تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

حاكمة القضاء ولا ضير عليه فلا برهان على الأكل والشرب والنكاح عند الإنسان أقوى من أن وجوده مجهّز بجهاز يحتمل ذلك ، ونهيه عن ذلك منازعة مع القضاء والقدر ، كأن يؤمر الطير أن لا يطير ، والدابّة أن لا يدبّ ، والشجرة أن لا تنمى ، والحجر أن لا يتثقّل وهكذا.

وعلى ذلك فكلّ نوع من الأنواع له في دائرة وجوده حدا لا يتجاوزه ذاتا ، وكمال ذات ، وهذا هو الغاية في وجود ذلك النوع ، والغرض الحقيقي الذي يقصده ذلك النوع بحسب أصل وجوده ، لو لم يعق عنها عائق ولم يتوسّط بينهما مانع ، وذلك واضح بالتصفّح في أنواع الأنواع الطبيعية الموجودة بين أيدينا غير أنّ الأنواع الحيوانية من بينها حيث كانت ، كمالاتها عائدة إليها بالحسّ والحركة الإرادية.

وبالجملة ، بواسطة العلم توسّطت بينها وبين أصل الذات فيها عدّة من العلوم والآراء بتوسّطها يكسب الحيوان لنفسه ما يكسب من الكمال ، فإنّك إذا أمعنت في الشجر ـ مثلا ـ وجدته ذا نظام حقيقي ، من حين أصل تكوّنه ونموّه وتوليده المثل ، وسائر ما يلحق ذاته إلى آخر وجوده ، وكذلك الحيوان من حين أصل تكوّنه ونموّه وتوليده المثل ، إنّما يلحقه أمور خارجية واحدا بعد واحد ، ولا تجده في هذا النظر إلّا موجودا طبيعيا ذا نظام طبيعي ، كسائر الأنواع وأما بحسب نظر العلم ، ـ أي نظر الإعتبار والوهم ـ فالانسان من بدو تكوّنه إنما يتبدّل ويتقلّب بين الحبّ والبغض ، ولذائذ الأكل والشرب واللبس والسكنى والنكاح ، وأمّا في اللعب واللهو والجاه والتعيّن والتصدّر وغيرها ، فكأنه لا خبر عنده عن نحو التغذّي والتنمّي من كمالاته الطبيعيّة وإن كانت يد الصنع ترسم ما ترسم وهو غافل ساه.

٣٤١

وبالجملة ، فلكلّ شيء من هذه الأشياء كمالا خاصا بوجوده ، هو الغاية له والغرض منه ، ولا قصد ولا بغية عنده إلّا الوصول إليه ونيله ، والإنسان واحد تلك الأنواع له غاية خاصة هي كماله وسعادته ، غير أن النفس الإنسانية لو كانت مجرّدة غير باطلة ببطلان البدن وفنائه ، بل باقية بعد الموت ، كما أنّ القرآن يعطي ذلك وأن الإنسان لا يموت بموت البدن ، بل يتوفّاه الله إليه ثم يلحق به البدن.

فلو كان الأمر على ذلك تفاوت الحال في الغاية ، إذ الضرورة قاضية بأنّ الغاية يجب أن تلائم المعني فما يشتغل به الإنسان أياما قلائل من لذائذ الحياة الدنيا ثم يتعطّل عنه أبد الآبدين ، لا يسعنا أن نسمّيه غاية وضلالا وغواية ، ولذلك أيضا لم يعد أحد من العقلاء ممن يذعن أنّ الإنسان طور وراء البدن ، اللذائذ والكمالات البدنية غاية له وغرضا لخلقته ، بل عظّموا أمر الكمالات المعنوية وخضعوا اللذائذ الروحانية ، من غير تردد في ذلك أصلا ، والقرآن يعدّ السعادة والكمال الأخير ، وبعبارة أخرى : الغرض والغاية من خلقة الإنسان هي العبادة كما يقول سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) ويقول سبحانه : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (٢) ، نعم ربّما عدل من الدعوة إلى الغرض والسعادة إلى ذكر بعض لوازمه ، كالنافع والضارّ في الطريق على حدّ ساير الدعوات إذا عدل عن تذكير أصل الغاية ، عدل إلى بعض لوازمه ممّا يرغب إليه ، وذلك مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (٣) وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ

__________________

(١). الذاريات (٥١) : ٥٦.

