تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

الكمال المحصّل من ظاهر الدين وباطنه معا.

وقد تكاثرت الروايات من الفريقين في نزول الآية في شأن الولاية :

ففي المجمع عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ : إنّما نزل (١) بعد أن نصب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عليا ـ عليه‌السلام ـ علما للأنام يوم غدير خم عند منصرفه عن حجّة الوداع قالا : وهي (٢) آخر فريضة أنزلها الله [تعالى] ثمّ لم تنزل (٣) بعدها فريضة (٤).

أقول : وسيأتي شرح آخر الرواية.

ومن طرق العامّة عن المناقب لأحمد بن الموفّق مسندا : عن أبي سعيد الخدري : أنّ النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما كان تحت الشجرة من الشوك فقمّ ؛ وذلك يوم الخميس يوم (٥) دعا الناس إلى عليّ وأخذ (٦) بضبعه ثم رفعها (٧) حتى نظر الناس إلى بياض إبطه [ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ] ثمّ لم يفترقا (٨) حتى نزلت هذه الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

فقال رسول الله [ـ صلّى ـ الله عليه وآله ـ] : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالاتي والولاية لعليّ ، ثم قال : من كنت مولاه فعلي

__________________

(١). في المصدر : «أنزل»

(٢). في المصدر : «هو»

(٣). في المصدر : «لم ينزل»

(٤). مجمع البيان ٣ : ٢٧٤.

(٥). في المصدر : «ثم»

(٦). في المصدر : «فأخذ»

(٧). في المصدر : «فرفعها»

(٨). في المصدر : «لم يتفرّقا»

٢٠١

مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، فقال حسّان بن ثابت : إئذن لي يا رسول الله أن أقول أبياتا ، قال : قل ببركة الله تعالى :

فقال حسّان بن ثابت : يا معشر مشيخة قريش اسمعوا شهادة رسول الله [ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ] ثم قال :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخم واسمع بالنبيّ مناديا

بأنّي مولاكم نعم ووليّكم (١)

فقالوا ولم يبدو [ا] هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

ولا تجدنّ في الخلق للأمر عاصيا

فقال له : قم يا علي فإنّني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا (٢)

أقول : والروايات في قصّة غدير خمّ متجاوزة حدّ التواتر رواها جمّ غفير من رجال الفريقين ، وفي عدة منها نزول قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ) بعد نصب النبيّ [ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ] عليّا ـ عليه‌السلام ـ (٣).

ومن لطائف هذه الرواية ما تشتمل عليه من شعر حسّان وفهمه وفهم الصحابة من قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، ـ الى آخره ـ ، الإمامة والهداية ، كما يدلّ عليه قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : وانصر من نصره واخذل من خذله ، ـ الى آخره ـ ، وتقرير النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لهم ذلك.

وقد ورد نظيره في شعر نفر من الصحابة غيره ، كقيس بن سعد وعمرو بن العاص.

__________________

(١). في المصدر : «ونبيّكم»

(٢). المناقب ، للخوارزمي : ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٣). راجع : تأويل الآيات ١ : ١٤٥ ؛ والغدير.

٢٠٢

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نزول الآية : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالاتي والولاية لعلي ، ـ الى آخره ـ.

وقد ورد في عدّة من روايات الخاصّة (١) ، وهو يؤيّد ما تقدم في معنى الآية أنّ المراد بالنعمة الولاية ، إذ قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : ورضى الربّ برسالاتي والولاية لعلي ، الى آخره ، محاذ لقوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، وقد مرّ أنّ الإسلام هو مجموع الدين والنعمة ، فالدين : رسالاته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ والنعمة : الولاية.

وفي الإحتجاج عن ابن أذينة ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الفريضة كانت تنزل ثم تنزل الفريضة الأخرى ، فكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، فقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : يقول الله : إنّه (٢) لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة (٣).

أقول : وروي هذا المعنى في الكافي وتفسيري القمي والعيّاشي عنه ـ عليه‌السلام ـ (٤).

قوله ـ عليه‌السلام ـ : فكانت الولاية آخر الفرائض ، ـ الى آخره ـ إطلاق الفريضة على الولاية بالنظر إلى ما سيجيء من تفسيره عند قوله سبحانه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٥) ، من كونها معنى مشكّكا ذا مراتب بعض

__________________

(١). بشارة المصطفى : ٢١١ ؛ الإحتجاج ١ : ٢٥٤ ؛ إعلام الورى : ١٣٣ ؛ بحار الأنوار ٣٧ : ١٧٩.

