مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

ومنها : رواية حريز ، قال : «كانت لإسماعيل بن أبي عبد الله عليه‌السلام دنانير وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن ، فقال إسماعيل : ... أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا بنيّ! أما بلغك أنّه يشرب الخمر ، فقال إسماعيل : هكذا يقول النّاس ... فقال عليه‌السلام يا بنيّ! إنّ الله عزوجل يقول في كتابه : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقول : يصدّق الله ويصدّق للمؤمنين ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم ، ولا تأتمن على شارب الخمر ، إنّ الله عزوجل يقول في كتابه : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) فأيّ سفيه أسفه من شارب الخمر! ...» (١).

فالإنصاف : يقتضي عدم الحكم بظهور الأخبار المذكورة في النّهي عن العمل بظاهر الكتاب بعد الفحص والتّتبع في سائر الأدلّة ، خصوصا الرّوايات الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام.

ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «إنّ إنكار وجود الظّواهر في الآيات القرآنية خلاف الوجدان ؛ إذ فيه آيات كثيرة ظاهرة في المقصود غاية الظّهور. نعم ، لا يجوز الأخذ بظهور الكتاب إلّا بعد الفحص عن المخصّص والمقيّد ونحوهما ، وهذا أمر آخر ، لا يرجع إلى إنكار حجّيّة ظهوره ، بل يؤكّدها ، كما لا يخفى» (٢).

هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل من الاستدلال على مقالة الأخباري.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٣ ، كتاب التّجارة والوصيّة ، الباب ٦ من أبواب أحكام الوديعة ، الحديث ١ ، ص ٢٣٠.

(٢) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

٢٠١

الوجه الثّاني : دعوى احتواء القرآن على مطالب غامضة ومضامين شامخة بحيث لا يكاد تصل إليها أيدي الأعالي ، فضلا عن الاوساط والأداني.

وربما يستشهد لهذا الوجه ـ أيضا ـ برواية عبد الرّحمن بن الحجّاج ، قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ليس شيء أبعد من عقول الرّجال عن القرآن» (١).

ورواية جابر ، قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا جابر! إنّ للقرآن بطنا ، وللبطن ظهرا ، وليس شيء أبعد من عقول الرّجال منه ، إنّ الآية لينزل أوّلها في شيء ، وأوسطها في شيء ، وآخرها في شيء ، وهو كلام متصرّف على وجوه» (٢).

هذا الوجه ـ أيضا ـ كالوجه السّابق يرجع إلى إنكار الصّغرى وأصل ظهور الكتاب ، ولكن ضعفه واضح ؛ إذ مضافا إلى ما عرفت في ردّ الوجه الأوّل وإبطاله ، أنّ اشتمال القرآن على الغوامض والمعاني العالية ، لا ينافي ظهور آيات ظاهرة في الأحكام من الأوامر والنّواهي.

ولقد أجاد السّيّد البروجردي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال ، ما حاصله : إنّ اشتمال المذكور وإن كان مسلّما ، إلّا أنّه لكونه كتاب الإرشاد والهداية انزل على وجه يفيد تلك المطالب العالية لمن عرف اللّغة العربيّة ، والقياس بكلمات الأوائل قياس مع الفارق ، لكون كتبهم كتبا علميّة محضة ، ليست للإرشاد والهداية ، بخلاف كتاب الله عزوجل ، فإنّه كتاب انزل للإرشاد والهداية ولبيان صلاح الامّة وفساد العامّة. (٣)

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٣ ، ص ١٤٩.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٤ ، ص ١٥٠.

(٣) راجع ، نهاية الاصول : ص ٤٨٠ و ٤٨١.

٢٠٢

الوجه الثّالث : دعوى اشتمال الكتاب للمتشابه الّذي ورد المنع عن اتّباعه. وواضح ، أنّ المتشابه شامل للظّاهر ـ أيضا ـ ولا أقلّ من احتمال شموله لتشابه المتشابه وإجماله.

توضيح ذلك : أنّ الله تعالى منع ونهى عن اتّباع المتشابه بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ)(١) والمراد من المتشابه هو ما يحتمل فيه الخلاف مقابل المحكم وهو النّص الّذي لا يحتمل فيه الخلاف أصلا ولو كان ضعيفا.

وعليه : فالظّاهر الّذي يحتمل فيه الخلاف ولو كان ضعيفا ، مشمول للمتشابه ولا أقلّ من احتمال ذلك ، واندراج الظّاهر تحته باعتبار تشابه المتشابه وإجماله وكونه غير ظاهر المراد ، فيشكّ في حجّيّة الظّاهر ، وقد مضى في مبحث تأسيس الأصل ، أنّ مقتضاه عدم جواز العمل بما هو مشكوك الحجّيّة.

هذا الوجه ، كما ترى ، يرجع إلى منع الكبرى ، وإنكار حجّيّة ظهور الكتاب ، وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني قدس‌سره بقوله : «أمّا الثّالثة ، فللمنع عن كون الظّاهر من المتشابه ، فإنّ الظّاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل وليس بمتشابه ومجمل» (٢).

