تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

[وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ

١٦١

الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)]

قوله سبحانه : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ)

في تفسير القمّي عن الباقر : «سئل النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عن النساء ما لهنّ من الميراث؟ فأنزل الله الربع والثمن» (١).

وفي المجمع عنه ـ عليه‌السلام ـ : كان أهل الجاهليّة لا يورّثون الصغير (٢) ولا (٣) المرأة ، وكانوا يقولون : لا نورّث إلّا من قاتل ودفع عن الحريم ، فأنزل الله آيات الفرائض التي في أوّل السورة ، وهو معنى قوله : (لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ) (٤).

وفي تفسير القمّي : فلمّا أنزل الله فرائض المواريث وجدوا من ذلك وجدا شديدا ، فقالوا : انطلقوا إلى رسول الله فنذكر ذلك له لعلّه يدعه أو يغيّره ، فأتوه ، فقالوا : يا رسول الله ، للجارية مثل ما ترك أبوها وأخوها ويعطى الصبيّ الصغير الميراث وليس واحد منهما يركب الفرس ولا يجوز الغنيمة ولا يقاتل العدوّ؟ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : بذلك امرت (٥).

قوله سبحانه : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا)

في الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : هي المرأة تكون عند

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ١٥٣.

(٢). في المصدر : «المولود حتّى يكبر»

(٣). في المصدر : + «يورثون»

(٤). مجمع البيان ٣ : ٢٠٢.

(٥). تفسير القمّي ١ : ١٥٤.

١٦٢

الرجل فيكرهها فيقول لها : [إنّي] أريد أن اطلّقك ، فتقول له : لا تفعل إنّي أكره أن يشمت (١) بي ، ولكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت ، وما كان سوى ذلك من شيء فهو لك ودعني على حالتي ، وهو قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) هذا هو الصلح» (٢).

أقول : والأخبار في هذا المعنى كثيرة ، وهي من قبيل تعداد المصداق ، والآية مطلقة.

وفي تفسير القمّي : نزلت في بنت محمّد بن مسلمة ، كانت امرأة رافع بن خديج (٣) ، وكانت امرأة قد دخلت في السنّ وتزوّج عليها امرأة شابّة ، وكانت أعجب إليه من بنت (٤) محمّد بن مسلمة ، فقالت له بنت محمّد بن مسلمة : ألا أراك معرضا عنّي مؤثرا عليّ؟ فقال رافع : هي امرأة شابّة وهي أعجب إليّ ، فإن شئت أقررت على أنّ لها يومين أو ثلاثة منّي ولك يوم واحد ، فأبت بنت محمّد بن مسلمة أن ترضى (٥) فطلّقها تطليقة (٦) ثمّ طلّقها اخرى فقالت : لا والله لا أرضى أو تسوّي بيني وبينها ، يقول الله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) وابنة محمّد لم تطب نفسها بنصيبها وشحّت عليه ، فعرض عليها رافع إمّا أن ترضي وإمّا أن يطلّقها الثالثة ، فشحّت على زوجها ورضيت فصالحته على ما ذكرت ، فقال الله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) ، فلمّا

__________________

(١). في الكافي : «تشمت».

(٢). الكافي ٦ : ١٤٥ ، الحديث : ٢ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٧٩ ، الحديث : ٢٨٤.

(٣). في المصدر : «جريح»

(٤). في المصدر : «ابنة»

(٥). في المصدر : «ترضاها»

(٦). في المصدر : + «واحدة»

١٦٣

رضيت واستقرّت لم يستطع أن يعدل بينهما فنزلت : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) أن يأتي (١) واحدة ويذر (٢) الاخرى لا أيّم ولا ذات بعل (٣).

قوله سبحانه : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ)

الشحّ : بخل النفس.

وفي تفسير القمّي ، قال ـ عليه‌السلام ـ : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) فمنها ما اختارته ومنها ما لم تختره (٤).

