مفتاح الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني

مفتاح الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر الصالحان
الطبعة: ١
ISBN: 964-7572-08-5
الصفحات: ٣٩٧

أمّا الإجماع ، فقد ادّعى السّيّد المرتضى قدس‌سره أنّ العمل بالخبر الواحد كان بمنزلة العمل بالقياس عند مذهب الشّيعة ، وكذا ادّعى الطّبرسي قدس‌سره أنّه لا يجوز العمل بالظّنّ عند الإماميّة إلّا في بعض الموارد. (١)

وفيه : أوّلا : أنّ هذا الإجماع كان من الإجماعات المنقولة الّتي لم تثبت حجّيّتها ، كما هو المقرّر في محلّه ؛ وثانيا : لو سلّم حجّيّة هذا الإجماع ، لكان منقولا بالخبر الواحد ، فلا يعقل التّمسّك بمثله لعدم حجّيّة الخبر الواحد ؛ بداهة ، أنّه يلزم من عدم حجّيّة الخبر الواحد عدم حجّيّة الإجماع المنقول به ؛ وثالثا : لو سلّم ذلك ، لوقع التّعارض بين هذا الإجماع ، وبين الإجماع المدّعى على حجّيّة الخبر الواحد ، كما سيأتي ؛ ورابعا : لو أغمضنا عن ذلك ، لما كان معتبرا لأجل كونه مدركيّا ، أو محتمل المدركيّة ؛ وذلك ، إمّا لاستناد المجمعين إلى الآيات والأخبار المتقدّمة أو لاحتمال استنادهم إليها. هذا كلّه في القول بعدم حجّيّة الخبر الواحد.

أمّا القول بحجّيّة الخبر الواحد ، فقد استدلّ عليه ـ أيضا ـ بالأدلّة الثّلاثة :

من الكتاب والسّنّة والإجماع.

أمّا الكتاب ، فبآيات ، أهمّها آيتان :

الاولى : آية النّبأ وهي قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ)(٢).

تقريب الاستدلال به على حجّيّة الخبر الواحد يتمّ في ضمن امور :

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٤٦.

(٢) سورة الحجرات (٤٩) ، الآية ٦.

٢٤١

الأوّل : دلالة الاقتضاء ، وقد يعبّر عنها بمناسبة الحكم والموضوع ، توضيحه : أنّ وجوب التّبيّن وعدم القبول بدونه يناسب جهة فسق المخبر حيث لا يتحرّز معه عن المعاصي الّتي منها تعمّد الكذب ، فوجب التّبيّن كي لا يتحقّق الإصابة بجهالة والإصباح بندامة ، وأمّا العدالة فإنّها حقيقة عاصمة مبعدة عن المعاصي الّتي منها تعمّد الكذب ، وقضيّة ذلك حجّيّة خبر العادل ووجوب قبوله ، ولزوم العمل على طبقه بلا حاجة إلى تبيّن واستبانة.

وبعبارة اخرى : الفسق يوجب عدم الاعتبار فيجب التّبيّن ، والعدل يوجب الاعتبار فلا يجب التّبيّن.

وفيه : أنّ الظّاهر رجوع هذا الأمر إلى الأمر الآتي وهو مفهوم الوصف وتعليق الحكم ، فيقال في مثل : أكرم العالم ، إنّ العلم ممّا يناسبه وجوب الإكرام بخلاف الجهل ، فيجب إكرام العالم ، ولا يجب إكرام الجاهل. وسيأتي إن شاء الله الرّحمن ، أنّ تعليق الحكم بالوصف لا يدلّ على العلّيّة المنحصرة. وعليه ، فالآية لا تدلّ على حجّيّة خبر الواحد العادل بطريق الاقتضاء والمناسبة.

الأمر الثّاني : مفهوم الوصف ، توضيحه : أنّ في الآية علّق وجوب التّبيّن عن النّبأ ، بوصف الفاسق ، وهذا يقتضي حسب المفهوم عدم وجوب التّبيّن عن نبأ غير الفاسق.

وفيه : أنّ مفهوم الوصف إنّما يدلّ على حجّيّة خبر العادل إذا تمّ دلالة تعليق الحكم بالوصف على العلّيّة ، فضلا عن انحصارها ؛ والحقّ عدم تماميّة ذلك ، ولو سلّم الإشعار بالعليّة ، فلا نسلّم الظّهور فيها ، ولو سلّم الظّهور فيها ، فلا نسلّم الانحصار قطعا.

٢٤٢

نعم ، تعليق الحكم بالوصف يدلّ على أنّ الحكم ليس للطّبيعة بما هي ولو كانت عن الوصف عارية ، وإلّا لزم اللّغويّة ، وهذا المقدار من المفهوم مقبول البتّة ، ولكن دلالته على كون الوصف علّة مستقلّة منحصرة ، فليست بمقبول.

وواضح : أنّ المفهوم بمعنى الانتفاء عند الانتفاء يدور مدار الانحصار في العليّة.

الأمر الثّالث : مفهوم الشّرط ، توضيحه : أنّ في الآية علّق وجوب التّبيّن عن الخبر ، على مجيء الفاسق به ، ومقتضى ذلك حسب المفهوم هو انتفاء وجوب التّبيّن عند مجيء غير الفاسق به ، وهذا معنى حجّيّة خبر العادل.

وقد أورد على هذا الاستدلال بوجهين :

الأوّل : عدم وجود المقتضي في الآية للمفهوم.

والثّاني : وجود المانع عن انعقاد المفهوم لو سلّم وجود المقتضي له.