وفيه : أوّلا : أنّه يلزم على هذا المعنى أن يكون المحكم المقابل للمتشابه ، بمعنى المبيّن بقرينة المقابلة في قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)(٣) فيندرج الظّاهر كالنّص تحت عنوان المحكم المبيّن ، لا تحت المتشابه

__________________

(١) سورة آل عمران (٣) ، الآية ٧.

(٢) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٦١.

(٣) سورة آل عمران (٣) ، الآية ٧.

٢٠٣

المبهم المجمل ، وهذا باطل ، والوجه فيه ـ كما أفاده العلّامة الطّباطبائي قدس‌سره (١) ـ أنّ خصوصيّة المحكم ليست وضوح ظاهره وبيانه ، بل إحكامه ، ولذا وصف الله تعالى في الآية المتقدّمة بأنّ المحكمات أمّ الكتاب ، والامّ ، بمعنى : المرجع ، فتكون المحكمات تامّة في نفسها ترجع إليها بقيّة الآيات ممّا لا إحكام ولا ثبات في ظاهرها.

وثانيا : أنّ ظاهر القرآن ليس ممنوعا اتّباعه ، خصوصا بالنّظر إلى ما عرفت في الجواب عن الوجه الأوّل : من أنّ الأئمّة عليهم‌السلام أرجعوا النّاس إلى الكتاب بعرض الأخبار المتعارضة عليه ، وقد أمروا بطرح ما هو المخالف له. وواضح ، أنّ المقصود من المخالفة هو كون الرّواية مخالفا لظاهر الكتاب لا نصّه.

وثالثا : أنّه ورد عنهم عليهم‌السلام في موارد خاصّة ، أخبار دالّة على جواز التّمسّك بظاهر القرآن ، وقد تقدّم ذكر هذه الأخبار ، فراجع.

الوجه الرّابع : دعوى أنّ القرآن وإن كان ظاهرا بالذّات ، إلّا أنّه صار مجملا بالعرض ؛ للعلم الإجماليّ بطروّ التّخصيص والتّقييد والتّجوّز في غير واحد من ظواهر القرآن. وعليه : فتكون ظواهره مجملات حكما ؛ لمانعيّة العلم الإجماليّ المذكور عن العمل بها.

هذا الوجه ـ أيضا ـ كالوجه السّابق ممّا يرجع إلى إنكار الكبرى.

وفيه : أنّا لا ننكر هذا العلم الإجماليّ ، إلّا أنّه لا يقتضي سقوط الظّاهر عن الحجّيّة بالمرّة ، بل يوجب الفحص عن المخصّص والمقيّد والقرينة ، ونحن لم ندّع حجّيّة الظّواهر وجواز العمل بها بلا فحص ومراجعة ، بل نقول بها بعده ، كما هو الشّأن في

__________________

(١) راجع ، حاشية الكفاية : ص ٢٠٧ و ٢٠٨.

٢٠٤

العمل بالسّنّة ؛ إذ العلم الإجماليّ المذكور ، موجود فيها ـ أيضا ـ بلا شبهة.

ومن المعلوم : أنّ متعلّق العلم الإجماليّ ليس مردّدا بين مطلق الأمارات حتّى لا ينحلّ بمقدار ما نجده فيما بأيدينا من الأخبار ، بل يكون مردّدا بين ما بأيدينا من الأمارات ، بحيث لو تفحّصنا عنه في هذه الدّائرة لظفر نابه البتّة ، فإذا تفحّصنا في الأخبار ولم نجد فيها مخصّصا أو مقيّدا أو قرينة على تجوّز ، علمنا أنّه لم يكن من أطراف العلم الإجماليّ ، فنتمسّك بظاهر القرآن حينئذ بلا إشكال.

ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «إنّ العلم الإجمالي الكبير بوجود التّخصيص ونحوه في الواقع ونفس الأمر وفي دائرة مطلق الأمارات ، مقرون بعلم إجماليّ صغير وهو العلم بالتّخصيص ونحوه ، في دائرة ما بأيدينا من الأمارات ، بحيث لو تفحّصنا عنه لظفر نابه ، فينحلّ ذاك الكبير بهذا الصّغير.

وإن شئت ، فقل : إنّا نقطع بأنّ المخصّصات والمقيّدات والقرائن على التّجوّزات المخالفة للظّواهر ، تكون موجودة في ما بأيدينا من الأخبار والرّوايات بحيث لو تفحّصنا عنها لظفرنا بها ، وأمّا وجود مخصّصات ونحوها في الواقع غير واصلة إلينا ، فلا علم لنا به ، لا تفصيلا ولا إجمالا. وعليه : فلا يجب الفحص إلّا في دائرة العلم الإجماليّ الصّغير الّذي ينحلّ به العلم الإجماليّ الكبير ، وحينئذ ينطبق المعلوم بالاجمال ، بعد الفحص والظّفر ، على وجود المخالف ، ويتعيّن هو بهذا المقدار ، فينتهي أمر العلم الإجماليّ إلى الانحلال ، وتجري الاصول اللّفظيّة من أصالة العموم والإطلاق والحقيقة ، في غير مورد الظّفر بالمخالفة ، بلا منع وشبهة» (١).

