تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)]

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)

لمّا كان الغرض في هذه السورة تشريع جمل أحكام المواريث والنكاح والجهاد وغير ذلك من أحكام متفرّقة في الطهارات والصلاة والحدود والتخلّص بالتعرّض لحال أهل الكتاب ، كرّر فيها دعوتهم إلى تقوى الله وطاعته فيما يشرّعه من الأحكام لصلاح شأنهم ووصيّتهم بوضع ما وضعه لهم موضع ما لعبت به أيدي هوساتهم من الأحكام.

وإذ كان الابتداء بأحكام المواريث والفرائض وقد كانوا يحرّمون كثيرا من ذوي المواريث كالصغار والأزواج ، ويجورون في آخرين كما في ذيل آياتها ، بدأ بدعوتهم إلى التقوى بتذكير أنّ الناس بعضهم من بعض إذ يرجعون على كثرتهم إلى أصل واحد ، وهو آدم وزوجته ، وتذكير أنّ بينهم أمرا أدنى من ذلك وهو الرحم على شرافتها وحرمتها ، كلّ ذلك على سبيل التوطئة والمقدّمة.

٢١

وبهذا البيان يظهر وجه توجيه الخطاب إلى الناس دون الذين آمنوا منهم ، إذ ما يحتوي عليه الخطاب لا يختصّ بالمؤمنين.

قوله سبحانه : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) إلى قوله : ـ (زَوْجَها)

التفرقة بين الخلقين ، أعني قوله : (خَلَقَكُمْ) وقوله : (وَخَلَقَ مِنْها) تعطي أنّ الخلقتين ليستا على حدّ سواء ، وأخذ لفظ الزوج وكون «من» نشويّة غير تبعيضيّة مشعر بأنّ مبدئيّة آدم لزوجته ليست على نحو التبعيض وإن لم يكن اللفظ صريحا في ذلك.

وفي نهج البيان للشيباني عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال : سألت أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ : من أيّ شيء خلق الله حوّاء؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : «أيّ شيء يقولون هذا الخلق؟» قلت : يقولون : إنّ الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم ، فقال : «كذبوا ، أكان الله يعجزه أن يخلقها من غير ضلعه؟» فقلت : جعلت فداك [يا بن رسول الله] من أيّ شيء خلقها؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : «أخبرني أبي عن آبائه قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : إنّ الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه وكلتا يديه يمين ، فخلق منها آدم ، وفضلت فضلة من الطين فخلق منها حوّاء» (١).

أقول : وفي هذا المضمون عدّة روايات اخر ، وهنا روايات من طرق الخاصّة والعامّة ، فيها أنّها خلقت من ضلعه ، كما وقع في التوراة الموجود الآن.

قوله سبحانه : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً)

في قرب الإسناد عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : «حملت حوّاء هابيل وأختا له في

__________________

(١). لم نعثر على كتاب نهج البيان ، ولكن روي في تفسير العيّاشي ١ : ٢١٦ ، الحديث : ٧ ؛ البرهان في تفسير القرآن ١ : ٣٣٦ ؛ الصافي ١ : ٣٢٥.

٢٢

بطن ، ثمّ حملت في البطن الثاني قابيل وأختا له في بطن ، وتزوّج (١) هابيل التي مع قابيل ، وتزوّج قابيل التي مع هابيل ، ثمّ حدث التحريم بعد ذلك» (٢).

أقول : وفي الروايات الواردة ها هنا اختلاف من جهات شتّى عمدتها الاختلاف في كيفيّة انتشار الطبقة الثالثة ، أعني التالية لطبقة بنات آدم وبنيه ، إذ كانوا إخوة وأخوات.

والرواية كما ترى تصرّح بوقوع التناسل بينهم ثمّ التحريم ، وعليه عدّة روايات اخر ، ولا حجّة في ذلك لمجوسيّ على مسلم ؛ إذ الحرمة المشرّعة بين الرجل ومحارمه ليست بذاتيّة طبيعيّة ولا ضروريّة بتّيّة ، إنّما هي حرمة تشريعيّة تدور مدار الصلاح والفساد.

