تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

العاص : أيّها الملك إنّ قوما منّا خالفونا في ديننا وسبّوا الهتنا وصاروا إليك فردهم إلينا ، فبعث النجاشي إلى جعفر ، فجاؤا به ، فقال : يا جعفر! ما يقول هؤلاء؟ فقال جعفر : أيّها الملك [و] ما يقولون؟ فقال : يسألون أن أردّكم إليهم ، قال : أيها الملك! سلهم أعبيد نحن لهم؟ فقال عمرو : لا ، بل أحرار كرام ، قال : فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟ قال : لا ، ما لنا عليكم ديون ، قال : فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟ قال : لا ، قال : فما تريدون منّا؟ آذيتمونا ، فخرجنا من بلادكم.

فقال عمرو بن العاص : أيّها الملك خالفونا في ديننا ، وسبّوا آلهتنا وأفسدوا شبابنا ، وفرّقوا جماعتنا فردّهم إلينا لنجمع أمرنا.

فقال جعفر : نعم أيّها الملك خلقنا الله ثم بعث (١) فينا نبيّا أمرنا (٢) بخلع الأنداد وترك الإستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة والزكاة ، وحرّم الظلم والجور ، وسفك الدماء بغير حقها ، والزنا والربا والميتة والدم ولحم الخنزير (٣) ، وأمرنا بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فقال النجاشي : بهذا بعث الله عيسى بن مريم.

ثم قال النجاشي : يا جعفر! هل تحفظ ممّا أنزل الله على نبيّك شيئا؟ قال : نعم ، فقرأ عليه سورة مريم ، فلّما بلغ إلى قوله : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا* فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) (٤) ، فلمّا سمع النجاشي بهذا بكى

__________________

(١). في المصدر : «خالفناهم بأنّه بعث الله» ، بدل : «خلقنا الله ثمّ بعث»

(٢). في المصدر : «امر»

(٣). في المصدر : ـ «لحم الخنزير»

(٤). مريم (١٩) : ٢٥ ـ ٢٦.

٣٢١

بكاءا شديدا ، وقال : هذا والله هو الحق ، فقال عمرو بن العاص : أيها الملك إنّه مخالف لنا (١) ، فردّه إلينا ، فرفع النجاشي يده ، فضرب بها وجه عمرو ، ثم قال : اسكت و [الله يا هذا] ذكرته بسوء لأفقدنّك نفسك ، فقام عمرو بن العاص من عنده والدماء تسيل على وجهه وهو يقول : إن كان هذا كما تقول أيّها الملك فإنّا لا نتعرّض له.

وكانت على رأس النجاشي وصيفة [له] تذبّ عنه ، فنظرت إلى عمارة بن الوليد وكان فتى جميلا فأحبّته ، فلمّا رجع عمرو بن العاص إلى منزله ، قال لعمارة : لو راسلت جارية الملك؟! فراسلها فأجابته ، فقال له عمرو : قل لها تبعث إليك من طيب الملك شيئا ، فقال لها : فبعثت إليه فأخذ عمرو من ذلك الطيب ، وكان الذي فعل به عمارة (٢) في قلبه حين ألقاه في البحر ، فأدخل الطيب على النجاشي ، فقال : أيها الملك إنّ حرمة الملك عندنا وطاعته علينا وما يكرمنا إذ دخلنا بلاده ، ونأمن فيه أن لا نغشه ولا نريبه ، وإنّ صاحبي هذا الذي معي قد راسل (٣) حرمتك وخدعها وبعثت إليه من طيبك ، ثم وضع الطيب بين يديه ، فغضب النجاشي وهمّ بقتل عمارة ، ثم قال : لا يجوز قتله فإنّهم دخلوا بلادي بأماني (٤) ، فدعا النجاشي السحرة فقال لهم : اعملوا [به] شيئا أشدّ عليه من القتل فأخذوه ونفخوا في إحليله الزئبق ، فصار مع الوحش يغدو ويروح ، وكان لا يأنس بالناس.