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

٢٠٥

الوجه الخامس : دعوى أنّ الأخبار النّاهية عن التّفسير بالرّأي ، شاملة لحمل الكلام الظّاهر في معنى ، على إرادة ذلك المعنى ، وهذه الأخبار متواترة كثيرة :

منها : ما عن الصّادق عليه‌السلام عن آبائه : «إنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن على عليهما‌السلام ، يسألونه عن «الصّمد» فكتب عليه‌السلام إليهم ، بسم الله الرّحمن الرّحيم. أمّا بعد ، فلا تخوضوا في القرآن ، ولا تجادلوا فيه ، ولا تتكلّموا فيه بغير علم ، فإنّي سمعت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من قال في القرآن بغير علم ، فليتبوأ مقعده من النّار» (١).

ومنها : ما عن عبد الرّحمن بن السّمرة ، قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لعن الله المجادلين في دين الله على لسان سبعين نبيّا ، ومن جادل في آيات الله ، كفر ... ومن فسّر القرآن برأيه ، فقد افترى على الله الكذب ، ومن أفتى النّاس بغير علم لعنته ملائكة السّماوات والأرض ، وكلّ بدعة ضلالة ، سبيلها إلى النّار» (٢).

ومنها : ما روى العامّة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحقّ ، فقد أخطأ» (٣).

هذا الوجه ، كما ترى ، راجع إلى المنع الكبروي ـ أيضا ـ وفيه : أوّلا : أنّ حمل الظّاهر ليس من باب التّفسير ؛ إذ التّفسير عبارة عن كشف القناع ، ولا قناع لمثل الظّاهر ، كما هو واضح.

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٥ ، ص ١٤٠.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٧ ، ص ١٤٠ و ١٤١.

(٣) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٧٩ ، ص ١٥١.

٢٠٦

وثانيا : أنّ المنهي المذموم هو التّفسير بالرّأي ، الّذي معناه هو الاعتبار العقليّ الظّني الرّاجع إلى الاستحسان ، بأن يحمل المفسّر ، الآيات على خلاف ظواهرها ، أو على أحد الاحتمالات ؛ لأجل رجحانه في نظره القاصر وعقله الفاتر.

ومن المعلوم : أنّ حمل ظواهر القرآن على معانيها اللّغويّة والعرفيّة ، وكون تلك المعاني مرادات جدّيّة ، لا يعدّ تفسيرا ، ولو سلّم ذلك ، لا نسلّم أنّه يكون تفسيرا بالرّأي.

وبالجملة : أنّ المستفاد من الرّوايات النّاهية ، هو النّهي عن تفسير الآيات بالاعتبار العقليّ ، وعن حمل الآيات على خلاف ظواهرها بمجرّد مساعدة ذلك الاعتبار عليه من دون السّؤال عن العترة والآل عليهم‌السلام.

ويؤيّد ذلك ، رواية اسماعيل بن جابر ، عن الصّادق عليه‌السلام قال : «... وإنّما هلك النّاس في المتشابه ، لأنّهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء» (١).

ورواية موسى بن عقبة : «أنّ معاوية أمر الحسين عليه‌السلام أن يصعد المنبر ، فيخطب ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : نحن حزب الله الغالبون وعترته نبيّه الأقربون ، وأحد الثّقلين الّذين جعلنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثاني كتاب الله ، فيه تفصيل لكلّ شيء ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والمؤوّل علينا في تفسيره لا نتظنّى تأويله ، بل نتّبع حقائقه ... وقال عزوجل : لو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولى

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٢ ، ص ١٤٧ و ١٤٨.

٢٠٧

الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم» (١).

هذا كلّه مع ورود أخبار كثيرة آمرة بالرّجوع إلى القرآن الكريم وعرض الأخبار المتعارضة عليه ، وكذا ورود أخبار كثيرة دالّة على جواز الاستظهار واستفادة حكم الله من الآية ، كما تقدّم ذكرها.

ولا يخفى : أنّه لو لم يكن لظاهر القرآن حجّيّة ، فما معنى الأمر بالتّمسّك به ، كالتّمسّك بالعترة عليهم‌السلام ؛ ضرورة ، أنّ معنى التّمسّك ليس إلّا الأخذ والعمل ، ولا مجال لهما إلّا مع الحجّيّة.

الوجه السّادس : دعوى أنّ التّحريف واقع في القرآن فيحصل لنا العلم الإجماليّ به ؛ ومع هذا العلم لا يبقى المجال للحمل على الظّاهر والعمل به ، هذا الوجه ـ أيضا ـ ممّا يرجع إلى المنع الكبروى ، والجواب عنه ، يتوقّف على تحرير محل النّزاع في التّحريف وأنّه بأيّ معنى أو بأيّ نحو يكون مورد الكلام ومصبّ النّقض والإبرام ، فنقول : إنّ التّحريف له أنحاء مختلفة : أحدها : حمل الكلام على غير ما قصد به من المعنى الحقّ ، نظير تفسير قطع يد السّارق في قوله تعالى : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) بقطع يده عن السّرقة بإعطائه من المال ما يكفي مئونته ، مع أنّ المعنى الحقّ هو قطع الجارحة المخصوصة وإجراء حدّ السّرقة.