(٢). الفرقان (٢٥) : ٧٧.

(٣). التوبة (٩) : ١١١.

٣٤٢

مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (١) وقوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) (٢).

فعدل عن الدعوة إلى الغاية الحقيقية إلى الوعد بالجنّة والوعيد بالنار ، نظرا إلى أنّ جميع النفوس غير قابلة الورود بساحة الحقائق إلّا بالتطميع والترهيب.

وكيف كان ، فما عدّه القرآن غاية للإنسان هو العبادة ، وبالتأمل فيما مرّ من لزوم الحقيقية في الغاية تحدس أنّ هذه العبادة المعدودة غاية يجب أن تشتمل على حقيقة غاية الخلقة الإنسانية ، والحقائق التي ينبئ عنها القرآن بالإيماء تارة والتلويح أخرى ، فما يعدّه القرآن من مشاهدة الأنوار الإلهية من الجمال والجلال والتمكّن فيها ، والدخول في حظيرة القدس ومرافقة الصالحين ، والملائكة المقربين والأرواح الطاهرين ، وجنات لهم فيها نعيم مقيم ، كلّ ذلك تحت هذه العبادة المندوب اليها بقوله تعالى : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٣).

وقد عرفت فيما مرّ معنى العبادة ، وهو أن ينصب العبد نفسه في مقام العبودية ، فيخضع بحقيقة الخضوع التي تنسيه نفسه ، فلا يبقى إلّا ربّه معبودا مذكورا ـ جلّت عظمته ـ ، فيشاهد كلّما يسعه مشاهدته.

فإن قلت : إذا كان الإنسان نوعا طبيعيا ذا غاية طبيعيّة حقيقيّة ، ومن الممتنع أن لا يطلب النوع الطبيعي غايته الطبيعية ، فأيّ حاجة ثم أيّ تأثير في دعوته إلى غاية هي العبادة؟

__________________

(١). الصف (٦١) : ١٠ ـ ١١.

(٢). البقرة (٢) : ٢٢١.

(٣). غافر (٤٠) : ١٤.

٣٤٣

قلت : الإنسان نوع طبيعي ذا غاية طبيعية كما ذكرت ، لكنّه يستعمل بالطبيعة في غايات أفعاله الفكر ، فغايته المطلقة غاية فكرية وهو ظاهر ، فهو مفطور على طلب غاية لنفسه وتعيينه ، ومفطور على استعمال الفكر في هذا الطلب والتعيين فافهم ذلك.

فإن قلت : وجود حقائق في الخارج لا يستلزم كونها تحت التعاليم الدينية العلمية والعملية بحيث يكون نسبتها إلى الحقائق نسبة اللباس إلى المتلبّس ، ولو سلّمنا ذلك فلا نسلّم أنّ تلك ممكنة النيل قبل النشأة الآخرة في الحياة الدنيا ، ولو سلّمنا فلا نسلم أنها مبذولة ممكنة النيل لكلّ أحد بل موقوفة على الأنبياء وأوصيائهم ، أو مع عدّة معدودة من غيرهم سبقت لهم من الله سبحانه عناية وهبيّة.

قلت : قد مرّ بيان ذلك كلّه في تضاعيف الكلام في هذا التفسير ، كسورة الحمد وغيرها.

فإن قلت : امتثال التكاليف العامّة لا يوجب فعليّة الغاية على نحو ما ذكرت وإلّا لعمّت الولاية عامّة المؤمنين وليس كذلك فلا بدّ أن يكون إليه طريق خاص يسلكه جماعة دون جماعة ، وفيه على أنّ ذلك يوجب اختصاص الغاية للدعوة العامّة وهو فاسد ؛ [ل] أنّ التعاليم الدينية من الكتاب والسنّة خالية عن دستور خاص لطائفة خاصّة.