(٢). في المصدر : ـ «إنه»

(٣). لم نجده في الإحتجاج لكن روي في تفسير العياشي ١ : ٢٩٣.

(٤). الكافي ١ : ٢٨٩ ؛ تفسير القمي ١ : ١٦٢ ، تفسير العياشي ١ : ٢٩٣.

(٥). المائدة (٥) : ٥٥.

٢٠٣

مراتبه متعلّق بالعمل ، وهي الأولويّة بالتصرّف والطاعة ، وبهذا المعنى عدّت في أخبار أخر أيضا من فرائض الدين كما في ... (١)

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : يقول الله : إنّه لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة ، تفسير بلازم الدلالة إذ لازم إكمال الدين أن لا ينزل بعده حكم ، وأمّا تخصيص الكلام بالفريضة مع كون الدين أعمّ منها فبالنظر إلى كون الولاية فريضة.

ويشهد به ما في تفسير البرهان عن سعيد بن عبد الله القمّي ، عن زيد الشحّام قال : كنت عند أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ وعنده رجل من المعتزلة ، فسأله عن شيء من السنن فقال : ما من شيء يحتاج إليه ولد آدم إلّا وقد خرجت فيه السنّة من الله عزوجل ومن رسوله ولو لا ذلك ما احتجّ الله عزوجل علينا بما احتجّ ، فقال له المعتزلي : وبما احتجّ الله؟ فقال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : بقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، حتى تمّم الولاية ، فلو لم تكمل سنّة وفريضة ما احتجّ به (٢).

أقول : وممّا يتفرّع على ذلك وجود كلّ حكم عملي في كليّات الكتاب والسنّة وعدم جواز اللحوق والتجدّد وهو ظاهر ، وقد مرّ بيان فيه عند قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) ، من سورة البقرة (٣).

ويشهد بذلك أيضا ما في الكافي والعيون عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في حديث قال ـ عليه‌السلام ـ : وأنزل في آخر (٤) حجّة الوداع وهي آخر عمره

__________________

(١). بياض في الأصل المخطوط ، راجع لتماميّة المطلب : الكافي ٢ : ١٨ ـ ٢٤ ؛ وسائل الشيعة ١ : ١٣ ـ ٢٩ ؛ خلاصة عبقات الأنوار ٩ : ٥٦ ـ ٥٧ ؛ تقريب المعارف : ١٨٤ ـ ٢٢٠.

(٢). لم نجده في تفسير البرهان ، لكن روي في بصائر الدرجات : ٥٣٧ ، الحديث : ٥٠ ؛ الفصول المهمة في أصول الأئمة ١ : ٤٩٨ ، الحديث : ٣٣.

(٣). البقرة (٢) : ٢١٣.

(٤). في المصدر : ـ «آخر»

٢٠٤

ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فأمر (١) الإمامة من تمام الدين ، ولم يمض [ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ] حتى بيّن لأمّته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيلهم ، وتركهم على قصد الحق (٢) ، وأقام لهم عليّا ـ عليه‌السلام ـ علما وإماما ، وما ترك [لهم] شيئا يحتاج إليه الأمّة إلّا بيّنه ، فمن زعم أنّ الله عزوجل لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب الله ، ومن ردّ كتاب الله فهو كافر [به] (٣).

قوله سبحانه : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

المخمصة : المجاعة ، والتجانف : التمايل ، ويتحصّل منه تجويز الإقتحام في تخمص (٤) الأكل في دفع الجوع ، هذا وهو حكم ثانوي ، وفيها دلالة على أنّ المغفرة كما تتعلّق بالذنب كذلك تتعلّق بمنشأه ، وهو الحكم الذي في مخالفته ذنب وسيجىء إستيفاء الكلام فيه.

*

__________________

(١). في المصدر : «وأمر»

(٢). في المصدر : «سبيل الحق»

(٣). الكافي ١ : ١٩٩ ؛ عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ٢ : ١٩٥.

(٤). في الاصل : «تمخص» والصحيح ما اثبتناه في المتن.

٢٠٥

[يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)]

قوله سبحانه : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)

هي ما لا تستخبثه الطباع السليمة عادة ، ووقوع الآية في تلو آية المحرّمات ، وسياقها قرينة على اختصاص السؤال ، فالجواب بالحلال من المأكول وهي ضرب قاعدة.