وهذا النّحو من التحريف المسمّى بالتّحريف المعنوي قد وقع في الكتاب والسّنّة في الأعصار الماضية ، وفي عصرنا هذا ـ أيضا ـ بل هذه شنشنة أهل البدع

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٥ ، ص ١٤٤.

٢٠٨

والمذاهب الفاسدة ، ولعلّ المراد من قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) هو هذا النّحو من التّحريف.

ثانيها : استعمال القول واللّفظ بوضعه في غير محلّه ، بمعنى : نقل اللّفظ عن موضعه الّذي ينبغي أن يوضع فيه ، إلى غيره. ولعلّ هذا النّحو من التّحريف ـ أيضا ـ هو المراد من قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ).

ثالثها : تطبيق مفاد كلام الله عزوجل على غير ما هو مراده تعالى ، كتطبيق قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) على أشقى الأشقياء وهو عبد الرّحمن بن ملجم المرادي ، وكتطبيق قوله عزوجل (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) على سيّد الموحّدين أمير المؤمنين عليه‌السلام ، مع أنّه سبحانه تعالى أراد عكس ذلك.

وهذا النّحو من التّحريف قد وقع كثيرا ، كما لا يخفى عليك.

رابعها : زيادة الحروف أو الحركات ، وكذا نقيصتهما مع حفظ القرآن وعدم ضياعه وإن لم يكن متميّزا في الخارج عن غيره ، نظير قوله تعالى : ملك يوم الدّين مكان (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أو قوله عزوجل : بئس لاسم الفسوق مكان (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ) وهذا النّحو من التّحريف قد وقع في القرآن قطعا ، بناء على عدم تواتر القراءات ؛ إذ على هذا يكون القرآن المنزّل ، مطابقا لإحداها ، والباقى ، إمّا زيادة أو نقيصة فيه.

هذا ما قال به بعض الأعاظم قدس‌سره (١) ، ولكنّ الحقّ ، أنّ تسمية اختلاف قراءة

__________________

(١) البيان ، ص ٢١٦.

٢٠٩

القرآن باختلاف روايته ، أولى من تسميته بالتّحريف.

خامسها : زيادة الكلمة أو الكلمتين أو نقيصتهما مع التّحفظ على نفس القرآن المنزّل ، وهذا النّحو من التّحريف قد يدلّ على وقوعه إجماع المسلمين على إحراق «عثمان» لجملة من المصاحف وأمره لولاته بحرق جميع المصاحف غير ما جمعه ؛ ضرورة ، أنّ هذا دليل على أنّ تلك المصاحف كانت مخالفة لجمعه ، وإلّا لم يكن لإحراقها وجه ، وقد حقّق في محلّه ، أنّ ما جمعه «عثمان» كان هو القرآن المنزّل على نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فيعلم ، أنّ هذا النّحو من التّحريف إنّما وقع في تلك المصاحف الّتي احرقت بأمر «عثمان» لا في القرآن الموجود بين المسلمين.

هذا ـ أيضا ـ ما قال به بعض الأعاظم قدس‌سره (١) ، وفيه : أنّ هذا النّحو من التّحريف ليس بتحريف حقيقة ، بل اختلاف في القراءة ، و «عثمان» لم يفعل إلّا وحدة القراءة ، فلم يكن هناك تنقيص أو تزييد في القرآن بكلمة أو كلمتين ، بل الاختلاف في ذلك الزّمان كان بحسب الحروف والحركات ، فيؤول هذا النّحو من التّحريف إلى النّحو الرّابع.

سادسها : زيادة آية أو سورة وكذا نقيصتهما مع التّحفظ على القرآن المنزّل ومع التّسلّم على قراءة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه.

وهذا النّحو من التّحريف وقع ـ أيضا ـ في القرآن ، كما في مورد «البسملة» ، فقد تسالم علماء الإماميّة على قراءة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لها قبل كلّ سورة ، إلّا سورة البراءة ،

__________________

(١) البيان ، ص ٢١٧.

٢١٠

ولكن اختلف علماء العامّة في كونها من القرآن أم لا ، فذهب طائفة إلى الأوّل ، وطائفة اخرى إلى الثّاني. وعليه : فقد وقع التّحريف في المنزل قطعا ، إمّا بالزّيادة أو بالنّقيصة.

وفيه : أنّ مثل ذلك ليس بتحريف ، بل هو اختلاف بين العلماء في بعض ما في القرآن هل هو جزء ، أم لا؟

سابعها : زيادة بعض ما في المصحف الّذي بأيدينا ، مع أنّه ليس من الكلام المنزل.

وهذا النّحو من التّحريف باطل ؛ لإجماع المسلمين على عدم وقوعه.

ثامنها : النّقيصة والإسقاط في نفس القرآن المنزّل.

تاسعها : التّصحيف وهي زيادة نقط القرآن أو نقيصتها أو تغيير موضع منها.

