تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)]

قوله سبحانه : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ)

الضمير ـ في قوله : (عَلَيْهِمْ) ـ ليس بعائد إلى بني إسرائيل ، وإلّا كان قوله بعد

٢٤١

الآيتين : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ، من وضع الظاهر موضع الضمير من غير موجب ، بل هو راجع إلى المؤمنين ، كما أنّ وجه الكلام في السورة إليهم وقصّص القصص وضرب الأمثال فيها لإيقاظهم وتنبيههم فسيقت القصة بعد ما بيّن جملة من سنن بني إسرائيل إذ نقضت العهد والميثاق وكفرت بأنعم الله واستهانت بأمر الله ، وسخّرت واعتدت ولجّت ، فقابلهم الله باللعن والخذلان وكلّما اشتدّت في طغيانها شدّد عليها بالإستدراج ، فالخذلان وتلك الإستهانة بأمر الله تبلغ بالإنسان إلى أن يستحقر كلّ عظيم ، وحبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة ، فسيقت هذه القصّة ليعتبر بها المعتبرون من هذه الأمّة ، إنّ الحسد والبغي يبلغان بالإنسان مبلغا يهوّن للإنسان أن يقتل الشقيق شقيقه ، وإنّ الله لا يدع تدبير ملكه لمعصية عاص ، فيردفه بما فيه خذلانه واستدراجه وصلاح النوع ، كما في بعثه الغراب ، فقد كان استدراجا وتشديدا لخذلان قابيل ، وتعليما للنوع في دفن موتاهم.

وقوله : (ابْنَيْ آدَمَ) ، هما هابيل وقابيل ، وفي بعض الأخبار : قايين ، وقد مرّت في أول سورة النساء.

وقوله : (قُرْباناً) ، القربان : ما يتقربّ به إلى الله سبحانه من ذبيحة أو غيرها.

وقوله : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ)

هذا الكلام من هابيل كلام على تقدير إرادة القتل وهو قوله : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي).

والمعنى ـ والله العالم ـ أنّه على تقدير وقوع القتل ، فأنت أولى به وبتحمّل إثمي وإثمك جميعا.

وقوله : (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ)

خصوصيّة التعبير مشعر بالخلود ، وقد فرّعه على تحمّل إثمين من غير تسمية

٢٤٢

للقتل ، كأن يقول : تريد أن تقتلني فتبوء بإثمي وإثمك ، فقد جعل القتل تحمّلا لإثم المقتول ، فمن قتل نفسا لقد تحمّل إثمه.

كما في ثواب الأعمال عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «من قتل مؤمنا (١) أثبت الله على قاتله (٢) جميع الذنّوب ، وبرئ المقتول منها ، وذلك قول الله عزوجل : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) (٣).

أقول : وجه الإستفادة ظاهر ، وهذا هو الحال في الهداية والإضلال ، فقد سمّى الله الإهتداء والضلال حياة وموتا ، والهداية والإضلال إحياءا وإماتة ، قال تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (٤) وقال : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (٥).

وسيجيء بعض الأخبار في ذلك ، بالجملة عند قوله : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً).

فمن أضل نفسا فقد قتلها وتحمّل وزرها ، وقد قال سبحانه : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٦). وقال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٧) ، فعليها مثل وزرها كما قال سبحانه : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٨) ويرجع الأمر إلى اللحوق ، وهو الوزر الواحد يتحمله اثنان ، كما سيجيء بيانه إن شاء الله عند قوله : (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً

__________________

(١). في المصدر : + «متعمدا»

(٢). في المصدر : «أثبت الله تعالى عليه»

(٣). ثواب الأعمال : ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

(٤). الأنفال (٨) : ٤٢.

(٥). الأنعام (٦) : ١٢٢.

(٦). المدّثّر (٧٤) : ٣٨.

(٧). الأنعام (٦) : ١٦٤.

(٨). النحل (١٦) : ٢٥.

٢٤٣

فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) (١) ، وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٢) وغيرهما.

وفي تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) (٣) ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «فما سنّ (٤) من سنّة ليستنّ بها من بعده ؛ فإن كان شرا كان عليه مثل وزرهم ولا ينقص من وزرهم شيئا (٥) ، وإن كان خيرا كان له مثل أجورهم ولا ينقص من أجورهم شيئا» (٦) ، الحديث (٧).

