تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

خالف القوم في المسح على الخفّين على عهد عمر بن الخطاب ، قالوا : رأينا النبيّ [ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ] يمسح على الخفّين ، قال : فقال علي [ـ عليه‌السلام ـ] : قبل نزول المائدة أو بعدها؟ فقالوا : لا ندري ، قال : ولكن أدري أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ترك المسح على الخفّين حين نزلت المائدة ، ولئن أمسح على ظهر حمار أحبّ إلىّ من (١) أن أمسح على الخفّين (٢).

وفيه أيضا عن محمد بن أحمد الخراساني ، رفع الحديث قال : أتى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ رجل فسأله عن المسح على الخفّين ، فأطرق في الأرض مليّا ثم رفع رأسه فقال : يا هذا إنّ الله تبارك وتعالى أمر عباده بالطهارة وقسّمها على الجوارح ، فجعل للوجه منه نصيبا ، وجعل لليدين منه نصيبا ، وجعل للرأس منه نصيبا ، وجعل للرجلين منه نصيبا ، فإن كانتا خفّاك من هذه الأجزاء فامسح عليهما (٣).

أقول : والروايات في الوضوء وأحكامه كثيرة.

قوله سبحانه : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)

عطف على الجزاء السابق على ما يفيده السياق ، والتقدير إذا قمتم إلى الصلاة ، فإن لم تكونوا جنبا ولم تكونوا مرضى ـ إلى آخره ـ فاغسلوا ، (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) ، فيفيد تعلّق التطهّر بتمام البدن ، ووجوب غسل البشرة وحصول الطهارة لكل ما جرى عليه الماء من البدن من قوله : (فَاطَّهَّرُوا) بخلاف قوله :

__________________

(١). في المصدر : ـ «من»

(٢). تفسير العياشي ١ : ٣٠١ ـ ٣٠٢.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٣٠١.

٢٢١

(وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) (١) ، والوجوب الغيري كالوضوء وسقوط الوضوء معه.

وفي التهذيب عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث يصف الغسل : ثمّ تغسل جسدك من لدن قرنك إلى قدمك (٢) ، ليس بعده ولا قبله (٣) وضوء ، وكلّ شيء أمسسته الماء فقد أنقيته ، ولو أن رجلا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك وإن لم يدلك جسده (٤).

أقول : والروايات فيه كثيرة.

قوله سبحانه : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ)

قوله سبحانه : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)

قد مرّ بعض الكلام فيه في سورة النساء ، ومرّ حديث زرارة عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ ويستفاد منه عدم جواز التيمّم بما لا غبار عليه كالحجر الأملس الصلد ، وقد استفاده ـ عليه‌السلام ـ من كلمة (مِنْهُ) واتّحاد حقيقتي الوضوء والتيمّم حيث قال : أثبت [بعض] الغسل مسحا ... (٥). وقد استفاده من سياق التنزّل في الآية.

قوله سبحانه : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)

سياق الاستدراك يدلّ على أنّ المراد نفي كون الحكم المجعول في الدين

__________________

(١). النساء (٤) : ٤٣.

(٢). في المصدر : «قدميك».

(٣). في المصدر : «قبله ولا بعده»

(٤). تهذيب الأحكام ١ : ١٤٨.

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٣٠٢ ؛ نور الثقلين ١ : ٦٠٠.

٢٢٢

حرجيّا ، لا نفي كون الحرجي مجعولا في الدين فبين المعنيين فرق ، فالآية لا تنفي حكما يوجب حرجا في مورد ، بخلاف ما في سورة الحج : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١).

وفي تفسير العياشي عن عبد الأعلى مولى آل سام قال : قلت لابي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : إنّي عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة كيف أصنع بالوضوء [للصلاة]؟ قال : فقال ـ عليه‌السلام ـ : يعرف (٢) هذا وأشباهه في (٣) كتاب الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤) (٥).

أقول : فعدوله ـ عليه‌السلام ـ عمّا في ذيل آية الوضوء مع كون السؤال عن أحكامه إلى ما في سورة الحج لما عرفت.