إذا عرفت تلك الأنحاء التّسعة ، فنقول : إنّ محل النّزاع ومورد النّهي والإثبات في المقام ، هو النّحو الثّامن والتّاسع من التّحريف ، فقد يقال : بوقوعه في القرآن ، كما عن بعض الأخباريين ، ولكنّ المعروف بين الامّة الإسلاميّة عدم وقوعه وهو الحقّ المختار ؛ بداهة ، أنّ القرآن الّذي بأيدينا هو نفس المنزل على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو المشهور بين علماءنا حتّى قال الصّدوق قدس‌سره : إنّه يكون من معتقدات الإماميّة ، وقد صرّح قدس‌سره جمع من الأساطين بعدم وقوعه ـ أيضا ـ كالسّيّد المرتضى والشّيخ الطّوسي والطّبرسي قدس‌سره. (١)

وبالجملة : أنّ مزعمة التّحريف بل مظلمته ، موهومة لا يساعدها العقل والنّقل ، فلا ينبغي الإطناب والإطالة في إثبات امتناعه واستحالته.

__________________

(١) وقد تعرّض العلّامة البلاغي قدس‌سره آراء الأعلام في المقام وبسط الكلام فيه بما لا يخلو من فائدة ، فراجع ، تفسير آلاء الرّحمن ، ص ٢٥ و ٢٦.

٢١١

(تتميم)

هل الاختلاف في القراءة يوجب الإخلال بحجّيّة ظهور الكتاب ، أم لا؟

والتّحقيق يقتضي أن يقال : إنّه لا كلام ، فيما إذا لم يوجب الاختلاف في القراءة اختلافا في الظّهور ، كما في كلمات : «الصّراط» و «بسطة» و «كفوا» و «ضعف» وأمثال ذلك ، إنّما الكلام فيما إذا أوجب الاختلاف فيها اختلافا في الظّهور ، بحيث ينجرّ إلى الاختلاف في الحكم ـ أيضا ـ كما في كلمة : «يطهرن» في قوله عزوجل : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)(١) فعلى قراءتها بالتّشديد تكون ظاهرة في توقّف المقاربة بعد النّقاء على وجوب الاغتسال ، وعلى قراءتها بالتّخفيف تكون ظاهرة في كفاية النّقاء وانقطاع الدّم في المقاربة ، فنقول : إنّ هنا صور ثلاث :

الاولى : فرض ثبوت تواتر القراءات ، والحكم فيها هو الجمع بين القراءتين بحمل الظّاهر على النّص أو الأظهر ، بأن يقال : إنّ قراءة التّخفيف يكون نصّا في النّقاء ، وقراءة التّشديد ظاهرا في الاغتسال ، فيحكم باستحباب الغسل وجواز المقاربة بمجرّد النّقاء ، حملا للنّص على الظّاهر ، ولو لا هذا الجمع ، فلا بدّ من التّوقّف والرّجوع إلى دليل آخر من النّص والخبر إن كان ، وإلّا فيرجع إلى الأصل العملي ، وأمّا التّرجيح في السّند ، فلا مجال له في الفرض ، كما هو واضح.

الصّورة الثّانية : فرض عدم ثبوت تواتر القراءات ، مع فرض ثبوت الملازمة بين جواز القراءة وجواز الاستدلال بكلّ قراءة.

__________________

(١) سورة البقرة (٢) ، الآية ٢٢١.

٢١٢

والحكم فيها ـ أيضا ـ هو الحكم في الصّورة الاولى.

الصّورة الثّالثة : فرض عدم ثبوت تواترها ، مع فرض عدم ثبوت الملازمة ، أيضا.

والحكم فيها هو التّوقف والرّجوع إلى العموم ، كقوله تعالى : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)(١) هذا إذا ثبت العموم في كلمة : «أنّى» وإلّا فيرجع إلى استصحاب حكم المخصّص وهو قوله عزوجل : (وَلا تَقْرَبُوهُنَ).

نعم ، لو كان في المقام نصّ دالّ على جواز المقاربة بعد النّقاء وقبل الاغتسال يؤخذ به ، ولا يرجع إلى استصحاب حكم المخصّص ؛ والنّص موجود هنا ، كما أفتى به المشهور ، على أنّ الحيض بمعنى سيلان الدّم ، والتّطهر منه يكون بمعنى الانقطاع وعدم السّيلان لا الاغتسال ؛ والتّحقيق موكول إلى محلّه.

فتحصّل : أنّ الاختلاف في القراءة الموجب للاختلاف في الظّهور ، يوجب الإخلال بجواز التّمسّك والاستدلال بالكتاب على تقدير عدم ثبوت تواتر القراءات ، وعدم ثبوت الملازمة بين جواز القراءة وجواز الاستدلال ، وأمّا على تقدير ثبوت أو ثبوت الملازمة مع فرض عدم ثبوت التّواتر ، فالاختلاف في القراءة حينئذ لا يوجب الإخلال بجواز التّمسّك والاستدلال بالكتاب ، فيقع التّعارض بين القراءتين ويقال : بالجمع بينهما بالنّهج المتقدّم إن أمكن ، وإلّا فالمرجع هو العموم أو الأصل.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك : أنّ تواتر القرآن ثابت ولا طريق إلى ثبوته إلّا التّواتر ، كما أطبق عليه المسلمون بجميع نحلهم ومذاهبهم ، وأمّا تواتر القراءات ، فالحقّ عدم

__________________

(١) سورة البقرة (٢) ، الآية ٢٢٢.

