تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

على استعماله لمرض ونحوه كما في المريض ، وذلك بقرينة ظهور التفريع على الكلّ.

وقوله : (فَتَيَمَّمُوا)

التيمّم هو القصد. وفيه من الإيماء إلى الضرب دون مجرّد مسّ التراب ما لا يخفى.

وقوله : (صَعِيداً طَيِّباً)

الصعيد ـ على ما في اللغة ـ وجه الأرض (١). وفي التقييد بالطيّب ـ وهو ما يلائم الغرض المقصود من الشيء ـ إمّا إيماء إلى طهارته ؛ لأنّ التيمّم تطهّر كما تشعر به الآية في سورة المائدة : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (٢) ، وإمّا إيماء إلى تسطّح الصعيد بحيث يلائم ضرب الكفّين.

وقوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ)

تعدّي المسح بالباء ـ وهو متعدّ بنفسه ـ يفيد التبعيض ، فالممسوح بعض الوجه والكفّين.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه وصف التيمّم فضرب بيديه على

__________________

(١). الصحاح ٢ : ٤٩٧.

(٢). المائدة (٥) : ٦.

٨١

الأرض ثمّ رفعهما فنفضهما ثمّ مسح على جبينه وكفّيه مرّة واحدة (١).

أقول : والأخبار في التيمّم وأحكامه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها ونقلها.

وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً)

في كلّ من العفو والمغفرة معنى الستر والإمحاء ، فيناسبان الطهارة وإزالة القذارة عن المحدث ، فكون التيمّم من العفو والمغفرة ككون الاستنجاء من التوبة والطهارة على ما مرّ في سورة البقرة عند قوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢) ، فراجع.

__________________

(١). الكافي ٣ : ٦١ ، الحديث : ١.

(٢). البقرة (٢) : ٢٢٢.

٨٢

[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ

٨٣

فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨)]

قوله سبحانه : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا)

قد مرّ الكلام في معناه في نظير الآية من سورة البقرة.

قوله سبحانه : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها)

الطمس : إزالة صورة الشيء وإمحاء خطوطه. وتفريع قوله : (فَنَرُدَّها) بالفاء يدلّ على كونه كالتفسير للطمس ، وليس هو قلب الوجه إلى القفا والقفا إلى الوجه ، فلم يقل : فنردّها إلى أدبارها أو إلى قفاها أو أقفيتها ، بل ردّ الوجه نفسه إلى دبره. والوجه ما يتوجّه ويستقبل به الشيء ، وإنّما يستقبل بالفطرة (فِطْرَتَ

٨٤

اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (١) ، وحينئذ يستقبل إلى كلّ باطل ويستدبر كلّ حقّ.

وقوله بعد ذلك : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، في مقام التعليل ، ويفيد أنّ الطمس من تبعات الشرك ، وهو وإن كان في صورة الاستعارة لكن قد عرفت في أوّل سورة البقرة أنّ لهذه الامور صورة حقيقة من دون مجاز.

هذا ، وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّ المعنى نطمسها عن الهدى فنردّها على أدبارها في ضلالتها بحيث لا يفلح أبدا (٢).

قوله سبحانه : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)

التقييد بالمشيئة لإفادة بقاء الاختيار.

وفي الكافي والفقيه عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل : هل تدخل الكبائر في مشيئة الله؟ قال : «نعم ، ذاك إليه إن شاء عذّب عليها وإن شاء عفا عنها» (٣).

وفي الكافي أيضا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : «الكبائر وما سواها» (٤).

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) يعني أنّه لا يغفر لمن يكفر بولاية عليّ ـ عليه‌السلام ـ (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) يعني لمن والى عليّا (٥).

أقول : وهو من الجري ظاهرا ، والمراد بالولاية ـ كما مرّ مرارا ـ سلوك العبد سبيلا يتولّى الله فيه أمره. نعم ، ولايته بمعنى محبّته من مراتبه أو مقدّماته كافية

__________________

(١). الروم (٣٠) : ٣٠.