ومثله مرويّ عن النبيّ (٨) ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، هذا ؛ ولنرجع إلى أصل القصة.

في تفسير القمّي عن الثمالي ، عن ثوير بن أبي فاختة ، قال : سمعت عليّ بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ يحدث رجالا (٩) من قريش قال : «لمّا قرّبا (١٠) إبنا آدم القربان ؛ قرّب أحدهما أسمن كبش كان في صيانته (١١) ، وقرّب الآخر ضغثا من سنبل ، فتقبّل (١٢) من صاحب الكبش وهو هابيل ، ولم يتقبل من الآخر ، فغضب قابيل وقال لهابيل : والله لأقتلنّك ، فقال هابيل : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ*

__________________

(١). الأنفال (٨) : ٣٧.

(٢). الطور (٥٢) : ٢١.

(٣). القيامة (٧٥) : ١٣.

(٤). في المصدر : «بما قدم من خير وشر وما أخر مما سنّ»

(٥). في المصدر : «شيء»

(٦). في المصدر : «شيء»

(٧). تفسير القمي ٢ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٨). مستدرك الوسائل ١٢ : ٢٣٠.

(٩). في المصدر : «رجلا»

(١٠). في المصدر : «لما قرب»

(١١). في المصدر : «في ظأنيته»

(١٢). في المصدر : «فقبل»

٢٤٤

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ* إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) ، فلم يدر كيف يقتله ، حتى جاء أبليس فعلّمه فقال : ضع رأسه بين حجرين ثم أشدخه ، فلما قتله لم يدر ما يصنع به ، فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتى اقتتلا ، فقتل (١) أحدهما صاحبه ، ثم حفر الذي بقي في الأرض (٢) بمخالبه ودفن فيه (٣) صاحبه قال قابيل : (يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) ، فحفر له حفيرة ودفنه فيها ، فصارت سنّة يدفنون الموتى» ، الحديث (٤).

أقول : وفي هذا المعنى عدة روايات :

في تفسير العياشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ قابيل ابن آدم معلق بقرونه في عين الشمس تدور به حيث دارت في زمهريرها وحميمها إلى يوم القيامة» (٥) ، الحديث.

وهذا المعنى وارد في بعض روايات أخر أيضا (٦).

لكن في تفسير القمّي عن أبي جعفر الباقر ـ عليه‌السلام ـ في حديث ، قال : «إنّ بالهند أو من وراء الهند رجل معقول (٧) لبس المسح مؤكل به عشرة نفر ،

__________________

(١). في المصدر : «حتى قتل أحدهما»

(٢). في المصدر : «في»

(٣). في المصدر : «فيها»

(٤). تفسير القمّي ١ : ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٣١١.

(٦). الاحتجاج ٢ : ٦٤ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٤٠٨.

(٧). في المصدر : «رجلا معقولا برجله أي واحدة»

٢٤٥

كلّما مات رجل [منهم] أخرج أهل القرية بدله ، فالناس يموتون والعشرة لا ينقصون ، يستقبلونه بوجهه (١) الشمس حتى تطلع ، [و] يديرونه معها حتى (٢) تغيب ، ثم يصبّون عليه في البرد الماء البارد وفي الحرّ الماء الحارّ ، قال : فمرّ به رجل من الناس فقال له : من أنت يا عبد الله؟ فرفع رأسه ونظر إليه ثم قال له : إمّا أن تكون أحمق الناس ، وإمّا أن تكون أعقل الناس ، إنّي القائم (٣) هاهنا مذ قامت الدنيا وما سألني [أحد] من أنت غيرك ، ثم قال : يزعمون أنه ابن آدم» ، الحديث (٤).