قلت : أمّا اختصاص فعليّة الغرض الأخير من الدعوة الإلهيّة ، وهو تكميل الإنسان بآخر درجة الكمال الإنساني الممكن ببعض دون بعض ، فلا مفرّ من الإلتزام به على أيّ حال ، وهو الحال في جميع التعاليم النوعية الموجودة في أيدينا المتداولة بين البشر أوجب ذلك اختلاف الطبائع وتفاوت القرائح ، وإنّما

٣٤٤

يسعد بكمال كل تربية نوعية بعض دون بعض ، فهي سعادة الجدّ والهمّة ، ليست بتلك المبذولة المرخّصة ، وغاية ما يمكن من تعميم هذه السعادة ماهية الإسلام إذ وضع صراطا مستقيما يستوي فيه الشريف والوضيع ، والعالي والداني ، والعالم والجاهل ، طريقا ذا درجات ، وشريعة ذا طبقات ، يرد عليها كل بحسب جدّه وهمّته ، ويأخذ منها كل على قدر قابليّته ، هذا.

وأمّا مسألة خلوّ الكتاب والسنّة عن بيان خاصّ بطريق الولاية فربّما يتوهّم فساده من حيث أنّ من يطع ربّه حق الإطاعة صار وليّا من أوليائه واجدا لغاية الكمال ، وقد ورد في الحديث القدسي قال الله تعالى : «عبدي أطعني اجعلك مثلي ، أقول لشيء : كن فيكون ، وتقول لشيء : كن فيكون» (١) ، والآيات والأخبار في ذلك كثيرة.

وهذا وإن كان صحيحا من وجه فهو فاسد من وجه آخر ، فما كلّ من هذّب أخلاقه واستكمل في مقام العمل صار مستكملا بغاية الكمال ، وسيجيء توضيحه.

وأمّا أهل الطريقة وهم السالكون سبيل معرفة النفس ، فقد التزم معظم طائفتهم الإشكال ، فقالوا : إنّ الطريق بعد ما ورد بيانه الإجمالي فيما رواه الفريقان عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أنه قال : «من عرف نفسه عرف ربّه» (٢) ، لم يرد في الكتاب والسنّة بيان تفصيلي له ، ومثل هذا الطريق في الإسلام مثل الرهبانيّة في دين النصارى لم يشرعه الله تعالى ، وإنّما ابتدعه النصارى من عند أنفسهم فرضيه الله سبحانه ، قال تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما

__________________

(١). مستدرك الوسائل ١١ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ مع تفاوت ؛ إرشاد القلوب ١ : ٧٥ ؛ عدة الداعي : ٣١٠.

(٢). الصراط المستقيم ١ : ١٥٦ ؛ مصباح الشريعة : ١٣ ؛ عوالي اللآلي ٤ : ١٠٢.

٣٤٥

كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) (١).

وكذلك طريقة معرفة النفس طريقة مبتدعة مرضيّة ، ولذلك فجلّ الدستورات والأعمال الواردة فيها من عجائب الرياضات والمجاهدات غير معهودة فيما جاء به النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مختلفة باختلاف السلاسل والرايات ، حتى عدّى بهم السير ، وجرى بهم التعدّي في ذلك إلى أن وقعت طريقتهم في واد والشريعة في واد آخر ، فما لبث الأمر أن طعن فيها الطاعنون أنّ التصوّف نوع رهبانية مأخوذة من النصرانية.