قوله سبحانه : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ)

٢٠٦

الجوارح : ما تكسّب الصيد من الطير والسباع ، كالبزاة والصقور والكلاب والفهود ، والتكليب : تعليم الكلب ذلك ، وهو كالمخصّص للموضوع بالكلاب كما سيجيء.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : في كتاب علي ـ عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) ، قال : هي الكلاب (١).

أقول : وروي هذا المعنى في التهذيب وتفسير العيّاشي (٢).

وفي الكافي أيضا عن أبي بكر الحضرمي قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن صيد البزاة والصقورة (٣) والكلب والفهد فقال : لا تأكل صيد شيء من هذه إلّا ما ذكّيتموه ، إلّا الكلب (٤) ، قلت فإن قتله؟ قال : كل ، لأنّ الله عزوجل يقول : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (٥).

وفي تفسير القمي عن أبي بكر الحضرمي ، عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : سألته عن صيد البزاة والصقورة (٦) والفهود والكلاب قال : لا تأكلوا إلّا ما ذكّيتم ، إلّا الكلاب ، قلت : فإن قتله؟ قال : كل ، فإنّ الله يقول : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ، ثمّ قال ـ عليه‌السلام ـ : كلّ شيء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلّا الكلاب المعلّمة ، فإنّها تمسك على صاحبها ، قال ـ عليه‌السلام ـ : وإذا أرسلت الكلب

__________________

(١). الكافي ٦ : ٢٠٢.

(٢). تهذيب الأحكام ٩ : ٢٢ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٩٤.

(٣). في المصدر : «والصقور»

(٤). في المصدر : «الكلب المكلّب»

(٥). الكافي ٦ : ٢٠٤.

(٦). في المصدر : «والصقور»

٢٠٧

فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته (١).

أقول : وقوله ـ عليه‌السلام ـ : كل شيء من السباع ، ـ الى آخره ـ ، إشارة إلى حكمة التشريع ، وهو حلول الكلب في صيده محل الآلة القتّالة بخلاف سائر الجوارح ، وهو من القرائن على إرادة الكلب من الآية دون سائر الجوارح ، حيث قال سبحانه : (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ، ولم يقل : مما أمسكن ، وفي المعاني السابقة عدّة روايات ، وفيها ما يدلّ على صدور خلافها للتقيّة كما في تفسير العيّاشي : عن سماعة ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : كان أبي يفتي وكنّا نفتي ونحن نخاف في صيد البازي والصقور ، فأمّا الآن فإنّا لا نخاف ولا نحل صيدها (٢) إلّا أن تدرك ذكاته ، وإنّه لفي كتاب عليّ : إنّ الله قال : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ) ، فهي الكلاب (٣).

قوله سبحانه : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)

هذا من عجيب البيان ، وتكرار قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ، مع مضيّه في الآية السابقة ، وكأنّه لغرض إيجاد الطمأنينة في نفس السامع بضمّ المشكوك هذه بالمعلوم كما ربّما يشفّع غير المسلم عند المخاطب بالمسلم عنده ارضاءا له ، يقول السيّد لخادمه : لك ما ملّكتكه من المال وزيادة ، ومن هذا الباب يوجه قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٤) ، وقوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ١٦٢.

(٢). في المصدر : «ولا يحل صيدهما»

(٣). تفسير العياشي ١ : ٢٩٤.

(٤). يونس (١٠) : ٢٦.

٢٠٨

مَزِيدٌ) (١) إلّا فقد ضمّ الطيّبات إلى طعام أهل الكتاب لما في أذهان المؤمنين من تشديد الأمر فيه ، وعدم طرّو الطيّب عليه بعد تحريمه بمثل قوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (٢) ، كما يشعر به التقييد بقوله : (الْيَوْمَ) ، ومثل السياق ، السياق اللاحق في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، حيث شفّعت محصنات أهل الكتاب بمحصنات المؤمنات ، ولا شكّ في حلّهنّ.

وقوله : (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) ، ليس تحليلا للبيع منهم ، فالكلام مطلق ولا بيانا لجعل حكم للكفّار لفقد نظيره في كلامه سبحانه ، على أنّ السياق وهو الامتنان بالتسهيل يأباه ، بل ظاهره بيان ثبوت الحلّ في مطلق الطعام ، وأن لا حكم تحريمي في الطعام ، نظير قوله سبحانه : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) (٣) ، أي لا حلّ في البين حتّى يتعلّق بأحد الطرفين.

