بين أجزاء الدّولة ، كقانون النّظام ـ مثلا ـ يحدس حدسا قطعيا بأنّ هذا قانون المملكة وممّا يرضى به رئيس الدّولة». (١)

ومثّل له ـ أيضا ـ بعض الأعاظم قدس‌سره بقوله : «إنّ اتّفاق جميع الوزراء وجميع

__________________

(١) أنوار الهداية : ج ١ ، ص ٢٥٧.

٢٢٧

أركان الحكومة على أمر ، لا ينفكّ عن موافقة رأي السّلطان بحكم العادة». (١)

هذا النّوع ـ أيضا ـ بكلا التّقريبين مخدوش ؛ إذ هو إنّما يتمّ إذا كان في عصر الحضور وبشرط المصاحبة والملازمة ، وإلّا فلا ، والتّمثيلات قياسات مع الفارق ، كما هو واضح.

ولقد أجاد السّيّد البروجردي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «إنّا لا نسلّم تماميّة هذه الطّريقة بنحو الكليّة ، بحيث يحكم بالملازمة العادية بين اتّفاق العلماء على أمر ، وبين العلم بتلقّيهم ذلك من المعصوم عليه‌السلام أو وصول دليل معتبر منه إليهم ، ألا ترى ، أنّ علماء المعقول مع تعمّقهم ودقّة أنظارهم كثيرا ما اتّفقوا على بعض المسائل في أعصار متتالية ثمّ ظهر خلافها بالدّليل والبرهان.

نعم ، لو كانت المسألة من المسائل النّقليّة المحضة واتّفق عليه الفقهاء الّذين لا يتعبّدون إلّا بالنّقل طبقة بعد طبقة إلى عصر المعصومين عليهم‌السلام ، علم منه قهرا أنّهم تلقّوها منهم عليهم‌السلام بعد ما أحرزنا أنّهم لم يكونوا ممّن يفتي بالقياس والاستحسانات العقليّة والاعتبارات الظّنّية ، ولكن هذا الكلام يجري في المسائل الكلّيّة الأصليّة المبتنية على النّقل المحض ، نظير بطلان العول والتّعصيب في المواريث الّذي هو من ضروريات فقه الشّيعة بتلقّيهم إيّاه من الأئمّة عليهم‌السلام.

وأمّا المسائل العقليّة المحضة ، كالمسائل الكلاميّة ، وكذا المسائل التّفريعيّة الّتي استنبطها الفقهاء من المسائل الأصليّة والقواعد الكليّة بإعمال النّظر والاجتهاد ، فاتّفاق العلماء فيها لا يكشف عن تلقّيها عن المعصومين عليهم‌السلام بل يكون من باب

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ١٤٠.

٢٢٨

التّوافق في الفهم والنّظر». (١)

النّوع الخامس : أن يسمّى ـ أيضا ـ بالإجماع الحدسي ، والمراد به هو اتّفاق الجميع غير الإمام عليه‌السلام كالنّوعين السّابقين ، إلّا أنّ ناقل الإجماع هنا نقل رأي المعصوم عليه‌السلام عن حدس ، لا من باب الملازمة عقلا ، لأجل قاعدة اللّطف ، ولا من باب الملازمة العادية ، بل من باب الملازمة الاتّفاقيّة ، كما هو طريقة المتأخّرين. (٢)

هذا النّوع وإن كان مقبولا في الجملة ولا ينبغي أن ينكر ، إلّا أنّه ليس حجّة على وجه العموم والكلّيّة ؛ إذ المفروض ، أنّ الملازمة هنا لم تكن عقليّة ولا عادية ، بل تكون اتّفاقيّة ، فتختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، فربّ شخص يستكشف من اتّفاق جمع قليل من الحجج ، رأي الحجّة عليه‌السلام ، وربّ شخص آخر لا يرى الملازمة أصلا ، أو لا يستكشف رأي الحجّة عليه‌السلام إلّا من اتّفاق علماء جميع الأمصار والأعصار.

وبالجملة : الملازمة الاتّفاقيّة تكون مسلّمة ، لا ينبغي إنكارها إلّا أنّها لا تثبت عموم الحجّيّة لإجماع الطّائفة.

