مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتمّ لو كان الأثر مترتّبا على خصوص الشّكّ ، وأمّا إذا كان الأثر مترتّبا على الأعمّ منه ومن الواقع ، فلا مانع من جريان الاستصحاب ، بل يجري ويحرز به الأثر المطلوب تعبّدا ، كما يرفع به الشّكّ كذلك ـ أيضا ـ فإذا لا يبقى الشّكّ بعد جريانه حتّى يلزم تحصيل الحاصل.

وبعبارة اخرى : أنّ موضوع قاعدة قبح العقاب هو اللّابيان ، فمع البيان على التّكليف أو على عدمه ينتفي موضوعها ، والاستصحاب في المقام بيان على عدم التّكليف ، ومعه لا مجال للقاعدة لعدم بقاء موضوعها حينئذ ، كما أنّه لا مجال لقاعدة الحلّ مع قيام الأمارة على الحلّ أو على الحرمة أو مع وجود استصحابهما ، وكذا لا مجال لقاعدة الطّهارة مع وجود الأمارة عليها أو على النّجاسة أو وجود استصحابهما. هذا تمام الكلام فيما استدلّ به الاصوليّون على البراءة في الشّبهات البدويّة الحكميّة (من التّحريميّة والوجوبيّة بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة).

(استدلال الأخباريّ بالكتاب)

وأمّا الأخباريّون القائلون بوجوب الاحتياط في الشّبهات البدويّة الحكميّة التّحريميّة بعد الفحص واليأس عنه ، دون الوجوبيّة ، فقد استدلّوا على ذلك بالكتاب والسّنة والعقل.

أمّا الكتاب ، فهو ثلاث طوائف من الآيات :

الاولى : هي الآيات النّاهية عن القول والاتّباع بلا علم ، كقوله تعالى : (وَأَنْ

٣٢١

تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(١) ، وقوله عزوجل : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢) وقوله جلّ جلاله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(٣).

الثّانية : هي الآيات النّاهية عن الإلقاء إلى التّهلكة ، كقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٤).

الثّالثة : هي الآيات الآمرة بالتّقوى ، كقوله عزوجل : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٥) وقوله جلّ جلاله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(٦).

تقريب الاستدلال بالآيات المذكورة على وجوب الاحتياط ، هو أنّ القول بالتّرخيص والحكم بالإباحة في الشّبهات ، قول بغير العلم والمعرفة وإلقاء للنّفس إلى التّهلكة ومخالفة للتّقوى والطّاعة ، وكلّ ذلك حرام ومعصية ، وقضيّة هذه الحرمة وجوب الاحتياط وترك الشّبهات بلا شبهة.

وفيه : أنّ تلك الطّوائف من الآيات غير ناهضة للدّلالة على وجوب الاحتياط :

أمّا الطّائفة الاولى ، فلانّ كبرى حرمة القول على الله تعالى بلا علم ـ لكونه تشريعا محرّما ـ مسلّمة عند الكلّ ، لا خلاف فيها بين الاصوليّ والأخباريّ ، فكما أنّ القول بالتّرخيص والحكم بالإباحة في الشّبهات بلا حجّة وعلم ، يكون قولا

__________________

(١) سورة البقرة (٢) ، الآية ١٦٩.

(٢) سورة الأعراف (٧) ، الآية ٢٨.

(٣) سورة الإسراء (١٧) ، الآية ٣٦.

(٤) سورة البقرة (٢) ، الآية ١٩٥.

(٥) سورة التّغابن (٦٤) ، الآية ١٦.

(٦) سورة آل عمران (٣) ، الآية ١٠٢.

٣٢٢

على الله جلّ جلاله بغير علم وتشريعا محرّما عند الاصوليّ ، كذلك القول بوجوب الاحتياط في الشّبهات بلا حجّة وعلم ، فهو ـ أيضا ـ يكون قولا بغير علم وتشريعا محرّما عند الأخباريّ ، وإنّما الخلاف بينهما في الصّغرى ، بأنّ القول بغير علم ، هل يصدق على القول بالبراءة في الشّبهات البدويّة والحكم بالتّرخيص والإباحة فيها أو يصدق على القول بوجوب الاحتياط في تلك الشّبهات؟ فيدّعي الاصوليّ عدم صدق ذلك على القول بالبراءة ، بل يدّعي صدقه على القول بالاحتياط ؛ وفي قباله الأخباريّ ، فإنّه يدّعي عكس ذلك.

وبالجملة : كلّ واحد من الفريقين (الأخباريّ والاصوليّ) جاهل بالواقع ، فيكون قوله بالنّسبة إليه قولا بغير علم ، وأمّا بالإضافة إلى مرحلة الظّاهر فكلّ يدّعي العلم ، حيث إنّ القول بالتّرخيص والسّعة وكذا القول بالاحتياط وعدم السّعة قول بالعلم والحجّة ، فلا يكون صغرى لكبرى حرمة القول بغير علم.