وبالجملة ، تدور مدار الإرادة التشريعيّة من الله سبحانه ، كما في الاحتجاج عن السجّاد ـ عليه‌السلام ـ في حديث له مع رجل قرشي يصف فيه تزويج هابيل ب «لوزا» أخت قابيل ، وتزويج قابيل ب «إقليما» أخت هابيل ، قال : فقال له القرشي : فأولداهما؟ قال : «نعم» فقال له (٣) القرشي : فهذا فعل المجوس اليوم ، قال : فقال : «إنّ المجوس إنّما فعلوا ذلك بعد التحريم من الله» ثمّ قال له : «لا تنكر هذا إنّما هي شرائع الله (٤) جرت ، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثمّ أحلّها له فكان ذلك شريعة من شرائعهم ثمّ أنزل الله التحريم بعد ذلك (٥)» الحديث.

والمصالح والمفاسد النفس الأمريّة ـ أعني الخير والشرّ ، والحسن والقبح ـ

__________________

(١). في المصدر : «فزوّج»

(٢). قرب الإسناد : ١٦١.

(٣). في المصدر : ـ «له»

(٤). في المصدر : ـ «الله»

(٥). الاحتجاج ٢ : ٣١٤.

٢٣

الحقيقيّين وإن لم يكونا ملاكين حقيقة بمعنى المؤثّر أو المرجّح في أفعاله تعالى على ما مرّ ، بل دائرين مدار الإيجاد وعدمه منتزعين منهما في مرتبتهما أو المرتبة المتأخّرة منهما من غير سبق ، لكنّ الجعل التشريعي حيث كان اعتباريّا دائرا مدار صلاح النظام وفساده كان مستندا إلى الصلاح والفساد مسبّبا عنهما وإن كان التشريع بوجه مستندا إلى التكوين ، فافهم.

فالروايات هي المركون إليها دون ما يعارضها القائلة بعضها أنّ آدم ـ عليه‌السلام ـ زوّج بعض أبنائه من الحور وبعضهم من الجانّ ، فتكثّرت الذرّيّة بذلك. (١).

هذا على أنّ الطائفة الأولى أوفق بظاهر الكتاب ، كقوله تعالى : (وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ، ولم يذكر غيرهما ، وقوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) (٢).

قوله سبحانه : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ)

وقرئ : تسّائلون ـ بتشديد السين ـ وأصله تتسائلون ، ثمّ ادغمت إحدى التاءين في السين. وقرئ بالتخفيف ، وأصله تتسائلون.

وقرئ : الأرحام ـ بالنصب والجرّ ـ ، والتسائل بالله وبالرحم أن ما يقول الإنسان : أسألك بالله وأسألك بالرحم. وقراءة النصب أوفق بما قبله وهو قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) وبما بعده ممّا الكلام توطئة لبيانه.

__________________

(١). راجع : تفسير العياشى ١ : ٢١٥ و ٢١٦ ، الحديث : ٥ و ٦ ؛ القصص للجزائري : ٥٨ ؛ بحار الأنوار ١١ : ٢٤٤ ، الحديث : ٣٩ وغيرها.

(٢). الحجرات (٤٩) : ١٣.

٢٤

وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «واتّقوا الأرحام أن تقطعوها» (١).

أقول : وبناؤه على قراءة النصب.

وفي الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «هي أرحام الناس ، إنّ الله عزوجل أمر بصلتها وعظّمها ، ألا ترى أنّه جعلها معه» (٢).

أقول : قوله : «ألا ترى» بيان لتعظيمها ، والمراد به الاقتران الواقع في هذه الآية.

وفي تفسير العيّاشي عن الأصبغ بن نباتة ، قال : سمعت أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ يقول : «إنّ أحدكم ليغضب فما يرضى حتّى يدخل به النار ، فأيّما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه ، فإنّ الرحم إذا مسّتها الرحم استقرّت ، وأنّها متعلّقة بالعرش ينتقضه (٣) انتقاض الحديد فتنادي (٤) : اللهمّ صل من وصلني ، واقطع من قطعني ، وذلك قول الله في كتابه : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ، وأيّما رجل غضب وهو قائم فليلزم الأرض من فوره فإنّه يذهب رجز الشيطان» (٥).

أقول : وروي في الكافي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ مثله (٦).

وقوله : «ينتقضه» (٧) أي يحدث فيه صوتا مثل ما يحدث في الحديد من

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ٦.