فتحصّل : أنّ الإجماعات المنقولة لا تثبت حجّيّتها لنا على الوجه الكلّي ، مضافا إلى أنّ جلّ هذه الإجماعات مبتنية على قواعد أو اصول أو إطلاقات أو عمومات قد يظنّ كونها متّفقا عليها ، فتكون تلك الإجماعات مدركيّة ؛ ولذا قد يدّعى الإجماع في مسألة ، ثمّ يدّعى ما يعارضه من الإجماع ـ أيضا ـ في نفس المسألة ، ومن

__________________

(١) نهاية الاصول : ص ٥٣٤. الطّبعة الجديدة.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٦٩.

٢٢٩

العجب أنّ المدّعي قد يكون شخصا واحدا.

وقد تصدى الشّيخ قدس‌سره لنقل بعض الموارد من تلك الإجماعات ، فراجع كلامه قدس‌سره. (١)

(الشّهرة الفتوائيّة)

النّحو الرّابع : من أنحاء الأمارات الّتي قيل : بخروجها عن أصالة حرمة التّعبّد بالظّنّ هي الشّهرة الفتوائيّة.

والكلام هنا وإن كان في الشّهرة الفتوائيّة ، إلّا أنّه لا بأس بذكر أقسام الشّهرة ، وهي ثلاثة :

الأوّل : الشّهرة الرّوائيّة.

الثّاني : الشّهرة العمليّة.

الثّالث : الشّهرة الفتوائيّة.

أمّا الشّهرة الرّوائيّة ، فالمراد بها اشتهار الرّواية بين الرّواة وأرباب الحديث بكثرة نقلها وتكرّرها في المنابع والجوامع الرّوائيّة ، يقابلها الشّذوذ والنّدرة ؛ وهذه الشّهرة تكون من المرجّحات في باب التّعارض عند المشهور ، استنادا إلى الرّوايتين :

إحداهما : مرفوعة زرارة ، قال : «قلت : جعلت فداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان ، فبأيّهما نعمل؟ قال : خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشّاذ النّادر ...» (٢).

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٠٤ إلى ٢٠٩ ، الطّبعة الجديدة.

(٢) مستدرك الوسائل : ج ١٧ ، ص ٣٠٣ ، الحديث ٢.

٢٣٠

ثانيتهما : مقبولة عمر بن حنظلة ، قال : «فقال عليه‌السلام : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكما به ، المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشّاذ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ...» (١).

والتّحقيق في ذلك موكول إلى محلّه.

أمّا الشّهرة العمليّة ، فالمراد بها استناد المشهور إلى رواية وعملهم بها في مقام الإفتاء ، وهذه الشّهرة هي جابرة لضعف سند الرّواية عند المشهور ، كما أنّ عدم استناد المشهور إلى رواية وإعراضهم عنها في مقام الإفتاء ، يكون كاسرة وموهنا لها ولو كانت صحيحة أو موثّقة عند المشهور ـ أيضا ـ بحيث يقال : كلّ ما ازداد الخبر صحّة ، ازداد ضعفا ووهنا ، وقد خالف في ذلك بعض الأعاظم قدس‌سره. (٢)

وسيأتي تحقيق المسألة في مبحث حجّيّة خبر الواحد.

أمّا الشّهرة الفتوائيّة ، فالمراد بها اشتهار الفتوى بحكم بلا إحراز مستندها ، وهذه الشّهرة هي المبحوث عنها في المقام من جهة كونها حجّة خارجة عن تحت أصالة حرمة التّعبّد بالظّنّ وعدم كونها كذلك.

وقد استدلّ على حجّيّتها بوجوه :

الأوّل : عموم تعليل قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(٣) بتقريب : أنّ التّعليل يدلّ حسب

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضى ، الحديث ١ ، ص ٧٥ و ٧٦.

(٢) راجع ، مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ١٤٣.

(٣) سورة الحجرات (٤٩) ، الآية ٦.

٢٣١

المنطوق على أنّ التّبيّن إنّما يجب في كلّ مورد كان العمل بخبر الفاسق سفاهة وجهالة ، ويدلّ حسب المفهوم على أنّ التّبيّن لا يجب فيما لا يكون العمل به كذلك.

ومن المعلوم : أنّ العمل بالشّهرة لا يكون فيه سفاهة فلا يجب التّبيّن فيها ، ومقتضاه هو كونها حجّة ، نظير خبر الواحد العدل أو الثّقة.

والسّر في عموم التّعليل هو أنّ العلّة كما تكون مخصّصة ، نظير قولنا : لا تأكل الرّمان لأنّه حامض ، كذلك تكون معمّمة ، نظير قولنا : لا تشرب الخمر لأنّه مسكر ، حيث يحكم بحرمة خصوص الرّمان الحامض في المثال الأوّل ، ويحكم بحرمة كلّ مسكر في المثال الثّاني.