وبالجملة ؛ فالآية تنفي أن يكون الحكم المجعول حرجيّا فكأنّ المعنى إنّا لم نجعل الوضوء والغسل لنحمل عليكم الحرج ، فنشقّ عليكم عند المرض أو في الأسفار أو عند حاجة الطبيعة أو قضاء الشهوة الفطريّة ، بل عليكم العدول عندها إلى التيمّم ، ولكنّ الغرض أن تطهّروا وتتمّ النعمة عليكم ، فالمقصود من هذا التعداد في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ذكر موارد الحرج ، وعمدتها للمعذور هذه الموارد الأربعة ، وبذلك يندفع ما ربّما يمكن أن يتوهّم على ظاهر الآية :

أولا : إنّ صدر الآية يتكفّل حكم الطهارة المائيّة ، فلو وضع بدل قوله : (وَإِنْ

__________________

(١). الحجّ (٢٢) : ٧٨.

(٢). في المصدر : «تعرف»

(٣). في نسخة اخرى : «من» [منه ـ رحمه‌الله ـ]

(٤). الحجّ (٢٢) : ٧٨.

(٥). تفسير العياشي ١ : ٣٠٢.

٢٢٣

كُنْتُمْ مَرْضى) نحو قولنا : وإن لم تجدوا ماءا فتيمّموا كان أوفى وأشمل ، لكون الإيجاز أوفى لضرب القاعدة ، ولكون ما عدّ من الموارد موارد خاصة لا يعمّ جميع موارد العذر.

وثانيا : إنّ عدم الوجدان لو لم يشمل مورد عدم التمكّن لم يحتج أيضا إلى التفصيل ، بل كفى أن يقال : وإن كنتم مرضى أو لم تجدوا ماءا فتيمموا ... إلى آخره.

وثالثا : هب ، أنّ المقام مقام الإطناب ، لكن الأقسام الأربعة ليست بمتقابلة ، فذكر المرض لإفادة مورد عدم التمكّن ، وذكر السفر لإفادة مورد عدم الوجدان سواء كان للحدث الصغير أو الكبير ، وحينئذ فيغني ذكر المرض والسفر عن قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ) إلى آخره ، وتخصيص كلّ من الموارد الأربعة بما لا يشارك الآخر تخصيص بلا مخصّص.

ورابعا : هب ، أنّ الأقسام متقابلة ، لكن قوله في صدر الآية : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أشمل من قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) ، وكذا قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) عن قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) ، فما وجه العدول من الجملتين إلى ما هو أخصّ موردا ، وقوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) عطف على محل قوله : (كُنْتُمْ مَرْضى) وهو الموجب أيضا لعطف قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) عليه أيضا وقد أبهم سبحانه الفاعل فيه وقد كان مقتضى السياق أن يقال : أو جئتم ، أو يقال : أو جاء أحدكم مراعاة لجانب الأدب.

قوله سبحانه : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ)

استيناف ، هو كالتثبيت لغرض البيان في السورة بتذكير النعم ليشكر عليها ، والمواثيق ليتحفّظ بها ، والاستشهاد بقصص من بني إسرائيل يذكر فيها ما بلغ بهم

٢٢٤

المواثيق والنعم الإلهيّة أخذا وتركا ، كما قد عرفت إجماله في أوّل السورة.

وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : أنّ المراد بالميثاق ما بيّن لهم في حجّة الوداع من تحريم المحرّمات وكيفيّة الطهارة وفرض الولاية (١).

وفي تفسير القمّي في قوله : (قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا) قال ـ عليه‌السلام ـ : لما أخذ رسول الله ـ [ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ] الميثاق عليهم بالولاية قالوا سمعنا وأطعنا ، ثمّ نقضوا ميثاقه (٢) (٣).

أقول : والروايتان من الجري.

*

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ٢٩٠.

(٢). في المصدر : «ميثاقهم»

(٣). تفسير القمي ١ : ١٦٣.

٢٢٥

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا

٢٢٦

حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)]

قوله سبحانه : (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ ...)

في تفسير القمي : يعني أهل مكّة من قبل أن فتحها ، فكفّ أيديهم بالصلح يوم الحديبيّة (١).