ونتيجة ذلك كلّه ، هو أنّ الآية أجنبيّة عن دلالتها على وجوب الاحتياط ؛ إذ المسألة صغرويّة لا كبرويّة.

أمّا الطّائفة الثّانية ، فلأنّ كبرى حرمة الإلقاء إلى التّهلكة مسلّمة لا خلاف فيها بين الفريقين ـ أيضا ـ وهذا ممّا لا كلام فيه ، إنّما الكلام في أنّ موارد الشّبهات البدويّة الّتي يدّعي الاصوليّ البراءة فيها ، هل تكون من موارد التّهلكة كي تصير صغرى لتلك الكبرى ، أم أنّها أجنبيّة عن مواردها؟

والإنصاف ، أنّها أجنبيّة عنها ؛ وذلك لما أفاده الإمام الرّاحل قدس‌سره فقال ، ما حاصله : إنّ مورد الآية ـ حسب مقتضى سياقها ـ يحتمل أن يكون هو الإنفاق

٣٢٣

للفقراء بإعطاء الزّكوات والصّدقات لهم ورفع حوائجهم حتّى ينفتح باب الرّأفة والرّحمة ، وينسدّ باب العداوة والخصومة وباب إلقاء نفوس ذوي الثّروة بأيديهم إلى التّهلكة ، حيث إنّهم لو تركوا الإنفاق للفقراء ، يوجب ذلك تحريك إحساساتهم وإثارة خصوماتهم ، فينهضوا على ذوي الثّروة حتّى ينجرّ إلى إلقائهم إلى التّهلكة ، بخلاف ما لو أنفقوا للفقراء ، فإنّهم لمّا رأوا الرّأفة والرّحمة وعدم منعهم من حقوقهم اللّازمة من ناحية ذوي الثّروة ، لم ينهضوا عليهم ، فلا يلزم أيّ إلقاء إلى التّهلكة.

ويحتمل أن يكون هو إنفاق أهل الإسلام في سبيل الجهاد والمقاتلة حتّى ينفتح به باب غلبة جنود الإسلام وتقويتهم وينسدّ باب إلقاء نفوسهم بأيديهم إلى التّهلكة ، حيث إنّهم لو تركوا الإنفاق لكان فيه مظنّة غلبة جنود الكفر عليهم ، فينجّز إلى إلقائهم إلى التّهلكة.

إذا عرفت هذا ، فاعلم ، أنّ موارد الشّبهات البدويّة الّتي يقع فيها الكلام بين الاصوليّ والأخباريّ ، ليس فيها تهلكة ، لا اخرويّة (العقوبة) لقيام الأدلّة على الإذن في الاقتحام والرّخصة ، ولا دنيويّة ، إلّا في بعض الأحيان وعلى وجه الشّذوذ والنّدرة ؛ ولذا أطبقوا كلّهم حتّى الأخباريّ على البراءة في الشّبهات الموضوعيّة مطلقا ، وفي الحكميّة إذا كانت وجوبيّة.

ونتيجة ذلك كلّه ، أنّ الآية ناظرة إلى غير موارد الشّبهات البدويّة ، فتكون أجنبيّة عن المقام. (١)

أمّا الطّائفة الثّالثة ، فلأنّ الاستدلال بها على وجوب الاحتياط ، إنّما يتمّ

__________________

(١) راجع ، تهذيب الاصول : ج ٢ ، ص ٢٥٥.

٣٢٤

بناء على شمول التّقوى بمرتبتها الواجبة ، لفعل محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة ـ أيضا ـ إذ حينئذ يجب الاحتياط في المشكوكات والمحتملات بالفعل أو التّرك ، وإلّا لزمت مخالفة التّقوى ، وأمّا بناء على ما هو مقتضى التّحقيق من شمول التّقوى بتلك المرتبة ، لخصوص فعل الواجبات المعلومة وترك المحرّمات كذلك ، فلا يتمّ الاستدلال بها ؛ لوضوح أنّ فعل المحتملات أو تركها حينئذ ممّا لا يشمله التّقوى حتّى تكون مخالفة ذلك ، مخالفة للتّقوى.

لا يقال : إنّ وجوب الاحتياط في الشّبهات معلوم ، فتكون مخالفة هذا الواجب ـ أيضا ـ مخالفة للتّقوى.

لأنّه يقال : أوّلا : هذا خلف ؛ إذ المفروض عدم معلوميّة وجوب الاحتياط مع قطع النّظر عن الآية المذكورة ، وإلّا يصير الاستدلال بها على وجوب الاحتياط لغوا ، لعدم الحاجة حينئذ إليها لإثبات ذلك.

وثانيا : لو كان وجوب الاحتياط في المشتبهات معلوما ، لكانت الآية بالنّسبة إليه إرشادا إلى وجوب إطاعته ، كما أنّها بالنّسبة إلى سائر الواجبات المعلومة من الصّلاة والصّيام ونحوهما تكون إرشادا إلى وجوب إطاعتها ؛ بداهة ، أنّه لا يعقل تعلّق الأمر التّعبّديّ برعاية الواجبات الإلهيّة وإطاعتها ، وإلّا لزم التّسلسل ، كما حقّق ذلك في مثل آية : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).