__________________

(١). في المصدر : «انّ هذا مخالفنا»

(٢). الأصل : «عمرو» وهو تصحيف.

(٣). في المصدر : «أرسل إلى»

(٤). في المصدر : «فأمان لهم»

٣٢٢

فبعث قريش بعد ذلك فكمنوا له في موضع حتى ورد الماء مع الوحش فأخذوه ، فما زال يضطرب في أيديهم ويصيح حتى مات ، ورجع عمرو إلى قريش فأخبرهم أنّ جعفر في أرض الحبشة في أكرم كرامة ، فلم يزل بها حتى هادن رسول الله قريشا وصالحهم وفتح خيبر ، فوافى بجميع من معه وولد لجعفر بالحبشة من أسماء بنت عميس عبد الله بن جعفر ، وولد للنجاشي إبن فسمّاه : محمدا.

وكانت أمّ حبيب بنت أبي سفيان تحت عبد الله ، فكتب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى النجاشي يخطب أمّ حبيب ، فبعث إليها النجاشي فخطبها لرسول الله فأجابته ، فزوّجها منه وأصدقها أربعمائة دينار وساقها عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وبعث إليها بثياب وطيب كثير ، وجهّزها وبعثها إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وبعث إليه بمارية القبطية ـ أمّ إبراهيم ـ وبعث إليه بثياب وطيب وفرس ، وبعث ثلاثين رجلا من القسيسين فقال لهم : أنظروا إلى كلامه وإلى مقعده ومشربه ومصلّاه ، فلمّا وافوا المدينة دعاهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى الإسلام وقرء عليهم القرآن : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) ـ إلى قوله ـ : (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١).

فلمّا سمعوا ذلك من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بكوا وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فأخبروه خبر رسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقرءوا عليه ما قرأ عليهم ، فبكى النجاشي وبكى القسّيسون ، وأسلم النجاشي ولم يظهر للحبشة

__________________

(١). المائدة (٥) : ١١٠.

٣٢٣

اسلامه وخافهم على نفسه ، فخرج من بلاد الحبشة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، فلمّا عبر البحر توفّي ، فأنزل الله [على رسوله] : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ) ـ إلى قوله ـ : (وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) (١).

أقول : وتغيير التعبير في النصارى حيث قال سبحانه : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) ، دون أن يقال : النصارى ؛ إذ «الذين يقولون : إنّا نصارى» يدلّ على أنّ قرب المودّة لا يعمّهم جميعهم ، بخلاف اليهود ، فالعداوة الشديدة يعمّهم ، فافهم.

*

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ١٧٦ ـ ١٧٩.

٣٢٤

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)]

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ)

في تفسير القمي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين وبلال وعثمان بن مظعون ، فأمّا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبدا ، وأمّا بلال فإنّه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا ، وأمّا عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا ، فدخلت إمرأة عثمان على عائشة ـ وكانت امرأة جميلة ـ ، فقالت عائشة : ما لي أراك معطّلة؟ فقالت : ولمن أتزين ،

٣٢٥

فو الله ما قاربني زوجي منذ كذا وكذا فإنّه قد ترهّب ولبس المسوح وزهد في الدنيا ، فلمّا دخل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أخبرته عائشة بذلك ، فخرج فنادى : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطيبات ، ألا إنّي أنام الليل وأنكح وأفطر بالنهار ، فمن رغب عن سنّتي فليس مني» ، فقام هؤلاء فقالوا : يا رسول الله : فقد حلفنا على ذلك ، فأنزل الله تعالى عليه (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) ـ إلى قوله ـ : (إِذا حَلَفْتُمْ) (١).

أقول : وروي في المجمع صدره إلى قوله : فدخلت (٢).

قوله سبحانه : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ)

في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «اللغو : قول الرجل لا والله ، وبلى والله ، ولا يعقد على شيء» (٣).