والذي يقطع به المنصف إذا تتبّع الكتاب والسنّة وسيرة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأئمّة أهل بيته وخواص أصحابهم ، ثم تفاصيل هذه الأمور المبتدعة أنّ دين الإسلام بخصوصياته الواردة في الكتاب والسنّة لا يجوّز التقرّب إلى الله بغير الطريق الذي أتى به صاحب النبوّة ، والأدب الذي بيّنه ، ولا يرضي بغير ذلك البتّة ، على أنّ الآيات والأخبار متكاثرة في كمال الدين وتمام البيان ، فلا محلّ لهذه النقيصة العظيمة والثلمة البيّنة ، قال الله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٢) ، وقال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٣) ، إلى غير ذلك.

والذي ينبغي أن يقال : إنّه سبحانه جعل غاية الخلقة العبادة ، وهي كما عرفت نصب العبد نفسه في مقام المملوكيّة لمولاه أعني أنّه لا يملك شيئا على الإطلاق ، وكلّ ما له فلمولاه ، فنصب نفسه كل حقيقته أن يشاهد من نفسه ذلك ، وبذلك

__________________

(١). الحديد (٥٧) : ٢٧.

(٢). المائدة (٥) : ٣.

(٣). النحل (١٦) : ٨٩.

٣٤٦

يظهر أنّ من شرطه المقوّم الإخلاص كما ذكره الله سبحانه في كتابه قال : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١) ، وقال : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (٢) ، إلى غير ذلك ، وعندئذ تسقط جميع الغايات الخارجة عن الإخلاص كالعبادة ، طمعا في الجنّة أو خوفا من النار ، فذلك توسيط له سبحانه لإقتناء مشتهي النفس ، وقد مرّت عدّة من الروايات في ذلك في سورة الحمد.

ويلحق بالنوعين السابقين عبادته سبحانه حبا لعبادته ، فحبّ العبادة غيره سبحانه أو عبادته لأنّه أهل له ، إذ مآله إلى العبادة لوجوب أداء حقّ العبودية ، فالغاية إسقاط الحق الواجب إلّا أن يرجع إلى ما سيأتي كما في بعض الروايات السابقة وكذلك عبادته سبحانه لحبّه بأخذ الحب موضوعا مقصودا لا طريقا ، فجميع ذلك لا يخلو عن شوب شرك ، وما لا يخلو عن شوب شرك فلا يقع وصفا على الله سبحانه لا لأنّه غير مقبول له تعالى بل لأنّ معناه لا يقع عليه سبحانه ، فالمعبود غيره تعالى ، قال سبحانه : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣). وبذلك يسقط عن ساحة الإخلاص ما يسمّونه سيرا آفاقيا وهو عبادته سبحانه بالمعرفة الحاصلة به بواسطة السير في الآيات الآفاقية بالتفكر والتذكّر والإعتبار ، وهو ظاهر.

فحق العبادة أن يكون غايته هو الله وحده لا شريك له ، من غير دخالة معنى زائد اصلا ، أي لأنّه سبحانه جميل بالذات ، جليل بالذات ، والإنسان مجبول مفطور بحبّ الجميل وتعظيم الجليل ، أي الإنجذاب إلى الجميل والتذلّل إلى

__________________

(١). غافر (٤٠) : ١٤.

(٢). الزمر (٣٩) : ٢.

(٣). الصافات (٣٧) : ١٥٩ ـ ١٦٠.

٣٤٧

الجليل ، أي الرجوع إليه سبحانه بعين التذلّل ، فحقّ العبادة هو العبادة لله حقا ومن البيّن أن التلقّيات والأفهام تختلف باختلاف الأحوال الوجدانية كالجوع والشبع والعطش والريّ ، وشهوة الجماع وشهوة الانتقام ، فالشجاع الغضبان ربّما لم ينفعه جلّ المواعظ في العفو والصفح ، كما أنّ الجبان لا ينفع في تغييره عكسها موعظة ، فالمؤمن المتعارف وهو من أهل الدنيا مأنوس الذهن بالعادات والرسوم والحسن والقبح ، يتلقّى الخطابات الإلهيّة بوجه ، والمؤمن المحبّ الذي يتوق حبّا قد عزفت نفسه الدنيا ولذائذها ، وحسنها وقبحها ، وبلغ به حاله أنّه لا يريد دنيا ولا آخرة إلّا ربّه ـ جلت عظمته ـ ولا همّ له إلّا أن ينسي كل شيء ، وعلى الخصوص نفسه التي هي أعدى عدّوه في سبيل السير إلى ربه ، على ما هو شأن المحب المتيّم يتلقّاه بوجه آخر ، فهو دائما مراقب مترصّد لإمحاء الوسائط وهتك الأستار.