قوله سبحانه : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ)

يمكن أن يقال : إنّ ذلك إشارة إلى ما يتحصّل من القصص السابقة ، وهو أنّ الفسق والإعتداء كلّما اشتدّ في قباله السخط والإستدراج ، حتى ربّما انجرّ الأمر إلى البلوى وأشدّ الفساد ، كقتل الشقيق شقيقه من غير جرم عليه ، بل لتقوى منه ، ولذلك عظّم الأمر في القتل والإحياء ، حين انتهت نوبة التشريع إلى بني اسرائيل فعدّ قتل واحد قتلا للناس كلّهم ، وإحياء واحد احياء لهم جميعا ؛ لماسّة ذلك غرض الخلقة مستقيما ، فغرضه سبحانه على النحو اللائق من الغرض بساحة قدسه وجود الإنسان وحياته في الأرض ، ولذلك عدّ فساد المفسدين في الأرض في الآية التالية محاربة لله ، فالكلام مسوق سوق التشديد.

__________________

(١). في المصدر : «بوجه» ، لكن في البرهان في تفسير القرآن : «بوجهه»

(٢). في المصدر : «حين»

(٣). في المصدر : «لقائم»

(٤). تفسير القمي ١ : ١٦٦ ـ ١٦٧ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٣٦٢.

٢٤٦

ويؤيّد هذا الوجه تشفيع حكم القتل بحكم الإحياء ، فظاهر السياق أنّ بيانه لغير تطفّل.

ويؤيده أيضا ما في ذيل الآية من قوله : (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ).

فإنّ ذلك وخاصة الجملة الاولى إنّما يلائم التشديد.

ويؤيّده أيضا خصوصية سنخ التشبيه الواقع فيها أنّه : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ، وهو تشبيه الوصف المتعلّق بالفرد الواحد بالوصف المتعلّق بجميع الأفراد.

بيان ذلك : إنّ التشبيه ، وهو بيان اتحاد شيء مع آخر في وصف أو بيان ربط شيء مع آخر ربط الإتحاد في وصف ، كقولنا : زيد كالأسد ، إنما يدخل في صفّ المزايا الكلامية إذا كان في الوصف ، أعني وجه الشبه أقوى في المشبّه به منه في المشبّه حقيقة ، أو ادّعاء حتى يفيد التوسل إلى ذكر المشبّه به وتقدير حال المشبّه ، فحال المشبّه به ، تقوية وتأكيدا في التلبس ، وإلّا كان لغوا زائدا في الكلام فلولا أنّ قولنا : زيد كالأسد يفيد أزيد مما يفيده قولنا : زيد شجاع ، وهو أنّ ما فيه من الشجاعة هي التي في الأسد ، وهو الشاخص فيها الباسل بها ؛ كان وزانه وزان اصل الكلام الساذج أعني قولنا : زيد شجاع ، فكان الخروج من ذلك إلى أمر زائد ، وهو التوسّل بذكر الأسد لغوا لا ينزّل عليه البليغ من الكلام.

هذا ؛ والتشبيه إذا وقع بين أفراد النوع صحّ هذا الحكم في تشبيه فرد معين بآخر مثله ، كقولنا : زيد كالحاتم أو بعدة مثله ، كقوله : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (١)

__________________

(١). الكهف (١٨) : ١١٠.

٢٤٧

فهو في معنى التشبيه ، وكقولنا : إنّ قتل هابيل كان كقتل الناس جميعا ، لأنّه الفاتح لهذا الباب والممكّن في النفوس إذعان أن الإنسان يمكن أن يقتل.

وأمّا إذا كان الفرد المشبّه فردا منتشرا مرسلا ثمّ يشبّه بأفراد النوع جميعا كان التشبيه نقضا لغرض التشبيه وبطل الحكم المذكور ، فإنّ جمع الأفراد في المشبّه به وضمّ بعضها إلى بعض إنما هو لتقوية الوصف وتكبيره بتراكم بعضه على بعض ، فوصف الكلّ أقوى من حكم الفرد ووصف الفرد أعني المشبّه أضعف منه ، فإنّه فرد بعضه مرسل ، وقد ادّعي بالتشبيه أنّه مثله ، وهذا هو نقض الغرض ، فهذا تشبيه فاسد غير أنّ المقام ربما أصلح ذلك ، كما إذا كان مقام تشديد وتضعيف للنكال ، فإنّ الدعوى حينئذ أنّ الواحد بالواحد لكنّ الأمر مقرون بما يوجب وضع الكثير موضع القليل ، وعدّ الجميع واحدا في الأخذ والعقاب ، فافهم ذلك.