وفيه عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «ما حلفت عليه ممّا فيه البرّ فعليك (٤) الكفارة إذا لم تف به ، وما حلفت عليه ممّا فيه المعصية فليس عليك فيه الكفارة إذا رجعت عنه ، وما كان سوى ذلك ممّا ليس فيه برّ ولا معصية فليس بشيء» (٥).

أقول : والأخبار فيه كثيرة وهي تعداد المصاديق.

__________________

(١). تفسير القمي : ١ : ١٧٩ ـ ١٨٠.

(٢). مجمع البيان ٣ : ٣٦٤.

(٣). الكافي ٧ : ٤٤٣ ، الحديث : ١.

(٤). في المصدر : «فعليه»

(٥). الكافي ٧ : ٤٤٦ ، الحديث : ٥.

٣٢٦

قوله سبحانه : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ) إلى قوله : (إِذا حَلَفْتُمْ)

في تفسير العياشي عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ ، قال : سمعته يقول : «إنّ الله فرض على (١) الناس في كفارة اليمين كما فرض (٢) إلى الإمام في المحارب أن يصنع ما شاء (٣) ، [وقال :] كلّ شيء في القرآن أو فصاحبه فيه بالخيار» (٤).

وفيه أيضا عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبي إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قال : سألته عن إطعام عشرة مساكين أو ستين مسكينا أيجمع ذلك لإنسان واحد؟ قال : «لا ، أعط (٥) واحدا واحدا كما قال الله» ، قال قلت : أفيعطيه الرجل قرابته؟ قال : «نعم» ، قال قلت : أفيعطيه الضعفاء من النساء من غير أهل الولاية؟ قال : «نعم ، وأهل الولاية أحبّ إليّ» (٦).

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ) ، قال : هو كما يكون أنّه يكون في البيت من يأكل أكثر من مدّ (٧) ، ومنهم من يأكل أقل من مدّ (٨) ، فبين ذلك ، وإن شئت جعلت لهم أدما ،

__________________

(١). في المصدر : «فوض إلى»

(٢). في المصدر : «فوض»

(٣). في المصدر : «ما يشاء»

(٤). تفسير العياشي ١ : ٣٣٨ ، الحديث : ١٧٥.

(٥). في المصدر : «أعطه»

(٦). تفسير العياشي ١ : ٣٣٧ ، الحديث : ١٧٠.

(٧). في المصدر : «المدّ»

(٨). في المصدر : «المدّ»

٣٢٧

والأدم أدناه ملح (١) ، وأوسطه الخلّ والزيت ، وأرفعه اللحم (٢).

وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما ـ عليه‌السلام ـ قال في اليمين في إطعام عشرة مساكين : ألا ترى أنّه يقول : (مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) فلعلّ أهلك أن يكون قوتهم لكلّ إنسان دون المدّ ، ولكن يحسب في طحنه ومائه وعجينه ، فإذا هو يجزي لكلّ إنسان مدّ ، وأمّا كسوتهم فإن وافقت به الشتاء فكسوته ، وإن وافقت به الصيف فكسوته ، لكل مسكين إزار ورداء وللمرأة ما يواري ما يحرم منها : إزار وخمار ودرع (٣) ، الحديث.

وفيه عن الصادق عليه‌السلام في حديث : ويجوز في عتق الكفّارة المولد (٤) ، ولا يجوز في عتق القتل إلّا مقرّة بالتوحيد (٥).

وفيه عن الحلبي ، عنه ـ عليه‌السلام ـ قال : صيام ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين متتابعات لا يفصل بينهنّ ، قال : وقال ـ عليه‌السلام ـ : كل صيام ثلاثة أيّام متتابعات (٦).

وفيه عن اسحاق بن عمّار عنه عليه‌السلام ، قال : سئل عن كفّارة اليمين في قول الله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) ما حدّ من لم يجد؟ فهذا الرجل

__________________

(١). في المصدر : «الملح»

(٢). الكافي ٧ : ٤٥٣ ، الحديث : ٧ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٤٦٣.