قوله سبحانه : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا)

في المجمع عنهما ـ عليهما‌السلام ـ : إنّ معناه التسوية في كلّ الامور من جميع الوجوه (٥).

أقول : فقوله : (فَلا تَمِيلُوا) ، تفريع على نفي الاستطاعة على العدل ، أي وإذ لم تستطيعوا يجب عليكم أن لا تتركوا إصلاح شأنهنّ من رأس ، ويكفيكم ذلك ولا تميلوا كلّ الميل فتذروها كالمعلّقة لا أيّم ولا ذات بعل.

وفي المجمع عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنّه كان يقسّم بين نسائه ويقول : «الّلهمّ هذه قسمتي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (٦).

__________________

(١). في المصدر : «تأتي»

(٢). في المصدر : «تذر»

(٣). تفسير القمّي ١ : ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٤). تفسير القمّي ١ : ١٥٥.

(٥). مجمع البيان ٣ : ٢٠٧.

(٦). مجمع البيان ٣ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨.

١٦٤

وفيه أيضا عن الصادق عن آبائه أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان يقسّم بين نسائه في مرضه فيطاف به بينهنّ (١).

وفيه : وروي أنّ عليّا كان له امرأتان ، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضّأ في بيت الاخرى (٢).

قوله سبحانه : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا)

كشقّ الترديد للصلح المذكور ، أي : وإن لم يصلحا وتفرّقا يغن.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه شكى إليه رجل الحاجة ، فأمره بالتزويج ، فاشتدّت به الحاجة فأمره بالمفارقة ، فأثرى وحسن حاله ، فقال له : [إنّي] أمرتك بأمرين أمر الله بهما ، قال تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) إلى قوله : (يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٣) ، وقال : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) (٤).

أقول : قد مرّ الكلام في نظير هذه الاستفادة في قوله : (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (٥).

قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

يريد بالتكرير لمعنى الربوبيّة الإشعار بأنّه مستغن عن خلقه لا ينفعه إيمان من آمن منهم ، ولا يضرّه كفر من كفر ، وأنّه سبحانه في غنى عن أعمالهم لا يحتاج إلى إلزامهم على التقوى والعمل الصالح ، فلو شاء لذهب بهم وجاء بآخرين

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ٢٠٨.

(٢). مجمع البيان ٣ : ٢٠٨.

(٣). النور (٢٤) : ٣٢.

(٤). الكافي ٥ : ٣٣١ ، الحديث : ٦ ، نقل بالمضمون.

(٥). النساء (٤) : ٤.

١٦٥

يأتون بما يندب إليه ، ولذا كرّر ثانيا قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فذيّله مرّة بالاسمين : الغنيّ الحميد ، ومرّة بالوصفين : الوكالة والقدرة ، والوكالة الحفظ.

وفي المجمع : وروي أنّه لمّا نزلت هذه الآية ـ يعني قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) ـ ضرب النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يده على ظهر سلمان فقال : هم قوم هذا ـ يعني عجم الفرس ـ (١).

أقول : وهو حديث غريب.

قوله سبحانه : (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)

أي فليطلب الثوابين جميعا ولا يقصر نفسه على أخسّهما.

وفي الكافي والخصال عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين ـ عليهم‌السلام ـ قال : «كانت الحكماء والفقهاء إذا كاتب بعضهم بعضا كتبوا بثلاث ليس معهنّ رابعة : من كانت الآخرة همّته كفاه الله همّته من الدنيا ، ومن صلح سريرته أصلح الله علانيته ، ومن أصلح فيما بينه وبين الله أصلح الله فيما بينه وبين الناس» (٢).

وفي الفقيه عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الدنيا طالبة ومطلوبة ، فمن طلب الدنيا طلبه الموت حتّى يخرجه منها ، ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتّى توفّيه رزقه» (٣).

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ٢١٠.

(٢). الكافي ٨ : ٣٠٧ ، الحديث : ٤٧٧ ؛ الخصال ١ : ١٢٩ ، الحديث : ١٣٣ ؛ بتفاوت وتقديم وتأخير في بعضى الألفاظ.