فيرجع المعنى على هذا أنّ القتل الواحد لما كان في قوة فتح الباب وتسهيل الطريق لكل فساد في الأرض ، والاعتداء والطغيان ، يوجب التشديد وتضاعف السخط ، كتب على بني اسرائيل وهم المستهينون لبيانات الأنبياء والمناقضون لمواثيق الله المستخفون لأوامر الله ونواهيه أنّ القتل الواحد محسوب منهم قتلا للجميع ، والإحياء الواحد إحياء للجميع ، فذلك حكم مشدّد لبني إسرائيل أمّة موسى ، ومن بعدهم أنفذه الله في حق بني آدم لمّا شاع منهم الإجتراء والهتك لمحارم الله ، والنقض لغرض الخلقة.

هذا ، وأما ارجاع الإشارة إلى نبأ ابني آدم فالأمر لا يساعد عليه المعنى.

وفي تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في حديث قال الله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ، فلفظ الآية خاص في بني إسرائيل ومعناه

٢٤٨

جار في الناس كلهم (١).

أقول : يعني ـ عليه‌السلام ـ في الناس كلّهم بعد بني إسرائيل لما مرّ.

وفي الكافي عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله عزوجل : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً) قال : «له في النار مقعد لو قتل الناس جميعا لم يرد إلّا [إلى] ذلك المقعد» (٢).

أقول : وروى هذا المعنى الصدوق في الفقيه والعيّاشي في تفسيره (٣).

وفي الكافي أيضا ، عن حمران ، قال : قلت لأبي عبد الله (٤) ـ عليه‌السلام ـ : ما معنى قول الله عزوجل : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ، قال : قلت : فكيف فكأنّما قتل الناس جميعا ، فإنّما قتل واحدا؟ قال : يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدّة عذاب أهل الدنيا (٥) لو قتل الناس جميعا كان إنّما (٦) يدخل ذلك المكان ، قلت : فإن (٧) قتل آخر ، قال : يضاعف عليه (٨).

أقول : ورواه الصدوق في الفقيه والعيّاشي في تفسيره (٩) عنه ـ عليه‌السلام ـ.

وفي الروايتين شهادة على ما مرّ في سورة البقرة عند قوله : (إِنَّ اللهَ

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ١٦٧.

(٢). الكافي ٧ : ٢٧٢.

(٣). من لا يحضره الفقيه ٤ : ٩٤ ، تفسير العيّاشي ١ : ٣١٢ ـ ٣١٣.

(٤). في المصدر : «لأبي جعفر»

(٥). في المصدر : «أهلها»

(٦). في المصدر : «إنّما كان» وفي من لا يحضره الفقيه : «لكان إنّما»

(٧). في المصدر : «فإنّه»

(٨). الكافي ٧ : ٢٧١.

(٩). من لا يحضره الفقيه ٤ : ٩٤ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣١٣ [مع تفاوت].

٢٤٩

لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) (١) ، إنّ لتشبيهات القرآن واستعاراتها فيما يعود إلى الجزاء والوعد والوعيد معنى آخر ، فراجع ، فقد استفاد ـ عليه‌السلام ـ من التمثيل والتشبيه مقاما أخرويّا حقيقيا ، فإنّما المثال برزخ متوسط بين الدنيا والآخرة.

وفي أمالي الشيخ عن فضيل ، قال : قلت لأبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : قال الله عزوجل في كتابه : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) ، قال : «من حرق أو غرق ، قلت : من أخرجها من ضلال إلى هدى قال : ذلك (٢) تأويلها الأعظم» (٣).

أقول : وروى هذا المعنى العيّاشي في تفسيره بعدّة طرق ، والبرقي في المحاسن (٤).

وفي تفسير العيّاشي عن سماعة ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال : «من أخرجها من ضلال إلى هدى فقد أحياها ، ومن أخرجها من هدى إلى ضلالة فقد قتلها» (٥).

أقول : وروي هذا المعنى في الكافي والمحاسن (٦).

وقد مرّ بيان معنى الرواية عند قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) (٧).

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٠٦.

(٢). في المصدر : «ذاك»

(٣). لم نعثره عليه في المصدر ولكن في : الكافي ٢ : ٢١٠ ـ ٢١١ ؛ وسائل الشيعة ١٦ : ١٨٦.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٣١٣ ؛ المحاسن ١ : ٢٣٢ ؛ مستدرك الوسائل ١٢ : ٢٣٩.