فهذا ما يستفاد من ظاهر الآية.

وقد فسّرت الروايات الطعام بالبرّ وسائر الحبوب.

ففي الكافي عن أبي الجارود عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال : الحبوب والبقول (٤).

وعن سماعة عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : سألته عن طعام أهل الكتاب

__________________

(١). ق (٥٠) : ٣٥.

(٢). الانعام (٦) : ١٢١.

(٣). الممتحنة (٦٠) : ١٠.

(٤). الكافي ٦ : ٢٦٤.

٢٠٩

وما يحلّ منه فقال : الحبوب (١).

أقول : ورواه في التهذيب عنه (٢).

وفي التهذيب عن هشام بن سالم ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : العدس والحمص وغير ذلك (٣).

وفي تفسير العيّاشي عن هشام عنه ـ عليه‌السلام ـ قال : العدس والحبوب وأشباه ذلك (٤).

وفي الكافي عن قتيبة الأعشى قال : سأل رجل أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ وأنا عنده فقال له : الغنم يرسل فيها اليهودي والنصراني فتعرض فيها العارضة فتذبح (٥) أيؤكل (٦) ذبيحته؟ فقال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : لا تدخل ثمنها في مالك ولا تأكلها ، فإنّما هي الإثم (٧) ولا يؤمن عليها إلّا مسلم ، فقال له الرجل : قال الله تعالى : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) ، فقال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : كان أبي يقول : إنّما هي (٨) الحبوب وأشباهها (٩).

أقول : وروى مثله العيّاشي في تفسيره (١٠) والرواية نسبتها إلى ما قبلها نسبة

__________________

(١). الكافي ٦ : ٢٦٣.

(٢). تهذيب الأحكام ٩ : ٨٩.

(٣). تهذيب الأحكام ٩ : ٨٨.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٢٩٦.

(٥). في المصدر : «فيذبح»

(٦). في المصدر : «أنأكل»

(٧). في المصدر : «هو الاسم»

(٨). في المصدر : «هو»

(٩). الكافي ٦ : ٢٤٠ ، الحديث : ١٠.

(١٠). تفسير العيّاشي ١ : ٢٩٥.

٢١٠

التفسير وتتمّة الكلام في الفقه.

قوله سبحانه : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ)

في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ) قال عليه‌السلام : هنّ المسلمات (١).

أقول : ويستفاد ذلك من المقابلة.

وفيه عنه عليه‌السلام في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، قال : هنّ العفائف (٢).

أقول : وروى أيضا مثله عن العبد الصالح عليه‌السلام (٣).

ويستفاد معناها عن تقييد الحكم في الآية بقوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) ، حيث إنّ ظاهره كون غير المسافحين وصفا بيانيّا ، فيدلّ على كون المراد بالإحصان هو حفظ النفس بالعفّة لا بسبب الازدواج.

وفي الكافي عن زرارة قال : سألت أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، فقال : (٤) منسوخة بقوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (٥).

أقول : وروي هذا المعنى في تفسير العيّاشي : عن مسعدة (٦) ، عنه

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٣٥.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٢٩٦.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٢٩٦.

(٤). في المصدر : + «هذه»

(٥). الكافي ٥ : ٣٥٨ ؛ والآية من سورة الممتحنة (٦٠) : ١٠.

(٦). في المصدر : «عن ابن سنان»

٢١١

ـ عليه‌السلام ـ (١) ، وفيه (٢) عن : ابن الجهم ، قال : قال لي أبو الحسن [الرضا] ـ عليه‌السلام ـ : يا أبا محمد! ما تقول في رجل تزوّج (٣) نصرانيّة على مسلمة؟ قلت : جعلت فداك وما قولي بين يديك ، قال : لتقولنّ فإنّ ذلك تعليم (٤) به قولي ، قلت : لا يجوز نصرانيّة (٥) على مسلمة ولا غير مسلمة ، قال : لم (٦)؟ قلت : لقول الله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) (٧) ، قال : فما تقول في هذه الآية : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، قلت : فقوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) ، نسخت هذه الآية (٨) (٩).

وفي تفسير القمّي عن النبيّ (١٠) : أحلّ الله نكاح أهل الكتاب بعد تحريمه في قوله في سورة البقرة : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) (١١) ، قال : وإنّما يحلّ نكاح أهل الكتاب الذين يؤدّون الجزية ، وغيرهم لم تحلّ مناكحتهم (١٢) (١٣).