قوله سبحانه : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا)

في الآيتين التفات من الغيبة في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ) ، إلى التكلّم بالغير في قوله : (وَبَعَثْنا) ثمّ إلى الغيبة في قوله : (وَقالَ اللهُ) ، ثمّ إلى المتكلّم في قوله : (لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) ، ثمّ إلى الغيبة في قوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

ويمكن أن يكون الوجه فيها أنّ أخذ الميثاق بواسطة موسى فمقامه سبحانه حينئذ مقام الغيبة ، وكذلك تكليمهم بقوله : (إِنِّي مَعَكُمْ) ، وكون البعث وكذلك اللعن وتقسية القلب فعلا له سبحانه بغير واسطته فمقامه في الحكاية هو التكلّم ، وأمّا قوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فقد مرّ في معنى الإحسان ، أنّ مقام الإحسان مقام العبادة على غيبته ، فالأنسب الغيبة.

فإن قلت : لو صحّ ما مرّ من الوجه في اتخاذ الغيبة في قوله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ ...) ، لكان اللازم ذلك فى قوله : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ١٦٣.

٢٢٧

مِيثاقَهُمْ) فهو مثله.

قلت : يؤيد التكلّم بالمعنى الذي ذكرناه قوله سبحانه : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) (١) ، فالميثاق بالإيمان والنصرة المأخوذ منهم كان بغير واسطة وأما الغيبة في قوله : (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) وقوله : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) (٢) ، وقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣).

فالوجه فيها ما تقدّم في سورة البقرة عند قوله سبحانه : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (٤) ، أنّ من الأوصاف ما يختلف حالها بالإضافة إلى الموصوفات ، فإذا اريد الفائدة المترتبة عليها من جهة الإضافة جيء بالإضافة والمقام من مصاديقه ، فالغرض بيان ما في أنباء يوم القيامة ، ومجيء الكتاب والنور من الأهميّة ، وما في القدرة العامّة من العظمة والأبّهة ، فافهم.

وهاهنا وجه ربّما حجب عنه غير أهله ، وهو كون أكثر الإلتفاتات في القرآن دائرا مدار استماع النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ للوحي وسيجيء له زيادة توضيح.

قوله سبحانه : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً)

رووا أنّ الله أمر بني إسرائيل بعد غرق فرعون بمصر أن يسيروا (٥) إلى أريحا من أرض الشام ، وكان يسكنها الجبابرة ، وقال : إنّي كتبتها لكم [داراو] قرارا ، وأمر موسى ـ عليه‌السلام ـ بأن يأخذ من كلّ سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء

__________________

(١). المائدة (٥) : ١١١.

(٢). المائدة (٥) : ١٥.

(٣). المائدة (٥) : ١٧.

(٤). البقرة (٢) : ٢٥٣.

(٥). في الأصل : «يصيروا»

٢٢٨

بما أمروا به من الخروج إلى الجبابرة والجهاد وقائدا ورئيسا لهم ، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل وسار بهم ، فلمّا دنى من أرضهم بعث النقباء يتجسّسون ، فرأوا أجراما عظاما وقوّة ، فرجعوا وأخبروا موسى بذلك ، فأمرهم أن يكتموا ذلك ، فحدثوا بذلك قومهم إلّا كالب بن يوفنا من سبط يهود ويوشع بن نون من سبط إفرائيم بن يوسف وكانا من النقباء (١).

قوله سبحانه : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ)

في تفسير القمّي : أنّها منسوخة بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٢) (٣).

أقول : والآية في سورة التوبة ، وقد نزلت قبل المائدة ، وقد تقدّمت الروايات أنّ المائدة غير منسوخة ، فالمراد به ما تتضمنه قوله بعد آيتين : (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ) ـ إلى قوله : ـ (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٤).

*

__________________

(١). تفسير الثعلبي ٤ : ٣٦ ؛ تفسير الطبري ٦ : ٩٦ ؛ تفسير القرطبي ٦ : ١١٣ ؛ بحار الأنوار ١٣ : ١٨٦.

(٢). التوبة (٩) : ٥.

(٣). تفسير القمّي ١ : ١٦٤.

(٤). المائدة (٥) : ١٥.