(٢). مجمع البيان ٣ : ٩٩.

(٣). من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٧٤ ، الحديث : ٤٩٦٦ ؛ ولم نجده في الكافي.

(٤). الكافي ٢ : ٢٨٤ ، الحديث : ١٨.

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٥ ، الحديث : ١٤٩.

٨٥

للقاصر عن إدراك حقيقته وبلوغها.

قوله سبحانه : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ)

معترضة بين الجملة السابقة وبين قوله : (انْظُرْ).

وقوله : (انْظُرْ)

في معنى التأكيد وتكرار لقوله : (أَلَمْ تَرَ) ، بالمعنى لطول الفصل بين قوليه : (أَلَمْ تَرَ) ، وقوله : (كَيْفَ يَفْتَرُونَ). والفتيل : الحبل المتعلّق بنواة التمر ، يسمّى به الشيء الحقير لحقارته.

وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (أَلَمْ تَرَ) : نزلت في اليهود والنصارى ، حيث قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (١) ، (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (٢).

أقول : والآية التالية تؤيّده.

قوله سبحانه : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)

في تفسير القمّي قال : نزلت في اليهود حين سألهم مشركوا العرب [فقالوا] : أديننا أفضل أم دين محمّد؟ قالوا : بل دينكم أفضل (٣).

أقول : وحينئذ فقوله : (وَيَقُولُونَ) ، تفسير لقوله : (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) ، فعدّ سبحانه هذا القول والتصديق منهم إيمانا. والجبت : الصنم.

__________________

(١). المائدة (٥) : ١٨.

(٢). البقرة (٢) : ١١١ ؛ مجمع البيان ٣ : ١٠٤.

(٣). تفسير القمّي ١ : ١٤٠.

٨٦

والطاغوت : الشيطان وكلّ متبوع دون الله من الطغيان.

وفي بعض الروايات أنّهم سجدوا لأصنامهم (١).

وفي تفسير القمّي أيضا : وروي أنّها نزلت في الذين غصبوا آل محمّد حقّهم وحسدوا منزلتهم (٢).

أقول : وفي معناه ما في تفسير العيّاشي (٣) ، وهو من الجري.

وفي هذا المعنى ما ورد في قوله : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) على ما رواه في الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : يقولون لأئمّة الضلال والدعاة إلى النار : (هؤُلاءِ أَهْدى) من آل محمّد (٤) ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

قوله سبحانه : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) ـ إلى قوله ـ : (نَقِيراً)

في الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) يعني الإمامة والخلافة ، قال : «ونحن الناس الذين عنى الله. والنقير النقطة التي في وسط النواة» (٥).

أقول : تفسير الملك بالإمامة والخلافة يؤيّده ما سيجيء من قوله : (مُلْكاً عَظِيماً) (٦).

وفي الصحاح : والنقرة : حفيرة صغيرة في الأرض ، ومنه نقرة القفا ، والنقير :

__________________

(١). راجع : كمال الدين ٢ : ٥٧٧.

(٢). تفسير القمّي ١ : ١٤٠.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٦ ، الحديث : ١٥٣.

(٤). الكافي ١ : ٢٠٥ ، الحديث : ١.

(٥). الكافي ١ : ٢٠٥ ، الحديث : ١.

(٦). النساء (٤) : ٥٤.

٨٧

النقرة التي في وسط النواة (١). إنتهى.

قوله سبحانه : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)

«أم» منقطعة ، ووجه الكلام مع اليهود ، والقرائن المحفوفة به من سابق الكلام ، والحسد والفضل.