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٣١٣.

(٦). الكافي ٢ : ٢١٠ ـ ٢١١ ؛ المحاسن ١ : ٢٣١.

(٧). المائدة (٥) : ٢٧.

٢٥٠

وأمّا قوله ـ عليه‌السلام ـ : «ذلك تأويلها الأعظم» فقد عرفت في سورة آل عمران عند قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (١) ، أنّ معنى التأويل في عرف القرآن غير ما هو في عرف العلماء ، وعليه فيتفاوت معنى الرواية مع ما يتلّقى من ظاهرها كل التفاوت ، فراجع وتأمّل.

وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «المسرفون هم الذين يستحلّون المحارم ويسفكون الدماء» (٢).

أقول : وجه استفادته من سياق الآيات ظاهر.

*

__________________

(١). آل عمران (٣) : ٧.

(٢). لا يوجد في مجمع البيان ، لكن رواه في تفسير الصافي ٢ : ٣١.

٢٥١

[إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)]

٢٥٢

قوله سبحانه : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا)

معنى محاربتهم الله ورسوله هو سعيهم بالفساد فإنّه نقض غرض الخلقة والبعثة.

فإنّ غرض الخلقة هو حياة الإنسان وبقائهم في الأرض ، قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ) (١) وقال : (فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ) (٢) إلى غير ذلك وغرض البعثة صلاح النظام.

وقد مرّ اقتناص حدّ الدين في سورة البقرة من قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) (٣) ، أنّه نحو سلوك دنيويّ يتضمّن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي ، فقوله : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) بيان لما قبله.

ولهذا الذي ذكر جمع في الآية بين الحدّ والعذاب الأخروي ، فقد ورد في كثير من الحدود أنّ الله تعالى أجلّ من أن يجمع له عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، ففي الآية جهات من التشديد : عدّهم محاربين لله ورسوله ، والجمع لهم بين العذابين والتشديد بقوله : (يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ) من باب التفعيل فمعناه الإبادة والشيوع ، لقولهم : ماتت الإبل وموّتت الآبال ، أي شاع فيها الموت وأبادها.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «قدم على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قوم من بني ضبة مرضى ، فقال لهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : أقيموا عندي فإذا برأتم بعثتكم في سريّة فقالوا : أخرجنا من المدينة فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها ويأكلون من ألبانها ، فلمّا برئوا واشتدّوا قتلوا

__________________

(١). البقرة (٢) : ٣٦.

(٢). الأعراف (٧) : ٢٥.

(٣). البقرة (٢) : ٢١٣.

٢٥٣

ثلاثة ممّن كانوا في الإبل وساقوا الإبل ، فبلغ رسول الله ، الخبر. فبعث إليهم عليّا وهم في واد قد تحيّروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريب من أرض اليمن ، فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله ، فنزلت عليه هذه الآية ، فاختار رسول الله القطع ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف» (١).

وفي الكافي أيضا ، عن المدائني ، عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ ، قال : سئل عن قول الله عزوجل : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا) فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع؟

فقال : «إذا حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فقتل قتل به ، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن شهر السيّف فحارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا ولم يقتل ولم يأخذ المال نفي (٢) من الأرض».

قلت : كيف ينفى من الأرض وما حدّ نفيه؟ قال : «ينفى من المصر الذي فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره ، ويكتب إلى أهل ذلك المصر أنّه منفي ، فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه ، فيفعل ذلك به سنة ، فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره كتب إليهم بمثل ذلك حتى تتم السّنة».

قلت : فإن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها ، قال : إن توجّه إلى أرض الشرك [ليدخلها] قوتل أهلها (٣).

__________________

(١). الكافي ٧ : ٢٤٥ ؛ تهذيب الأحكام ١٠ : ١٣٤ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٣١٤ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٣٧٧ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٤١١.