٢٢٩

[يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)]

قوله سبحانه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ)

في المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّ إمرأة من خيبر ذات شرف بينهم ، زنت

٢٣٠

مع رجل من أشرافهم وهما محصنان فكرهوا رجمهما ، فأرسلوا إلى يهود المدينة وكتبوا إليهم أن يسألوا النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عن ذلك طمعا في أن يأتي لهم برخصة.

فانطلق قوم منهم [كعب بن الأشرف ، و] كعب بن اسيد ، وشعبة بن عمرو ، ومالك بن الصيف ، وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم ، فقالوا : يا محمّد أخبرنا عن الزاني والزانيّة إذا أحصنا ما حدّهما؟ فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : هل ترضون بقضائي في ذلك؟ قالوا : نعم ، فنزل جبرئيل بالرجم فأخبرهم بذلك ، فأبوا أن يأخذوا به ، فقال جبرئيل : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له.

فقال النبيّ ـ [صلى‌الله‌عليه‌وآله] ـ : هل تعرفون شابّا أمرد أبيض أعور يسكن فدك (١) يقال له ابن صوريا؟ قالوا : نعم ، قال : فأي رجل هو فيكم؟ قالوا : هو (٢) أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى ، قال : فأرسلوا إليه ، ففعلوا فأتاهم عبد الله بن صوريا ، فقال له النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّي أنشدك الله الذي لا إله إلّا هو الذي أنزل التوراة على موسى ، وفلق لكم البحر فأنجاكم (٣) وأغرق آل فرعون ، وظلّل عليكم الغمام ، وأنزل عليكم المنّ والسلوى ، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟

قال ابن صوريا : نعم ، والذي ذكّرتني به ، لو لا خشية أن يحرقني ربّ التوراة أنّي (٤) كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك ، ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا

__________________

(١). في المصدر : «فدكا»

(٢). في المصدر : ـ «هو»

(٣). في المصدر : «وأنجاكم»

(٤). في المصدر : «إن»

٢٣١

محمّد؟ قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم.

فقال (١) ابن صوريا : هكذا أنزل الله في التوراة على موسى ـ عليه‌السلام ـ ، فقال له النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : فما ذا كان أوّل ما ترخّصتم به أمر الله؟

قال : كنّا اذا زنى الشريف تركناه ، وإذا أخذنا (٢) الضعيف أقمنا عليه الحدّ ، فكثر الزنا في أشرافنا ، حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ، ثمّ زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه ، فقال له قومه : لا ، حتى ترجم فلانا ، يعنون ابن عمّه ، فقلنا : تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف والوضيع ، فوضعنا الجلد والتحميم ، وهو أن يجلد أربعين جلدة ثمّ يسوّد وجوههما ، ثمّ يحملان على حمارين ويجعل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم.

فقالت اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته به ، وما كنت لما أتينا عليك بأهل ، ولكنّك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك ، فقال لهم (٣) : أنشدني بالتوراة [ولو لا ذلك] لمّا أخبرته به ، فأمر بهما النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فرجما عند باب مسجده ، وقال : أنا أوّل من أحيى أمرك إذ أماتوه ، فأنزل الله سبحانه فيه : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

فقام ابن صوريا فوضع يده على ركبتي رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ

__________________

(١). في المصدر : «قال»

(٢). في المصدر : «زنى»

(٣). في المصدر : «فقال : إنه»

٢٣٢

فقال (١) : هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه ، فأعرض النبيّ عن ذلك (٢) ، وللحديث ذيل في تفسير البرهان (٣).

قوله سبحانه : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ)

في جمع الظلمات وإفراد النور إيماء إلى وحدة سبل السلام بحسب الباطن على كثرتها وتعدّدها بحسب الظاهر ، وقد تقدّم تعرّض للآية في سورة الفاتحة عند قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٤) وهدم معنى الإذن في سورة البقرة عند قوله (٥) :

قوله سبحانه : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ)