(٢). الكافي ٢ : ١٥٠ ، الحديث : ١ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢١٧ ، الحديث ٩ و ١٠.

(٣). في الأصل : «ينقضّه»

(٤). في المصدر : «فينادي».

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٢١٧ ، الحديث : ٨.

(٦). الكافي ٢ : ٣٠٢ ، الحديث : ٢.

(٧). في الأصل : «ينقضّه»

٢٥

النقر ، وفي الصحاح : الأنقاض صويت مثل النقر (١). انتهى.

والرحم هي جهة القرابة الموجودة بين أشخاص الإنسان التي عندها تجتمع شتاتهم وبها تتّحد كثرتهم ، استعير لها الرحم أخذا من رحم الأمّ. إذ نسبتها إليها نسبة الظرف إلى مظروفاته ، والأصل الواجد إلى فروعه ، وهذه حيثيّة حقيقيّة موجودة بين الأشخاص لها آثار حقيقيّة خلقيّة وخلقيّة وروحيّة وجسميّة غير قابلة الإنكار ، وإن كان ربّما يوجد معها عوامل اخر ظاهرة أو خفيّة تمحق ما تقتضيه الرحم من الآثار في الجملة أو بالجملة ، وقد مرّ (٢) بعض ما يفيد في المقام من الكلام.

ومن البيّن أنّه كلّما قربت الجهة الموحّدة من الرحم قويت الآثار المشتركة ، وكلّما بعدت ضعفت حتّى تصير كالمعدوم وإن كانت لا تنعدم من رأس ، والصلة في الرحم ميل في الحقيقة إلى جهة الوحدة التي بين المتفرّقات عن جهات الكثرة الموجبة للتفرّق. ومن المعلوم أنّ الواحد بما هو واحد لا يزاحم بعض أفعاله ولا آثاره بعضا. فالصلة في الحقيقة من عمدة ما يستصلح به الاجتماع بين الأفراد ، وبها تتمّ سعادة المعاشرة وأحكام المواريث وغيرها ، وسعادة النسل والتوليد ، وكلّما روعيت أحكام الوحدة ثبتت واستقرّت ، وكلّما اهملت وتركت ضعفت واستقرّت واضطربت ، وكلّما استقرّت قويت في تأثيرها وبالعكس ، ولذلك كان ما ينتجه المعروف بين الأقارب والأرحام من الإلتيام أقوى وأشدّ ممّا ينتجه المعروف على الأجانب ، وكذا الإساءة في مورد الأقارب أشدّ تأثيرا منها في مورد الأجانب.

__________________

(١). الصحاح ٣ : ١١١١.

(٢). «في أوائل سورة آل عمران» ، [منه ـ رحمه‌الله ـ].

٢٦

وبذلك يظهر معنى قوله ـ عليه‌السلام ـ : «فأيّما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه ، فإنّ الرحم إذا مسّتها الرحم استقرّت» انتهى ، فإنّ الدنوّ من ذي الرحم رعاية لحكمها ، فهو تثبيت لها تحريك لسببها ، فيتجدّد حكمها بظهور الرأفة والشفقة.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «وإنّها متعلّقة بالعرش تنتقضه (١) انتقاض الحديد فتنادي : الّلهم صل من وصلني واقطع من قطعني» انتهى ، قد عرفت في الكلام على الكرسي إجمالا ، وسيأتي في الكلام على العرش : أنّ العرش مقام العلم بالغير ، وهو الباب الباطن من الغيب ، ومعلومه الموجودات المجملة الوجود المحيطة بالتفاصيل ، فإنّ نظام الوجود مؤلّفة من تفاصيل وخصوصيّات وحدود مشروحة يجمع كلّ جهة من جهاتها المتفرّقة وجود جامع محيط بها ، كالإنسان لأشخاصه ، والرحم لشتاتها ، وهكذا ، ومقام العلم المتعلّق بالشتات هو الكرسي ، كما مرّ ، والمتعلّق بالمجمل المحيط هو العرش كما سيتبيّن.

