تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

قوله : (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (١).

أقول : وفي تفسير القمّي (٢) قريب منه ، وقد مرّ في قوله سبحانه : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٣) ، ما يتبيّن به معنى هذه الرواية ، وعليه فالرواية شبيهة بالجري ، والخطاب متوسّط بين خطاب المشافهة والاشتراك في الحكم ، فافهم.

وفي هذا المعنى وقريبا منه ما ورد في الكافي عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام (٤) ـ.

قوله سبحانه : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ)

قد مرّ في سورة الفاتحة بعض ما يتعلّق بالآية من الكلام ، وأنّه إلحاق لا تشريك. وقد مرّ أيضا الكلام في معنى النبوّة والشهادة والصلاح ، وبقي القول في الصدّيق ، وهو مبالغة في الصدق ، وهو في الأصل مطابقة الكلام الواقع ، وهو صدق الخبر ، ثمّ اعتبر وصفا في المخبر لقيام الخبر به ، وهو إخبار المخبر مع إذعان المطابقة.

واعتبر أيضا وصفا في كلّ ما ينبئ عن شيء كالفعل ينبئ عن اعتقاد في القلب ، والحادث ينبئ عن شيء آخر.

والذي أثنى عليه الله تعالى في كتابه هو الصدق المخبري ، بأن يقول الإنسان

__________________

(١). الكافي ١ : ٣٩١ ، الحديث : ٧.

(٢). تفسير القمّي ١ : ١٤٢.

(٣). النساء (٤) : ٥٤.

(٤). راجع : الكافي ١ : ١٨٦ ، الحديث : ٤ و ٦ ؛ ١ : ٢٠١ ، الحديث : ١ ؛ ١ : ٢٠٥ ، الحديث : ١ ؛ ١ : ٢٠٦ ، الأحاديث ٢ ـ ٥.

١٠١

ما يؤمن به ويؤمن بما يقول به ويعمل بما يقول ويقول بما يعمل ، وهذا يعنى ذو مراتب يأخذ في الازدياد حتّى يستوعبه في كلّ ما يراه ويقوله ويعمله ، فالصدّيق هو الذي ينال حقائق المعارف والأقوال والأعمال على ما هي عليها ويشهدها من غير أن يشوب ذلك منه كذب وباطل ، فهو أشمخ مقاما من الشهيد الذي يشهد حقائق الأعمال ، وبالضرورة يلزم هذا المقام العصمة ، فقوله تعالى : (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) ، منتظم بالترتيب الطبعى ، فالنبيّون هم السادة ولا نعرف من حقيقة حالهم شيئا ، ثمّ الصدّيقون وهم شهداء الحقائق والأعمال ، ثمّ الشهداء وهم شهداء الأعمال ، ثمّ الصالحون وهم المتهيّئون لنيل الحقائق ، هذا.

وفي أمالي الشيخ عن الحسن والحسين ابني عليّ عن أبيهما ـ عليهم‌السلام ـ قال : «جاء رجل من الأنصار إلى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : يا رسول الله ، ما أستطيع فراقك ، وإنّي لأدخل منزلي فأذكرك فأترك صنيعتي وأقبل حتّى أنظر إليك حبّا لك ، فذكرت إذا كان يوم القيامة وادخلت الجنّة فرفعت في أعلى علّيّين فكيف لي بك يا نبيّ الله فنزل : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) ، فدعا النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الرجل فقرأها عليه وبشّره بذلك» (١).

وفي الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «أعينونا بالورع فإنّه من لقي الله بالورع كان له عند الله فرجا ، إنّ الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) وتلا الآية ، ثمّ قال : فمنّا النبيّ ومنّا الصدّيق والشهداء والصالحون» (٢).

وفي تفسير العيّاشي عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ قال : «حقّ على الله أن يجعل

__________________

(١). الأمالي للطوسي : ٦٢١ ، المجلس ١٦ ، الحديث : ١٢٨٠.

(٢). الكافي ٢ : ٧٨ ، الحديث : ١٢.

١٠٢

وليّنا رفيقا للنبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا» (١).

وفي الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «لقد ذكركم الله في كتابه فقال : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ) ، فرسول الله في الآية النبيّون ، ونحن في هذا الموضع الصدّيقون والشهداء ، وأنتم الصالحون ، فتسمّوا بالصلاح كما سمّاكم الله» (٢).