وعليه : فتخرج الآية من الأدلّة التّعبّديّة الدّالّة على وجوب الاحتياط.

نعم ، لا مانع من شمول التّقوى بمرتبتها الرّاجحة لفعل مشكوك الوجوب أو ترك مشكوك الحرمة ، إلّا أنّه لا يجدي الأخباريّ القائل بوجوب الاحتياط ؛ إذ

٣٢٥

الرّجحان أعمّ من الوجوب ، فلا يضرّ بمقالة الاصوليّ لعدم إنكاره رجحان الاحتياط ، بل هو ينكر وجوبه فقط. هذا كلّه في استدلال الأخباريّ بالكتاب.

(استدلال الأخباريّ بالسّنّة)

أمّا السّنة ، فهي على طوائف :

منها : ما يدلّ على حرمة القول بغير علم ، كصحيحة هشام بن السّالم ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما حقّ الله على خلقه؟ قال : أن يقولوا ما يعلمون ، يكفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك ، فقد أدّوا إلى الله حقّه». (١)

ولا يخفى عليك : أنّ الاستدلال بهذه الطّائفة هو نظير الاستدلال بالآيات النّاهية عن القول بغير علم ، والجواب عنها هو الجواب عن الآية.

ومنها : ما يدلّ على وجوب ردّ العلم إلى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام ، كرواية حمزة بن طيّار : «أنّه عرض على أبي عبد الله عليه‌السلام بعض خطب أبيه حتّى إذا بلغ موضعا منها ، قال له : كفّ واسكت ، ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلّا الكفّ عنه والتّثبت والرّد إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ، يجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحقّ ، قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). (٢)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤ ، ص ١١٢.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣ ، ص ١١٢.

٣٢٦

وكرواية أحمد بن الحسن الميثمي ، عن الرّضا عليه‌السلام في حديث اختلاف الأحاديث «قال عليه‌السلام : وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه ، فردّوا إلينا علمه ، فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتّثبت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا». (١)

والجواب عن هذه الطّائفة هو أنّ الرّوايتين أجنبيّتان عن الدّلالة على وجوب الاحتياط ؛ أمّا الرّواية الاولى ، فلأنّها ناظرة أنّ الخطبة لعلّها كانت مشتملة على مطالب شامخة بعيدة عن الأذهان المتوسّطة ، فأمر عليه‌السلام عندئذ بالكفّ عنها وردّ علمها إلى أئمّة الهدى ، فلا تكون من الأدلّة الدّالّة على وجوب الاحتياط في الشّبهات البدويّة ونفي البراءة المستندة إلى الحجّة العقليّة أو النّقليّة.

وأمّا الرّواية الثّانية ، فلأنّها ناظرة إلى أصحاب الاستقلال الّذين عملوا بآرائهم ، وهذا غير ما هو مورد الكلام من البراءة في الشّبهات البدويّة بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة.

ومنها : ما يدلّ على تثليث الامور ، كرواية عمر بن حنظلة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، «قال : وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده ، فيتّبع ؛ وأمر بيّن غيّه ، فيجتنب ؛ وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشّبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشّبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم ، ثمّ

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣١ ، ص ١٢١.

٣٢٧

قال في آخر الحديث : فإنّ الوقوف عند الشّبهات خير من الاقتحام في الهلكات». (١)

وكرواية جميل بن صالح ، عن الصّادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : «قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلام طويل : الامور ثلاثة : أمر تبيّن لك رشده ، فاتّبعه ؛ وأمر تبيّن لك غيّه ، فاجتنبه ؛ وأمر اختلف فيه ، فردّه إلى الله عزوجل». (٢)

وكرواية محمّد بن عليّ بن الحسين (ابن بابويه) قال : «إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام خطب النّاس ، فقال في كلام ذكره : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم ، فهو لما استبان له أترك ، والمعاصي حمى الله ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها». (٣)

وكرواية النّعمان بن بشير ، قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله حلاله وحرامه ، والمشتبهات بين ذلك ، كما لو أنّ راعيا رعى إلى جانب الحمى ، لم يثبت غنمه أن تقع في وسطه ، فدعوا المشتبهات». (٤)

والجواب عن هذه الطّائفة هو أنّ روايتي عمر بن حنظلة وجميل بن صالح الدّالتين على ردّ علم الأمر المشكل والأمر المختلف فيه ، إلى الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٩ ، ص ١١٤.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٣ ، ص ١١٨.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٢ ، ص ١١٨.

(٤) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠ ، ص ١٢٢ و ١٢٣.

٣٢٨

أجنبيّتان عن القول بالبراءة والحكم بالتّرخيص والإباحة الظّاهريّة في الشّبهات الحكميّة التّحريميّة البدويّة بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة ، مستندا إلى الحجج القاطعة من العقليّة أو النّقليّة ، كما هو واضح.