أمّا الأوّل ، فتقريبه : أنّ الشّرط هنا كالشّرط في المثالين المعروفين وهما «إن رزقت ولدا فاختنه» ، «إن ركب الأمير فخذ ركابه» فكما أنّ الشّرط فيها إنّما سيق لبيان تحقّق الموضوع ، كذلك الشّرط في الآية ، وهذا لا يفيد إلّا انتفاء الموضوع بانتفاء الشّرط ، فينفي الحكم حينئذ من باب القضيّة السّالبة بانتفاء الموضوع.

ألا ترى ، أنّ وجوب الختان منتف قهرا عند انتفاء رزق الولد وعدم تحقّقه في الخارج ، وكذا وجوب أخذ ركاب الأمير منتف عند انتفاء ركوب الأمير وعدم تحقّقه في الخارج ، والمقام يكون من هذا القبيل ، فوجوب التّبيّن عن النّبأ منتف قهرا عند انتفاء مجيء الفاسق به ، وهذا غير المفهوم ؛ بداهة ، أنّ المفهوم إنّما يصدق في ما إذا

٢٤٣

كان الشّرط من حالات الموضوع ، لا من مقوّماته ، نظير قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، بحيث ينتفي الحكم هنا بانتفاء شرطه من باب القضيّة السّالبة بانتفاء المحمول.

وإن شئت ، فقل : إنّ الموضوع في الآية هو مجيء الفاسق بالنّبإ ، والحكم فيها هو وجوب التّبيّن ، فمع وجود الموضوع يترتّب عليه الحكم ، ومع عدمه لا يترتّب ، وهذا ليس من باب المفهوم ، بل من باب السّلب بانتفاء الموضوع ، فكأنّ الله تعالى قال : إن تحقّق نبأ الفاسق ووجد في الخارج ، يجب التّبيّن ، كما أنّ الموضوع في المثالين هو ولد المرزوق والأمير الرّاكب ، والحكم فيهما هو وجوب الختان وأخذ الرّكاب ، فمع وجود الموضوع يترتّب عليه الحكم ، ومع عدمه لا يترتّب ؛ وذلك لا يكون من باب المفهوم ، بل من باب السّلب بانتفاء الموضوع.

والضّابط ، أنّ الموضوع في القضايا الشّرطيّة لو لم يتقوّم بالشّرط ، بل يبقى مطلقا حتّى مع انتفاءه ، فالشّرط لا يكون مسوقا لبيان الموضوع ، ولا من محقّقاته حينئذ ، بل يكون من طواريه وحالاته ، نظير «إن جاءك زيد فأكرمه» حيث إنّ الموضوع هو «زيد» وله حالتان : حالة المجيء ، وحالة عدم المجيء. وعليه ، فالقضيّة الشّرطيّة تكون ذات مفهوم بناء على بعض الأقوال.

وأمّا لو تقوّم الموضوع بالشّرط وكان باقيا ببقائه وفانيا بفنائه ، فالشّرط حينئذ يكون مسوقا لبيان الموضوع ومحقّقاته ، كما في الآية. وعليه ، فلا تكون القضيّة الشّرطيّة ذات مفهوم أصلا حتّى عند القائلين بمفهوم الشّرط.

وفيه : أنّ الموضوع في الآية ـ حسب الظّاهر ـ هو النّبأ ، لا مجيء الفاسق به ، بل مجيئه به يكون شرطا للحكم الّذي هو وجوب التّبيّن عنه ، بمعنى : أنّ للنّبإ حالتين :

٢٤٤

حالة مجيء الفاسق به ، وحالة عدم مجيء الفاسق به ، كما أنّ لزيد في مثل «إن جاءك زيد» حالتين : حالة المجيء ، وحالة عدم المجيء. وعليه ، فلا يكون الشّرط في الآية مسوقا لبيان الموضوع ومن محقّقاته له ، بل يكون من حالاته.

وبعبارة اخرى : فرق واضح بين أن يكون الموضوع في الآية هو النّبأ الجائي به الفاسق ، فالشّرط إذا مسوق لبيانه ويكون من مقوّماته ؛ إذ التّقدير هكذا «إن تحقّق ووجد نبأ الفاسق في الخارج ، يجب التّبيّن عنه» فلا مجال حينئذ لأخذ المفهوم ، كما لا يخفي ؛ وبين أن يكون الموضوع نفس النّبأ ، فالشّرط وهو «مجيء الفاسق بالخبر» يكون حينئذ من حالاته ؛ إذ التّقدير هكذا «النّبأ إن جاء به الفاسق يجب التّبيّن عنه» فيفيد ـ بناء على وجود المفهوم الشّرط ـ النّبأ إن لم يجيء به الفاسق لا يجب التّبيّن عنه ، وهذا مساوق عرفا مع قولنا : «إن جاء به العادل لا يجب التّبيّن عنه» وظاهر الآية هو كون الموضوع من هذا القبيل ، خلافا للشّيخ الأنصاري قدس‌سره حيث ذهب إلى أنّ الآية ظاهر في أنّ جملة الشّرطيّة مسوقة لبيان تحقّق الموضوع. (١)

ومن هنا ظهر ضعف ما عن بعض الأعاظم قدس‌سره من جعل الاحتمال في الآية ثلاثة ، وتقوية الاحتمال الثّالث وهو كون الموضوع فيها هو الفاسق ، فقال ما هذا لفظه : «وأمّا إن كان الموضوع هو الفاسق وله حالتان ؛ لأنّ الفاسق قد يجيء بالنّبإ وقد لا يجيء به ، وعلّق وجوب التّبيّن على مجيئه بالنّبإ ، ويكون مفاد الكلام حينئذ إنّ الفاسق إن جاءكم بنبإ فتبيّنوا ، فلا دلالة للقضيّة على المفهوم ، لأنّ التّبيّن متوقّف على مجيئه بالنّبإ عقلا ، فتكون القضيّة مسوقة لبيان الموضوع ؛ إذ مع عدم مجيئه بالنّبإ كان

__________________

(١) راجع ، فرائد الاصول : ج ١ ، ص ٢٥٧.