(٣). من لا يحضره الفقيه ٤ : ٤٠٩ ، الحديث : ٥٨٨٦.

١٦٦

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ

١٦٧

يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧) لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)]

قوله سبحانه : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا)

في المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : (وَإِنْ تَلْوُوا) أي تبدّلوا الشهادة (أَوْ

١٦٨

تُعْرِضُوا) أي تكتموها (١).

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : (وَإِنْ تَلْوُوا) الأمر (أَوْ تُعْرِضُوا) عمّا امرتم به (٢).

أقول : معناهما ظاهر ، فمعنى الآية : (وَإِنْ تَلْوُوا) ألسنتكم وتغيّروها عن وجهها (أَوْ تُعْرِضُوا) عن أدائها.

قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا)

ظاهر السياق حيث أخذ الإيمان دون الإسلام ، وقال قبل ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) ، حيث إنّ معناه طلب الثبات وعدّ تفاصيل ما جاء من عنده من الرسل والملائكة والكتاب : أنّهم المتلوّنون من المسمّين بالمؤمنين وليس هم أهل الكتاب ولا المنافقين الثابتين على النفاق ، كابن أبيّ وأصحابه ، بل المتلوّنون من المؤمنين فحسب.

وفي تفسيري العيّاشي والقمّي عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ : إنّهم عدّة من أصحاب رسول الله ... الحديث (٣).

قوله سبحانه : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ)

في الكافي عن الصادق [ـ عليه‌السلام ـ] ، وفي تفسير العيّاشي عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في تفسيرها : «إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ ويكذب به ويقع

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ٢١٣.

(٢). الكافي ١ : ٤٢١ ، الحديث : ٤٥.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٢٧٩ ، الحديث : ٢٨٦ ؛ تفسير القمّي ١ : ١٥٦.

١٦٩

في أهله ، فقم من عنده ولا تقاعده» (١).

وعن الصادق : «وفرض الله على السمع أن يتنزّه عن الاستماع إلى ما حرّم الله وأن يعرض عمّا لا يحلّ له ممّا نهى الله عنه والإصغاء إلى ما أسخط الله ، فقال في ذلك : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ) ، قال : ثمّ استثنى موضع النسيان فقال : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢) (٣).

قوله سبحانه : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)

في العيون عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في حديث قال : فأمّا قوله عزوجل : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) فإنّه يقول : لن يجعل الله لكافر على مؤمن حجّة ، ولقد أخبر الله عن كفّار قتلوا نبيّين (٤) بغير حقّ ، ومع قتلهم إيّاهم لن يجعل الله لهم على أنبيائهم حجّة من طريق الحجّة (٥).

قوله سبحانه : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً)

حيث يذكرونه في مقام يخافون فيه على أنفسهم من ظهور النفاق.

وفي الكافي عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «من ذكر الله في السرّ فقد ذكر الله كثيرا ، إنّ المنافقين كانوا يذكرون الله علانية ولا يذكرونه في السرّ ، فقال الله تعالى : (يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) (٦).

__________________

(١). الكافي ٢ : ٣٧٧ ، الحديث : ٨ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٨١ ، الحديث : ٢٩٠.

(٢). الأنعام (٦) : ٦٨.

(٣). الكافي ٢ : ٣٥ ، الحديث : ١.

(٤). في المصدر : «النبيّين»

(٥). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ٢ : ٢٠٣ ، الحديث : ٥.

(٦). الكافي ٢ : ٥٠١ ، الحديث : ٢.

١٧٠

أقول : وفيه استفادة لطيفة.

وقوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ)

أي مردّدين. وتفسيره قوله بعده : (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ).

قوله سبحانه : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ)

قرئ الدرك بفتح الراء وسكونها ، وهي من النار كالدرجة من الجنّة ، سمّي به لتطابق الدرك على الدرك ، ويستفاد منها أنّ النار ذات مراتب.