وأمّا روايتا محمّد بن علي بن الحسين والنّعمان بن بشير الدّالتان على أنّ الأخذ بالشّبهات يوجب ارتكاب المحرّمات من حيث لا يعلم ، أو الرّتع حول المعاصي ربما يوجب الدّخول فيها ، فهما ظاهرتان ، بل صريحتان في استحباب الاجتناب عن الشّبهات ، لوضوح عدم ممنوعيّة الرّعي حول الحمى ، أو إلى جانبه ، بل الممنوع إنّما هو الرّعي في نفس الحمى ، وحيث إنّ الرّعي حوله ربما يوجب الرّعي فيه نفسه ، فينبغي الاجتناب عنه كي لا يلزم ارتكاب المحرّم والمعصية ، وكذا الأمر في الشّبهات ، فإنّها ليست بمحرّمة ، إلّا أنّ الاعتياد بها وتكرّر ارتكابها ، كالاعتياد بالمكروهات وتكرّر ارتكابها ، يوجب تجرّي النّفس والجسارة لارتكاب المعاصي والمحرمات الصّغيرة ، بل الكبيرة ، فينبغي التّجنّب عنها كى لا يقع في الحرام ، وهذا هو معنى استحباب الاجتناب لا وجوبه.

ومنها : ما يدلّ على التّوقف معلّلا بأنّ الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، كرواية أبي سعيد الزّهري ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحص». (١)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢ ، ص ١١٢.

٣٢٩

وكرواية مسعدة بن زياد ، عن جعفر عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : «أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا يجامعوا في النّكاح على الشّبهة ، وقفوا عند الشّبهة ، يقول : إذا بلغك أنّك قد رضعت من لبنها وأنّها لك محرم وما أشبه ذلك ، فإنّ الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة». (١)

ولا يخفى : أنّ تقريب الاستدلال بهذه الطّائفة على وجوب الاحتياط ، يتوقّف على بيان امور :

الأوّل : أنّ كلمة : «خير» منسلخ عن معنى «التّفضيل» الكاشف عن الاستحباب ، بل إنّما هو بالمعنى «المقابل للشّر» ، وإلّا يلزم أن يكون الاقتحام في الهلكة ـ أيضا ـ خيرا ، مع أنّك تعرف أنّه شرّ محض.

الثّاني : أنّ التّعليل يفيد التّعميم ، فيشمل لمطلق الشّبهات.

الثّالث : أنّه لا بدّ من السّنخيّة بين العلّة والمعلول في الإيجاب والحرمة ، فحيث إنّ العلة هنا يكون في حدّ الوجوب ، فلا مناص من أن يكون المعلول وهو الوقوف عند الشّبهات ـ أيضا ـ واجبا.

والجواب عن هذه الطّائفة هو أنّ دلالتها على وجوب الاحتياط ، إنّما تتمّ فيما إذا لم يعلم فيه الإذن والتّرخيص والحلّيّة ظاهرا ، وأمّا فيما إذا علم فيه ذلك فهو خارج عن الشّبهة خروجا تخصّصيّا موضوعيّا ، بل هو مندرج في معلوم الحلّيّة والإباحة ، فلا يعمّه كبرى العلّة المذكورة في الرّوايات وهي الوقوف عند الشّبهات خير

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٤ ، كتاب النّكاح ، الباب ١٥٧ من أبواب مقدّمات النّكاح وآدابه ، الحديث ٢ ، ص ١٩٣.

٣٣٠

من الاقتحام في الهلكات.

ويشهد على ذلك أنّه لا يجب الوقوف في الشّبهات الموضوعيّة مطلقا ، ولا في الحكميّة الوجوبيّة بعد الفحص ، وليس هذا إلّا لخروج هذه الشّبهات عن موضوع الشّبهة بالأدلّة الدّالّة على الرّخصة فيها ، لا لتخصيص أدلّة وجوب التّوقّف بعد الفراغ عن صدق الموضوع والاندراج تحت عنوان الشّبهة ؛ وذلك لإباء لسان أدلّة وجوبه عن التّخصيص ، فلا يصحّ أن يقال : الوقوف عند الشّبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، إلّا الوقوف في الشّبهات الموضوعيّة مطلقا وفي الحكميّة الوجوبيّة ؛ إذ معنى هذا التّخصيص هو أنّ الوقوف في هاتين الشّبهتين لا يكون خيرا من الاقتحام في الهلكة ، وهذا كما ترى.

وبالجملة : المراد من الشّبهة هو المشتبه رأسا ، والشّبهة البدويّة ليست كذلك مع وجود أدلّة الرّخصة والحلّيّة ، فلا مناص من أن يقال : بالتّخصّص وخروج هذه الشّبهة بتلك الأدلّة ، عن أدلّة الوقوف موضوعا.