في مقام الجواب عمّا ادّعوه أنّ الله هو المسيح ، واستدلوا عليه بأنّه مولود من غير أب ، كما يشعر به وصفه بابن مريم ، فيبطل دعواهم أنّ الإله يمتنع إهلاكه لمنافاته مقام وصف الالوهيّة ، فيوجب ذلك تقييد القدرة المطلقة من الله سبحانه ، أي سلب هذه القدرة ، وهو المراد بملك إهلاكه ـ عليه‌السلام ـ من الله وهو باطل لعموم القدرة ، ويبطل دليلهم أنّ الولادة من غير أب لا يستلزم دعواهم بأي معنى فسّروها بإطلاق الملك ، ويوجب ذلك جواز كلّ تصرّف ، والقدرة مطلقة ، فعموم القدرة يوجب إطلاق الملك ، وهو يوجب إطلاق التصرّف ايجادا وإعداما ، وبالإيجاد يبطل الدليل ، وبالإعدام يبطل المدلول.

__________________

(١). في المصدر : «ثم قال»

(٢). مجمع البيان ٣ : ٣٣٣ ـ ٣٣٥.

(٣). لم أعثر عليه في البرهان في تفسير القرآن ؛ راجع : تفسير نور الثقلين ١ : ٦٣٠.

(٤). الفاتحة (١) : ٦.

(٥). لم يذكر العلّامة ـ رحمه‌الله ـ الآية في سورة البقرة ومحل الآية في المخطوط بياض.

٢٣٣

قوله سبحانه : (عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ)

في الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في حديث له مع نافع مولى [عبد الله بن] عمر ابن الخطاب ، فقال يعني نافعا : أخبرني كم بين عيسى ومحمّد (١) من سنة؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال : أخبرني بالقولين جميعا ، قال : أمّا في قولي فخمسمأة سنة وأمّا في قولك فستمأة سنة (٢).

*

__________________

(١). في المصدر : «بين محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ»

(٢). الكافي ٨ : ١٢٠ ـ ١٢١ ؛ تفسير القمي ٢ : ٣٨٤ ؛ بحار الأنوار ١٠ : ١٦١.

٢٣٤

[وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)]

قوله سبحانه : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)

٢٣٥

تغيير السياق في الجملتين لكون الملك غير اختصاصي ، فيمكن أن ينسب وصف البعض إلى الكلّ بخلاف النبوّة ، فلا يقال جعلكم أنبياء كما لا يصحّ ذلك في الإمامة قال تعالى : (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (١) ، وقال في قصة إبراهيم : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ* وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (٢) ، وهذا بخلاف قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (٣) فإن الإيتاء إفعال من الإتيان ، ولا مانع من نسبة حكم البعض فيه إلى الكل بخلاف الجعل ، فإنّ المفعولين فيه مبتدأ وخبر ، بخلاف الإيتاء.

قوله تعالى : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ)

أي من الآيات والكرامات ، قال تعالى : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (٤).

وقوله : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ)

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ «الشام» (٥).

وقوله : (كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)

في تفسير العيّاشي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ بني إسرائيل قال الله لهم :

__________________

(١). السجدة (٣٢) : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢). الأنبياء (٢١) : ٧٢ ـ ٧٣.

(٣). الجاثية (٤٥) : ١٦.

(٤). الجاثية (٤٥) : ١٦.

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٣٠٦.

٢٣٦

(ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) ، فلم يدخلوها حتى حرّمها عليهم وعلى أبنائهم ، وإنّما دخلها أبناء أبنائهم» (١).

وفيه أيضا بعدّة طرق عنهما ـ عليهما‌السلام ـ «كتبها لهم ثم محاها عنهم» (٢) (٣).

أقول : ولا منافاة بين الروايتين لجواز حتميّة أصل الدخول وطروّ البداء في خصوصيّاته ، وقد مرّ نظيره.

وقوله : (قالَ رَجُلانِ)

في تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إنّهما (٤) : يوشع بن نون و (٥) كالب بن يوفنا (٦) ، وهما إبنا عمّه» (٧).

قوله : (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)

التيه : هو التحير في المسير.

وقوله : (فَلا تَأْسَ)

التأس : هو الأسف والحزن.

__________________

(١). في المصدر : «أبناء الأبناء» ؛ وفي الإختصاص للمفيد : «أبناء الأنبياء»

(٢). في المصدر ـ : «عنهم»

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٣٠٤ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٤٠٠ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٣٥٣ ؛ بحار الأنوار ١٣ : ١٨٠.