٢١٣

ثبوته وهو المعروف عند الشّيعة وجماعة من محقّقي أهل السّنّة.

ومن المعلوم : عدم التّلازم بين تواتر القرآن وتواتر القراءات ، لعدم التّنافي بين الاختلاف في كيفيّة الكلمة ، وبين الاتّفاق على أصلها ، كما أنّ الحقّ عدم حجّيّة القراءات وعدم جواز الاستدلال بها على الحكم الشّرعي ولو قيل : بجواز القراءة بكلّ واحدة من القراءات.

)تنبيهان(

الأوّل : أنّ الظّواهر بعد إثبات حجّيّتها تكون علوما عاديّة تقوم مقام العلوم الحقيقيّة ، ويكون خروجها عن أصالة حرمة التّعبّد بالظّنّ أو أصالة عدم حجّيّة الظّنّ من باب التّخصّص لا التّخصيص ؛ ولذا قلنا : بعدم تقيّد حجّيّة الظّهور ، بشيء من الظّنّ بالفعل ، أو عدم الظّنّ بالخلاف ، أو كون الشّخص مقصودا بالإفهام ، وإلّا لصحّ الاعتذار عند المخالفة بأن يقول : إنّى ما كنت ظانّا بالفعل وأنّ المراد كذا ، أو كنت ظانا بالخلاف وأنّ المراد غير هذا ، أو لم أكن مقصودا بالإفهام ، وهذا كلّه ، كما ترى ، غير مقبول عند العقلاء ، فيعلم أنّ الحجّيّة غير مقيدة بأحد هذه الامور.

نعم ، من كان عادته الاعتماد على القرائن المنفصلة ، لا نأخذ بظاهر كلامه إلّا بعد الفحص. وعليه : فلا مجال لما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره (١) من أنّ بناء العقلاء ليس على التّعبّد بالظّواهر لو لم يحصل لهم الوثوق ، وكذا لا مجال لما عنه قدس‌سره من أنّ استخراج واقع مراد المتكلّم من ظاهر كلامه ، لا يكون إلّا بعد الوثوق بأنّ الظّاهر هو المراد ،

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٤٥.

٢١٤

وعليه بناء العقلاء.

هذا كلّه مضافا إلى أنّه لو كان المدار في حجّيّة الظّهورات على الوثوق الشّخصي ، لاختلّ أمر المعاد والمعاش ، ولو كان المدار على الوثوق النّوعي فهو حاصل بلا فرق بين ما إذا تعلّق الغرض باستخراج واقع مراد المتكلّم من ظاهر كلامه ، وبين ما إذا كان الغرض هو الإلزام والالتزام بالظّواهر في مقام الحجّة والاحتجاج.

التّنبيه الثّاني : أنّ المدار في حجّيّة الظّهورات هو ظهور المركّبات ، لا المفردات ؛ إذ الكاشف عن المرام ليس إلّا الكلام بما له من النّسب والضّمائم والقرائن المقاليّة أو الحاليّة أو المقاميّة ؛ ولذا لا نأخذ بما يقتضيه وضع المفردات عند احتفاف الكلام بما يوجب الإجمال ، والإبهام في المراد والمرام. وهذا واضح لا يحتاج إلى البيان ، هذا تمام الكلام في النّحو الأوّل من أنحاء الأمارات الّتي قيل : بخروجها عن الأصل (حرمة التّعبّد بالظّنّ) وهو ظواهر الكتاب والسّنّة.

(قول اللّغوي)

النّحو الثّاني : قول اللّغوي.

اعلم ، أنّ البحث في خروج قول اللّغوي عن الأصل وكونه حجّة ، أم لا؟

بحث صغرويّ ، كما أنّ البحث السّابق (خروج ظواهر الكتاب والسّنّة عن الأصل وكونها حجّة ، أم لا؟) بحث كبرويّ.

والوجه في كون البحث في المقام صغرويّا هو أنّه متكفّل لتعيين الظّاهر ، بأنّ

٢١٥

اللّفظ الكذائي ، هل له ظهور في المعنى الكذائي ، أم لا؟ نظير لفظ : «الصّعيد» حيث يبحث فيه أنّه هل يكون ظاهرا في التّراب الخالص أو في مطلق وجه الأرض؟ ونظير صيغة الأمر والنّهي ، حيث يبحث فيها أنّها هل تكون ظاهرة في الوجوب والحرمة ، أم لا؟ ونظير كلمة : «يطهرن» حيث يبحث فيها أنّها هل تكون ظاهرة في مجرّد النّقاء من الحيض وإن لم تغتسل ، أم لا؟

والوجه في كون البحث السّابق كبرويّا ، هو أنّه متكفّل لحجّيّة الظّاهر ، بأنّ ظهور اللّفظ الكذائي في معناه ، هل هو حجّة أم لا؟

إذا عرفت ذلك ، فنقول : قد وقع الخلاف بين الأعلام في أنّه ، هل يصحّ الرّجوع إلى قول اللّغوي في تعيين الظّاهر ، أم لا؟ نسب إلى المشهور (١) حجّيّة قول اللّغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع ، ولكنّ الحقّ عدم حجّيّته ، إلّا إذا حصل منه الوثوق.