وفيه ما لا يخفى ؛ إذ التّعميم في التّعليل ـ لو سلّم في بعض الموارد ـ لا يقتضي نفي الحكم عن غير مورد العلّة ، إلّا إذا كان منحصرة ، فوجوب التّبيّن في كلّ ما كان العمل به سفاهة لعموم التّعليل ، لا يدلّ على عدمه في كلّ ما لا يكون العمل به سفاهة ؛ وذلك لإمكان وجوب التّبيّن فيه ـ أيضا ـ من جهة اخرى ، كما أنّ الأمر كذلك في مثل : لا تشرب الخمر لأنّه مسكر ، حيث إنّ الحكم بحرمة المسكرات كلّها بسبب عموم التّعليل ، لا يوجب الحكم بحلّيّة كلّ ما لا يكون مسكرا.

ألا ترى ، أنّ النّجس لا يكون مسكرا ، ولكن يحرم شربه أو أكله ، وكذا مال الغير بلا إذنه ليس بمسكر ، إلّا أنّه لا يجوز التّصرف فيه ، إلى غير ذلك من الموارد المتعدّدة.

الوجه الثّاني : مقبولة عمر بن حنظلة ، قال : «فقال عليه‌السلام : ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكما به ، المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ،

٢٣٢

ويترك الشّاذ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ؛ وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده ، فيتّبع ؛ وأمر بيّن غيّه ، فيجتنب ؛ وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...» (١).

بتقريب : أنّ المراد من قوله عليه‌السلام : «المجمع عليه» هو المشهور لا الإجماع المصطلح ، وتشهد على ذلك قرينة المقابلة وهي قوله عليه‌السلام : «ويترك الشّاذ الّذي ليس بمشهور» ، ومن المعلوم ، أنّ مقتضى إطلاق المشهور شموله للشّهرة الفتوائيّة ـ أيضا ـ وحينئذ تدلّ المقبولة على اعتبار هذه الشّهرة وحجّيّتها.

وفيه : أوّلا : أنّ المراد من «المجمع عليه» هو المجمع على صدوره من المعصوم عليه‌السلام وهو الخبر المعلوم صدوره ، أو المطمئن بصدوره في قبال «الشّاذ النّادر» غير المعلوم صدوره أو غير المطمئن بصدوره ؛ ويدلّ على ذلك قوله عليه‌السلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» حيث علّل عليه‌السلام : «المجمع عليه» بكونه ممّا لا ريب فيه ، وهذا لا يصدق إلّا على ما علم صدوره أو اطمئنّ بصدوره ، كما يدلّ على ذلك ـ أيضا ـ قوله عليه‌السلام : «الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده ، فيتّبع ؛ وأمر بيّن غيّه ، فيجتنب ؛ وأمر مشكل ، يردّ علمه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» حيث طبّق عليه‌السلام الأمر البيّن على الخبر المجمع عليه ، فيكون معلوم الصّدور المقتضى لكونه حجّة قطعا ، وفي قباله الخبر الشّاذ الّذي يكون من قبيل الأمر المشكل ، فيكون غير معلوم الصّدور فلا يكون حجّة ، أو يكون لا حجّة.

وثانيا : لو سلّم كون المراد من «المجمع عليه» هو المشهور ، لكن إطلاقه

__________________

(١) الاصول من الكافي : ج ١ ، باب اختلاف الحديث ١٠ ، ص ٦٧ و ٦٨.

٢٣٣

للشّهرة الفتوائيّة ممنوع ؛ إذ المفروض أنّ السّؤال في الرّواية وقع عن الخبرين المتعارضين ، فإذا لا مناص من حمل الموصول في قوله : «المجمع عليه» على خصوص الخبر المشهور ، قضاء لتطابق الجواب مع السّؤال.

الوجه الثّالث : مرفوعة زرارة ، قال : «... قال عليه‌السلام : خذ بما اشتهر بين أصحابك» (١).

بتقريب : أنّ الموصول وهو كلمة : «ما» من المبهمات ومعرّفه صلته وهي كلمة : «اشتهر» وإطلاقها يعمّ الشّهرة الفتوائيّة.

وفيه : أنّ المراد من المشهور هنا هو المعنى اللّغوي وهو «الظّاهر الواضح» ، كما يقال : شهر فلان سيفه أو سيف شاهر فيما إذا ظهر ووضح سيفه ، أو إذا كان السّيف ظاهرا وواضحا.