وقوله : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ)

يفيد أنّ الحاسدين هم اليهود ، والمحسودون هم المؤمنون غير اليهود والذين كفروا ، بل شخص النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ؛ لقوله : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) ، الوارد مورد الجزم والقطع وإيئاسهم من نتيجة التعرّض والحسد ، وأنّ الفضل مبذول سواء حسدوا أم لم يحسدوا ، فالنبيّ هو المحسود وهو من آل إبراهيم آتاهم الله الكتاب والحكمة والملك العظيم ، وإن شاركه في ذلك آله ـ عليهم‌السلام ـ كما مرّ بيانه في سورة آل عمران في قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ) (٢).

ومن هنا ظهر أنّ المراد ب (آلَ إِبْراهِيمَ) ولد إسماعيل دون ولد إسحاق وقد مرّ أيضا.

وظهر أيضا أنّ المراد ب (النَّاسَ) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّ المراد (النَّاسَ) النبيّ وآله ـ عليهم‌السلام ـ (٣).

__________________

(١). الصحاح ٢ : ٨٣٥.

(٢). آل عمران (٣) : ٣٣.

(٣). مجمع البيان ٣ : ١٠٩.

٨٨

وفي الكافي وتفسير العيّاشي والبصائر وغيرها من كتب الحديث في روايات كثيرة عن أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ : «نحن (النَّاسَ) المحسودون» (١).

أقول : وربما يراد بالناس شخص أو أشخاص معيّنون ، وذلك إذا لم يكن للعنوان من الاسم والوصف دخالة في الحكم ، كقولك لمن يتعرّض بك من غير موجب : لا تتعرّض بالناس ، وما لك وللناس ، تريد نفسك.

وفي الكافي وتفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) ، يعني جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمّة ، فكيف يقرّون في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمّد ، وقال ـ عليه‌السلام ـ : «الملك العظيم أن جعل فيهم أئمّة ، من أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن عصاهم فقد عصى الله ، فهو الملك العظيم» (٢).

وفي الكافي وتفسير القمّي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : (الْكِتابَ) النبوّة (وَالْحِكْمَةَ) : الفهم والقضاء ، و (مُلْكاً عَظِيماً) : الطاعة المفروضة (٣).

قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ)

الإصلاء : الاتباع.

__________________

(١). الكافي ١ : ١٨٦ ، الحديث : ٦ ؛ ١ : ٢٠٥ ، الحديث : ١ ، باب أنّ الأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ ولاة الأمر وهم الناس المحسودون ؛ ١ : ٢٠٤ ، الحديث : ٤ ؛ ١ : ٢٠٥ ، الحديث : ١ ؛ ١ : ٢٠٦ ، الحديث : ٢ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٦ ، الحديث : ١٥٣ ؛ ١ : ٢٤٧ ، الحديث : ١٥٥ ؛ البصائر : ٣٥ ، باب في أئمّة آل محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأنّ الله تعالى أوجب طاعتهم ومودّتهم وهم المحسودون على ما آتاهم الله من فضله : ٣٥ ـ ٣٦ ، الأحاديث ٣ ـ ٥ و ٩ ، و ٢٠٢ ، الحديث : ١.

(٢). الكافي ١ : ٢٠٦ ، الحديث : ٥ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٦ ، الحديث : ١٥٢.

(٣). الكافي ١ : ٢٠٦ ، الحديث : ٣ ، ـ «المفروضة» ؛ تفسير القمّي ١ : ١٤٠.

٨٩

وفي تفسير القمّي قال ـ عليه‌السلام ـ : «الآيات أمير المؤمنين والأئمّة» (١).

أقول : وهو من الجري ، بل من ظاهر التنزيل ؛ إذ الآيات ـ أعني قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) ، إلى تمام عشرين آية ـ متعرّضة لحال اليهود ومن يتبعهم في نفاقهم وخيانتهم في علمهم ، وجورهم في حكمهم في حقّ آل إبراهيم ، والجميع منطبقة عليهم.