أضف إلى ذلك كلّه ، هو أنّ معنى كبرى التّعليل هو عبارة عن قولنا : قف عند الشّبهة ولا توقع نفسك في الهلكة ، ولا تقتحم في العقوبة. ولا ريب ، أنّ مقتضى ذلك هو أن تكون الهلكة عند ارتكاب الشّبهة ، مفروضة التّحقّق مع قطع النّظر عن هذه الرّوايات كي يعلّل بها وجوب التّوقف ، وليس هذا إلّا في مورد الشّبهتين : أحدهما : الشّبهة البدويّة قبل الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة ؛ ثانيهما : الشّبهة المقرونة بالعلم الإجماليّ ، وأمّا الشّبهة البدويّة بعد الفحص واليأس عنه ، فليست فيها هلكة وعقوبة لوجود أدلّة البراءة والرّخصة من العقليّة والنّقليّة فيها.

٣٣١

لا يقال : إنّ الهلكة مترتّبة على نفس وجوب التّوقف المستفاد من تلك الرّوايات الآمرة به.

فإنّه يقال : لا يمكن ذلك إلّا على وجه الدّائر ؛ إذ المفروض أنّ الهلكة علّة لوجوب التّوقف ومتقدّمة عليه ، فلو فرض كونها مترتّبة على التّوقف ومعلولا له ، لزم أن يتوقّف أحدهما على الآخر ، وما هو المتقدّم يكون متأخّرا ، وهذا هو الدّور المستحيل.

وعليه : فالأمر بالتّوقّف والنّهي عن الاقتحام يكونان ـ كالأمر بالإطاعة والنّهي عن المعصية في الشّرع ، وكأمر الطّبيب ونهيه في العرف ـ إرشادين إلى أنّ هناك خطرا وهلاكة ، لا أنّهما من الأوامر والنّواهي المولويّة التّعبّديّة.

وإن شئت ، فقل : ليست تلك الرّوايات المتضمّنة للأمر بالتّوقّف ، إلّا نظير آية التّهلكة المتقدّمة الّتي تكون ناظرة إلى بيان كبرى حرمة الإلقاء في الهلكة المسلّمة عند الكلّ من الأخباريين والاصوليين ، ولا دليل على وجود الهلكة في ارتكاب الشّبهات البدويّة ، بل أدلّة البراءة تدلّ على عدمها البتّة.

فتحصّل : أنّ الرّوايات الدّالّة على الوقوف المشتملة على التّعليل ، لا تدلّ على وجوب الاحتياط في الشّبهات البدويّة بعد الفحص ، بل تدلّ على وجوبه فيما كانت هناك هلكة مع قطع النّظر عنها ، كالشّبهات البدويّة قبل الفحص ، والشّبهات المقرونة بالعلم الإجماليّ.

ومنها : ما يتراءى منه وجوب الاحتياط في المشتبهات ، كرواية عبد الله بن وضّاح أنّه كتب إلى العبد الصّالح عليه‌السلام : «يسأله عن وقت المغرب والإفطار ،

٣٣٢

فكتب عليه‌السلام إليه : أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائط لدينك». (١)

وكمرسلة الشّهيد الأوّل قدس‌سره في الذّكرى ، قال : «وقال الصّادق عليه‌السلام : لك أن تنتظر الحزم وتأخذ بالحائط لدينك». (٢)

وكرواية عنوان البصري ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما‌السلام : «يقول : سل العلماء ما جهلت ، وإيّاك أن تسألهم تعنّتا وتجربة ، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ بالاحتياط في جميع امورك ما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك عتبة للنّاس». (٣)

وكصحيحة عبد الرّحمن بن الحجّاج ، قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال :

لا ، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصّيد ، قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك ، فلم أدر ما عليه ، فقال : إذا اصبتم مثل هذا فلم تدروا ، فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه ، فتعلموا». (٤)

ولا يخفى عليك : أنّ تلك الرّوايات المذكورة من هذه الطّائفة قاصرة

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٧ ، ص ١٢٢.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٨ ، ص ١٢٧.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥٤ ، ص ١٢٧.

(٤) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١ ، ص ١١١ و ١١٢.

٣٣٣

الدّلالة على وجوب الاحتياط ، مضافا إلى ضعف سند بعضها.

أمّا رواية عبد الله بن وضّاح ، فلأجل ظهورها في أنّ شبهة السّائل كانت في حقيقة المغرب وأنّه هل تتحقّق باستتار القرص فقط ـ كما هو المشهور عند العامّة ـ أو بذهاب الحمرة المشرقيّة ـ كما هو المشهور عند الخاصّة ـ ولمّا كانت التّقيّة في ذلك الزّمان حاكمة وكانت هي طريق التّخلّص من شرّ الحكومة ، التجأ الإمام عليه‌السلام إلى أن قال : «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائط لدينك» ولو لا التّقيّة لكانت الوظيفة بيان حقيقة المغرب بالصّراحة ، وأنّها تحقّقت بذهاب الحمرة المشرقيّة ، لكونه عليه‌السلام عالما بحقيقة الحال والأمر ، وليس من شأنه أن يجيب بالاحتياط إذا سئل عن الشّبهات ، فالرّواية لا تكون دليلا على وجوب الوقوف ولزوم الاحتياط في الشّبهات الحكميّة بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة.