وعليه : فيحمل الموصول على خصوص الخبر الواضح صدوره ، سواء كان ممّا يقطع بصدوره أو يطمئنّ به ، ومعناه ، أنّ هذا الخبر هو الحجّة فيجب أخذه ، وما يكون في قباله وهو الخبر الشّاذ ، ليس بحجّة فيجب تركه ، ومن هنا ليست شهرة أحد الخبرين المتعارضين من المرجّحات بأن ترجّح إحدى الحجّتين على الآخر ، بل تكون من موهنات الآخر ومسقطاته عن الحجّيّة.

الوجه الرّابع : هي الفحوى والأولويّة القطعيّة ، بتقريب ، أنّ الظّنّ الحاصل من الشّهرة الفتوائيّة أقوى من الظّنّ الحاصل من الخبر الواحد ، كما لا يخفى ، فالدّليل الدّال على حجّيّة الخبر يدلّ على حجّيّة الشّهرة الفتوائيّة بطريق أولى.

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ١٧ ، ص ٣٠٣ ، الحديث ٢.

٢٣٤

وفيه : أوّلا : أنّ حجّيّة الخبر الواحد إنّما هي لأجل كونه إخبارا عن حسّ ؛ ولذا يكون مطابقا للواقع غالبا ، وهذا بخلاف الفتوى فإنّه يكون إخبارا عن حدس ، فالقياس مع الفارق.

وإن شئت ، فقل : إنّ الخبر الواحد حسّ وخبر ، والفتوى رأى ونظر ، فلا مجال لقياس النّظر بالخبر ، أو قياس الرّأي بالرّؤية.

وثانيا : أنّه تقدّم منّا في مبحث حجّيّة الظّواهر ، أنّ الخبر الواحد يكون علما عرفيّا خارجا عن أصالة حرمة التّعبّد بالظّنّ تخصّصا. وعليه ، فليس حجّيّة الخبر لأجل إفادته للظّنّ كي يقال : الشّهرة الفتوائيّة تفيد ظنّا أقوى وأتم ، فتكون حجّة بالأولويّة القطعيّة.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ الشّهرة الفتوائيّة ـ أيضا ـ تكون علما عاديا أو اطمئنانا عرفيّا ، فهي ـ أيضا ـ كالخبر حجّة ، خارجة عن الأصل تخصّصا.

فتحصّل : أنّ الوجوه الأربعة الّتي اقيمت على حجّيّة الشّهرة الفتوائيّة وخروجها عن تحت أصالة حرمة التّعبّد بالظّنّ ، كلّها مخدوشة.

والتّحقيق في المقام يقتضي التّفصيل بين الشّهرة الفتوائيّة من القدماء قدس‌سرهم (١) فتكون حجّة ، وبين الشّهرة الفتوائيّة من المتأخّرين (٢) فلا تكون حجّة.

أمّا حجّيّة الشّهرة من القدماء قدس سرّهم فلأنّ فقههم قدس سرّهم كان منصوصا مأثورا متلقّى

__________________

(١) وهم قدماء الأصحاب إلى زمن الشّيخ الطّوسي قدس‌سره ، وقد يعبّر عن هؤلاء بالمتحفّظين على الاصول والمفتين بالمتون بلا تصرّف وتأويل.

(٢) وهم المتأخّرون من زمن الشّيخ طوسي قدس‌سره إلى زماننا هذا ، وقد يعبّر عن هؤلاء بأصحاب الاجتهاد وأرباب التّفريعات والفتاوى.

٢٣٥

من المعصومين عليهم‌السلام وكان ديدنهم ضبط الاصول المتلقّاة عنهم عليهم‌السلام في كتبهم ، والتّحفّظ عليها ، والإفتاء بمتون الأخبار ، أو بما يقرب منها من دون إعمال الاجتهاد والنّظر بالوجه المتداول في العصور الأخر.

وعليه : فاشتهار الحكم والفتوى بين هؤلاء ، يكون فيه مناط الإجماع ، بل ليس الإجماع إلّا هذا ، فذلك الاشتهار كاشف قطعا أو اطمئنانا عن وجود نصّ معتبر ، أو عن كون ذلك الحكم معروفا من لدن عصر المعصومين عليهم‌السلام بحيث كان مسلّما مفروغا عنه وغير قابل للإنكار. هذا بالنّسبة إلى حجّيّة الشّهرة الفتوائيّة من القدماء قدس‌سرهم. وقد عرفت : أنّ وزانها وزان الإجماع من القدماء قدس‌سرهم.