وبالتدبّر في ذلك يظهر معنى تعلّقها بالعرش ودقّها باب الغيب بالأنقاض ودعاؤها بصلة من وصلها وقطع من قطعها ، فهو منه ـ عليه‌السلام ـ من غرر التماثيل ونفائس البيان.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «وذلك قول الله في كتابه : (وَاتَّقُوا اللهَ) ، فالرقيب من أسمائه تعالى الفعليّة من فروع العلم الإجمالي ؛ إذ هو من قولك : رقبته أرقبه رقوبا ، إذا رصدته وانتظرته ، فإذا لوحظ ظهور العالم والمعلوم معا كان شهادة ، وإذا لوحظ خفاء ودقّة في جانب المعلوم كان خبرة ، وإذا لوحظ خفاء في جانب

__________________

(١). في الاصل : «تنقضّه»

٢٧

العالم واستخفاء كان رقبة ورقوبا ، فالرقيب هو الذي عنده من العلم ما يطبّقه لما يواجهه ويترصّد به ما يشاهده ليمحّص ما يطابقه ممّا لا يطابقه ، فهو تعالى رقيب ؛ لأنّه ذو العرش وأنّه لبالمرصاد ، فافهم ذلك.

فتعليله تعالى اتّقاء الأرحام بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ، يعطي تعلّق الرحم بالعرش كما ذكره ـ عليه‌السلام ـ والروايات في تعلّق الرحم بالعرش كثيرة.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «وأيّما رجل منكم غضب وهو قائم فليلزم الأرض» (١) ، انتهى ، أمر بتوجيه النفس إلى ما تشتغل به عن رجز الشيطان وإضرامه نار الغضب في جوف الإنسان ، كما ورد استحباب إرسال الطعام إلى المصاب (٢) ، وبعكس ذلك ورد الأمر بالقيام لمن غضب وهو جالس.

ففي المجالس عن الصادق عن أبيه [عليهما‌السلام] أنّه ذكر [عنده] الغضب فقال : «إنّ الرجل ليغضب حتّى ما يرضى أبدا ، ويدخل بذلك النار ، فأيّما رجل غضب وهو قائم فليجلس ، فإنّه سيذهب عنه رجز الشيطان ، وإن كان جالسا فليقم. وأيّما رجل غضب على ذي رحم فليقم إليه وليدن منه وليمسّه ، فإنّ الرحم إذا مسّت الرحم سكنت» (٣).

أقول : وتأثيره محسوس مجرّب.

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢١٧ ، الحديث : ٨.

(٢). الجعفريات : ٢١٠ ـ ٢١١ ؛ دعائم الإسلام ١ : ٢٣٩ ؛ عوالي اللئالي ٤ : ١٥ ، الحديث : ٣٧ ؛ وسائل الشيعة ٢٤ : ٣٦٤ ، باب استحباب اطعام جيران صاحب المصيبة عنه وإرسال الطعام إليه ؛ مستدرك الوسائل ١٦ : ٢٨٢ ، باب إستحباب إطعام جيران صاحب المصيبة عنه وإرسال الطعام إليه ثلاثة أيام.

(٣). الأمالي : ٣٤٠ ، المجلس الرابع والخمسون ، الحديث : ٢٥.

٢٨

[وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)]

قوله سبحانه : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ)

هو وإن كان حكما مستقلّا في نفسه ، لكن في تقديمه على مسألتي النكاح

٢٩

والمواريث توطئة لما سيجيء.

وقوله : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ)

أي أكل الحرام بأكل الحلال ، أو بتبديل ما عندكم من الرديء بمالهم الطيّب ، فكلّ منهما تبديل.

وفي نهج البيان للشيباني عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ : «لا تتبدّلوا الحلال من أموالكم بالحرام من أموالهم لأجل الجودة والزيادة فيه» (١).

أقول : وهو يحتمل كلا المعنيين.

وقوله تعالى : (حُوباً كَبِيراً)

الحوب : الإثم ، مصدر واسم مصدر.

قوله سبحانه : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ)

عجيبة النظم على ما يتراءى منها من عدم التلائم بين الشرط والجزاء ، وما وجّهها به المفسّرون لا يخلو من تعسّف ، ولم يرد شيء في شأن نزولها حتّى يستراح إليه وتوجّه به. والذي يتحصّل من معناها للنظر الخالي مع ملاحظة حال الناس في الجاهليّة على ما هو المأثور أنّهم كانوا يحرّمون النساء والصغار من الميراث ، وربّما تزوّجوا اليتامى طمعا في مالهنّ وربما سلبوهنّ مالهنّ من غير نكاح ، فبقين لا مال لهنّ يرتزقن بها ، ولا رغبة من راغب فيهنّ لينكحهنّ وينفق عليهنّ ، فلمّا نزلت في أموال اليتامى مثل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ

__________________

(١). لم نعثر على كتاب نهج البيان ، ولكن روي في تفسير ابن كثير ١ : ٤٥٩.