(٣). تفسير العياشي ١ : ٣٣٦ ، الحديث : ١٦٧.

(٤). في نسخة : «المولود» ، [منه ـ رحمه‌الله ـ] في نسخة : «الولد»

(٥). تفسير العياشي ١ : ٣٣٨ ، الحديث : ١٧٣ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٤٦٦ ؛ وسائل الشيعة ٢٢ : ٣٨٢ ؛ بحار الأنوار ١٠٤ : ٢٢٦.

(٦). تفسير العياشي ١ : ٣٣٩ ، الحديث : ١٨٠.

٣٢٨

يسأل في كفّه وهو يجد ، فقال : «إذا لم يكن عنده فضل يومه عن قوت عياله فهو لا يجد» ، وقال : «الصيام ثلاثة أيام لا يفرّق بينهنّ» (١).

أقول : والروايات في المعاني السابقة كثيرة (٢).

*

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٣٨ ، الحديث : ١٧٧.

(٢). الكافي ٧ : ٤٥٢ ، الحديث : ٢ ؛ تهذيب الأحكام ٨ : ٢٩٦ ، الحديث : ٨٨ ؛ وسائل الشيعة ٢٢ : ٣٧٩ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٤٦٣ ـ ٤٦٨ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٤٨٣.

٣٢٩

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)]

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ)

وفي الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : لمّا أنزل الله عزوجل على رسوله : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) قيل : يا رسول الله! ما الميسر؟ قال : «كلّما تقومر به حتى الكعاب

٣٣٠

والجوز» ، قيل : فما الأنصاب؟ قال : «ما ذبحوه لآلهتهم» ، قيل : فما الأزلام؟ قال : «قداحهم التي يستقسمون بها» (١).

في المناقب لابن شهرآشوب عن القطان في تفسيره مسندا ، عن الحسن البصري ، قال : اجتمع علي ـ عليه‌السلام ـ وعثمان بن مظعون وأبو طلحة وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبو دجانة الأنصاري (٢) في منزل سعد بن أبي وقّاص فأكلوا شيئا ، ثمّ قدّم إليهم شيئا من الفضيخ ، فقام علي وخرج من بينهم ، فقال عثمان في ذلك ، فقال علي : لعن الله الخمر ، والله لا أشرب شيئا يذهب بعقلي ويضحك بي من رآني وأزوّج كريمتي من لا أريد ، وخرج من بينهم ، فأتى المسجد ، وهبط جبرئيل بهذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني هؤلاء الذين اجتمعوا في منزل سعد (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ، فقال علي ـ عليه‌السلام ـ : تبّا لها ، والله يا رسول الله لقد كان بصري فيها نافذا منذ كنت صغيرا. قال الحسن : والله الذي لا إله إلّا هو ما شربها قبل تحريمها ولا ساعة قط (٣).

أقول : والروايات في تحريمها وكيفيته كثيرة ، وقد مرّ بعضها في سورة البقرة.

قوله سبحانه : (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ)

يدلّ على صحة ما ورد من الروايات أنّ أول من أبداها وصنعها هو الشيطان ، ويمكن أن يدلّ على أنّ كلّ خمر معمول فمن عمل الشيطان ، وكذا الميسر وغيرها ، فيؤل المعنى إلى نوع آخر من تصرّف الشيطان وولايته في أوليائه

__________________

(١). الكافي ٥ : ١٢٢ ، الحديث : ٢.

(٢). في المصدر : ـ «الأنصاري»

(٣). مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٧٨ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٤٧٩.

٣٣١

سيجيء الكلام فيه إن شاء الله.

ويؤيّده قوله في الآية التالية : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ).

ويظهر من الرواية الآتية أنّ الأصحاب فهموا ذلك منها.