فصار كلّما سمعه من الخطابات والتلقينات يتلقّاه على غير ما يتلقّى الفهم العادي ، فإذا سمع أنّ الله سبحانه يقول : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١) ، وأمثالها ، تحقّق ظنّه في صدق ما يريد ، ولم يأل جهدا في الإخلاص وإصلاح العمل ، وإذا سمع أنّه سبحانه يقول : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) (٢) ، تلقّاه وعدا للّقاء وغلت نفسه وتاقت واشتاقت لذلك وحبّ لقاء الله مفتاح باب الولاية.

قال سبحانه : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣).

__________________

(١). الكهف (١٨) : ١١٠.

(٢). العنكبوت (٢٩) : ٥.

(٣). الجمعة (٦٢) : ٦.

٣٤٨

وقد مرّ الكلام فيه في قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) (١) من هذه السورة.

ومن الواضح أن للّقاء معنى مشكّك يتحقّق في كلّ شيء بحسب ما يناسبه ، فهو سبحانه غير جسم ولا جسماني ، مبرّى عن الجهات والحركات ، منزّه عن الأقدار والكيفيات ، قال سبحانه : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٢) ، ثم إذا سمع هذا الإنسان قوله سبحانه : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (٣) ، علم أنه لو عرف نفسه فقد عرف ربه ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من عرف نفسه عرفه ربّه» (٤). ثم إذا سمعه تعالى يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (٥) اشتغل بنفسه وصرف نفسه عن كلّ شيء غير نفسه في سبيل معرفة ربّه فراقبها وسلك إليه من طريقها مدى عمره ومبلغ جدّه ، فوجد ما كان يفحص عنه ، وهذه طريقة معرفة النفس لا تزيد على ذلك شيئا.

إذا تبيّن جميع ما قدّمناه على طوله ، اتضح أنّ طريق معرفة النفس لا يختصّ من بين سائر الطرق بشيء من الأعمال والمطالب ، وإنّما هي أحد أنواع السلوك إلى الله سبحانه ، يختلف مع الطرق الباقية بالكيف لا بالكمّ وغيره ، فهي طريقة المحبّة في العبادة فحسب.

ونرجع إلى صدر الكلام ، ففي تفسير القمي قال في الآية : قال ـ عليه‌السلام ـ :

__________________

(١). المائدة (٥) : ٥٥.

(٢). فصلت (٤١) : ٥٣ ـ ٥٤.

(٣). الحشر (٥٩) : ١٩.

(٤). الصراط المستقيم ١ : ١٥٦ ؛ مصباح الشريعة : ١٣ ؛ عوالي اللآلي ٤ : ١٠٢.

(٥). المائدة (٥) : ١٠٥.

٣٤٩

«أصلحوا أنفسكم فلا تتبعوا عورات الناس ولا تذكروهم ، فإنّه لا يضرّكم ضلالتهم إذا أنتم صالحون» (١).

وفي نهج البيان : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «نزلت هذه الآية في التقيّة (٢)».

*

__________________

(١). تفسير القمي : ١ : ١٨٨.

(٢). نهج البيان ٢ : ١٠٧ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٤٩٧.

٣٥٠

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩)]

قوله سبحانه : شهادة بينكم (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ) (١).

قوله سبحانه : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ

__________________

(١). في الأصل بياض ولم يتعرض المؤلّف تفسير هذه الآية.