أقول : قوله : «وأنتم الصالحون» ، معناه أنّه مقام معدّ لكم فحوزوه كما أعدّه الله لكم ؛ بقرينة قوله : «فتسمّوا» إلى آخره ، إذ لا وجه للتسمّي بعد التسمية ، وهو ظاهر.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «المؤمن مؤمنان ، مؤمن وفى الله بشروطه التي اشترطها (٣) عليه ، فذلك مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، وذلك ممّن يشفع ولا يشفع له ، وذلك ممّن لا يصيبه (٤) أهوال الدنيا ولا أهول الآخرة. ومؤمن زلّت به قدم ، فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ ، وذلك ممّن يصيبه (٥) أهوال الدنيا وأهوال (٦) الآخرة ويشفع له وهو على خير» (٧).

أقول : في الصحاح : الخامة الغضّة الرطبة من النبات (٨) ، انتهى. وكفأت فلانا

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٥٦ ، الحديث : ١٨٩.

(٢). الكافي ٨ : ٣٥ ، الحديث : ٣٦ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٥٦ ، الحديث : ١٨٩.

(٣). في المصدر : «شرطها»

(٤). في المصدر : «لا تصيبه»

(٥). في المصدر : «لا تصيبه»

(٦). في المصدر : ـ «أهوال»

(٧). الكافي ٢ : ٢٤٨ ، الحديث : ٢.

(٨). الصحاح ٥ : ١٩١٦.

١٠٣

فانكفأ ، أي صرفته فانصرف ورجع ، يشير ـ عليه‌السلام ـ في الحديث إلى ما تقدّم في سورة الفاتحة أنّ المراد بالنعمة في الآية الولاية (١) ، فينطبق ـ كما مرّ ـ على قوله : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٢) ، ولا سبيل لأهوال الحوادث على أولياء الله الذين ليس لهم إلّا الله سبحانه ، فالحديث إنّما يبيّن معنى اللحوق بهم.

*

__________________

(١). معاني الأخبار : ٣٦ ، الحديث : ٨ ؛ تفسير فرات : ٥١ ، الحديث : ١٠ ؛ المناقب ٣ : ٧٣.

(٢). يونس (١٠) : ٦٢ ـ ٦٣.

١٠٤

[وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)]

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ)

يقال : أخذ حذره ، إذا تنبّه للمحذور وتحفّظ منه ، وهو من المجاز من وضع

١٠٥

الشيء موضع آلته وسببه ، كأنّه يعدّ الحذر آلة يتحفّظ به من المحذور.

وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : خذوا أسلحتكم ، سمّى الأسلحة لأنّ بها يتّقى المحذور (١).

وقوله : (فَانْفِرُوا ثُباتٍ)

أي اخرجوا جماعات متفرّقة جمع «ثبة» وهي الجماعة.

وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «السرايا ، والجميع : العسكر» (٢).

وقوله : (لَيُبَطِّئَنَ)

يحتمل اللازم والمتعدّي.

قوله سبحانه : (قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَ)

في تفسيري القمّي والعيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «لو قال هذه الكلمة أهل الشرق والغرب لكانوا بها خارجين من الإيمان ، ولكنّ الله قد سمّاهم مؤمنين وليسوا هم بمؤمنين ولا كرامة» (٣).

أقول : يريد ـ عليه‌السلام ـ أنّ العدّ إنّما هو باللفظ فقط.

قوله سبحانه : (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ)

قيل : في الترديد بين القتل والغلبة إشارة إلى وجوب الثبات.

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ١٢٨.

(٢). مجمع البيان ٣ : ١٢٨.

(٣). تفسير القمّي ١ : ١٤٣ : إلى ال «مؤمنين» ، و+ «بإقرارهم» ؛ ولم نجده في تفسير العيّاشي.

١٠٦

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «فوق كلّ [ذي] برّ برّ حتّى يقتل [الرجل] في سبيل الله ، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ» (١).

أقول : ورواه غيره (٢).