٢٤٥

التّبيّن منتفيا بانتفاء موضوعه» (١).

وجه ظهور الضّعف ، هو أنّه لا معنى لكون وجوب التّبيّن حكما للفاسق ، فلا يصحّ أن يقال : يجب التّبيّن عن الفاسق ، بل هو حكم لخصوص النّبأ والخبر ، لكن لا مطلقا ، بل على تقدير كون الجائي به هو الفاسق لا غيره ، كما أنّ الموضوع لحكم وجوب التّصدّق في المثال الّذي أشار إليه بعض الأعاظم قدس‌سره بقوله : «إن أعطاك زيد درهما فتصدّق به» هو الدّرهم لا زيد ، فيصير المعنى هو أنّه يجب عليك التّصدّق بالدّرهم لكن على تقدير إعطاء زيد إيّاك ، لا مطلقا ، فلا معنى لكون وجوب التّصدّق حكما لزيد ولا يصحّ أن يقال : زيد يجب التّصدّق به ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا : إن جاءك زيد ، فأكرمه ، فإنّ وجوب الإكرام يكون حكما لزيد ، فيصحّ أن يقال : زيد يجب إكرامه ، أو واجب الإكرام.

فتحصّل : أنّ دلالة الآية على المفهوم وهو عدم وجوب التّبيّن عن النّبأ على تقدير عدم مجيء الفاسق به ، تكون تامّة غير قاصرة ، فلا مجال لمنع المقتضي للدّلالة والقول بالقصور من هذه النّاحية. هذا كلّه في الوجه الأوّل من الإيراد على الآية (عدم وجود المقتضي لأخذ المفهوم) والرّد عليه.

أمّا الوجه الثّاني (وجود المانع عن انعقاد المفهوم) فتقريبه : أنّ المفهوم لو سلّم انعقاده ، يعارضه عموم التّعليل ـ في ذيل الآية ـ بإصابة القوم بجهالة ، بناء على كون الجهالة ، بمعنى : عدم العلم بالواقع المشترك بين العادل والفاسق.

وجه المعارضة هو أنّ مقتضى المفهوم على ما قرّر آنفا ، عدم وجوب التّبيّن

__________________

(١) مصباح الاصول : ج ٢ ، ص ١٦١.

٢٤٦

بالنّسبة إلى ما أخبره العادل ، ونتيجة ذلك ، هو حجّيّة خبره ، ولكن مقتضى التّعليل في الذّيل ، وجوب التّبيّن بالنّسبة إلى كلّ خبر لا يؤمن الوقوع في النّدم من العمل به ، بلا فرق بين أن يكون المخبر عادلا أو فاسقا ، ونتيجة ذلك ، هو عدم حجّيّة خبر العادل ـ أيضا ـ فيقع التّعارض بينهما ، وحيث كان التّرجيح إذا مع ظهور التّعليل ، فيمنع عن اقتضاء الآية لأخذ المفهوم.

هذا ، ولكن قد يقال : في دفع هذا الإيراد ، بأنّ النّسبة بين المفهوم والعلّة ، عموم مطلقا ؛ وذلك ، لانحصار المفهوم في حجّيّة خبر العدل الّذي لا يفيد العلم ، فهو أخصّ مطلقا ، والعلّة تعمّ كلّ ما لا يفيد العلم من خبر العدل وغيره ، فهو أعمّ مطلقا ، فيخصّص بالمفهوم وينتج حجّيّة خبر العدل بلا شبهة.

وفيه : أنّ تقديم الأخصّ ـ وإن كان مفهوما ـ على الأعمّ ـ وإن كان منطوقا ـ وحمل الأعمّ عليه بتخصيصه به ، أمر مسلّم ، إلّا أنّه يتمّ في فرض ثبوت المفهوم الاخصّ ، وقد عرفت : أنّ اقتران المنطوق في الآية بالعلّة ، مانع عن تحقّق المفهوم الأخصّ البتّة.

وإن شئت ، فقل : إنّه لا مفهوم في البين حتّى يقع التّعارض بينه وبين عموم العلّة حتّى يعالج بجعل النّسبة بينهما عموما مطلقا فيخصّص عام العلّة بخاصّ المفهوم.

والتّحقيق : يقتضي أن يقال : في دفع ذلك الإيراد ، بأنّ عموم التّعليل ومنعه عن حصول المفهوم إنّما يتأتّى بناء على كون المراد من الجهالة هو الجهل وعدم العلم بالواقع المشترك بين خبر العادل والفاسق ، وأمّا بناء على كون المراد منها هي السّفاهة الّتي يقابل البصيرة والتّثبّت والتّأمّل ، فلا يمنع عموم التّعليل عن حصول

٢٤٧

المفهوم ، والمفروض أنّ الجهالة في الآية إنّما هي بمعنى : السّفاهة لا الجهل.