قوله سبحانه : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) في تفسير القمي فلمّا نزل (١) على الخمر والميسر [و] التشديد في أمرها (٢) ، قال الناس من المهاجرين والأنصار : يا رسول الله! قتل أصحابنا وهم يشربون الخمر ، وقد سمّاه الله رجسا وجعله من عمل الشيطان ، وقد قلت ما قلت أفيضرّ أصحابنا ذلك شيئا بعد ما ماتوا؟ فأنزل الله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) (٣).

وفي تفسير العياشي عن أبي الربيع ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الخمر والنبيذ [قال : إنّ النبيذ] ليست بمنزلة الخمر ، إنّ الله حرّم الخمر بعينها فقليلها وكثيرها حرام ، كما حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير ، وحرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الشراب من كلّ مسكر فما حرّمه رسول الله فقد حرّمه (٤) الله ، قلت : فكيف كان ضرب رسول الله في الخمر؟

__________________

(١). في المصدر : «نزل تحريم»

(٢). في المصدر : «أمرهما»

(٣). تفسير القمي ١ : ١٨١ ـ ١٨٢.

(٤). في المصدر : «حرّم»

٣٣٢

فقال : كان يضرب بالنعال (١) ويزيد وينقص ، وكان الناس بعد ذلك يزيدون وينقصون ليس بحدّ محدود ، حتى وقف علي بن أبي طالب في شارب الخمر على ثمانين جلدة حيث ضرب قدامة بن مظعون ، قال : فقال قدامة : ليس عليّ جلد ، أنا من أهل هذه الآية : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا)

فقال له : كذبت ، ما أنت منهم ، إنّ أولئك كانوا لا يشربون حراما ، ثمّ قال علي ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الشارب إذا شرب فسكر لم يدر ما يقول وما يصنع ، وكان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إذا أتي بشارب الخمر ضربه ، وإذا أتي به ثانية ضربه ، فإذا أتي به الثالثة ضرب عنقه (٢) ، الحديث.

*

__________________

(١). في المصدر : «بالنعل»

(٢). تفسير العياشي ١ : ٣٤٢ ، الحديث : ١٩٠.

٣٣٣

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ

٣٣٤

وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)]

قوله سبحانه : (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ ...)

في تفسير العياشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال : «حشر لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الوحوش حتى نالتها أيديهم ورماحهم في عمرة الحديبية ليبلوهم الله به» (١).

أقول : وروي هذا المعنى في الكافي والتهذيب وتفسير القمي في عدّة روايات (٢).

وفي الكافي مرفوعا في قوله : (تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ) ، قال : «ما تناله الأيدي البيض والفراخ ، وما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه الأيدي» (٣).

أقول : وروى مثله العياشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ (٤).

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٤٣ ، الحديث : ١٩٣.

(٢). الكافي ٤ : ٣٩٦ ، الحديث : ١ ؛ تهذيب الأحكام : ٥ : ٣٠٠ ، الحديث : ٢٠ ؛ تفسير القمي ١ : ١٨٢.

(٣). الكافي ٤ : ٣٩٧ ، الحديث : ٤.

(٤). تفسير العياشي ١ : ٣٤٢ ، الحديث : ١٩١.

٣٣٥

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)

في التهذيب عن أبي الصباح ، قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله عزوجل في الصيد : (مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ، قال : «في الظبي شاة ، وفي حمار وحش بقرة ، وفي نعامة جزور» (١).

وفي رواية عن حريز عنه عليه‌السلام : «في النعامة بدنة ، وفي حمار وحش بقرة ، وفي الظبي شاة ، وفي البقرة بقرة» (٢).

وفي الكافي عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ في قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) قالا ـ عليهما‌السلام ـ : «العدل رسول الله والإمام من بعده ، ثم قال : هذا ممّا أخطأت به الكتّاب» (٣).

أقول : لفظ الكتّاب بضم الكاف وتشديد التاء المنقوطة ، جمع كاتب يريدان عليهما‌السلام كتّاب المصحف ، ويشهد به ما في الكافي أيضا عن حمّاد بن عثمان قال : تلوت عند أبي عبد الله : (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) فقال : «ذو عدل منكم ، هذا ممّا أخطأت به (٤) الكتاب (٥).

وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : سألته عن قول الله عزوجل : فيمن قتل صيدا متعمدا وهو محرم (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) ما هو؟ فقال : «ينظر الذي [الى] عليه بجزاء ما قتل ،

__________________

(١). تهذيب الأحكام ٥ : ٣٤١ ، الحديث : ٩٣.

(٢). تهذيب الأحكام ٥ : ٣٤١ ، الحديث : ٩٤.

(٣). الكافي ٤ : ٣٩٦ ، الحديث : ٣.

(٤). في المصدر : «فيه»

(٥). الكافي ٨ : ٢٠٥ ، الحديث : ٢٤٧.

٣٣٦

فإمّا أن يهديه وإما أن يقوّم فيشتري به طعاما فيطعمه المساكين ، يطعم كلّ مسكين مدا ، وإمّا أن ينظركم يبلغ عدد ذلك من المساكين ، فيصوم مكان كلّ مسكين يوما (١).

وفي التفسير أيضا عنه عليه‌السلام قال : يقوّم ثمن الهدى طعاما ، ثم يصوم لكلّ مدّ يوما ، فإن زادت الأمداد على شهرين فليس عليه أكثر من ذلك (٢).

وفي الكافي عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه إذا أصاب المحرم [الصيد] خطأ فعليه أبدا في كل ما أصاب الكفّارة ، فإذا أصابه متعمّدا ، فإنّ عليه الكفّارة ، فإن عاد فأصاب ثانيا متعمّدا (٣) : فإن أصاب آخر ، قال : إذا أصاب آخر فليس عليه الكفّارة ، وهو ممّن قال الله عزوجل : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) (٤).

أقول : والروايات في المعاني السابقة كثيرة (٥).

قوله سبحانه : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ)

في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : لا بأس بأن يصيد المحرم السمك ويأكل مالحه وطريّه ويتزوّد ، وقال : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) ، قال : مالحه الذي يأكلون ، وفصل ما بينهما كلّ طير يكون في الآجام يبيض في البرّ ويفرخ في البرّ فهو من صيد البرّ ، وما كان من صيد البرّ يكون في البرّ ويبيض في البحر [ويفرخ في البحر] فهو من صيد البحر (٦).

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٤٥ ، الحديث : ٢٠٣.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٣٤٥ ، الحديث : ٢٠٤.

(٣). في الأصل إختلط الحديث بما قبله ، اى بالحديث الثاني من الباب ، فقوّمناه من المصدر.

(٤). الكافي ٤ : ٣٩٤ ، الحديث : ٣.

(٥). من لا يحضره الفقيه ٢ : ٢٥٧ ، الحديث : ٢٣٥ ؛ تهذيب الأحكام ٥ : ٣٤١ ، الحديث : ٩٦ ؛ ٥ : ٣٧٢ ، الحديث : ٢١١ ؛ الإستبصار ٢ : ٢١١ ، الحديث : ٤.

(٦). الكافي ٤ : ٣٩٢ ، الحديث : ١.

٣٣٧

أقول : وفي هذا المضمون روايات أخر.

قوله سبحانه : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ)

في تفسير العياشي : عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبد الله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) ، قال : جعلها الله لدينهم ومعايشهم (١).

وفي تفسير القمي قال : قال : ما دامت الكعبة قائمة ويحجّ الناس إليها لم يهلكوا فإذا هدمت وتركوا الحج هلكوا (٢).

وفي وصية علي ـ عليه‌السلام ـ : الله الله في بيت ربكم [لا تخلّوه ما بقيتم] ، فإنّها (٣) إن تركت لم تنظروا (٤).

أقول : وقد استفيد مضمون الروايتين من قوله تعالى : (قِياماً لِلنَّاسِ).