٣٠

الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١) ، وقوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) ، أشفق الناس على أنفسهم ـ كما قيل ـ وخافوا خوفا شديدا حتّى أخرج عامّة من كان عنده يتيم إيّاه من داره خوفا من الابتلاء بالتصرّف في ماله أو التماسّ به حتّى نزل قوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (٢) ، فإذ كان الشأن هذا الشأن فقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) ، على ظاهر تأليفه ووقوعه بعد الآية السابقة في معنى الترقّي للتشديد الواقع في الآية السابقة متمّ لها. والمعنى ـ والله أعلم ـ اتّقوا أموال اليتامى أن تأكلوها أو تصرّفوا فيها بالتبديل أو الضمّ إلى أموالكم حتّى أنّكم (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) فيهنّ ولم تطب نفوسكم بذلك على ما هو الأغلب من تأخّر زمان رشدهنّ عن كونهنّ عرضة للنكاح فلا تخالطوهنّ بالنكاح وانكحوا نساء غيرهنّ. فالشرطيّة ، أعني قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) ، في معنى قولنا : إن لم تطب نفوسكم من اليتامى فلا تنكحوهنّ وانكحوا نساء غيرهنّ ، فقوله : (فَانْكِحُوا) ، سادّ مسدّ الجزاء الحقيقي ، وقوله : (طابَ لَكُمْ) ، يغني عن ذكر الوصف للنساء أعني لفظ غيرهنّ ، ووضع قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) ، موضع عدم طيب النفس من قبيل وضع السبب موضع المسبّب مع الإشعار بالمسبّب في ضمن الجزاء وهو قوله : (طابَ لَكُمْ).

__________________

(١). النساء (٤) : ١٠.

(٢). البقرة (٢) : ٢٢٠.

٣١

قوله سبحانه : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ)

التعبير بهذه الألفاظ دون أن يقال اثنتين وثلاثا وأربعا ؛ لدفع ما يمكن أن يتوهّم أنّ التشريع راجع إلى تمام العمر دون الجمع في زمان واحد ، فافهم.

وقوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) ، قرينة على أن ليس المراد الجمع من حيث العقد والعلقة كأن ينكح اثنتين بعقد ثمّ يضيف إليهما ثلاثا بعقد آخر ، بل المراد الجمع من حيث الزمان.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر» (١).

وفي الكافي عنه ـ عليه‌السلام ـ : «إذا جمع الرجل أربعا فطلّق إحداهنّ فلا يتزوّج الخامسة حتّى تنقضي عدّة المرأة التي طلّق» (٢).

أقول : والأخبار في معنى الآية كثيرة (٣).

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أيضا : «إنّ الغيرة ليست إلّا للرجال ، وأمّا النساء فإنّما ذلك منهنّ حسد ... وإنّ الله أكرم أن يبتليهنّ بالغيرة ويحلّ للرجل معها ثلاثا» (٤).

أقول : وهو من لطائف الاستدلال.

بيان ذلك : أنّ الضرورة قاضية أنّ آثار كلّ موجود وأفعاله صادرة عن خصوصيّة وجوده ، أعني أنّ خصوصيّات أفعال كلّ موجود ناشئة عن المبادىء

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢١٨ ، الحديث : ١٤.

(٢). الكافي ٥ : ٤٣٩ ، الحديث : ١.

(٣). راجع : الكافي ٥ : ٣٦٢ ، الحديث : ١ ؛ ٥ : و ٣٦٣ ، الحديث : ٢ ؛ تهذيب الأحكام ٧ : ٤٢٠ ، الحديث : ٥ ؛ الاحتجاج ١ : ٢٤٦ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢١٨ ، الحديث : ١٣ ؛ ٢٤٠ ، الحديث : ١٢١.

(٤). الكافي ٥ : ٥٠٤ ، الحديث : ١.