٣٥١

أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

تأديب في أداء الشهادة أن ينفي الإنسان عن نفسه حقيقة العلم ويرجعها إلى ربّه بعد ما يجد من نفسه أنّها كالمجبولة على الخطأ ، وبذلك صح اتّصال الآية بما قبلها من آية الشهادة ، وصح أيضا اتّصالهما بما قبل ما قبلها لاختتامه بقوله : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١) ، فإنّه سبحانه مع تصريحه في مواضع من كلامه بشهادة الشهود يوم القيامة على الأعمال من النبيين والشهداء ، وكتب الأعمال والملائكة والقرناء والسؤال عن الناس أنفسهم يخصّ الإنباء يومئذ بنفسه ، لأن الأمر يومئذ لله جلّ شأنه كما سيجيء بيانه إن شاء الله العزيز ، وفيه رجوع إلى ما افتتحت به السورة من الحثّ على الوفاء بالعهود وشكر النعم.

وقد أخذ وصف الرسالة إذ قال : (يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) (٢) دون النبوّة لأنّه الأنسب للسؤال بما أجابهم الناس في رسالتهم كما في قوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٣) وكما في قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (٤). قوله : (وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) (٥) ؛ فإنّه مقام الإنباء والشهادة ، والنبوّة من النبأ.

واعلم أنّ الآية مع ذلك ذو نظم عجيب ، إذ يقع السؤال عنه بماذا أجيبوا ،

__________________

(١). المائدة (١) : ١٠٥.

(٢). المائدة (٥) : ١٠٩.

(٣). الأعراف (٧) : ٦.

(٤). القصص (٢٨) : ٦٥.

(٥). الزمر (٣٩) : ٦٩.

٣٥٢

فينفون مطلق العلم لأنفسهم ، وهذا نفسه علم ، ويعلّلون ذلك بأنّ الله علّام الغيوب ، والمسؤول عنه شهادة ليس بالغيب ، والرسل من الشهداء ، وهم مأذون لهم يوم القيامة في الكلام ومتكلّمون ، وبهذا يظهر أنّ السؤال غير السؤال ، والعلم غير العلم المتبادر عندنا ، وأنّه متعلّق بالغيب.

وتنحل العقدة بأنّ يوم القيامة ـ كما سيجيء بيانه ، وقد مرّ مرارا ـ يوم تنكشف عنده الحقائق فلا ملك يومئذ إلّا لله الواحد القهّار وتزول التملّكات المجازية التي ملّكها الله سبحانه في هذه الدار ، فلا يقع سؤال ولا يرد جواب إلّا عن حقيقة وبحقيقة ، فإذا سئل عن الشيء فقد سئل عن حقيقته بحقيقة العلم ، وحقيقة العلم ليست إلّا لله وحده ، وما عندنا من العلوم إنّما هي المتعلقة بالظواهر ، وأمّا حقيقته فهي مغيبة عنّا لا يعلمها إلّا علّام الغيوب ، ولذلك قالوا : (لا عِلْمَ لَنا) واقتصروا على ذلك ، ولم يجيبوا بمثل قول الملائكة حين سألهم الله عزّ اسمه عن الأسماء إذ قالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١).

ولو لا أنّ الله سبحانه أثبت لهم أنفسهم إذ قال : (ما ذا أُجِبْتُمْ) لم يأتوا بقولهم (لَنا) ، فافهم ذلك.

ولا ينافي ذلك كون ما يتكلّمون به هناك كسائر الشهداء ، والذين آمنوا عن علم. فإنّما ذلك لهم بتعليم الله سبحانه ، وهذا التعليم ليس على حدّ التعليمات التي عندنا فإنّ المتعلّم منّا يصير بالتعلّم ظرفا للعلم كمعلّمه على حد سواء ، بل على حدّ ما بالذات ، وما بالعرض ، فإن ذلك معنى ملكه سبحانه لكل ما يملكه

__________________

(١). البقرة (٢) : ٣٢.

٣٥٣

وهو المالك لكل شيء على الإطلاق ، كلّ ذلك حسب ما يليق بساحة عزّه وقدس جلاله عزوجل وهذه الآية تصديق قوله تعالى كالتفصيل بقوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (١) ففصّلها بقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) في المرسلين ، وبقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ* فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ* فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) (٢) ، في المرسل إليهم.