قوله سبحانه : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ)

في المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «لا يحبّ الله الشتم في الانتصار (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين» (١).

أقول : وروى قريبا منه القمّي في تفسيره (٢).

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «فلا بأس له» ، إشارة إلى وجه تغيير الاسلوب في الآية والعدول عن الاستثناء المتّصل إلى المنقطع ، فإنّ الظاهر كان مقتضاه أن يقال : إلّا ممّن ظلم ، أو : إلّا أن يجهر به من ظلم ، وذلك للإشعار بأنّه منه لا بأس به ، لا أنّه محبوب.

وقوله : «بما يجوز الانتصار» ، يعني ذكره بما فيه ، فهو الجائز في الدين فحسب.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الجهر بالسوء من القول أن

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ٢٢٥.

(٢). تفسير القمّي ١ : ١٥٦ ـ ١٥٧.

١٧١

يذكر الرجل بما فيه» (١).

وفي المجمع عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّه الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته ، فلا جناح عليه أن يذكر سوء ما فعله» (٢).

أقول : وروى هذا المعنى العيّاشي في تفسيره (٣).

وفي تفسير القمّي : وفي حديث آخر في تفسيرها : «إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح فلا تقبله منه وكذّبه ، فإنّه (٤) ظلمك» (٥).

أقول : الآية مطلقة ، والحديثان من قبيل عدّ المصاديق والتطبيق.

قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ)

في تفسير القمّي قال ـ عليه‌السلام ـ : «هم الذين أقرّوا برسول الله وأنكروا أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ» (٦).

أقول : وهو من الجري.

*

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٨٣ ، الحديث : ٢٩٧.

(٢). مجمع البيان ٣ : ٢٢٥.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٢٨٣ ، الحديث : ٢٩٦.

(٤). في المصدر : «فقد»

(٥). تفسير القمّي ١ : ١٥٧.

(٦). تفسير القمّي ١ : ١٥٧.

١٧٢

[يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ

١٧٣

أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ

١٧٤

وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١)]

قوله سبحانه : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ)

في المجمع : روي أنّ كعب بن الأشرف وجماعة من اليهود قالوا : يا محمّد ، إن كنت نبيّا فأتنا بكتاب من السماء [جملة : أي] كما أتى موسى بالتوراة جملة ، فنزلت (١).

قوله سبحانه : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) قد مرّ الكلام في عمدة ما يتعلّق بهذه الآيات فيما مرّ ، وسيأتي بعضه في نظائرها فيما سيأتي.

قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)

وقوع الآية بعد قوله : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) ، وقوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) ، يفيد كون الضمير في قوله : (قَبْلَ مَوْتِهِ) ، راجعا إلى عيسى ـ عليه‌السلام ـ كالضمير في قوله : (بِهِ) ، وقوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ، «إن» نافية ، وحذف الاسم وهو «أحد» يفيد الاستغراق ، وظاهر المعنى ما من يهوديّ ولا نصرانيّ إلّا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى ، فموت عيسى متأخّر عن كلّ يهوديّ ونصرانيّ ، وقد قال تعالى لعيسى : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (٢) ، وهذا ممّا يستفاد منه كون

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ٢٢٨.

(٢). آل عمران (٣) : ٥٥.

١٧٥

اليوم يوم القيامة ، كما مرّ بيانه في سورة البقرة عند قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) (١).

وقد سكت سبحانه في قوله : (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) ، عن كونه إيمانا نافعا أو غير نافع ، بل يستفاد من مثل قوله في اليهود : (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) (٢) ، وقوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) : أنّ كثيرا منهم لا يؤمنون إيمانا نافعا ، وقد قال أيضا : (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) (٣).

ثمّ إنّ هذا الإيمان ليس هو الإيمان الباطل الذي للنصارى اليوم بعيسى ، فحاشا عيسى أن يظهر لهم فيؤمنوا به إيمانا ليس له بحقّ كما حكى الله تعالى عنه بقوله : (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) (٤) ، وقال أيضا : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) (٥).