وأمّا مرسلة الشّهيد الأوّل قدس‌سره فلأنّها مضافا إلى الإرسال ، غير مشتملة للسّؤال ، ولعلّ ما تضمّنته هو كلام مبتدأ غير مسبوق بالسّؤال ، وكيف كان ، لا ظهور لهذه المرسلة فيما هو مدّعى الاخباريّ.

وأمّا رواية عنوان البصري ، فلأنّها مضافا إلى كونها مرسلة ، غير ناظرة إلى وجوب الاحتياط في الشّبهات ، بل هي ناظرة إلى أصحاب الرّأي وأتباع القياسات والاستحسانات ، كيف ، وأنّ الإفتاء إذا كان مستندا إلى الكتاب والسّنة وما ورد من العترة عليه‌السلام من الرّوايات يكون مطلوبا قطعا ، كما يشهد عليه قول أبي جعفر عليه‌السلام ـ مخاطبا لأبان تغلب ـ : «اجلس في مجلس المدينة وأفت النّاس ، فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك». (١)

__________________

(١) رجال النّجاشي : ج ١ ، ص ٧٣ و ٧٤.

٣٣٤

وأمّا صحيحة عبد الرّحمن بن حجّاج ، فلأنّها ناظرة إلى زمان الحضور وراجعة إلى الشّبهات قبل الفحص والسّؤال مع التّمكن منه ، كما يشهد عليه قوله عليه‌السلام : «فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه ، فتعلموا» ، حيث إنّه عليه‌السلام جعل السّؤال والعلم بالأحكام ، غاية للاحتياط ، فلو فرض عدم إمكان السّؤال وتحصيل العلم بها لكان ذلك لغوا. هذا تمام الكلام في استدلال الأخباريّ على وجوب الاحتياط بالسّنة.

(استدلال الأخباريّ بالعقل)

أمّا العقل ، ففي تقريب دلالته على وجوب الاحتياط وجوه :

الأوّل : أنّ في ارتكاب الشّبهة احتمال الوقوع في المضرّة ، بلا كلام فيه ، فيجب دفعه بحكم العقل والفطرة.

وفيه : ما تقدّم مبسوطا في البحث حول قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، من أنّ الضّرر المحتمل الّذي يحكم العقل بوجوب دفعه لو اريد به الضّرر الدّنيويّ ، فيمنع عنه في الشّبهات البدويّة صغرى وكبرى.

أمّا الصّغرى ، فلعدم الملازمة بين ارتكاب الشّبهة وبين الضّرر الدّنيويّ ، بل ربما يكون ارتكاب الشّبهة نافعا دنيويّا.

وأمّا الكبرى ، فلأنّ العقلاء ربما يقدمون على المقطوع به من هذا الضّرر ، فضلا عن المحتمل ، فحكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل ، ممنوع.

وأمّا لو اريد به الضّرر الاخرويّ وهو العقاب ، فيمنع عنه في الشّبهات البدويّة من ناحية الصّغرى فقط ؛ وذلك ، لعدم احتمال العقاب في ارتكاب الشّبهة بعد

٣٣٥

الفحص واليأس عن الظّفر بالحجّة مع وجود قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، في ذلك المورد.

هذا ، مضافا إلى أنّ مقتضى الوجه المذكور من دليل العقل ، هو تعميم وجوب الاحتياط لموارد الشّبهات الموضوعيّة مطلقا ، ولموارد الشّبهات الحكميّة الوجوبيّة ـ أيضا ـ مع أنّ الأخباريّ القائل بالاحتياط لا يلتزم به ، بل يقول في تلك الموارد : بالبراءة.

الوجه الثّاني : أنّ الأصل في الأفعال غير الضّروريّة قبل الشّرع والشّريعة هو الحظر وعدم الإباحة ، وقضيّة ذلك هو الاحتياط ووجوب الوقوف عند الشّبهة.

وفيه : أوّلا : أنّ مورد أصالة الحظر هو الفعل قبل الشّريعة وقبل جعل الحكم له من ناحيتها ، بخلاف أصالة البراءة ، فإنّ موردها هو الفعل بعد التّشريع والتّقنين.

وإن شئت ، فقل : إنّ موضوع أصالة الحظر هو الفعل المتيقّن بأنّه لم يجعل له حكم شرعيّ بعد ، وأمّا أصالة البراءة فموضوعها هو الفعل المشكوك حكمه ، فلا ملازمة بين المسألتين ، ونتيجة ذلك ، هو أنّ القول بالحظر هناك لا يستلزم القول بالاحتياط هنا ، كما أنّ القول بالبراءة هنا لا يستلزم القول بالإباحة هناك.