وقد استدلّ للقول بالحجّيّة بوجوه :

الأوّل : الإجماع العملي من العلماء واتّفاقهم على حجّيّة قول اللّغويّين برجوعهم إليهم في استكشاف المعنى ، واستشهادهم بقولهم في مقام الاحتجاج وقطع مادّة المخاصمة واللّجاجة ، بلا نفي وإنكار بل مع قبول واستقبال.

وفيه : أنّ عملهم بقول اللّغويّين لو سلّم ، لا يترتّب عليه فائدة ؛ إذ أوّلا : يحتمل قويّا كون عملهم لأجل حصول الاطمئنان ، لا مطلقا ، كما يحصل ذلك عند المراجعة إذا اتّفقوا على معنى من المعاني وكان من المسلّمات عندهم ، ولعلّه لذلك قال المحقّق الخراساني قدس‌سره : «إنّ الاتّفاق لو سلّم ، اتّفاقه فغير مفيد» (٢).

__________________

(١) راجع ، كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٦٥.

(٢) كفاية الاصول : ج ٢ ، ص ٦٧.

٢١٦

وثانيا : أنّ عملهم يتمّ فيما يتسامح فيه ، نظير تفسير خطبة وبيان شعر ومعنى حديث ونحوها ممّا لم يتعلّق بحكم شرعي ، وأمّا في مقام استنباط الحكم الشّرعي فلا يتمّ ، إلّا أن يحصل منه الوثوق.

الوجه الثّاني : الإجماع القولي على حجّيّة قول اللّغويّين.

وفيه : أوّلا : أنّ هذه دعوى بلا دليل ؛ إذ لا عين ولا أثر من هذا البحث في كلمات كثير من الأعلام.

وثانيا : أنّه ليس في مثل هذه المسألة إجماع تعبّدي كاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام بل هذه المسألة كمسألة حجّيّة الظّهورات أو أخبار الآحاد ، تكون من المسائل العلميّة الاصوليّة ، لا من المسائل العمليّة الفقهيّة ، فلا مجال فيها لدعوى الإجماع.

وثالثا : لو سلّم ذلك ، لكان مدركيّا أو محتمل المدركيّة ، لاحتمال استناد المجمعين إلى سائر الأدلّة الّتي اقيم على إثبات حجّيّة قول اللّغوي ، كالانسداد أو دليل حجّيّة قول الخبراء ، أو دليل حجّيّة أخبار الآحاد ، والكلّ مخدوش كما سيأتي.

الوجه الثّالث : اتّفاق العقلاء بما هم عقلاء واستقرار سيرتهم على حجّيّة قول اللّغويّين ، والمفروض ـ أيضا ـ عدم ورود ردع من جانب الشّريعة.

وفيه : أنّ الاتّفاق المذكور لو سلّم ثبوته ، لما دلّ على حجّيّة قولهم مطلقا ، بل لعلّ اتّفاقهم عليها لأجل حصول الاطمئنان والوثوق من قولهم ، ولعلّه لأجل ذلك نفى المحقّق الخراساني قدس‌سره هذا الاتّفاق ـ أيضا ـ بما تقدّم ذكره في ردّ الوجه الأوّل ، فراجع.

٢١٧

الوجه الرّابع : دليل حجّيّة خبر الواحد.

وفيه : ما سيأتي التّحقيق من عدم تماميّة هذا الدّليل ، مضافا إلى أنّ اللّغوي ليس مخبرا عن تعيين الظّاهر كي يؤخذ بقوله من باب حجّيّة خبر الواحد (بناء على حجّيّته في الموضوعات ـ أيضا ـ) بل هو من العادّين لموارد الاستعمال مجازا كان أو حقيقة.

الوجه الخامس : دليل حجّيّة قول أهل الخبرة.

وفيه : أنّ اللّغوي ليس من الخبراء في تعيين الظّواهر بالقرائن أو بالأوضاع ، بل هو ـ كما عرفت آنفا ـ ممّن يحصى موارد الاستعمال ، سواء كان حقيقيّا أو مجازيّا ، كما لا يخفى ، وليس في كتب اللّغة غير هذا ، فلو كان من أهل الخبرة لكان في هذه المرحلة فقط. اللهمّ إلّا أن يقال : الحقيقة هو الأصل في الاستعمال ، وهذا كما ترى ، ولم يقل به أحد إلّا السّيّد المرتضى قدس‌سره (١) مع أنّه يحتمل أن يكون مراده هو الاستعمال المطلق لا مطلق الاستعمال ، فتأمّل وراجع كلامه.