وعن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «للشهيد سبع خصال من الله : أوّل قطرة من دمه مغفور له كلّ ذنب ، والثانية يقع رأسه في حجر زوجته (٣) من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه تقولان : مرحبا بك ، ويقول هو مثل ذلك لهما ، والثالثة يكسى من كسوة الجنّة ، والرابعة يبتدر خزنة الجنّة بكلّ ريح طيّبة أيّهم يأخذه منه ، والخامسة أن يرى منزله ، والسادسة يقال لروحه اسرح في الجنّة حيث شئت ، والسابعة أن ينظر في وجه الله ، وإنّها الراحة لكلّ نبيّ وشهيد» (٤).

أقول : وقد مرّ في قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) (٥) من سورة آل عمران ، ما يتبيّن به معنى آخر الحديث.

قوله سبحانه : (فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ)

أي وفي سبيل المستضعفين بمكّة ، وهي القرية الظالم أهلها.

__________________

(١). الكافي ٢ : ٣٤٨ ، الحديث : ٤.

(٢). روضة الواعظين ٢ : ٣٦٦ ؛ الخصال ١ : ٩ ، الحديث : ٣١ ؛ جامع الأخبار : ٨٣.

(٣). في المصدر : «زوجتيه»

(٤). تهذيب الأحكام ٦ : ١٢١ ـ ١٢٢ ، الحديث : ٣ ؛ روضة الواعظين ٢ : ٣٦٣ ؛ عوالي اللآلي ٣ : ١٨٢ ، الحديث : ٣.

(٥). آل عمران (٣) : ١٦٩.

١٠٧

وفي تفسير العيّاشي عنهما ـ عليهما‌السلام ـ قالا : «نحن أولئك» (١).

أقول : وهو من الجري.

*

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٥٧ ، الحديث : ١٩٣.

١٠٨

[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠)]

قوله سبحانه : (قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا)

قيل : وذلك حين كانوا بمكّة وكانوا يتمنّون أن يؤذن لهم.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «يعني كفّوا ألسنتكم» (١).

__________________

(١). الكافي ٢ : ١١٤ ، الحديث : ٨.

١٠٩

وقال : «أما ترضون أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتكفّوا وتدخلوا الجنّة» (١).

وفي الكافي أيضا عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «أنتم والله أهل هذه الآية» (٢).

وفيه وفي تفسير العيّاشي عنه ـ عليه‌السلام ـ : (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) مع الحسن ـ عليه‌السلام ـ (كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) مع الحسين ـ عليه‌السلام ـ إلى أجل قريب (٣) إلى خروج القائم ـ عليه‌السلام ـ فإنّ معه (٤) الظفر (٥).

أقول : جميع ذلك من الجري ، ويحتمل الأخير التأويل.

قوله سبحانه : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ)

قد مرّ فيما مرّ إجمال القول في الحسنة والسيّئة.

وبيان ذلك : أنّ الأشبه أنّ الإنسان أوّل ما تفطّن للحسن تفطّن له في الجمال الإنساني من تلائم الأعضاء والأجزاء بحيث يلائم الطبع ويميل إليه النفس ، ثمّ تفطّن له لمثله في سائر الأشياء ، وسمّى فقدان ذلك بالقبح تارة وبالسوء والمساءة أخرى ، وخاصّة إذا كان في الأشياء الاخر الطبيعيّة ، وبالآخرة الحسن كون الشيء تامّا كاملا في نوعه ، وما يقابل الحسن يقابله. وبعبارة أخرى وجدانه غايته النوعيّة ، وفقدانه ذلك ، فحسن الوجه موافقة العين والأنف والفم وغيرها ، وموافقة النسب والأوضاع الموجودة فيها لما يقتضيه خلقة النوع

__________________

(١). الكافي ٢ : ١٤٦ ، الحديث : ١٢٢.

(٢). الكافي ٨ : ٢٨٨ ، الحديث : ٤٣٤.

(٣). في المصدر : ـ «إلى أجل قريب»

(٤). في المصدر : + «النصرو»

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٢٥٧ ، الحديث : ١٩٥.

١١٠

ويميل إليه الطبع. ونظير ذلك مأخوذ معتبر في ظرف الاجتماع وعالم الاعتبار ، فالشجاعة والعفّة والعلم والعدالة كلّ ذلك حسن ، ومقابلاتها قبيحة سيّئة. واللباس الكذائي والزيّ الكذائي حسن باعتبار المناسبة لغرض المنطقة أو العادة أو الجماعة ، وقبيحة سيّئة متروكة باعتبار المخالفة لذلك.