كيف ، وأنّها لو كانت بمعنى : الجهل ، لزم تخصيص الحكم بما ثبتت حجّيّته شرعا واعتباره عرفا وعقلاء ولو لم يكن علما ، نظير فتوى الفقيه ورأي الخبير وشهادة البيّنة وظواهر الكتاب والسّنّة وغير ذلك من الأمارات المعتبرة ، واللازم باطل قطعا ؛ والملزوم مثله ، وجه بطلان اللّازم هو أنّ سياق الآية آب عن التّخصيص ؛ وأنّه يلزم تخصيص الأكثر البتّة.

وبالجملة : الجهالة يكون بمعنى : الجهل الّذي يقابل العقل والحكمة ، لا العلم والمعرفة ، وقد يعبّر عنها بالسّفاهة ، وإلى هذا المعنى اشير في الآيات القرآنيّة ، كقوله تعالى : (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(١) وقوله عزوجل : (إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ)(٢) وقوله جلّ جلاله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)(٣).

هذا ، ولكن قد استشكل (٤) على كون معنى الجهالة هي السّفاهة ، بأنّه لو كان كذلك لما عمل أصحاب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهم عقلاء ـ بخبر الوليد الفاسق مع أنّهم عملوا به ورتّبوا عليه الأثر ، كما عن الطّبرسي قدس‌سره حيث قال : «قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ،) نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدقات بني المصطلق ، فخرجوا يتلقّونه فرحا به وكانت بينهم عداوة في الجاهليّة ، فظنّ أنّهم همّوا

__________________

(١) سورة الأعراف (٧) ، الآية ١٣٨.

(٢) سورة هود (١١) ، الآية ٢٩.

(٣) سورة الفرقان (٢٥) ، الآية ٦٣.

(٤) فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٧٢.

٢٤٨

بقتله ، فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إنّهم منعوا صدقاتهم ، وكان الأمر بخلافه ، وغضب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهمّ أن يغزوهم ، فنزلت الآية» (١).

وقد أجيب عنه ، أوّلا : بأنّه لم يثبت من طرقنا أنّ الأصحاب عملوا بخبر الوليد ؛ وثانيا : بأنّه لو سلّم ذلك ، لم يكن عملهم مع التّرديد والتّشكيك في ارتداد الوليد ، بل لعلّهم كانوا عالمين معتقدين بوثاقته وعدالته ، أو كانوا غافلين في تلك الحال عن فسقه وخروجه عن حريم العدالة ، ولذا اعتمدوا على خبره وأرادوا تجهيز الجيش على قتال بني المصطلق.

وفيه : أنّ المذكور في القصّة على ما حكاها المفسّرون ومنهم الطّبرسي قدس‌سره هو أنّ شخص الوليد رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إنّهم منعوا صدقاتهم ، مع أنّ الأمر خلاف ذلك ، فغضب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهمّ أن يغزوهم ، وأنت ترى ، أنّه لا عين ولا أثر في القصّة ، من عمل الأصحاب بخبر الوليد حتّى يشكل بأنّ الأصحاب الّذين هم عقلاء كيف عملوا بخبره ، مع أنّ العمل به بلا تبيّن يكون جهالة وسفاهة. ويجاب عنه ، بأنّ عملهم كان إمّا لأجل اعتقادهم بعدالته ، أو لغفلتهم عن فسقه ، بل القصّة صريحة في كون الوليد مبعوثا إلى بني المصطلق من جانب نبيّ الرّحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ شخصه رجع إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بارتدادهم بمنع صدقاتهم.

لا يقال : كيف أرسل الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل هذا الشّخص الفاسق لأخذ الصّدقات وجعله وكيلا لنفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذه العمليّة الّتي تحتاج إلى كون العامل لها شخصا أمينا موثّقا.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ١٣٢.

٢٤٩

لأنّه يقال : إنّ القضيّة شخصيّة خارجيّة لا تعلم بجميع أبعادها وخصوصيّاتها ، إلّا أنّ أصل نزول الآية المباركة في قصّة الوليد ، أمر مسلّم ويكون مستفيضا من طرق الفريقين.

وكيف كان ، ظاهر القصّة يقتضي همّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للغزو مع بني المصطلق ، ولكن ظاهر الآية يقتضي همّ الأصحاب لذلك ، ولعلّ أساطين الاصول الّذين تصدّوا لجواب الإشكال المقدّم ، نظروا إلى ظاهر الآية ولم يعتمدوا إلى مقتضي القصّة المذكورة ، ولعلّ القصّة بنظرهم مجعولة لتنزيه الوليد وتطهيره من الفسق والخباثة.

ثمّ إنّ المحقّق النّائيني قدس‌سره قد أنكر المعارضة بين المفهوم وبين عموم التّعليل حتّى في فرض كون الجهالة بمعنى : الجهل المقابل للعلم ، لا بمعنى السّفاهة ؛ وذلك ، لا لأجل تخصيص مفهوم الجملة الشّرطيّة لعموم العلّة كي يقال : بإبائه عن التّخصيص بالمرّة ، بل لأجل حكومة المفهوم على عموم العلّة ، نظرا إلى أنّ عموم العلّة يقتضي عدم جواز العمل بغير العلم ، والمفهوم يقتضي كون خبر العدل علما تعبّدا وتشريعا ، فيكون العموم محكوما للمفهوم. ومن المعلوم ، أنّ المحكوم ولو كان أظهر أو كانت النّسبة بينه وبين الحاكم عموما من وجه ، لا يعارض الحاكم المتصرّف في عقد وضعه بالتّوسعة والإدراج ، أو بالتّضيق والإخراج ، كالمفهوم في الآية المضيّق لموضوع عام العلّة والمخرج لخبر العادل عنه بجعله علما تعبّدا وتشريعا. (١)

هذا ، ولكن يورد عليه : بأنّ معنى الحكومة هو النّظر والشّرح ، بالتّوسعة أو

__________________

(١) راجع ، فوائد الاصول : ج ٣ ، ص ١٧٢ و ١٧٣.