(٤). في المصدر : «أحدهما»

(٥). في المصدر : + «الآخر»

(٦). في المصدر : «كالب بن يافنا ، قال»

(٧). تفسير العيّاشي ١ : ٣٠٣ ؛ مجمع البيان ٣ : ٢٧٩ ؛ تفسير الطبري ٦ : ١١٤ ؛ تفسير القرطبي ٦ : ١٢٧ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٤٠٠ ؛ بحار الأنوار ١٣ : ١٨٠.

٢٣٧

وفي أمالي المفيد (١) ، عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : لما انتهى بهم موسى إلى الأرض المقدّسة قال لهم : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) ، وقد كتبها الله لهم ، قالوا : (إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) ، إلى آخر الآيات ، فلمّا أبوا أن يدخلوها حرّمها الله عليهم ، فتاهوا في أربعة (٢) فراسخ أربعين سنة يتيهون في الأرض ، فلا تأس على القوم الفاسقين.

قال أبو جعفر [ـ عليه‌السلام ـ] : كانوا (٣) إذا أمسوا ، نادى مناديهم : استتموا (٤) في (٥) الرحيل ، فيرتحلون بالحداء والزجر ، حتى إذا أسحروا أمر الله الأرض فدارت بهم فيصبحوا في منزلهم الذي ارتحلوا منه ، فيقولون : قد أخطأتم الطريق فمكثوا بهذا أربعين سنة ، ونزل عليهم المنّ والسلوى حتى هلكوا جميعا إلّا رجلان (٦) يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وابنائهم ، وكانوا يتيهون في نحو من أربع فراسخ (٧) الحديث.

وفي تفسير القمي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «مات هرون قبل موسى وماتا جميعا في التيه» (٨).

أقول : وفي هذه المعاني روايات أخر.

__________________

(١). وجدناه في الإختصاص : ٢٦٥.

(٢). في المصدر : «أربع»

(٣). في المصدر : «قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ»

(٤). في نسخة «استيموا» [منه ـ رحمه‌الله ـ]

(٥). في المصدر : «أمسيتم» بدل «استتموافي»

(٦). في المصدر : «رجلين»

(٧). الاختصاص : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٨). تفسير القمي ٢ : ١٣٧.

٢٣٨

وفي تفسير العياشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة حتى لا تخطئون طريقهم ولا يخطئكم سنّة بني إسرائيل» (١).

أقول : وهذا المعنى على كونه متفقا على روايته بين الفريقين جميعا مستفاد من كلامه سبحانه ، فالناطق إذا كان عاقلا في تربيته ، ناصحا في عظته متقنا في أمره ، إنّما يرشد مسترشديه إلى ما في وسعهم الاسترشاد به ، ويحذّرهم من موارد الهلكة ومزالق العثرة ما هم في مظنّة الإبتلاء به والوقوع فيه ، وإذا نزّل كلامه سبحانه هذه المنزلة وهو بها أحق أنتج ذلك أنّ ما قصّه ومثّل به من سنن الأمم الماضية ، وحذّرهم ونهاهم عن أمثالها ، سيطلع في مطالع هذه الأمة بعد غروبها بغروب الأمم الغابرة ، وستحلّ في ديارنا ظلماتها ، كما حلّت في ديار غيرنا في الأيام الخالية ، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) (٢).

وقد تعرّض سبحانه في هذه السورة التي يحثّ فيها على شكر نعمه وحفظ مواثيقه جميل ما جرى على بني إسرائيل من ذلك ، ولذلك خصّ تعالى بني اسرائيل بالتصريح من بين سائر الأمم.

على أنّه قد مرّ في سورة البقرة عند قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) (٣) ، إنّ هذا الدين جامع لجميع الأديان السابقة ، وسيجيء في الكلام على معنى الإمتحان

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٣٠٣.

(٢). آل عمران (٣) : ١٤٠.

(٣). البقرة (٢) : ٢١٣.

٢٣٩

أنه يدور مدار التكاليف الإلهية الدائرة مدار استعدادات الأمم ، ويستنتج من ذلك أنّ السنن والحوادث الماضية راجعة عائدة بأمثالها لا محالة ، وقد قال الله سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) (١).

*

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢١٤.

٢٤٠