وحاشا ساحة الحقّ سبحانه أن يسمّي ما يعدّه كفرا إيمانا ، وهو الإيمان بعيسى بعد بعثة محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وبكلّ نبيّ بعد نسخ شريعته إلّا مع الإيمان بالنبيّ اللاحق وفي ضمنه ، فقوله : (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) ، متضمّن للإيمان بمحمّد وخاصّة في زمانه ، فالمعنى ـ والله العالم ـ : ما من يهوديّ ولا نصرانيّ إلّا ليؤمننّ بعيسى ، أي بمحمّد وعيسى ـ عليهما‌السلام ـ قبل أن يموت عيسى إمّا إيمانا لا ينفعه كما عند السكرات وظهور آيات الآخرة ، أو إيمانا ينفعه كما في غيره.

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢١٠.

(٢). المائدة (٥) : ٦٤.

(٣). النحل (١٦) : ٣٧.

(٤). المائدة (٥) : ١١٦.

(٥). آل عمران (٣) : ٧٩.

١٧٦

وبما مرّ يظهر معنى الروايات الواردة في المقام.

ففي تفسير القمّي عن شهر بن حوشب قال : قال لي الحجّاج : يا شهر ، آية في كتاب الله قد أعيتني ، فقلت : أيّها الأمير ، أيّة آية هي؟ فقال : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، والله لأنّي أمرّ باليهودي والنصرانيّ فيضرب عنقه ثمّ أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يخمد. فقلت : أصلح الله الأمير ، ليس على ما تأوّلت. قال : كيف هو؟ قلت : إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ ولا غيره إلّا آمن به قبل موته ، ويصلّي خلف المهدي. قال : ويحك أنّى لك هذا ، ومن أين جئت به؟ فقلت : حدّثني [به] محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ـ عليهم‌السلام ـ فقال : جئت بها من عين صافية (١).

أقول : وروت العامّة الحديث عن شهر بن حوشب بنحو آخر ، وهو ما رووه عنه ، قال : قال لي الحجّاج : آية ما قرأتها إلّا تخالج في نفسي شيء منها ـ يعني هذه الآية ـ وقال : إنّي اوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك؟ فقلت : إنّ اليهوديّ إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا : يا عدوّ الله ، أتاك عيسى ـ عليه‌السلام ـ نبيّا فكذّبت به ، فيقول : آمنت إنّه عبد نبيّ. وتقول للنصراني : أتاك عيسى نبيّا فزعمت أنّه الله أو ابن الله ، فيؤمن أنّه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه ، قال : وكان متّكئا ، فاستوى جالسا فنظر إليّ وقال : ممّن؟ قلت : حدّثني محمّد بن عليّ بن الحنفيّة. فأخذ ينكت الأرض بقضيبه ثمّ قال : لقد أخذتها من عين صافية ، أو من معدنها. قال

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ١٥٨.

١٧٧

الكلبي : فقلت له : ما أردت إلى أن تقول محمّد بن عليّ بن الحنفيّة ، قال : أردت أن أغيظه ، يعني بزيادة اسم عليّ ؛ لأنّه مشهور بابن الحنفيّة (١) ، انتهى.

وما رواه القمّي أوفق بسياق الآية ، كما عرفت (٢) (٣).

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في تفسيرها : «ليس من أحد من جميع الأديان يموت إلّا رأى رسول الله وأمير المؤمنين حقّا من الأوّلين والآخرين» (٤).

وفي الجوامع عنهما ـ عليهما‌السلام ـ : «حرام على روح [امرئ] أن تفارق جسدها حتّى ترى محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وعليّا ـ عليه‌السلام ـ» (٥).

أقول : ومعناهما واضح بالرجوع إلى ما مرّ.

وفي المجمع : ليؤمننّ بمحمّد قبل موت الكتابي. قال : ورواه أصحابنا (٦).