وأمّا عدم حجّيّة الشّهرة من المتأخّرين ، فلعدم دليل على حجّيّتها من باب حجّيّة الظّنون الخاصّة ، ولا تكون كاشفة عن وجود الحجّة المعتبرة ، بل وزانها وزان الإجماعات المتأخّرة ، لابتناء التّفريعات والفروع المستنبطة على الآراء والاجتهادات.

(الخبر الواحد)

النّحو الخامس : من أنحاء الأمارات الّتي قيل : بخروجها عن أصالة حرمة التّعبّد بالظّنّ هو الخبر الواحد.

قبل الورود في تحقيق المقام ينبغي التّكلّم في أمرين :

الأوّل : في أنّ البحث عن حجّيّة الخبر الواحد ، ممّا لا ريب في كونه من المسائل الاصوليّة ؛ وذلك ، لأنّ هذا البحث ممّا يقع في كبرى استنباط الأحكام الشّرعيّة ، بل هو المدار في استنباطها عصر الغيبة ، وكذلك لا ريب في كون البحث عن حجّيّة الخبر

٢٣٦

الواحد من أهمّ المسائل الاصوليّة ؛ بداهة ، أنّه لا يمكننا الوصول إلى الأحكام الشّرعيّة من طريق العلم الضّروري ، سوى الأحكام الكلّيّة بنحو الإجماع ، نظير أصل الوجوب في الصّلاة والصّوم وأمثالهما ، وأصل الحرمة في الخمر والميسر ونظائرهما ، كما لا يمكننا الوصول إليها غالبا من طريق الأخبار الّتي يقطع بصدورها ، كالمتواتر أو المحفوف بالقرائن القطعيّة. وعليه ، فينحصر إثبات الأحكام الشّرعيّة في مثل عصرنا هذا ، بالأخبار الآحاد.

الثّاني : في تحرير محلّ الكلام ، فنقول : إنّ الخبر الواحد الّذي يتوقّف عليه إثبات الأحكام ، لا بدّ أن يكون تامّا من جهات ثلاث :

الاولى : أصل الصّدور ، بمعنى : أنّه صادر عن المعصومين عليهم‌السلام.

الثّانية : جهة الصّدور ، بمعنى : أنّه صادر لبيان الحكم الواقعي ، لا للتّقيّة.

الثّالثة : حجّيّة الظّهور ، بمعنى : أنّ الكلام الصّادر عنهم عليه‌السلام ظاهر في كونه مرادا لهم عليه‌السلام أيضا.

ولا ريب : أنّ المقصود من البحث عن الخبر الواحد في المقام هو إثبات تماميّة الخبر من الجهة الاولى فقط ؛ وأمّا إثبات تماميّته من الجهة الثّانية ، فيتكفّل له الاصول العقلائيّة الّتي تقتضي كون الكلام صادرا لبيان الحكم الواقعي ؛ وأمّا إثباتها من الجهة الثّالثة ، فالمتكفّل له هي أصالة الظّهور الّتي تكون من الاصول العقلائيّة الدّارجة بينهم في محاوراتهم.

إذا عرفت هذين الأمرين ، فاعلم ، أنّ مسألة حجّيّة الخبر الواحد وكونه صادرا عن المعصومين عليهم‌السلام ذات قولين : قول بعدم الحجّيّة ، واختاره جمع من

٢٣٧

قدماء الأصحاب منهم السّيّد المرتضى وابن إدريس وابن زهرة قدس سرّهم (١) ؛ وقول بالحجّيّة ، واختاره المشهور (٢) من القدماء والمتأخّرين وهو الحقّ.

أمّا القول بعدم الحجّيّة ، فقد استدلّ عليه بالكتاب والسّنّة والإجماع :

أمّا الكتاب ، فهي طوائف من الآيات ، أهمّها ما دلّ على النّهي عن اتّباع غير العلم ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٣) ، وقوله عزوجل : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٤).

وفيه : أوّلا : أنّ هذه الطّائفة أجنبيّة عن مورد البحث ؛ إذ هي ناظرة إلى موارد اصول العقائد الّتي لا بدّ للمكلّف من تحصيل العلم بالنّسبة إليها.