وإنّما الفرق بين الحقيقي والاعتباري أنّ الحقائق لا تختلف ولا تتخلّف بخلاف الاعتبارات ؛ لاستنادها إلى امور من الخلق والعادة هي عرضة للتغيّر والاختلاف ، فالزيّ الواحد بعينه يمكن أن يكون حسنا عند قوم أو في زمان أو في مكان أو في حال ، قبيحا سيّئا عند آخرين أو في زمان آخر أو مكان آخر أو حال آخر. والحسن والقبح إذا اخذا حقيقيّين اتّحدا مع الخير والشرّ مصداقا وتقاربا مفهوما ، هذا مفهوما. وأمّا مصداقا فقد قال تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ، وقال : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٢) ، وبان بذلك أنّ الحسن يساوق الوجود ، فكلّ موجود حسن من حيث إنّه موجود ، وكلّ حسن موجود من حيث إنّه حسن ، وكذلك مقابل الحسن مع العدم يتلازمان صدقا.

ومن ذلك يظهر أنّ المعدوم والسيّء لا يصدر منه تعالى ، فهذه المصائب والبليّات وما يشبهها والمعاصي والسيّئات من الأعمال غير صادرة منه تعالى ، لكن من الجهة التي فيها من النقص والفساد والقبح. وبالجملة ، الجهات العدميّة دون الجهات الوجوديّة التي فيها ، فهي إذا نسبت إلى مبدأ ومنشأ ينبغي أن تنسب إلى غيره تعالى ، وذلك بسبب الاستقلال الظاهري والإنّية الصوريّة التي ملّكها الله سبحانه إيّاها ، والتزاحم الذي أوجده بينها ، قال سبحانه : (ما أَصابَ

__________________

(١). الزمر (٣٩) : ٦٢.

(٢). السجدة (٣٢) : ٧.

١١١

مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١). وقد عرفت في معنى الإذن أنّه تتميم سببيّة السبب فإصابة المصيبة بإذن الله ، وبالإيمان بالله والعلم بمقامه يهتدي القلب إلى ذلك وأنّه عن علم سابق ، وهو الذي ذكره بقوله : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (٢) ، ومع ذلك فالجميع حيث لم يفقدوا جهة الوجود والخلقة نسبوا من تلك الجهة إلى الله سبحانه ، قال تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) ، وما من شيء يستقبله حادث ولا موصوف يوصف بوصف إلّا باستعداد في نفسه يهيّئه لذلك ، وقد عرفت في سورة البقرة عند قوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (٣) ، أنّ ذلك هو المستفاد من نحو قوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٤) ، وقوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) (٥) ، وقوله : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) (٦) ، فما ينال موجود شيئا ولا يصيبه من شيء إلّا باستدعاء ذاتيّ ودعاء فطريّ منه ، هذا هو المصحّح لإسنادها إليه كما قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٧) والسياق يفيد أنّ العفو ـ وهو إمحاء الأثر ـ في أمثال النقمات ، هذا

__________________

(١). التغابن (٦٤) : ١١.

(٢). الحديد (٥٧) : ٢٢ و ٢٣.

(٣). البقرة (٢) : ١٨٦.

(٤). غافر (٤٠) : ٦٠.

(٥). البقرة (٢) : ١٨٦.

(٦). إبراهيم (١٤) : ٣٤.

(٧). الشورى (٤٢) : ٣٠.

١١٢

وعند هذا يتمّ معنى قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ، ويتبيّن صحّة أن يحمل الحسنة والسيّئة على ما يشمل الحقائق الخارجيّة والأعمال الحسنة والسيّئة من الطاعات والمعاصي من غير لزوم التفرقة بين الآيتين بحمل الحسنة والسيّئة في الآية الاولى على النعم والنقم والمصائب والنوائب الخارجيّة ، وحملهما في الثانية على الطاعات والمعاصي ؛ إذ قد عرفت أنّ الجميع تشتمل على جهات وجوديّة مفاضة من الله سبحانه ، وأمور عدميّة مستندة إلى غيره تعالى.