٣٢

الموجودة عنده ، فبالضرورة كلّ موجود يروم بفطرته نحو الهدف الذي خطّت له الخلقة ومتحرّك نحو الغاية التي وضعتها له يد المصنع ، وليس يروم نحو شيء خارج عن دائرة كماله التي خطّت له ، ولو عثرت على شيء ممّا يوهم خلاف ذلك فبالتأمّل والبحث يستوضح فيتّضح الحقّ فيه.

والإنسان من جملة الموجودات التي يناله الحسّ وإن كان أوسعها أفعالا وأبعدها منالا ، فإنّ حاله كحال سائر الموجودات لا يروم إلى كمال إلّا وعنده مبدأ يقتضيه ويستدعيه ، ولا يتجاوز قصده وسعيه ذلك ألبتّة ، فأعظم الدليل على لزوم سعيه نحو كماله الخاصّ به هو أنّ الخلقة وضعت مبادىء ملائمة له فيه ونظمت تركيبه نظما يستدعيه ، فأيّ برهان أقطع على لزوم الأكل والنكاح له مثلا من أنّ نظام بدنه مجهّز بجهازي التغذّي والتناسل.

هذا ، وإذ كان الدين الحنيف موضوعا على أساس الفطرة كما قال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (١) ، فما لا تستغني الفطرة عنه ممّا أخذ مبدأه فيها على اختلاف لزومه وجوازه فردا أو جماعة هو الواجب والمباح ، وما يضادّها أو يقتضي ما يعود إلى اضمحلالها واستئصالها هو المحرّم ، والشريعة إنّما هي لتحديد حدودها وتفصيل الخصوصيّات الموجودة فيها على إبهامها وإجمالها بتمييز المصلحة من المفسدة والنافعة من الضارّة كما قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فيما روي عنه : «بعثت لاتمّم مكارم الأخلاق» (٢) ، الحديث ، فخصوصيّات التشريع تكشف عن خصوصيّات

__________________

(١). الروم (٣٠) : ٣٠.

(٢). مستدرك الوسائل ١١ : ١٨٧ ، الحديث : ١٢٧٠١ ؛ مكارم الأخلاق : ٨ ؛ بحار الأنوار ٦٧ : ٣٧٢ ؛ ٦٨ : ٣٨٢.

٣٣

الفطرة ، كما أنّ خصوصيّات الفطرة عند العالم المحيط بها تكشف عن خصوصيّات التشريع.

إذا تبيّن هذا بان معنى قوله ـ عليه‌السلام ـ : «وإنّ الله أكرم أن يبتليهنّ بالغيرة ويحلّ للرجل معها ثلاثا» انتهى ، وبذلك حكم ـ عليه‌السلام ـ بأنّ ذلك حسد وليس بغيرة.

قوله سبحانه : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً).

وهذه قرينة على أنّ الحكم في التعدّد مع الخوف حكم شرعي غير وضعي ، فلا يوجب البطلان.

قوله سبحانه : (أَلَّا تَعْدِلُوا) ، من العدل في الميزان ، بمعنى الميل.

قوله سبحانه : (صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) ، الصدقات جمع صداق ، وهي المهر ، والنحلة الهديّة.

قوله سبحانه : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ)

الأخبار في مضمون الآية كثيرة ظاهرة لا حاجة إلى إيرادها ، والهنيء المريء من هنأني الطعام ومرأني إذا لم يكن في أكله تعب.

وفي تفسير العيّاشي عن زرارة قال ـ عليه‌السلام ـ : «لا ترجع المرأة فيما تهب لزوجها حيزت (١) أو لم تحز ، أليس الله يقول : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)» (٢).

أقول : وروى هذا المعنى في الكافي عن زرارة عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ (٣) ،

__________________

(١). في الأصل «جيزت أو لم تجز» والصحيح ما أثبتناه في المتن.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٢١٩ ، الحديث : ١٩.

(٣). الكافي ٧ : ٣٠ ، الحديث : ٣.

٣٤

واستفاد ـ عليه‌السلام ـ الحكم من قوله : (هَنِيئاً مَرِيئاً) ، إذ لازم ذلك لزوم الهبة.