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٩٦.

(٢). أي في الكافي.

(٣). في المصدر : «يتزوّج»

(٤). في المصدر : «يعلم»

(٥). في المصدر : «تزويج النصرانيّة»

(٦). في المصدر : «ولم»

(٧). البقرة (٢) : ٢٢١.

(٨). الكافي ٥ : ٣٥٧.

(٩). في المصدر : + «فتبسم ثم سكت»

(١٠). في المصدر : ـ «عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ»

(١١). البقرة (٢) : ٢٢١.

(١٢). في المصدر : بدل «وغيرهم لم تحلّ مناكحتهم» : «على ما يجب فأمّا إذا كانوا في دار الشرك ولم يؤدّوا الجزية لم يحل مناكحتهم»

(١٣). تفسير القمي ١ : ١٦٣.

٢١٢

وفي الكافي والتهذيب : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّما يحلّ [له] منهنّ نكاح البله (١).

أقول : والروايتان كما ترى تقضيان بعدم النسخ ، وتؤيّدهما ما تقدّمت من الروايات في أول السورة ؛ أنّ سورة المائدة من آخر ما نزلت على النبيّ فنسخت ما قبلها ولم تنسخها شيء ، على أنّ قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) (٢) ، في سورة البقرة ، وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة وقوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (٣) في سورة الممتحنة ، وقد نزلت قبل فتح مكة.

والذي يمكن أن يقال : إنّ قوله سبحانه : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). كقوله تعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) ، قيّد فيهما الحكم بالجملة الدالّة على الوصف ، ولم يعبّر بأهل الكتاب ، وفي ذلك إشعار بالتعليل وأنّ عطاء معارف الكتب السماويّة لهم يوجب تقاربا وامتزاجا في البين ، ربّما أوجب ارتفاع بعض التشديد في الإجتناب عنهم ، وقد أكّد هذا التقريب في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، حيث قيّد بقوله (مِنْ قَبْلِكُمْ) وفيه إشعار واضح بالخلط والمزج والتشريك ، واللسان لسان الامتنان ، والسياق سياق التسهيل ، فالآية آبية اللسان عن النسخ بمثل قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) (٤) ، وقوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (٥) حيث أخذ فيها الشرك والكفر ، فلا تعرّض في لسانيهما بالمستضعف منهنّ ولا

__________________

(١). الكافي ٥ : ٣٥٧ ؛ تهذيب الأحكام ٧ : ٢٩٩.

(٢). البقرة (٢) : ٢٢١.

(٣). الكافي ٥ : ٣٥٨ ؛ والآية من سورة الممتحنة (٦٠) : ١٠.

(٤). البقرة (٢) : ٢٢١.

(٥). سورة الممتحنة (٦٠) : ١٠.

٢١٣

بالكافرة الغير المؤدّية للجزية والحربيّة ، كما لا تعرّض في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، مع ما فيه من تقريب البين بالبيان السابق لحال المشركة والكافرة ، فلو عبّر بالنسخ كان بمعنى التفسير ، وقد مرّ في سورة البقرة عند قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) (١) ، أنّ النسخ أعمّ من المصطلح عليه في الفقه ، وفي المقام روايات أخر تؤيّد ما مرّ.

كما في الفقيه عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الرجل المؤمن يتزوّج النصرانيّة واليهوديّة قال : إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهوديّة والنصرانيّة؟ فقيل : يكون له فيها الهوى ، فقال : إن (٢) فعل فليمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير واعلم أنّ عليه في دينه (٣) غضاضة (٤).

وفيه عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّه سئل عن الرجل المسلم أيتزوّج المجوسيّة؟ قال : لا ، ولكن إن كانت له أمة مجوسيّة فلا بأس أن يطأها ويعزل عنها ، ولا يطلب ولدها (٥).

وفي التهذيب عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : لا بأس أن يتمتّع الرجل باليهوديّة والنصرانيّة وعنده حرة (٦).

أقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة ، وللكلام بقيّة محلّها الفقه ، وما ذكرناه ظاهر ما يقتضيه سياق اللفظ.

__________________

(١). البقرة : (٢) : ١٠٦.

(٢). في المصدر : «فإن»

(٣). في المصدر : + «في تزويجه إيّاها»

(٤). من لا يحضره الفقيه ٣ : ٤٠٧ ؛ الكافي ٥ : ٣٥٦.