وثانيا : لو سلّم ذلك ، لكان موردها هو اتّباع غير العلم إذا لم يرد على حجّيّته دليل خاصّ ، وسيأتي ، إن شاء الله تعالى ، إثبات حجّيّة الخبر الواحد غير المفيد للعلم بالأدلّة الخاصّة.

أمّا السّنّة ، فهي على طوائف ، منها : ما دلّ على عدم جواز الأخذ بالخبر إلّا إذا كان عليه شاهد أو شاهدان من الكتاب والسّنّة ، كرواية عبد الله بن بكير ، عن رجل ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث ، قال : «إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهد أو شاهدين من كتاب الله ، فخذوا به ، وإلّا فقفوا عنده ، ثمّ ردّوه إلينا حتّى يستبين لكم» (٥).

__________________

(١) راجع ، نهاية الأفكار : ج ٢ ، ص ١٠٢.

(٢) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٧٨.

(٣) سورة الإسراء (١٧) ، الآية ٣٦.

(٤) سورة يونس (١٠) ، الآية ٣٦.

(٥) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٨ ، ص ٨٠.

٢٣٨

ورواية عبد الله بن أبي يعفور ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به ، قال عليه‌السلام : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلّا فالّذي جاءكم به أولى به» (١).

وفيه : أنّ هذه الطّائفة وإن كانت ظاهرة في إثبات جواز العمل بخصوص الخبر الّذي له شاهد من الكتاب ، وكذا ظاهرة في نفي جواز العمل بما ليس كذلك ، إلّا أنّه لا معنى لإرادة هذا الظّاهر ؛ ضرورة أنّه إذا كان للخبر شاهد من الكتاب أو السّنّة القطعيّة لما احتجنا إلى التّمسّك بالخبر. وعليه ، فلا مناص من حمل هذه الطّائفة على مورد التّعارض وأخذ أحد المتعارضين إذا كان له شاهد من الكتاب والسّنّة وطرح الآخر الّذي لا يكون كذلك ، وهذا أجنبيّ عن مورد الكلام.

ومنها : ما دلّ على المنع عن العمل بالخبر المخالف للكتاب ، نظير رواية السّكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ على كلّ حقّ ، حقيقة ، وعلى كلّ صواب ، نورا ، فما وافق كتاب الله ، فخذوه ، وما خالف كتاب الله ، فدعوه» (٢).

ورواية جميل بن درّاج ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الوقوف عند الشّبهة خير

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١١ ، ص ٧٨ ، ولا يخفى أنّ في قوله عليه‌السلام : «إذا ورد عليكم حديث ... أو من قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» جزاء الشّرط محذوف ، أي : فاقبلوه ... ، راجع ، الاصول من الكافي : ج ١ ، ص ٦٩ ، الحديث ٢ ، انظر هامشه.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٠ ، ص ٧٨.

٢٣٩

من الاقتحام في الهلكة ... فما وافق كتاب الله ، فخذوه ، وما خالف كتاب الله ، فدعوه» (١).

وفيه : أنّ هذه الطّائفة من الأخبار موردها هي الأخبار المخالفة للكتاب بنحو التّباين أو العموم من وجه ، وأنت ترى ، أنّ مورد النّزاع ليس من هذا القبيل ؛ إذ بطلان العمل بالأخبار المباينة للكتاب الّتي وردت من طرق الدّساسين ممّا لا ينكره أحد ولا نزاع فيه ، فالنّزاع إنّما هو في الأخبار الآحاد الّتي تخالف الكتاب بنحو العموم المطلق ، فتكون مقيّدة للكتاب ، أو مخصّصة له.

وواضح : أنّ الطّائفة المذكورة لا تشمل مثل هذا ، كيف ، وأنّ الضّرورة قائمة على ورود الأخبار الكثيرة المقيّدة أو المخصّصة.

ومنها : ما دلّ على بطلان ما لا يوافق الكتاب ، نظير رواية أيّوب بن راشد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما لم يوافق من الحديث ، القرآن ، فهو زخرف» (٢).

ورواية أيّوب بن الحرّ ، قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسّنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله ، فهو زخرف» (٣).

والجواب عن هذه الطّائفة هو الجواب عن الطّائفة الثّانية ؛ إذ المراد من عدم موافقة الخبر للكتاب ، هو مخالفته عرفا ، وهي لا تصدق إلّا إذا خالف الكتاب بنحو التّباين أو العموم من وجه.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٥ ، ص ٨٦.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٢ ، ص ٧٨.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٤ ، ص ٧٩.

٢٤٠