وفي تفسير العيّاشي أيضا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن أبيه ، قال : «جاء رجل إلى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ فقال : يا أمير المؤمنين ، بي وجع في بطني ، فقال له أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : ألك زوجة؟ قال : نعم. قال : استوهب منها شيئا طيّبة بها (١) نفسها من مالها ، ثمّ اشتر به عسلا ، ثمّ اسكب عليه من ماء السماء ، ثمّ اشربه ، فإنّي أسمع الله تعالى : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) (٢) ، وقال : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) (٣) ، وقال : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) شفيت إن شاء الله تعالى. قال : ففعل ذلك فشفي» (٤).

أقول : وهذا نوع من الاستفادة من كلامه سبحانه أفاد ـ عليه‌السلام ـ مفتاحها ، وينفتح به أبواب في فنون شتّى. وقد ورد منها شيء كثير في الروايات ، سيأتي التعرّض لبعضها في مواضعها.

قوله سبحانه : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)

ظاهرها كون اللام في «السفهاء» للعهد ، بقرينة قوله : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) ، إذ هو خاصّ بالنساء والولدان ظاهرا. وقوله : (الَّتِي جَعَلَ اللهُ) ، توصيف لإفادة التعليل.

__________________

(١). في المصدر : «به»

(٢). ق (٥٠) : ٩.

(٣). النحل (١٦) : ٦٩.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٢١٨ ، الحديث : ١٥.

٣٥

وفي تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية : «فالسفهاء النساء والولد ، إذا علم الرجل أنّ امرأته سفيهة مفسدة وولده سفيه مفسد لم ينبغ له أن يسلّط واحدا منهما على ماله الذي جعل الله له (قِياماً) يقول : معاشا ، قال : (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)» ، الحديث (١).

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «لا تؤتوها شرّاب الخمر والنساء» (٢).

أقول : وفي كثير من الروايات عدّ شارب الخمر من السفيه ، وإيتاء المال أعمّ من إيتائه مال نفسه أو بنحو الأمانة وغيرها ، كما في الفقيه عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث : ثمّ قال : «وأيّ سفيه أسفه من شارب الخمر» (٣) ، الحديث.

وفي تفسير العيّاشي عن يونس بن يعقوب قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ في قول الله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)؟ قال : «من لا تثق به» (٤).

أقول : وهذه التوسعة جميعا مستفادة من عموم التعليل في قوله : (جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً).

قوله سبحانه : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا)

بلوغ النكاح بلوغ حدّ يتأتّى عنده النكاح. والبدار المبادرة. ومعنى الآية ظاهر ، والروايات فيه كثيرة.

ففي الفقيه عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «انقطاع يتم اليتيم الاحتلام ، وهو

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ١٣١.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٢٢١ ، الحديث : ٢٤.

(٣). من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٢٦ ، الحديث : ٥٥٣٤.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٢٢٠ ، الحديث : ٢٠.

٣٦

أشدّه ، وإن احتلم ولم يؤنس منه رشد وكان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليّه ماله» (١).

وفيه : عنه ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : «إيناس الرشد حفظ المال» (٢).

وفي التهذيب : عنه ـ عليه‌السلام ـ في قول الله : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) ، قال : «فذلك رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم [أموالهم] ، فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا» (٣).

أقول : والروايات في هذه المعاني وما يلحق بها كثيرة.

وفي تفسير العيّاشي عن رفاعة ، عنه ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) قال ـ عليه‌السلام ـ : «كان أبي يقول : إنّها منسوخة» (٤).

أقول : هو خبر واحد معارض بعدّة أخبار أخر ، وليس في الآيات ما نسبته إليها نسبة الناسخ إلى المنسوخ.

وفي الفقيه وتفسير العيّاشي عنه ـ عليه‌السلام ـ في الآية : «إذا رأيتموهم وهم يحبّون آل محمّد فارفعوهم درجة» (٥).

أقول : وهو من الجري من باطن التنزيل ، فأئمّة الدين آباء المؤمنين ، وهم أيتام المعارف ، وبلوغهم أخذهم إجمال الحقّ ، وإيتاؤهم مالهم رفع درجتهم بإلقاء ما يستطيعون تحمّله من المعارف الحقيقيّة.

*

__________________

(١). من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٢٠ ، الحديث : ٥٥١٧.

(٢). من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٢٢ ، الحديث : ٥٥٢٣.