٢٥٠

التّضييق في الموضوع بلحاظ ما له من الأثر والحكم في الدّليل المحكوم ، بمعنى : أنّ دليل الحاكم ، تارة يثبت ذلك الأثر لغير موضوعه ـ أيضا ـ بلسان إثبات الموضوع ، نظير «الطّوف بالبيت صلاة» ، فتوجب التّوسعة لدائرة الموضوع وإدراج غيره فيه ؛ واخرى ينفيه عن بعض مصاديق الموضوع بلسان نفي الموضوع ، نظير «لا ربابين الوالد والولد» فيوجب التّضيق لدائرة الموضوع وإخراج بعض مصاديقه عنه ، فإذا لا تنطبق الحكومة على المفهوم بالنّسبة إلى عموم العلّة ؛ إذ عرفت : أنّ المستفاد في مورد الحكومة هو إثبات الموضوع أو نفيه أوّلا ، ثمّ إثبات الحكم أو نفيه ثانيا ؛ والأمر في الآية على العكس ؛ لأنّ المستفاد من منطوق الآية أوّلا : هو وجوب التّبيّن عن خبر الفاسق ؛ وثانيا : عدم اعتباره شرعا ، فيكون مفاد المفهوم أوّلا : عدم وجوب التّبيّن عن خبر العادل ؛ وثانيا : اعتباره علما شرعا ، فإذا يكون المفهوم مخصّصا لعموم العلّة ، لا حاكما عليه. وقد علمت : أنّ التّخصيص ممّا يأباه عموم التّعليل ، فيعود محذور المعارضة ومنع عموم التّعليل عن انعقاد المفهوم.

وقد ظهر ممّا ذكرناه ، أنّ الجواب الصّحيح عن إيراد المعارضة هو ما أشرنا سابقا ، من أنّ معنى : الجهالة هي السّفاهة ، لا الجهل وعدم العلم بالواقع كي يوجب عدم الفرق بين خبر العادل والفاسق في وجوب التّبيّن.

هذا ، ولكن الّذي يسهّل الخطب ، أنّ الآية ليست في مقام بيان أنّ «خبر كذا» حجّة و «خبر كذا» ليس بحجّة ، بل تكون ناظرة إلى النبأ والخبر الخطير المهمّ الّذي لا ينبغي في مثله الإقدام والاقتحام بلا تثبّت ورويّة ، بل لا بدّ فيه من التّبيّن كي لا يلزم الإصابة بالجهالة والإصباح بالنّدامة ، وهذا لا فرق فيه بين الفاسق والعادل بلا شبهة ،

٢٥١

وأمّا تخصيص الفاسق بالذّكر ، فلأجل التّنبيه على فسق الوليد البتّة.

ويشهد على كون معنى النّبأ هو الخبر الخطير ، قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ)(١) وقوله عزوجل : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)(٢) وقوله جلّ جلاله : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)(٣)

فتحصّل : أنّ آية النّبأ لا تدلّ على حجّيّة الخبر الواحد ، أو لا تكون ظاهرة في حجّيّته ظهورا قويّا مطمئنّا يحتجّ به عند المخاصمة والمحاجّة سيّما مع اشتمال الآية على كلمتين وهما : «التّبيّن» و «النّبأ» فليست الآية «إن أخبركم فاسق» أو «إن حدّثكم فاسق» بل هي : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ومعناه : «إن جاءكم بأمر خطير مهمّ» بحيث لو كان لبان ، فكأنّ هذا الخبر جاء من عند نفس الفاسق أو كأنّه اختلقه ، ولا ريب ، أنّ مثل ذلك يحتاج إلى التّبيّن. هذا تمام الكلام في الآية الاولى (آية النّبأ) المستدلّ بها على حجّيّة الخبر الواحد.

الآية الثّانية : آية النّفر وهي قوله عزوجل : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(٤).

تقريب الاستدلال بها على حجّيّة الخبر الواحد يتوقّف على بيان خمسة امور :

__________________

(١) سورة النّبأ (٧٨) ، الآية ١ و ٢.

(٢) سورة ص (٣٨) ، الآية ٦٧.

(٣) سورة نمل (٢٧) ، الآية ٢٢.

(٤) سورة التّوبة (٩) ، الآية ١٢٢.

٢٥٢

الأوّل : أنّ التّفقّه في الدّين كما يكون ـ في الأعصار المتأخّرة وعصرنا هذا ـ بالنّظر في الكتاب من ناحية الدّلالة ، وفي الخبر من ناحية الصّدور والجهة والظّهور ، وبالاجتهاد والنّظر فيهما من ناحية الفحص عن المخصّص أو المقيّد أو المعارض وإعمال قواعد التّرجيح أو الرّجوع إلى الاصول العمليّة عند فقد الأمارات والأدلّة الاجتهاديّة ، كذلك كان في العصر المتقدّم وعصر الظّهور ، لكن لا بهذا النّحو المبسوط المتداول في هذه الأزمنة ، بل بنحو بسيط موجز ، فكانوا عليهم‌السلام قد يعلّمون بعض أصحابهم كيفيّة الاستدلال بالآيات لاستخراج بعض الأحكام ، نظير قوله عليه‌السلام : لمّا قال زرارة : من أين علمت أنّ المسح ببعض الرّأس ، «لمكان الباء» فعرّفه عليه‌السلام طريق النّظر والاجتهاد من ظاهر الكتاب ودلالة الآية.