وقد بان من ذلك أنّ لله سبحانه تأثيرا في كلّ ما يصدق عليه أنّه شيء ، حتّى في مرتبة الأفعال من الطاعات والمعاصي ، فقد تبيّن أنّ فيها جهة بها تستند إلى الله سبحانه ، وهي جهة الوجود ، وجهة اخرى بها تستند إلى الموضوعات ، وهي جهة النقص وحيثيّة العدم ، وهذا هو المسمّى بالقدر ، وسيجيء بيانه إن شاء الله وبيان الروايات الواردة فيه عند قوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١) في سورة القمر.

وقد بان أيضا أنّ مبدأ المصائب التي تستقبل الإنسان هو الإنسان نفسه ، وهذا من الحقائق المستفادة من كلامه سبحانه.

فمنها : البليّات والنوائب التي تستند إلى السيّئات والمعاصي ، سواء كانت دنيويّة أو أخرويّة ، والآيات متكاثرة فيها ، كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢) ، وقوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي

__________________

(١). القمر (٥٤) : ٤٩.

(٢). الأعراف (٧) : ٩٦.

١١٣

النَّاسِ) (١) ، وقوله : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) (٢) ، وكقوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات ، وقد مرّ في سورة البقرة عند قوله : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤) أنّ الحساب يجري بجريان الأعمال كالرزق.

ومنها : البلايا والمحن التي تجري على الإنسان بما كسبته أيدي آبائه ، نظير المقاصّة ، كمن يظلم أحدا فيسلّط الله عليه من يظلمه أو يظلم عقبه أو عقب عقبه ، أو يأكل مال اليتيم فيؤتم الله أولاده أو أولاد أولاده ، ويسلّط عليهم من يأكل مالهم. وقد مرّ الكلام في هذا القسم عند قوله : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) (٥) ، في أوّل السورة ، وقد مرّ بعض الأخبار فيه.

ومنها : المحن والبلايا التي يمتحن بها المؤمن ويمحّص بها كما يمتحن بها الكافر ، وذلك أنّ المؤمن إذا تمكّن في الإيمان بالله انتشأ عنه الأخلاق الفاضلة والملكات الجميلة ، وكلّ خلق وملكة يستدعي لنفسه ظهورا بظهور أفعاله ، ويسأل الله تعالى فعليّة لنفسه بما يخلّصه من شوب الشوائب خلوص الذهب من خليطه ، وقد مرّ بيانه سابقا. فكما أنّ كلّ اسم من أسمائه تعالى يقتضي متعلّقا يتعلّق به ، وبتلائم نسبها المختلفة وتصادقها يتحقّق القدر بين الأشياء ، فالقدرة تقتضي مقدورا ، والعلم معلوما ، والرحمة مرحوما ، والرزق مرزوقا ، والمغفرة والعفو مذنبا يذنب فيغفر له ويعفى عنه ، وشدّة الانتقام وشدّة العقاب مذنبا معذّبا

__________________

(١). الروم (٣٠) : ٤١.

(٢). الروم (٣٠) : ١٠.

(٣). التحريم (٦٦) : ٧.

(٤). البقرة (٢) : ٢٠٢.

(٥). النساء (٤) : ٩.

١١٤

ومنتقما منه ، وهكذا ، وبتصادف نسبها وتلائمها يثبت القدر ، كما سيجيء بيانه. كذلك الصفات الكامنة في المؤمن الملازمة المنتشئة من مقامات الإيمان بالله تعالى ـ كالرضا والتسليم والتفويض والصبر والوقار والطمأنينة والعفّة والشجاعة ـ تستدعي من ربّه ما يظهر به عن كتم البطون ويؤثّر به أثره من محن وبلايا ونوائب وهزاهز ، والله مجيب لدعوتها وكاشف لكربتها. كلّ ذلك بنحو الحقيقة والصدق ، وليست من الأوهام والتخيّلات الشعريّة كما مرّ بيانه ، وإذا شفع ذلك بخصوصيّات الزمان والمكان وما عليه أمر الدنيا من الخير والشرّ والحقّ والباطل أنتج ذلك خصوصيّات ابتلاءات المؤمنين.

ومنها ـ وهو من اللواحق لما مرّ من الأقسام ـ : ما يقدّر للإنسان من البلاء ثمّ يصرف من محلّ إلى محلّ ، كمن يبتلى في نفسه ثمّ يصرف عنه إلى ولده أو إلى ماله ، وهكذا. وبالجملة ، كشف البلاء بدفع الأشدّ بالشديد ، والشديد بما هو أخفّ ، وتشمله آيات كشف الضرّ ، كقوله : (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) (١). ويشهد لما مرّ روايات كثيرة من طرق الفريقين.