وثانيا : أنّ أصالة الحظر هناك ليست بمسلّمة ، كيف ، وقد قال جمع من الجهابذة : بأصالة الإباحة ، وتوقّف جمع آخر في المسألة.

وثالثا : أنّ مع وجود الأدلّة المرخّصة الدّالّة على البراءة في الشّبهات البدويّة ، لا يبقى المجال للقول بالحظر ونفي الإباحة فيها.

الوجه الثّالث : أنّ المكلّف البالغ يعلم إجمالا بتكاليف إلزاميّة ، ايجابيّة أو

٣٣٦

تحريميّة ، والعلم الإجماليّ ينجّز تلك التّكاليف الواقعيّة عند الإصابة ، ومقتضى ذلك ، وجوب الاحتياط في الشّبهات مطلقا ، إلّا إذا انحلّ العلم الإجماليّ لقيام حجّة معتبرة على ثبوت التّكليف أو نفيه في بعض أطرافه بالمطابقة أو بالالتزام ، كقيامها ـ مثلا ـ على وجوب صلاة الجمعة ، أو على عدم وجوب صلاة الظّهر عند دوران الأمر بين وجوب هذه أو تلك ، والمفروض ، أنّه لا تقوم الحجّة في المقام على نفي التّكليف في بعض أطراف العلم الإجماليّ ، لا بالمطابقة ، كما هو واضح ، ولا بالالتزام ؛ إذ الأمارات القائمة على ثبوت التّكاليف في بعض الأطراف ليس لها إلّا لسان الإثبات ، لا النّفي ، بمعنى : أنّ مقتضى قيام الأمارات على أحكام في موارد خاصّة هو ثبوتها فيها فقط ، لا نفي ثبوت أحكام اخرى عن غير تلك الموارد ، فإذا لا ينحلّ العلم الإجماليّ المتعلّق بتكاليف الزاميّة ، بل يبقى التّنجيز على حاله ، ومعه يجب الاحتياط في الشّبهات.

وفيه : أنّ انحلال العلم الإجماليّ في المقام وإن وقع فيه خلاف بين الأعلام ، إلّا أنّ الحقّ هو الانحلال وعدم وجوب الاحتياط فيه.

توضيح ذلك : أنّ لانحلال العلم الإجماليّ موردين : أحدهما : ما اتّفق الأعلام عليه وهو مورد العلم بانطباق المعلوم بالتّفصيل على المعلوم بالإجمال ، بحيث يصير ما علم إجمالا عين ما علم تفصيلا ، سواء كان في البين علم إجماليّ واحد ـ نظير ما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الكأسين ، فقامت البيّنة على أنّ النّجس المعلوم بالإجمال هو هذا الإناء ـ أو كان في البين علمان إجماليّان ، أحدهما أكبر من الآخر ، وعلم أنّ ما هو المعلوم بالإجمال في الأكبر هو عين ما علم كذلك في الآخر ، نظير ما إذا علم إجمالا بوجود خمس شياة مغصوبة في قطيع من الغنم ، ثمّ علم كذلك بوجود

٣٣٧

خمس شياة مغصوبة في جملة السّود من هذا القطيع ، وقامت البيّنة على أنّ هذه الخمس الموجودة في السّود عين تلك الخمس الّتي كانت معلومة إجمالا في كلّ القطيع من السّود والبيض ، ففي هذا المورد ، لا كلام في أنّ العلم الإجماليّ منحلّ إلى العلم التّفصيليّ والشّكّ البدويّ.

ثانيهما : ما اختلف الأعلام فيه وهو مورد احتمال انطباق المعلوم بالتّفصيل على المعلوم بالإجمال ، نظير ما إذا قامت البيّنة على نجاسة أحد الكأسين المشتبهين من دون الدّلالة على أنّه عين ما علم نجاسته إجمالا ، بل يحتمل كون هذا المعلوم بالتّفصيل هو عين النّجس المعلوم بالإجمال.

وكذا نظير ما إذا قامت البيّنة على وجود خمس شياة مغصوبة في جملة السّود بلا دلالة على أنّ هذه الخمس هو عين الخمس المعلوم بالإجمال في كلّ الغنائم من السّود والبيض ، بل يحتمل كونه كذلك ، ففي هذا المورد وإن كان انحلال العلم الإجماليّ موردا للخلاف ، إلّا أنّ الحقّ هو الانحلال ؛ وذلك ، لأنّ المعيار في بقاء العلم الإجماليّ أن تكون هناك قضيّة منفصلة حقيقيّة ، نظير هذا نجس أو ذاك نجس ، ونظير هذا حرام أو ذاك حرام.

ومن المعلوم : أنّه مع العلم بانطباق المعلوم بالتّفصيل على المعلوم بالإجمال ، أو احتمال انطباقه ، لا تبقى تلك القضيّة على حالها ، بل تنقلب إلى حمليّتين : إحداهما : حمليّة بتّيّة ؛ والاخرى : حمليّة مشكوكة ، فيقال : هذا نجس بلا كلام ، وذاك مشكوك النّجاسة ، أو هذا حرام كذلك ، وذاك مشكوك الحرمة.