الأمر الثّاني : أنّ الإنذار وإن كان منصرفا في بدو النّظر إلى بيان أحكام البرزخ والمعاد ، إلّا أنّه يعمّ بأدنى تأمّل ، إبلاغ الأحكام ـ أيضا ـ من الواجب والحرام سيّما باعتبار كونه غاية للتّفقّه في الدّين الشّامل لجميع الأحكام من البرزخ والمعاد وأفعال العباد.

الأمر الثّالث : أنّ صدر الآية وهو قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) وإن كان غير آب عن العموم المجموعيّ ، بمعنى النّفر بهيئة الاجتماع ، لكن ذيل الآية وهو قوله جلّ جلاله : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ظاهر في العموم الاستغراقي الأفراديّ ؛ إذ المطلوب هو تفقّه كلّ فرد فرد من أفراد الطّائفة ، لا تفقّه مجموعهم من حيث المجموع ، فلا اعتداد بهيئة الاجتماع ، والأمر في الإنذار كذلك ، بمعنى : أنّ المراد منه هو إنذار كلّ فرد فرد من المتفقّهين من كلّ طائفة لا مجموعهم من حيث المجموع ،

٢٥٣

وكذلك الأمر في الحذر ، فالجمع فيه ـ أيضا ـ استغراقيّ أفراديّ.

ويتّضح حال هذا النّحو من الخطاب عند مقايسته بالخطابات العرفيّة ، كأمر الوالد ـ مثلا ـ لأولاده بالنّفر للطّبابة أو التّجارة أو الزّراعة وغيرها ، فلا يراد منه هو نفر مجموع الأولاد من حيث المجموع ، بل يراد منه هو نفر كلّ واحد واحد منهم.

الأمر الرّابع : أنّ متعلّق كلمة : «لعلّ» يكون دائما من العلل الغائيّة لما قبلها ، من غير فرق بين التّكوينيّات والتّشريعيّات ، وبين الاختياريّات وغيرها.

وعليه : فإذا كان المتعلّق أمرا اختياريّا ، كان حكمه حكم ما قبل كلمة : «لعلّ» من الوجوب أو النّدب ، وحيث إنّ الإنذار يكون واجبا ، فالحذر كذلك ؛ إذ جعل الفعل الاختياريّ غاية للواجب يلازم وجوبه ـ أيضا ـ وإلّا لم يكن من العلل الغائيّة.

الأمر الخامس : أنّ المراد من الحذر ليس هو الخوف النّفساني غير الواصل إلى مرتبة العمل والامتثال الخارجي ؛ إذ لا معنى لكون ذلك غاية للتّفقّه والإنذار ، بل المراد منه هو الحذر العمليّ والاتّباع الخارجيّ الّذي يحصل بالعمل بقول المنذر وتصديق قوله والجري على ما يقتضيه من الحركة والسّكون.

إذا عرفت تلك الامور الخمسة ، علمت : أنّ آية النّفر تدلّ على حجّيّة خبر الواحد من العدل والثّقة ؛ لما اشير إليه من وجوب حذر كلّ واحد من المنذرين (بالفتح) بإنذار كلّ واحد من المنذرين (بالكسر) ومقتضاه هو أنّ الإنذار ولو صدر من شخص واحد يكون حجّة على المنذر (بالفتح) فيجب عليه العمل بقوله ، والجري على ما يقتضيه من الحركة والسّكون.

والعموم وإن كان يعمّ إنذار الفاسق ووجوب الحذر بإنذاره ـ أيضا ـ إلّا أنّه

٢٥٤

خصّص بأدلّة عدم اعتبار خبر الفاسق ، بل لنا أن نقول : بعدم العموم رأسا ، إذ الفاسق المتمرّد لا يحسن منه إنذار العاصي حتّى يتفصّى عن ارتكاب المعاصي.

وبالجملة : قضيّة تناسب الحكم والموضوع هو دلالة الآية على حجّيّة خصوص خبر العدل والثّقة.

وقد استشكل على هذا الاستدلال من جهاتٍ :

الاولى : أنّ وجوب الحذر عقيب الإنذار وإن كان مستفادا من الآية ، لكن هذا المقدار لا يجدي إلّا إذا استفيد الإطلاق ـ أيضا ـ بمعنى : أنّه يجب الحذر وقبول إنذار المنذر (بالكسر) في موقف العمل ولو لم يفد العلم ، وأنّى لكم إثبات الإطلاق مع كون الآية في مقام بيان وجوب التّفقّه والإنذار ، لا وجوب الحذر ، وإنّما ذكر باعتبار كونه من فوائدهما.

وعليه : فالمتيقّن من الآية ، وجوب الحذر بقبول الإنذار إذا حصل العلم بمطابقة قول المنذر (بالكسر) للواقع ، لا مطلقا.

واجيب عنه بوجوه : بعضها خال عن السّداد ؛

منها : أنّ الآية وردت لبيان وظيفة طائفتين : إحداهما : الّذين يجب عليهم التّفقّه والإنذار ؛ ثانيتهما : الّذين يجب عليهم القبول والحذر ، فكما يجب على الطّائفة الاولى ، الإنذار مطلقا وإن لم يحصل العلم للمنذر (بالفتح) بمطابقة إنذاره للواقع ، كذلك يجب على الطّائفة الثّانية ، الحذر مطلقا وإن لم يحصل العلم له بالمطابقة.

لا يقال : إنّ الآية ليست في مقام بيان وجوب الحذر كي يستفاد منها الإطلاق.