فعن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر» (٢).

وفي الكافي عن عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : ذكر عند أبي عبد الله البلاء وما يخصّ الله عزوجل به المؤمن؟ فقال : «سئل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ :

__________________

(١). الشورى (٤٢) : ٤٨.

(٢). فقه الرضا ـ عليه‌السلام ـ : ٣٣٩ ؛ الكافي ٢ : ٢٥٠ ، الحديث : ٧ ؛ من لا يحضره الفقيه ٤ :/ ٣٦٣ ، الحديث : ٥٧٦٢ ؛ سبل السلام لابن حجر العسقلاني ٤ : ١٧٩ ؛ كنز العمّال ٣ : ١٨٥ ، الحديث : ٦٠٨١ ؛ صحيح مسلم ٨ : ٢١٠ ؛ سنن الترمذى ٣ : ٣٨٤ ، الحديث : ٢٤٢٦ ، ٢٤٢٥.

١١٥

من أشدّ الناس بلاء في الدنيا؟ فقال : النبيّون ، ثمّ الأمثل فالأمثل ، ويبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه وحسن أعماله ، فمن صحّ إيمانه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه ، ومن سخف إيمانه وضعف عمله قلّ بلاؤه» (١).

وفي الكافي أيضا بعدّة طرق عنهما ـ عليهما‌السلام ـ : «إنّ الله عزوجل إذا أحبّ عبدا غتّه بالبلاء غتّا» (٢).

وفيه أيضا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان ، كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه» (٣).

وفيه أيضا عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ الله عزوجل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهديّة من الغيبة ويحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض» (٤).

وفيه أيضا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : لا حاجة لله في من ليس له في ماله وبدنه نصيب» (٥).

وفي العلل عن عليّ بن الحسين عن أبيه ـ عليهما‌السلام ـ قال : «قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : لو كان المؤمن على [رأس] جبل لقيّض الله عزوجل له من يؤذيه ليأجره على ذلك» (٦).

وفي كتاب التمحيص عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «لا تزال الهموم

__________________

(١). الكافي ٢ : ٢٥٢ ، الحديث : ٢.

(٢). الكافي ٢ : ٢٥٣ ، الحديث : ٦ ، ٧.

(٣). الكافي ٢ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ، الحديث : ١٠.

(٤). الكافي ٢ : ٢٥٥ ، الحديث : ١٧.

(٥). الكافي ٢ : ٢٥٦ ، الحديث : ٢١.

(٦). علل الشرائع ١ : ٤٤ ـ ٤٥ ، الحديث : ٣.

١١٦

والغموم بالمؤمن حتّى لا تدع له ذنبا» (١).

وعنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «لا يمضي على المؤمن أربعون ليلة إلّا عرض له أمر يحزنه يذكّر ربّه» (٢).

وفي النهج قال ـ عليه‌السلام ـ : «لو أحبّني جبل لتهافت» (٣).

وقال ـ عليه‌السلام ـ : «من أحبّنا أهل البيت فليستعدّ للبلاء جلبابا» (٤).

أقول : وقال ابن أبي الحديد : قد ثبت أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال له ـ عليه‌السلام ـ : «لا يحبّك إلّا مؤمن ، ولا يبغضك إلّا منافق». وقد ثبت أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : «إنّ البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور ... هاتان المقدّمتان يلزمهما نتيجة صادقة هي أنّه لو أحبّه جبل لتهافت (٥). والأخبار في المعاني السابقة كثيرة جدّا.

قوله سبحانه : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ)

روت العامّة عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه قال : «من أحبّني فقد أحبّ الله ، ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال المنافقون : لقد قارف الشرك وهو ينهى عنه ، ما يريد إلّا أن نتّخذه ربّا كما اتّخذت النصارى عيسى ، فنزلت (٦).

*

__________________

(١). التمحيص : ٤٤ ، الحديث : ٥٣.

(٢). التمحيص : ٤٤ ، الحديث : ٥٤.

(٣). نهج البلاغة : ٤٨٨ ، الحديث : ١١١ ، من كلمات القصار.