وفي المعاني عن موسى بن جعفر قال : «قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قول الله عزوجل : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا) ، قال : يقولون : لا علم لنا بسواك ، قال : وقال الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «القرآن كلّه تقريع وباطنه تقريب» ، قال الصدوق ـ رحمه‌الله ـ : يعني بذلك أنّه من وراء آيات التوبيخ والوعيد آيات الرحمة والغفران (٣).

أقول : أمّا قوله عليه‌السلام : «يقولون لا علم لنا بسواك» ، فقد اتّضح معناه بما قدّمناه ، وأمّا قوله : «القرآن كلّه تقريع» إلى آخره ، فمعناه : أنّ أسلوب الكمال الذي وقعت فيه بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء ، وإن كانت في الظاهر ينفي عنهم البراعة في الكمالات والمزيّة في الإختصاصات الإلهية ، فهو بحسب الباطن تقريب وثناء عليهم ، فما عندهم من المناقب إنّما هي لربهم فليس لهم في أنفسهم إلّا ربّهم ، وبه ملكوا كلّ كمال ، كقوله في رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : (لَيْسَ

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٦.

(٢). القصص (٢٨) : ٦٥ ـ ٦٦.

(٣). معاني الأخبار : ٢٣٢.

٣٥٤

لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (١) ، وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) (٢) ، وغير ذلك.

وأمّا قول الصدوق ؛ ـ رحمه‌الله ـ يعني بذلك أنّه من وراء آيات التوبيخ والوعيد آيات الرحمة والغفران فما أبعده من مغزى مراده ـ عليه‌السلام ـ ، فالظاهر والباطن غير السابق واللاحق ، وهو ظاهر.

وفي الكافي عن زيد الكناسي قال : سألت أبا عبد الله عن قول الله عزوجل : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا) ، قال فقال : «إنّ لهذا تأويلا يقول : ماذا أجبتم في أوصيائكم الذين خلّفتموهم على أممكم ، قال : فيقولون لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا» (٣).

أقول : وكان مراده بالتأويل : الباطن خلاف الظاهر ، على ما شاع الإصطلاح عليه بين الناس ، ونفيهم ـ عليه‌السلام ـ العلم بما حدث بعدهم لفقدانهم العلم الحسي المادي به وإن وصل إليهم أخبارهم بعد رحلتهم ونظيره ما ورد عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (٤).

وها هنا معنى أدق ، وهو أنّ حوادث الدنيا سيعود يوم القيامة بصورها وإن لم تكن بحقائقها ، وعليه شواهد كثيرة في القرآن ، سيجيء بيانها إن شاء الله.

*

__________________

(١). آل عمران (٣) : ١٢٨.

(٢). البقرة (٢) : ٢٧٢.

(٣). الكافي ٨ : ٣٣٨ ، الحديث : ٥٣٥.

(٤). في الأصل بياض.

٣٥٥

[إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)]

قوله سبحانه : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)

قد مرّ تفسيرها في سورة آل عمران ، وفي المعاني والعيون : عن ابن يعقوب البغدادي ، قال : قال ابن السكّيت لأبي الحسن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : لماذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء والعصا وآلة السحر ، وبعث عيسى بالطب ، وبعث محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالكلام والخطب؟ فقال [له] أبو الحسن ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الله تبارك وتعالى لمّا بعث موسى ـ عليه‌السلام ـ كان

٣٥٦

الغالب (١) على أهل عصره السحر ، أتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عند القوم وفي وسعهم مثله ، وبما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم ، وإنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطب ، فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيا لهم الموتى وأبرأ [لهم] الأكمه والأبرص [بإذن الله تعالى] ، وأثبت به الحجة عليهم ، وإنّ الله تعالى بعث محمّدا [ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ] ، في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام والشعر ، فأتاهم من كتاب الله والموعظة والحكمة (٢) بما أبطل به قولهم وأثبت به الحجة» ، عليهم قال ابن السكّيت : [تا لله] ما رأيت مثلك اليوم قطّ فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال : «العقل ، تعرف به الصادق على الله فتصدقه والكاذب على الله فتكذبه» ، قال ابن السكّيت : هذا والله الجواب (٣).