٢٥٥

لأنّه يقال : لو سلّم ذلك ، لكن نستكشف الإطلاق من إطلاق إيجاب الإنذار ؛ إذ وجوب الإنذار مطلقا حيث يكون غيريّا مقدّميّا ، كاشف عن وجوب الحذر ـ وهو ذو المقدّمة ـ مطلقا ، لاستحالة إطلاق المقدّمة وتقييد ذي المقدّمة.

وتوهّم أنّ المقدّمة تابعة في إطلاقها لذي المقدّمة ولا عكس ، مندفع ، بأنّ استكشاف إطلاق ذي المقدّمة من إطلاق المقدّمة بطريق «الإنّ» لا ينافي تابعيّة المقدّمة وكونها في طول ذي المقدّمة.

ومنها : أنّ الأصل في كلّ كلام يقتضي أن يكون في مقام البيان ؛ لاستقرار بناء العرف والعقلاء على ذلك ، إلّا أن تقوم القرينة على خلافه.

وأنت ترى ، أنّ هذا الوجه خال عن السّداد ؛ إذ المستشكل يدّعي أنّ الآية لا تكون في مقام البيان من ناحية خصوص وجوب الحذر ، فلا إطلاق لها بالنّسبة إليها لا مطلقا ، فلا بدّ من الجواب بالوجه المتقدّم آنفا.

ومنها : أنّ ظاهر الآية ترتّب وجوب الحذر على الإنذار نحو ترتّب الحكم على موضوعه ، فلو قيل : بوجوب الحذر إذا حصل العلم بمطابقة الخبر للواقع ، لزم إلغاء عنوان الحذر بالمرّة وجعله بلا أثر.

ومنها : أنّه يلزم من التّقييد بما إذا حصل العلم ، تقييد بفرد نادر ، وهو أمر قبيح مستهجن البتّة وإن لم يستلزم إلغاء عنوان الإنذار بالمرّة ، ووجه لزوم النّدرة واضح ، لأنّ الخبر الواحد لو خلّي ونفسه لا يفيد العلم أصلا ولو أفاده أحيانا ، كان ذلك بمعونة القرائن الخارجيّة.

٢٥٦

وكون ما يفيد العلم قدرا متيقّنا في الحجّيّة ، لا يوجب التّقييد ، إلّا أن يكون متيقّنا في مقام التّخاطب وموقف المخاطبة ، وإلّا فكلّ مطلق له قدر متيقّن في الخارج بلا شبهة ، فيلزم أن لا ينعقد إطلاق للمطلق رأسا.

وقد ذهب المحقّق الحائري قدس‌سره إلى أنّ وجوب الإنذار والحذر ، وجوب مقدّميّ يكون مقيّدا بما إذا حصل العلم بالمطابقة للواقع ، ولكن مع ذلك ، يجب مطلق الإنذار حتّى غير المقدّمي منه ، ثمّ أورد قدس‌سره على نفسه ، بأنّه كيف يمكن ذلك مع كون وجوب المقدّمة تابعا لوجوب ذيها إطلاقا وتقييدا ، فأجاب ، بأنّ غير المقدّمة من الإنذار يكون وجوبه لأجل عدم كون ما هو المقدّمة ، ممتازا عند المكلّف ، عنه ، فيجب مطلق الإنذار للتّوصّل إلى ما هو المقصود الأصلي من بين الإنذارات ، أعني : ما هو المفيد للعلم. (١)

وفيه : أنّ الإنذار غير المقدّمي الّذي لا يفيد العلم ، ليس فيه ملاك المقدّميّة كي يجب مقدّميّا ، ولا ملاك فيه ـ أيضا ـ ذاتا حتّى يجب نفسيّا ، وعنوان عدم الامتياز عند المنذر (بالكسر) المكلّف بالإنذار ، أو عند المنذر (بالفتح) المكلّف بالحذر لو أوجب التّكليف بالنّسبة إلى مطلق الإنذار ، لكان ذلك من باب المقدّمة العلميّة ، وكان الوجوب حينئذ عقليّا ، كما هو ذلك في أطراف العلم الإجمالي في سائر الموارد ، والمفروض كون الوجوب تعبّديّا مولويّا ، لا إرشاديّا عقليّا. هذا كلّه في الجهة الاولى من الإشكال على آية النّفر.

__________________

(١) إفاضة العوائد : ج ٢ ، ص ٩٠.

٢٥٧

الجهة الثّانية : أنّ الإنذار والتّخويف هو وظيفة المفتي والواعظ ، لا الرّاوي والمخبر ، أمّا المفتي ، فلأنّه إذا استنبط الأحكام من الوجوب والحرمة وغيرهما ، يفتي ذلك بالأصالة وبالدّلالة المطابقيّة ، وينذر مقلّديه ويخوّفهم من العقوبة على المخالفة لفتاواه بالتّبع وبالدّلالة الالتزاميّة ، فيجب الحذر على المقلّدين لأجل قيام الحجّة. وأمّا الواعظ ، فلأنّه يعظ النّاس وينذرهم بامور دينيّة ، فالإنذار هو شأنهم ، وهذا بخلاف الرّاوي ، فلا شأن له إلّا نقل الرّواية بلا إنذار وتخويف على المخالفة ، بل قد ينقل مجرّد الكلمات بلا فهم ودراية. ونتيجة ذلك ، أنّ الآية أجنبيّة عن المقام.