(٢). في المصدر : «ينفي»

(٣). الكافي ٧ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

٢٥٤

وفيه أيضا عن رجل من أصحابنا ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : سألته عن المحارب ، فقلت [له] : إنّ أصحابنا يقولون إنّ الإمام مخيّر فيه إن شاء قطع وإن شاء صلب وان شاء قتل ، فقال : لا ، إنّ هذه أشياء محدّدة (١) في كتاب الله عزوجل فإذا [ما] هو قتل وأخذ ، [قتل و] صلب ، وإذا قتل ولم يأخذ ، قتل ، وإن (٢) أخذ ولم يقتل ، قطع ، وإن (٣) هو فرّ ولم يقدر عليه ثم أخذ ، قطع ، إلّا أن يتوب ، فإن تاب لم يقطع» (٤).

وفي تفسير العيّاشي عن الجواد ـ عليه‌السلام ـ في حديثه مع المعتصم : «إن (٥) كانوا أخافوا السبيل [فقط] ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا مالا ، أمر بإيداعهم الحبس ، فإنّ ذلك معنى نفيهم من الأرض بإخافتهم السبيل (٦).

أقول : والروايات في المعاني السابقة كثيرة مروية في كتب الحديث (٧) ، والآية إنّما تشتمل على الترديد معا ، وأمّا خصوصيّة الترديد وغير ذلك فمستفادة من السنّة.

وفي الكافي عن محمّد بن مسلم ، عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في حديث قال : فقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : «إن عفوا عنه ـ يعني أولياء من قتله المحارب وأخذ ماله ـ فإنّ على الإمام أن يقتله ؛ لأنّه قد حارب وقتل وسرق ، قال : فقال

__________________

(١). في المصدر : «محدودة»

(٢). في المصدر : «إذا»

(٣). في المصدر : «إذا»

(٤). الكافي ٧ : ٢٤٨.

(٥). في المصدر : «فإن»

(٦). تفسير العيّاشي ١ : ٣١٥.

(٧). تهذيب الأحكام ١٠ : ١٣٥ ؛ وسائل الشيعة ٢٨ : ٣١٠ ؛ بحار الأنوار ٧٦ : ١٩٧.

٢٥٥

أبو عبيدة : أرأيت إن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية ويدعونه ألهم ذلك؟ قال : «لا ، عليه القتل» (١).

أقول : ويستفاد ذلك من تعليق الحكم في صدر الآية بوصف المحاربة والسعي إذ قال تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) ، ثم قال : (ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

قوله سبحانه : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)

الوسيلة : ما يتوسّل به إلى الشيء المقصود ، وقدّم الظرف عليه للإشارة إلى كونه سبحانه هو المقصود بالإبتغاء.

وفي تفسير القمّي قال : فقال : «تقرّبوا إليه بالإمام» (٢).

وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب ، عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : «أنا وسيلته» (٣).

أقول : وقريب منهما ما في العيون عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وذلك من باب الجري ، ويمكن أن يكون من التأويل (٤).

ويناسب مع ذلك السياق ، من حيث إنسياق الآيات بسياق الحثّ على حفظ الميثاق ، وفيها آية الولاية وآية العصمة وآية (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ) (٥) ، ولذلك في الآيتين التاليتين أعني قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الى آخره.

__________________

(١). الكافي ٧ : ٢٤٨.

(٢). تفسير القمي ١ : ١٦٨.

(٣). البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٣٨٧ ؛ المناقب ٣ : ٧٥.

(٤). عيون الأخبار الرضا (ع) ٢ : ٦.

(٥). المائدة (٥) : ٣.

٢٥٦

في تفسير العيّاشي عنهما ـ عليهما‌السلام ـ : أنهم أعداء علي ـ عليه‌السلام ـ (١).

وفي الكافي عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ في خطبة الوسيلة : «إنّها أعلى درجة في الجنّة» (٢).

قوله سبحانه : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)

قيل : قدّم الذكور على الإناث في هذه الآية ، بخلاف قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) (٣) ، لأنّ الرجال أقوى قلوبا من النساء وهنّ أطغى شهوة منهم ، فابتدأ بالأبلغ وصفا.