أقول : وينبغي أن يحمل على ملخّص المعنى دون ظاهر اللفظ ، كما مرّ.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل عن هذه الآية فقال : «هذه نزلت فينا خاصّة ، إنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدنيا حتّى يقرّ للإمام بإمامته ، كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف ـ عليه‌السلام ـ حين

__________________

(١). الدرّ المنثور ٢ : ٢٤١ ؛ تفسير القرطبي ٦ : ١١.

(٢). تفسير القمّي ١ : ١٥٨.

(٣). وذكر الزمخشري في الكشّاف انّه يجوز أن يراد (تلاحظ) انه لا يبقى أحد من أهل جميع أهل الكتاب الّا ليؤمننّ به على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما انزل له ، ويؤمنون به حين لا ينفعهم ايمانهم ، انتهى ، [الكشّاف ١ : ٥٨٩] وهو منه عجيب ، فهو القول بالرجعة.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٢٨٤ ، الحديث : ٣٠٣.

(٥). جوامع الجامع ١ : ٤٦١.

(٦). مجمع البيان ٣ : ٢٣٦.

١٧٨

قالوا : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ)» (١) (٢).

أقول : وهو من الجري بالاستمداد من قوله سبحانه : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (٣). فسيجيء أنّ المراد بهم ذرّية رسول الله.

قوله سبحانه : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)

في الكافي وتفسيري العيّاشي والقمّي عن الصادق [ـ عليه‌السلام ـ] : «من زرع حنطة في أرض ولم يزك زرعه فخرج زرعه كثير الشعير فبظلم عمله في ملك رقبة الأرض أو بظلم لمزارعيه وأكرته ؛ لأنّ الله يقول : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) يعني لحوم الإبل والبقر والغنم» (٤).

أقول : وقد مرّ نظير الاستفادة سابقا وهي كثيرة النظائر.

قوله سبحانه : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ)

كأنّه منصوب على المدح.

قوله سبحانه : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا)

في تفسير العيّاشي عنهما ـ عليهما‌السلام ـ : «إنّي أوحيت إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيّين من بعده ، فجمع له كلّ وحيّ» (٥).

__________________

(١). يوسف (١٢) : ٩١.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٢٨٣ ، الحديث : ٣٠٠.

(٣). فاطر (٣٥) : ٣٢.

(٤). الكافي ٥ : ٣٠٦ ، الحديث ٩ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٨٤ ، الحديث : ٣٠٤ ؛ تفسير القمّي ١ : ١٥٨.

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٢٨٥ ، الحديث : ٣٠٥.

١٧٩

أقول : أي جميع أقسام الوحي من تكليم وإرسال ملك ونحو ذلك ، كما سيجيء إن شاء الله.

ويمكن أن يشمل أقسام الموحى به أيضا كما في قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ) (١).

وفي تفسير العيّاشي وكتاب كمال الدين عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «وكان بين آدم ونوح من الأنبياء مستخفين ومستعلنين ، ولذلك خفي ذكرهم في القرآن ولم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء ، وهو قول الله عزوجل : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) يعني لم يسمّ (٢) المستخفين كما سمّى المستعلنين من الأنبياء» (٣).

أقول : وسيجيء الكلام في الكلام فيما سيجيء إن شاء الله.

قوله سبحانه : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ)

لمّا كان المقام مظنّة أن لا يشهد بذلك أهل الكتاب والمشركون ، استدركه بقوله : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ). وقوله : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) ، نفس الشهادة ، وهو إشعار بحقّيّته وأنّه بعلم الله سبحانه ، نظير قوله : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) (٤) ، فإنّ علم الله تعالى عين الواقع.

__________________

(١). الشورى (٤٢) : ١٣.

(٢). في المصدر : «لم أسم» بدلا عن «لم يسمّ»

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٢٨٥ ، الحديث : ٣٠٦ ؛ كمال الدين ١ : ٢١٥ ، الحديث : ٢ ، الباب : ٢٢.

(٤). يونس (١٠) : ١٨.

١٨٠