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)

قوله سبحانه : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) (٥)

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٤٦ ، الحديث : ٢١١.

(٢). تفسير القمي ١ : ١٨٧.

(٣). في المصدر : «فانّه إن ترك لم تناظروا»

(٤). نهج البلاغة : ٤٢١ ، وصيته للحسن والحسين ـ عليهما‌السلام ـ.

(٥). في الأصل بياض ولم يتوض المؤلّف لتفسير هاتين الآيتين.

٣٣٨

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)]

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)

[(عَلَيْكُمْ)] اسم فعل بمعنى ألزموا و (أَنْفُسَكُمْ) منصوب بنزع الخافض كما يقال : عليكم بتقوى الله ، أو بتضمين معنى الإغراء ، وكيف كان فالمعنى اشتغلوا بأنفسكم ولا تقعوا في غيركم ، فلا يضرّكم ضلال الضالّ من الناس ، (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) ـ المهتدي والضالّ ـ (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

فالآية بوجه نظيرة قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

وقوله : (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) والإهتداء إنّما يكون في الطريق ، يوجب أن يكون النفس طريقا إلى الله سبحانه ، فقد جعل النفس مغرى بقوله : (عَلَيْكُمْ) ، ومغرى عليه بقوله : (أَنْفُسَكُمْ) فالإيمان سالك ومسلك ، ثم قال : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ

__________________

(١). الجاثية (٤٥) : ١٤.

٣٣٩

جَمِيعاً) فجعل الجميع إليه طريقا غير أنه رضي النفس إليه طريقا من بينها لمن سلكها وهذه دعوة إلى طريقة معرفة النفس.

بيان ذلك : إنّا أوّل ما نأخذ في مشاهدة عالمنا هذا نجد موجوداتها أمورا مختلفة متفرقة ، ثمّ نجد أنّ كلّ جماعة منها بينها وحدة اجتماعية ذات رابطة إتحادية ، كما أنّ النامي والجسم والضخيم ، والأخضر والشجر ، وذي الأوراق وذي الأغصان ، وذي الأصل والعروق ، والغضّ والرطب ، وذي الأكمام والأنوار والأثمار ، وهكذا نرى أنّها مجتمعة لا مجرد اجتماع بحسب ما اتفق ، بل اجتماعا يبيّن عن وحدة جامعة بينها ثم نجد بينها معنى يدور عليه بقية المعاني دوران الفروع على الأصل ، وهو الذي نسمّيه بالذات ، ونسمي بقية المحمولات من الأوصاف والأحوال والأفعال بالكمالات الثانية والعوارض اللاحقة ، وهكذا كلّ جماعة جماعة من الموجودات حالها ذلك ، ترسّم دائرة وجود بينها نقطة مركزية هي الذات ، وغيرها عوارضه ولواحقه ، وهذا هو الحال في تكوّن الأنواع وأفرادها ، فكلّ نوع أخذته من مبدء تكوّنه وأخذت كلّ حادث يحدث حوله مربوطا به ، إلى آخر زمان حياته ومدى عمره ، وجدت أمورا كثيرة متنوّعة مختلفة متلوّنة في الغاية ، غير أنّ بينها أمرا واحدا هو المركز ، يدور عليه دائرة هذه الكثرة ، وهذه الأمور على كثرتها متحدة في أنّها لهذا الذات مربوطة ، مؤتلفة به لا يخرج من تحت سلطته ، وقد ربطت يد الصنع بينها وبين الذات رابطة مستحيلة التبدّل والتغيّر فإنّ كلّ ذات من ذوات الأنواع المختلفة مجهّز في نفسه بخصوصيات لا تلائم إلّا كمالاته الثانية المختصّة به ، فمن المستحيل أن يقصد نوع هدفا غير ما عيّنت له يد الصنع ، فالشجرة تريد التغذّي بالحركة الإرادية وكذا يستحيل أن لا يقصد نوع من الأنواع ما قضت له

٣٤٠