وفي التهذيب عن محمد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ في كم تقطع (٤) يد السارق؟ فقال : «في ربع دينار ، قال : قلت له (٥) : درهمين ، فقال : في ربع دينار بلغ الدينار ما بلغ ، قال : فقلت له : أرأيت من سرق أقلّ من ربع دينار هل يقع عليه حين سرق اسم السارق ، وهو عند الله سارق في تلك الحال؟ فقال : كلّ من سرق من مسلم شيئا قد حواه وأحرزه فهو يقع عليه اسم السارق ، وهو عند الله سارق ، ولكن لا يقطع إلّا في ربع دينار أو أكثر ، ولو قطعت يد السارق فيما هو أقل من ربع دينار لألفيت عامّة الناس مقطوعين» (٦).

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٧٣ و ٣١٧ في تفسير الآية ١٧٣ من سورة البقرة.

(٢). الكافي ٨ : ٢١ وفيه : «إنّ الوسيلة على درج الجنة» والمروىّ عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «سلوا الله لي الوسيلة ، فإنّها درجة في الجنّة» [مجمع البيان ٣ : ٢٩٣ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٣٩٠].

(٣). النور (٢٤) : ٢.

(٤). في المصدر : «يقطع السارق»

(٥). في المصدر : + «في»

(٦). تهذيب الأحكام ١٠ : ٩٩.

٢٥٧

أقول : حكمه عليه‌السلام بعدم القطع فيما هو أقلّ من ربع دينار مع تسليم صدق اسم السارق عليه ، لا يرجع إلى نسخ الكتاب بالسنّة ، بل إلى كون القضية مهملة من حيث الموضوع كإهمالها من حيث تعيين المحلّ والكيفية والعدد إلى غير ذلك ، والمبيّن لها السنّة.

وفي التهذيب عن الكاظم ـ عليه‌السلام ـ قال : «تقطع يد السارق ويترك إبهامه و [صدر] راحته ، وتقطع رجله ويترك عقبه يمشي عليها» (١).

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «إذا أخذ السارق فقطع (٢) وسط الكفّ ، فإن عاد قطعت رجله من وسط القدم ، فإن عاد استودع السجن ، فإن سرق في السجن قتل» (٣).

وفي تفسيره أيضا في حديث الجواد ـ عليه‌السلام ـ : في مجلس المعتصم قال ـ عليه‌السلام ـ : «القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكفّ» ، قال ـ يعني المعتصم ـ وما الحجة في ذلك؟ قال ـ عليه‌السلام ـ : «قول رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : السجود على سبعة أعضاء : الوجه واليدين والركبتين والرجلين ، فاذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها ، وقال الله تبارك وتعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) (٤) يعنى به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها ، (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (٥) وما كان لله لم يقطع» (٦) ، الحديث.

__________________

(١). تهذيب الأحكام ١٠ : ١٠٣.

(٢). في نسخة : «تقطع يده» [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٣١٨.

(٤). الجن (٧٢) : ١٨.

(٥). الجن (٧٢) : ١٨.

(٦). تفسير العيّاشي ١ : ٣١٩ ـ ٣٢٠.

٢٥٨

وفي الكافي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : أنّه سئل عن الرجل يأخذ اللّصّ يرفعه أو يتركه؟ فقال : «إنّ صفوان بن أميّة كان مضطجعا في المسجد الحرام ، فوضع رداءه وخرج يهريق الماء ، فوجد رداءه قد سرق حين رفع إليه ، فقال : من ذهب بردائي؟ فذهب يطلبه فأخذ صاحبه فرفعه إلى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، فقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : اقطعوا يده ، فقال صفوان : تقطع (١) يده من أجل ردائي يا رسول الله؟ قال : نعم ، قال : فإني (٢) أهبه له ، فقال رسول الله : فهلّا كان هذا قبل أن ترفعه إليّ».

قيل (٣) : فالإمام بمنزلته إذا رفع إليه قال : نعم (٤).

وفي الكافي أيضا عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى فلم يعلم ذلك (٥) منه ، ولم يؤخذ حتى تاب وصلح فقال : «إذا صلح وعرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحد» (٦).

*

__________________

(١). في المصدر : «أتقطع»

(٢). في المصدر : «فأنا»

(٣). في المصدر : «قلت»

(٤). الكافي ٧ : ٢٥١.

(٥). في المصدر : «بذلك»

(٦). الكافي ٧ : ٢٥٠.

٢٥٩

[يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ

٢٦٠