الوجه السّادس : الانسداد الصّغير ، بتقريب : أنّ أصل معاني اللّغات والألفاظ وإن كان معلوما في الجملة في بعض الموارد ، إلّا أنّها تكون مجهولة من حيث اتّساع دائرة انطباقها وعدم اتّساعها ، فلا بدّ من الرّجوع إلى كتب أهل اللّغة حتّى ينكشف لنا ، ما هو المراد من اللّغات الّتي تكون موضوعة لأحكام الشّرعيّة ، وإلّا لزم الرّجوع ، إمّا إلى الاحتياط ، فيلزم العسر والحرج ، أو إلى الاصول النّافية ، كالبراءة ، فيلزم الخروج عن الدّين.

__________________

(١) راجع ، الذّريعة إلى اصول الشّريعة ، ج ١ ، ص ١٣.

٢١٨

وفيه : أنّ انسداد باب العلم في بعض اللّغات والموضوعات ، إن استلزم انسداد باب العلم بمعظم الأحكام ، رجع ذلك إلى الانسداد الكبير الموجب ـ لو تمّ ـ لحجّيّة مطلق الظّن ، لا خصوص الظّنّ الحاصل من قول اللّغوي ؛ وإن استلزم انسداد باب العلم ببعض الأحكام ـ بحيث لو رجعنا فيه إلى الاحتياط أو إلى الأصل النّافي لم يلزم محذور من العسر والحرج أو الخروج من الدّين ـ لم يؤثّر شيئا ، ولم يوجب اعتبار الظّنّ أصلا.

والإنصاف : عدم الاستلزام إلّا في بعض الأحكام ، بحيث لا يلزم من الأخذ بالقواعد في ذلك البعض محذور أصلا.

ولقد أجاد شيخنا الاستاذ الآملي قدس‌سره فيما أفاده في المقام ، حيث قال : «فيه ما لا يخفى : إذ لو استلزم انسداد باب العلم بمعاني الألفاظ ، الانسداد الكبير في باب الأحكام بحيث يلزم تعطيل الدّين رأسا لو جرى الأصل النّافي كالبراءة ، أو يلزم العسر والحرج لو اخذ بالاحتياط ، فالأمر كما ذكر ، أعني : وجوب العمل بقول اللّغوي ، لكن من باب حجّيّة مطلق الظّنّ ، وإلّا فلا وجه لحجّيّة قوله والتّنزّل من العلم إلى الظّنّ في امتثال الأحكام ، بل يجري في موارد الجهل وعدم العلم من هذه النّاحية أصل البراءة بلا لزوم تعطيل في أحكام الشّريعة أو يؤخذ بالاحتياط بلا لزوم عسر وحرج» (١).

هذا كلّه مع ما عرفت من : أنّ اللّغوي ليس من خبراء تشخيص الأوضاع ومعرفة الحقائق وتمييز المجازات منها ، بل هو من أهل التّتبع والإحصاء لموارد

__________________

(١) تقريرات بحوثه قدس‌سره القيّمة بقلم الرّاقم.

٢١٩

الاستعمال والاطّلاع عليها ، إلّا بعض من له اهتمام بتشخيص الأوضاع ، ـ كما أنّ هذا إلى القاموس ينتهى ـ فلا حجّيّة حينئذ لقوله إلّا إذا حصل منه الوثوق لا مطلقا.

(تنبيه)

واعلم ، أنّ المقصود من الإحراز والوصول المعتبر في حجّيّة الظّهور ووجوب اتّباعه ، هو الأعمّ من العلم والوثوق ؛ وذلك ، لكون الوثوق علما عاديا ، فكما أنّ العلم بالوضع لو حصل من قول اللّغوي ، يكون علما بالدّلالة والظّهور ، فيوجب العلم بوجود ما هو حجّة قطعا ، كذلك الوثوق بالوضع يكون وثوقا بالدّلالة والظّهور ، فيوجب الوثوق بوجود ما هو حجّة قطعا ، وكما يجب اتّباع الحجّة المعلومة ، كذلك يجب اتّباع الحجّة الموثوق بها الّتي تكون مندرجة تحت عنوان «المعلومة» عند العرف والعقلاء ، وهذا عندي أمر واضح غاية الوضوح.

فلا مجال لاحتمال أنّ الوثوق الحاصل من قول اللّغوي يكون من الظّنّ الخارجي الموجب للظّنّ بالحكم فقط بلا كونه محرزا للظّهور ، كما لا مجال ـ أيضا ـ لما عن المحقّق النّائيني قدس‌سره من أنّ الأقوى هو أنّ الوثوق الحاصل من قول اللّغوي يكون منشأ للظّهور (١) وذلك لأن منشأ الظّهور والدّلالة في الفرض هو الوضع ، والوثوق كالعلم يكون محرزا له لا منشأ.

فتحصّل : أنّ الوثوق بالوضع وثوق بالدّلالة والظّهور ، ومعنى الوثوق بالوضع والظّهور هو كونه محرزا لهما كالعلم بهما ، لا كونه منشأ وموجبا لهما ، إذ الوثوق

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٤٤.

٢٢٠