(٤). نهج البلاغة : ٤٨٨ ، الحديث : ١١١ ، من كلمات القصار.

(٥). شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد ١٨ : ٢٧٥.

(٦). تفسير البيضاوي ١ : ٢٣٢ ؛ ٢ : ١٠٣ ؛ الكشّاف ١ : ٥٤٦.

١١٧

[وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥)]

قوله سبحانه : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ) ـ إلى قوله ـ : (يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)

أي جاءهم أمر ممّا يوجب الأمن أو الخوف من أخبار سرايا المسلمين وأنباء الكفّار أذاعوا به ، أي أفشوه ، فأوجب ذلك اضطرابا بين الناس وكشف أسرار الجيوش والسرايا.

١١٨

وقوله : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ)

لم يذكر سبحانه نفسه كما في قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١) ؛ لأنّ مورد تلك الآية المعارف الدينيّة والقضايا ، بخلاف هذه الآية ، فمورده الأخبار الدائرة بين الناس ، ولا معنى لردّه إلى كلام الله سبحانه ، بخلاف ردّه إلى الرسول وأولي الأمر ، وقد مرّ معنى «أولي الأمر».

وفي الجوامع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «هم الأئمّة المعصومون» (٢).

أقول : وروي هذا المعنى في تفسير العيّاشي وكمال الدين وغيرهما (٣).

قوله سبحانه : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ)

لمّا أتمّ تعييرهم وقرعهم بتبييت النفاق وإفشاء الأخبار ، جمعهم وسائر المسلمين في الخطاب ؛ لأنّ التثاقل كان مترائيا من عامّتهم ، فعاد إلى الامتنان عليهم بالفضل والرحمة.

وروي في قوله : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ، أنّ أبا سفيان يوم أحد لمّا رجع واعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ موسم بدر الصغرى فكره الناس وتثاقلوا حين بلغ الميعاد ، فنزلت ، فخرج النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وما معه إلّا سبعون ، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده (٤).

__________________

(١). النساء (٤) : ٥٩.

(٢). جوامع الجامع ١ : ٤٢٢.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٢٦٠ ، الحديث : ٢٠٥ ؛ كمال الدين ١ : ٢٣.

(٤). جوامع الجامع ١ : ٤٢٣ ؛ ورواه السمرقندي في تفسيره ١ : ٣٧٢ ؛ تفسير البغوي ١ : ٤٥٧ ؛ تفسير القرطبي ٥ : ٢٩٣.

١١٩

أقول : وقد مرّ تفصيل القصّة عن المجمع (١) عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في سورة آل عمران عند قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (٢) ، فهذه الآيات نازلة في وقعة بدر الصغرى مع تلك ، وإنّما تجزّأت وتفرّقت في التأليف.

فإن قلت : ما معنى الاستثناء بقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) مع أنّ للحكم عموما حقيقيّا بالاستغراق ؛ إذ لو لا فضل الله لم يقدر أحد أن يجتنب كيد الشيطان كما قال سبحانه في محلّ آخر : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) (٣).

قلت : المراد بالشيطان ها هنا نعيم بن مسعود الأشجعي ؛ إذ بعثه أبو سفيان إلى المدينة ليثبّط الناس ويخذلهم عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (٤) كما مرّ في سورة آل عمران عند قوله : (الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٥). والمعنى : ولو لا فضله ورحمته عليكم لركنتم إلى قول نعيم وتخلّفتم عن الخروج إلّا قليلا منكم ، وهو رسول الله خاصّة وخاصّته ، حيث قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «والله لأخرجنّ ولو وحدي» (٦) ، فهيّج قوله نفرا من المسلمين فخرجوا معه.

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ١٤٥.

(٢). آل عمران (٣) : ١٧٣.

(٣). النور (٢٤) : ٢١.

(٤). راجع : تفسير القمّي ١ : ١٠ ، ١٢٥ ؛ و ٢ : ١٨١.

(٥). آل عمران (٣) : ١٧٥.

(٦). راجع : بحار الأنوار ٢٠ : ٤١ ؛ الصحيح من السيرة ٨ : ٢٦٧ ؛ مجمع البيان ٢ : ٤٤٩ ؛ نور الثقلين ١ : ٤١٢.

١٢٠