قوله سبحانه : (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا)

في الاحتجاج عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه سأله ابن أبي العوجاء فقال : ما ذنب الغير؟ قال : «ويحك هي هي وهي غيرها» (٢).

أقول : وروى قريبا منه القمّي في تفسيره (٣) ، وسيجيء بيانه في الكلام على البعث.

قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا)

ظاهره الإطلاق لكلّ ما يصدق عليه الأمانة واحتاج إلى الحفظ ، ويقوّيه مسبوقيّة الآية بخيانة اليهود بما عندهم من العلم وجورهم في الحكم على النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

وفي المجمع عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ : إنّها في كلّ من اؤتمن أمانة من الأمانات ، وأمانات الله : أوامره ونواهيه ، وأمانات عباده : فيما يأتمن

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ١٤٠.

(٢). الاحتجاج ٢ : ٣٥٤.

(٣). تفسير القمّي ١ : ١٤١.

٩٠

بعضهم بعضا من المال وغيره (١).

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إيّانا عنى أن يؤدّي الإمام الأوّل (٢) إلى الذي بعده العلم والكتب والسلاح» (٣).

أقول : وهو من المصاديق.

قوله سبحانه : (أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)

في الكافي وتفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : يعني العدل الذي في أيديكم (٤).

أقول : وروى مثله العيّاشي رواية اخرى (٥).

وفي تفسيره أيضا عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) ، قال : «فينا نزلت والله المستعان» (٦).

*

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ١١٢.

(٢). في المصدر : «الأوّل منّا إلى الإمام»

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٦ ، الحديث : ١٥٣.

(٤). الكافي ١ : ٢٧٦ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٦ ، الحديث : ١٥٣.

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٦ ، الحديث : ١٥٤.

(٦). تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٩ ، الحديث : ١٦٦.

٩١

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ

٩٢

دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)]

قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)

صدر الآية كالمقدّمة لذيلها ، بل توطئة له ، أعني قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) ، على ما هو الظاهر من الآية التالية لها وما بعدها ، فالمقصود بالبيان هو الأمر بالردّ عند التنازع ، وحيث لا يتأتّى إلّا بالإطاعة لله ورسوله جعل الأمر بالطاعة مقدّمة ، وفرّع عليه الردّ عند التنازع ، ولذلك جيء بالفاء التفريعيّة.

ومن الواضح أنّ الردّ إلى الله هو الردّ إلى كتاب الله ، والردّ إلى الرسول هو الردّ إلى سنّته ، كما أنّ طاعة الله طاعته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فيما يقول ، وطاعة الرسول طاعته والانقياد له فيما يقول ، ومن المعلوم أنّ اشتمال المقدّمة على ما لا يحتاج إليه في النتيجة فضل من الكلام زائد ، فكون الردّ إلى الله ورسوله خاصّة يوجب كون ذكر أولي الأمر زائدا مستدركا ، إلّا أن يكون الردّ إليهم عين الردّ إلى الرسول ، كما أنّ طاعتهم طاعة الرسول ، وذلك كما يشعر به جعل إطاعة الرسول وأولي الأمر إطاعة واحدة وعدم إعادة ذكر أولي الأمر ثانيا عند قوله : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فعلى المؤمنين لاولي الأمر طاعة مفترضة فيما يقولون ، لكن ليس عندهم غير كتاب الله وسنّة رسوله حتّى يردّ إليهم شيء

٩٣

متنازع فيه ، فالإطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر جميعا ، والردّ إلى الله ورسوله فحسب.

ومن هنا يظهر أنّ فرض طاعتهم يوجب العصمة فيهم ؛ إذ مع فرض عدمها لا معنى لفرض طاعتهم ؛ لجواز خطأهم وأداء ذلك إلى التناقض سواء فيما علم المؤمنون بخطأهم أو لم يعلموا ، فلو اريد باولي الأمر امراء السرايا المنصوبون من قبل رسول الله لم يكن للتفريع وجه ، ولا لمورد الآيات مطابقة ، ولو أريد امراء المسلمين من الولاة والحكّام من غير عصمة ، ومن المعلوم أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لم ينصب واحدا منهم بهذا الوصف بإجماع الامّة وشهادة التاريخ لم يكن للمفرّع عليه ـ أعني لذكر أولي الأمر ـ معنى بعد ما لا يتفرّع عليه حكم الردّ.