وقد اجيب عن هذا الإشكال ، بأنّ الرّاوي يروي بالذّات والأصالة ، وينذر بالعرض والتّبعيّة ، بمعنى : أنّه يروي ـ مثلا ـ رواية وجوب شيء أو حرمته ، وينذر ضمنيّا بالعقوبة على المخالفة ، فيجب الحذر بمقتضى الآية ، فتثبت حجّيّة هذا النّوع من الرّواية الدّال على الأحكام الإلزاميّة مع فرض كون الرّاوي من أهل الإنذار ؛ إذ هي تكون إخبارا مع انذار والمعاتبة ؛ وأمّا النّوع الآخر منها وهو الإخبار بلا إنذار ، إمّا لكون الرّاوي عاميّا أو لكون المرويّ حكما غير إلزاميّ ، فتثبت حجّيّته بعدم القول بالفصل.

الجهة الثّالثة : أنّ الآية تدلّ على وجوب الحذر عند إنذار الفقيه بما هو فقيه ، لا الرّاوي بما هو راو ، لأنّ المأخوذ فيها هو عنوان التّفقّه والدّراية ، لا النّقل والرّواية ، فالآية تكون من أدلّة حجّيّة الفتوى والنّظر ، لا الرّواية والخبر ، ولا مجال للتّشبّث بعدم القول بالفصل ؛ بداهة ، أنّه لا يرتبط الفتوى بالرّواية ، ولذا قد يقال : بحجّيّة الفتوى وعدم حجّيّة الرّواية.

٢٥٨

واجيب عن هذا الإشكال ، بأنّ التّفقّه في تلك الأزمنة لم يكن بهذه الصّعوبة المتحقّقة في عصرنا (١) ، بل كان يصدق على كثير من الرّوات عنوان الفقيه ، حيث كانوا يعرفون معاني كلام المعصومين عليهم‌السلام سيّما أصحاب الصّادقين عليهما‌السلام ومن بعدهما عليهم‌السلام وكانوا رواة فقهاء.

وبالجملة : الرّواة في العصور المتقدّمة كانوا من المتفقّهين في الدّين ومن المفتين وأرباب الفهم والدّراية والاجتهاد في الشّريعة ، نظير محمّد بن مسلم ، وزرارة وأمثالهما ، حيث قال أمامنا الصّادق عليه‌السلام في حقّهم : «أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا» (٢).

الجهة الرّابعة : أنّ ترتّب وجوب الحذر على الإنذار الّذي هو مترتّب على التّفقّه في الدّين ـ كما هو ظاهر الآية ـ يقتضي ترتّب وجوب الحذر على الإنذار بما تفقّهوا ، لا على مطلق الإنذار ، فلا بدّ للحاذر من إحراز كون الإنذار ، إنذارا بما تفقّه في الدّين ، بمعنى : إحراز مطابقة الخبر للواقع ، حتّى يجب عليه الحذر ، فيحذر ، فالحذر واجب لا مطلقا ، بل عند الإحراز والعلم بالمطابقة.

وفيه : أنّ الإخبار بالوجوب أو الحرمة يكون إنذارا بما تفقّه في الدّين وإن لم يكن هناك مطابقة. وعليه ، فالحذر المترتّب على الإنذار بما تفقّه في الدّين ، يجب وإن لم يحرز مطابقة الخبر للواقع.

__________________

(١) وجه الصّعوبة ، هو أنّ التّفقّه في العصور المتأخّرة لا يتأتّى إلّا بتنقيح جهات ثلاث في الرّوايات : الاولى : صدورها ؛ الثّانية. جهة صدورها ؛ الثّالثة : دلالتها وظهورها ؛ وأمّا العصور المتقدّمة فالمحتاج إليها للتّفقّه لم يكن إلّا إثبات الجهة الاولى (صدور الرّوايات) ، ولا يطلق الفقيه في تلك العصور إلّا على العارف بالأحكام ، سواء كان العرفان بها بإعمال الفكر والنّظر ، أم كان بدونه.

(٢) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧ ، ص ٨٤.

٢٥٩

وبوجه أخصر يقال : إنّ وجوب الحذر متوقّف على تحقّق الإنذار وحجّيّة قول المنذر ، وأمّا العلم بالمطابقة ، فلا شأن له هنا. هذا تمام الكلام في الاستدلال على حجّيّة الخبر الواحد بالكتاب.

وأمّا السّنة ، فهي على طوائف أربعة :

منها : الرّوايات الواردة في العلاج عند المعارضة والسّؤال عن كيفيّته ، كرواية داود بن الحصين ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في رجلين اتّفقا على عدلين ، جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين ، فاختلف العدلان بينهما عن قول ، أيّهما يمضي الحكم؟ قال : ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما ، فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر» (١).

تقريب الاستدلال بهذه الطّائفة على حجّيّة الخبر الواحد ، هو أنّ السّؤال عن العلاج يكون دليلا على كون الحجّيّة مفروغا عنها عند الأئمة عليهم‌السلام وأصحابهم لو لا المعارضة.

اللهم إلّا أن يقال : بكون مورد المعارضة مقطوع الصّدور ، وهذا كما ترى.

ومنها : الرّوايات الآمرة بالرّجوع إلى أشخاص معيّنين من الرّواة ، كرواية أحمد بن إسحاق ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «سألته وقلت : من اعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال : العمريّ ثقتي ، فما أدّى إليك عنّي ، فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي ، فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنّه الثّقة المأمون ، قال : وسألت أبا محمّد عليه‌السلام عن

__________________

(١) وسائل الشّيعة : ج ١٨ ، كتاب القضاء والشّهادات ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠ ، ص ٨٠.

٢٦٠