قوله سبحانه : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي)

وفي تفسير العيّاشي عن محمد بن يوسف الصنعاني ، عن أبيه ، قال : سألت أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) قال : «الهموا» (٤).

أقول : واستعمال الوحي في مورد الإلهام كثير كقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ

__________________

(١). في المصدر : «الأغلب»

(٢). في المصدر : «عزوجل ومواعظه وأحكامه»

(٣). لم نجده في معاني الأخبار ولكنّه موجود في : ، عيون الاخبار الرضا (ع) ٢ : ٧٩ ـ ١٢٨٠ ؛ علل الشرائع ١ : ١٢١.

(٤). تفسير العياشي ١ : ٣٥٠ ، الحديث : ٢٢١.

٣٥٧

أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) (١). وقوله : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (٢) ، فمجرد إطلاق الوحي لا يلازم النبوّة على أنّه يشهد بقوله عليه‌السلام.

قوله سبحانه : (أَنْ آمِنُوا بِي) ، والوحي النبوي إنّما يكون بعد الإيمان.

*

__________________

(١). النحل (١٦) : ٦٨.

(٢). فصلت (٤١) : ١٢.

٣٥٨

[إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)]

قوله سبحانه : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ)

لمّا لم يخل قولهم : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) عن سوء أدب في مقام التعبير ، ردعهم عليه‌السلام بقوله : (قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، وإن كانوا قد أذعنوا بقدرته سبحانه ، إذ هو من أوصاف الذات [و] لا إيمان لمن لم يثبته فيه سبحانه ، وإنّما كان مرادهم من إلقاء الإستفهام أن يثبته ويقرّره عيسى ـ عليه‌السلام ـ فيسئلوه نزول المائدة ، ولذا لمّا ردعهم عادوا ففسّروا كلامهم بقولهم : (نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ).

٣٥٩

ولذلك ورد عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ كما في المجمع عنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «معنى الآية هل تستطيع ان تدعو ربك» (١).

قوله سبحانه : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)

في تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «المائدة التي نزلت على بني إسرائيل مدلاة بسلاسل من ذهب عليها تسعة ألوان (٢) وتسعة أرغفة» (٣).

أقول : وفي بعض الروايات كما في المجمع عنه ـ عليه‌السلام ـ : «سبعة» بدل «تسعة» في الموضعين ، ولعلّ أحدهما تصحيف (٤).

وفي تفسير العياشي أيضا عن الفضيل بن يسار ، عن أبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «إنّ الخنازير من قوم عيسى سألوا نزول المائدة فلم يؤمنوا بها فمسخهم الله خنازير» (٥).

وفي الكافي عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : «القردة والخنازير ، قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت ، والجريث والضبّ فرقة من بني إسرائيل لم يؤمنوا حتى (٦) نزلت المائدة على عيسى بن مريم ـ عليه‌السلام ـ فتاهوا فوقعت فرقة في البحر وفرقة في البر» (٧).

*

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ٤٥١.

(٢). في تفسير الصافي ٢ : ٥١٦ : «وفي رواية اخرى : تسعة ألوان أرغفة»

(٣). تفسير العياشي ١ : ٣٥٠ ـ ٣٥١ ، الحديث : ٢٢٥ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٠٨.

(٤). مجمع البيان ٣ : ٤٥٥ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٥١٣.

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٣٥١ ، الحديث : ٢٢٦.

(٦). في نسخة : «حين» [منه ـ رحمه‌الله ـ] ، في المصدر : «حيث»

(٧). الكافي ٦ : ٢٤٦ ، الحديث : ١٤ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥١١.

٣٦٠