وأمّا أخذ الخطاب متوجّها إلى أولي الأمر والمأمورين جميعا ـ كما ربّما قيل فأسوأ حالا ؛ إذ أمر أولي الأمر في صورة الاتّفاق ـ أعني إحراز المأمور موافقته للكتاب والسنّة ـ لا معنى لإيجاب إطاعته ؛ لكونه لغوا ، وفي صورة الاختلاف لا معنى له أيضا ؛ لاستلزامه التناقض أو رفع اليد من الأحكام المشرّعة في الكتاب والسنّة ، فتأمّل.

وإلى ما مرّ يشير ما ورد في المقام من الروايات.

ففي النهج وهو من جملة عهده ـ عليه‌السلام ـ للأشتر ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «واردد إلى الله والرسول (١) ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الامور ، فقد قال الله سبحانه لقوم أحبّ إرشادهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ

__________________

(١). في المصدر : «رسوله»

٩٤

وَالرَّسُولِ) ، فالرادّ (١) إلى الله الآخذ بمحكم كتابه ، والرادّ إلى الرسول الآخذ بسنّته الجامعة غير المفرّقة» (٢).

وفيه أيضا في خطبة له ـ عليه‌السلام ـ في التحكيم ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «وقال الله سبحانه : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) فردّه إلى الله أن يحكم بكتابه ، وردّه إلى الرسول أن يأخذ بسنّته» (٣).

أقول : وقد اتّضح معناه سابقا.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : «نزلت في عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين ـ عليهم‌السلام ـ إلى آخر الأئمّة» (٤).

أقول : وروى مثله العيّاشي في تفسيره (٥).

وفي الكافي وتفسير العيّاشي أيضا في الآية ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «إيّانا عنى خاصّة ، أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا خاصّة» (٦).

أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة متكثّرة ، لا يبعد دعوى التواتر فيها.

قوله سبحانه : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ)

في تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال : نزل (فإن تنازعتم في شيء

__________________

(١). في المصدر : «الردّ»

(٢). نهج البلاغة : ٤٣٣ ، ومن كتاب له ـ عليه‌السلام ـ كتبه للأشتر النخعي (٥٣).

(٣). نهج البلاغة : ١٨٢ ، ومن كلام له ـ عليه‌السلام ـ في التحكيم.

(٤). الكافي ١ : ٢٨٦ ، الحديث : ١ ، ـ «إلى آخر الأئمّة».

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٢٥٣ ، الحديث : ١٧٦.

(٦). الكافي ١ : ٢٧٦ ، الحديث : ١ ، ـ «خاصّة» ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٦ ، الحديث : ١٥٣ ، مع تفاوت.

٩٥

فردّوه إلى الله وإلى الرسول وأولي الأمر منكم) (١).

وفي الكافي وتفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ أنّه تلا هذه الآية هكذا : (فإن خفتم تنازعا في أمر فردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منكم) ، قال : كذا نزلت ، وكيف يأمرهم الله بطاعة أولي (٢) الأمر ويرخّص في منازعتهم ، إنّما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم أطيعوا الله (٣).

أقول : اختلاف الروايتين ولحن الثانية يفيدان أنّه بيان التنزيل دون القراءة فهو بيان المراد ، وهذا شائع في الروايات ، لا ما ربّما يتوهّم أنّ معناه التحريف.