(٣). تهذيب الأحكام ٦ : ٣٤١ ، الحديث : ٧٣.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٢٢٢ ، الحديث : ٣٣.

(٥). من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢٢٢ ، الحديث : ٥٥٢٤ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٢١ ، الحديث : ٢٧.

٣٧

[لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)]

قوله سبحانه : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ) ـ إلى آخر هذه الآية مع الآية الآتية : ـ (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً) ـ إلى قوله : ـ (سَعِيراً)

كالمقدّمة لآية المواريث : (يُوصِيكُمُ اللهُ) (١) على ما تقدّم أنّ أهل الجاهليّة كانوا يورّثون ويحرّمون النساء والولدان. ولحن الآيات يفيد ذلك.

وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : أنّها محكمة غير منسوخة (٢).

__________________

(١). النساء (٤) : ١١.

(٢). مجمع البيان ٣ : ٢٢.

٣٨

قوله سبحانه : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى)

في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «نسختها آية الفرائض» (١).

وفي رواية عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ سئل أمنسوخة هى؟ قال : «لا ، إذا حضروك فاعطهم (٢).

أقول : نسخ الوجوب لا ينافي بقاء الاستحباب وأصل الرجحان كما قيل.

قوله سبحانه : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا)

الناس كلّهم ـ وخاصّة المؤمنون ـ يخافون من استئصال ذراريهم وبقائهم أيتاما تحت اضطهاد الظلم والذلّ ، وإنّما أتى الإنذار العامّ في صورة الخصوص بالوصف المفيد للتضييق صورة إشعارا بعدم خصوصيّة الأشخاص فيه ، وإنّما الخصوصيّة لهم بالوصف كخطاب الجماعة بقولك : من كان يخاف الذلّة فليشتغل بالصنعة.

وقوله : (وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)

وكان الظاهر أن يؤمر بالفعل السديد بحفظ أموالهم ؛ لما مرّ أنّ الآيات كالمقدّمة لآية المواريث ، وكانوا يقولون بتحريم النساء والولدان الصغار.

وقوله : (يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً)

تعبير شائع يقال : أكله وأكل في بطنه ، بمعنى واحد.

__________________

(١). تفسير العيّاشى ١ : ٢٢٢ ، الحديث : ٣٤.

(٢). تفسير العيّاشى ١ : ٢٢٢ ، الحديث : ٣٥.

٣٩

وفي تفسير العيّاشي عن أبي عبد الله وأبي الحسن ـ عليهما‌السلام ـ : «إنّ الله أوعد في مال اليتيم عقوبتين اثنتين ، أمّا إحداهما فعقوبة الآخرة النار ، وأمّا الاخرى فعقوبة الدنيا ، قوله : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) ، قال : يعنى بذلك : ليخش أن اخلّفه في ذرّيّته كما صنع بهؤلاء اليتامى» (١).

أقول : وروى مثله في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ والصدوق عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ (٢).

وفي تفسير العيّاشي أيضا عن عبد الأعلى مولى آل سام قال : قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ مبتدئا : «من ظلم [يتيما] سلّط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على عقب عقبه» قال : فذكرت في نفسي فقلت : يظلم هو فيسلّط على عقبه و (٣) عقب عقبه؟ فقال لي قبل أن أتكلّم : «إنّ الله يقول : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) (٤).

أقول : الرواية كما ترى تأخذ بالعموم ، وأمّا كون ظلم الظالم بحسب النتيجة والوبال مسريا إلى عقبه وعقب عقبه كما توميء إليه الرواية فمستفاد من الآية.

وبيان ذلك بعد التذكّر بما ذكرناه في الكلام في الدعاء في سورة البقرة وما ذكرناه في حقيقة الرحم في هذه السورة : أنّ الإنسان إذا أحسن إلى إنسان أو أساء إليه وهو يعلم أنّه مثله فقد جوّز مثله لنفسه فهو سائل ذلك لنفسه دعاء غير

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٢٣ ، الحديث : ٣٨.

(٢). الكافي ٥ : ١٢٨ ، الحديث : ١ ؛ من لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٦٩ ، الحديث : ٤٩٤٥.

(٣). في المصدر : «أو»

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٢٢٣ ، الحديث : ٣٧.

٤٠