إذا عرفت هذا التّوضيح ، فنقول : إنّ المقام كان من قبيل احتمال الانطباق ،

٣٣٨

فينحلّ فيه العلم الإجماليّ ـ أيضا ـ إذ مع احتمال انطباق ما هو المعلوم بالإجمال من المحرّمات في دائرة العلم الإجماليّ الكبير ، على المحرّمات الكثيرة المستفادة من الطّرق والأمارات المعتبرة ، يزول العلم الإجماليّ عن لوح النّفس وينتفي التّرديد قطعا ، فينقلب القضيّة المنفصلة المردّدة إلى حمليّة بتّيّة ومشكوكة ، فيعلم تفصيلا بحرمة امور دلّت على حرمتها الأمارات المعتبرة ، ويشكّ في حرمة ما عداها شكّا بدويّا تجري في مورده البراءة. هذا مجمل الكلام في المقام ، وسنبحث عن مسألة الانحلال في مبحث الاشتغال بوجه مبسوط ، إن شاء الله تبارك وتعالى.

قد يقال : إنّ العلم التّفصيليّ في المقام ، لكونه حادثا متأخّرا عن العلم الإجماليّ ، لا يسعه أن يرفع أثره المترتّب عليه قبل حدوث هذا العلم وإن أوجب زوال نفس العلم الإجماليّ وانحلاله بانقلاب القضيّة المنفصلة إلى حمليّة بتّيّة وحمليّة مشكوكة ، نظير حدوث الاضطرار بأحد الطّرفين بعد العلم الإجماليّ ، أو خروجه عن محلّ الابتلاء كذلك ، حيث إنّ الاضطرار والخروج عن محلّ الابتلاء لا يؤثّران في رفع التّكليف عن الطّرف الآخر المبتلى به ، أو غير المضطرّ إليه ، بل يجب الاجتناب عن ذلك الطّرف ، والمقام نظير ما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الكأسين أو الثّوبين ، ثمّ علم تفصيلا بنجاسة الكأس الأبيض أو الثّوب الأخضر ـ مثلا ـ فالعلم الإجماليّ وإن انحلّ حينئذ قطعا ، لكنّه لكونه سابقا على العلم التّفصيليّ أثّر أثره ونجّز التّكليف قبله ، فيكون الكأس أو الثّوب الآخر ، واجب الاجتناب فعلا ـ أيضا ـ كما كان كذلك قبلا.

وبالجملة : إنّ المقام وإن كان ممّا علم فيه تفصيلا بأحكام خاصّة في موارد خاصّة بالوقوف على الطّرق والأمارات المعتبرة ، لكن هذا العلم التّفصيليّ لتأخّره عن

٣٣٩

العلم الإجماليّ ، لا يسعه أن يزيل أثره ويرفع التّنجيز بالنّسبة إلى ما في غير موارد الطّرق والأمارات من الأحكام والتّكاليف ، فيجب الاحتياط وترك المشتبهات بأثرها.

وفيه : أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ فيما إذا كان العلم التّفصيليّ وما يتعلّق به من المعلوم تفصيلا كلاهما حادثين متأخّرين ، كما اشير في المثال المتقدّم ، وفي موارد الخروج عن محلّ الابتلاء وطروّ الاضطرار ، وأمّا إذا كان العلم التّفصيليّ ، وكذا المعلوم تفصيلا متقدّمين على العلم الإجماليّ أو مقارنين له ، فلا ريب ، أنّ هذا العلم التّفصيليّ كاشف عن عدم الحقيقة والواقعيّة لذلك العلم الإجماليّ ، بل كان زعميّا صوريّا وجهلا مركّبا ، نظير ما إذا علم يوم الأحد بنجاسة أحد الكأسين ، ثمّ علم يوم الإثنين بأنّ الكأس الأبيض ـ مثلا ـ كان نجسا يوم السّبت أو يوم الأحد ، فهذا العلم التّفصيليّ يوجب انحلال العلم الإجماليّ ورفع أثره رأسا ، بل يكشف عن عدم انعقاده إلّا زعميّا صوريّا وجهلا تركّبيّا ، بحيث لو كان عالما بنجاسته تفصيلا في ذلك الزّمان لما حصل له علم إجماليّ أصلا ، والمقام من هذا القبيل ، كما لا يخفى.

أضف إلى ذلك كلّه ، أنّ العلم الإجماليّ لو كان موجبا للاحتياط في الشّبهات الحكميّة التّحريميّة ، لكان موجبا له في الوجوبيّة والموضوعيّة مطلقا ، مع أنّ الأخباري لا يقول به فإذا يكون استدلاله بالعقل منقوض بما ذكر.

«خاتمة»

ينبغي الإشارة في ختام البحث إلى امور متعلّقة بالمقام :

٣٤٠