قوله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ)

قيل : نزلت في الزبير ورجل من اليهود في حديقة ، فقال الزبير : نرضى بابن شيبة اليهودي ، وقال اليهودي : نرضى بمحمّد ، فأنزل الله. ذكره القمّي (٤) من غير إسناده إلى الرواية.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «أيّما رجل جرى (٥) بينه وبين أخيه منازعة (٦) في حقّ ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه ، فأبى إلّا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) (٧)».

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ١٤١.

(٢). في المصدر : «ولاة»

(٣). الكافي ١ : ٢٧٦ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٦ ، الحديث : ١٥٣ ، مع تفاوت.

(٤). تفسير القمّي ١ : ١٤١.

(٥). في المصدر : «كان» بدلا من «جرى»

(٦). في المصدر : «أخ له مماراة»

(٧). الكافي ٧ : ٤١١ ، الحديث : ٢.

٩٦

قوله سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ)

في الكافي وتفسير العيّاشي عن الكاظم ـ عليه‌السلام ـ في قول الله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) : «فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء وسبق لهم العذاب» (١).

أقول : السياق مشعر بأنّ المراد بما في قلوبهم : كفر النفاق ، وعلمه تعالى : هو العلم الفعلي السابق تفسيره في مثل قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (٢) ، وقوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) (٣) ، وإنّما يكون في الأمر الثابت الغير المتزلزل.

وقوله : (فِي أَنْفُسِهِمْ) ، ـ يمكن تعلّقه بقوله ـ : (قُلْ)

أي قل لهم في الستر فهو أنجع وأوفق بالقلب. ويحتمل تعلّقه بقوله : (بَلِيغاً).

قوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ)

عود إلى جميع ما مرّ من التوبيخ لهم والأمر بردّهم الأمر إلى الرسول بأنّ الملاك في الإرسال هو الإطاعة فلولاها لغى.

وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ)

تقييد لإطاعة الرسول ، يبيّن تعالى أنّ طاعته ليست مفترضة بالذات ، بل المطاع بالذات هو الله سبحانه وطاعة الرسول أمر مجعول من الله تعالى راجع إلى

__________________

(١). الكافي ٨ : ١٨٤ ، الحديث : ٢١١ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٥٥ ، الحديث : ١٨٣.

(٢). آل عمران (٣) : ١٤٢.

(٣). آل عمران (٣) : ١٤٠.

٩٧

طاعته سبحانه ، كما قال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١). ويظهر به وجه الالتفات في قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) ، إلى الغيبة من التكلّم بالغير في قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ)

بيانه : أنّ وصفه سبحانه في أوّل الكلام الغيبة أعني في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) ، ثمّ بالعدول إلى خطابه تعالى بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) صار الوصف هو التكلّم ، ثمّ بحكاية القول في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) ، انتقل الوصف إلى الغيبة ، فجرى الكلام على ذلك في قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ) ، و (يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ). ثمّ التفت إلى ما بدأ به من مخاطبة النبيّ بقوله : (أَلَمْ تَرَ) ، فأعاد الوصف إلى التكلّم لإفادة ذلك كما مرّ ، ثمّ التفت إلى غيبة المطيعين والمستغفرين فالتفت إلى الغيبة فقال : (بِإِذْنِ اللهِ) ، و (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) ، و (لَوَجَدُوا اللهَ) ، ثمّ عاد إلى بدء فالتفت إلى التكلّم في قوله : (فَلا وَرَبِّكَ) إلى قوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا). ثمّ عاد إلى مخاطبة الجميع كأوّل الكلام من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) ، فالتفت إلى الغيبة مثله فقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ). وجرى على ذلك إلى آخر الكلام.

وهناك نوع آخر من الالتفات في ذكر النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وهو ما كان من الغيبة في قوله : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، إلى الخطاب في قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) ، خصّ بالخطاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لعلمه بالخير والتأويل دونهم ، ثمّ من الخطاب في قوله : (جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا) ، إلى الغيبة في قوله : (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) ، فأخذ وصف الرسالة إيماء إلى

__________________

(١). النساء (٤) : ٨٠.

٩٨

وصف وساطته بين الحقّ والخلق ؛ إذ لا حائل بينه وبين ربّه فتقبل شفاعته وينجع استغفاره ثمّ من الغيبة إلى الخطاب في قوله : (فَلا وَرَبِّكَ) ، للعود إلى الأصل بعد استيفاء الغرض من الغيبة ، ثمّ من الخطاب إلى الغيبة في قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ). وقد مرّ وجهه ، ثمّ من الغيبة إلى الخطاب في قوله : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) ، و (ذلِكَ الْفَضْلُ) ، والوجه فيه نظير الوجه في قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ).

وهناك نوع ثالث من الالتفات ، وهو ما كان من الحضور في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) ، إلى الغيبة في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) ، وجرى على ذلك إلى آخر الكلام. ففي الآيات ـ أعني من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) ، إلى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (١) ـ اثنا عشر موردا من الالتفات في ثلاثة أنواع مشتبكة متداخلة بعضها في بعض كما عرفت.

فإن قلت : النكتة في الالتفات على ما ذكره أئمّة البلاغة تنشيط السامع بصرف الكلام من وجه إلى وجه وإيقاظه عن الكسل في الاستماع. ومقتضى ذلك الاقتصار على ما يقلّ عددا ويكثر نفعا ونماء ، وإمّا الإكثار منه فيوجب تحيّر المخاطب فلا يدري من أين إلى أين يصرف ذهنه وينقل باله (٢).

قلت : ذلك على ما اختاره بعضهم من كون نفس الالتفات من مزايا الكلام (٣). وأمّا على ما اختاره آخرون من احتياجه إلى نكتة زائدة على مجرّد تحويل

__________________

(١). النساء (٤) : ٧١.

(٢). راجع : البرهان ، الزركشي ٣ : ٣٢٥ ـ ٣٢٧ ؛ مشرق الشمسين ، البهائي العاملي : ٢٨٠.

(٣). راجع : البرهان ، الزركشي ٣ : ٣٢٥ ـ ٣٢٧ ؛ مشرق الشمسين ، البهائي العاملي : ٢٨٠.

٩٩

وجه الكلام وتغيير الوصف (١) كما هو الحقّ ـ لأنّ الوجوه الثلاثة ـ أعني التكلّم والخطاب والغيبة ـ كلّ واحد منها ذو وجوه ، كالغائب المفرد والجمع والمتكلّم وحده ومع الغير ـ فالتعيين يحتاج إلى نكتة ومرجّح ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢) ، فالخصوصيّات تحتاج إلى نكتة دون ما في أصل الالتفات ، وبذلك يندفع الإيراد.

فإن قلت : بعض ما ذكر من موارد الالتفات في الآيات آنفا لا يعدّه القوم منه ، كقولك : إنّ وصفه في أوّل الكلام ـ أعني قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) ـ الغيبة ، ثمّ بالعدول إلى خطابه تعالى في قوله : (أَلَمْ تَرَ) ، صار الوصف التكلّم.

قلت : إنّهم وإن لم يصرّحوا به في أمثال هذه الموارد لكن ما حدّوه به يشمله ، وهو تقلّب الكلام في وصفه ووجهه ، ومن الواضح أنّ الأمر كذلك في ذلك. هذا.

قوله سبحانه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ)

شجر الأمر ، أي اختلف واختلط ، ومنه الشجر ـ على ما قيل ـ لتداخل أغصانه.

وفي الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : لقد خاطب الله أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في كتابه في قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ، وتلا إلى

__________________

(١). راجع : البرهان ، الزركشي ٣ : ٣٢٥ ـ ٣٢٧ ؛ مشرق الشمسين ، البهائي العاملي : ٢٨٠.

(٢). البقرة (٢) : ١٥٩ و ١٦٠.

١٠٠