(٥). من لا يحضره الفقيه ٣ : ٤٠٧ ؛ مع تفاوت يسير في لفظ السؤال.

(٦). تهذيب الأحكام ٧ : ٢٥٦.

٢١٤

قوله سبحانه : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)

الكفر أصله الستر ، فهو يتعلّق بأمر ثابت كالكفر بالله وبرسوله وباليوم الآخر والكفر بأنعم الله ، فالكفر بالإيمان يقضي بوجود إيمان ثابت ، فليس المراد به المصدر ، بل إسم المصدر وهو ما يثبت عند المؤمن من الاعتقادات الحقّة فيؤوّل معنى الكفر بها إلى ترك العمل بها مع ثبوت العلم ، ولذلك فسرت به في عدّة أخبار.

ففي تفسير العيّاشي عن عبيد بن زرارة ، قال سألت أبا عبد الله [ـ عليه‌السلام ـ] عن قول الله عزوجل : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ، قال : ترك العمل الذي أقرّ به ، من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم ولا شغل (١).

أقول : والروايات في هذا المعنى كثيرة رواها في الكافي وتفسير العيّاشي عنه عليه‌السلام وعن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ (٢) والتمثيل في غالبها بالصلاة كما في هذه الرواية ؛ لأنّ الله سبحانه سمّاها إيمانا في قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (٣) في سورة البقرة.

وفيه أيضا : عن أبان بن عبد الرحمان ، قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : أدنى ما يخرج به الرجل من الإسلام أن يرى الرأي بخلاف الحقّ فيقيم عليه قال : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ، وقال عليه‌السلام : الذي يكفر بالإيمان ، الذي لا يعمل بما أمر الله به ولا يرضى به (٤).

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٩٦.

(٢). الكافي ٢ : ٣٨٤ ـ ٣٨٧ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٩٧.

(٣). البقرة (٢) : ١٤٣.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٢٩٧.

٢١٥

أقول : قوله عليه‌السلام : أن يرى الرأي بخلاف الحق ... ، أن يتحقّق عنده الحقّ ويثبت ، ثم يقيم على خلافه كما يشعر به آخر الحديث ، ومن المعلوم أنّ الإقامة والمداومة على معنى يقتضي دوام الإرادة له ، وهي لا تتحقّق إلّا عن علم بالصلاح ، وهو الرأي فعنده علم بالحقّ متروك ، وعلم بخلاف الحقّ مرضي عنده ، ولذلك كان كفرا.

وأمّا الترك مرّة أو مرّات من غير إقامة عليه فليس من الكفر في شيء ، ولذلك صرّح به في بعض الروايات كما في تفسير العيّاشي عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال عليه‌السلام : هو ترك العمل حتى يدعه أجمع ، (١) الحديث.

وأمّا الخروج بذلك عن الإسلام فربّما يستفاد من مثل قوله : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً* أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٢) وقوله : (لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣).

وهذا تشريك في الحدّ من غير تعميم للحكم ، ونظائره في كلامه سبحانه كثيرة ، وأساسها كون هذه الأمور حقائق مشكّكة ذوات مراتب.

وفي تفسير القمّي قال عليه‌السلام : من آمن ثمّ أطاع أهل الشرك (٤).

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٩٧.

(٢). الكهف (١٨) : ١٠٣ ـ ١٠٥.

(٣). الأعراف (٧) : ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٤). تفسير القمّي ١ : ١٦٣.

٢١٦

وفي البصائر : عن أبي حمزة قال : سألت أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله تبارك وتعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، قال : تفسيرها في بطن القرآن ، [يعنى :] ومن يكفر بولاية عليّ ، وعليّ هو الإيمان (١).

أقول : وهو من الجري وفي معناه بعض روايات اخر ، وقوله ـ عليه‌السلام ـ : وعليّ هو الإيمان ، قد تقدّم توضيح نظيره في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) من سورة الفاتحة (٢)

*

__________________

(١). بصائر الدرجات : ٩٧.

(٢). الفاتحة (١) : ٦.

٢١٧

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)]

قوله سبحانه : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) ـ إلى قوله ـ (إِلَى الْكَعْبَيْنِ)

في تفسير العياشي عن بكير بن أعين ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) ما معنى (إِذا قُمْتُمْ)؟ قال : إذا قمتم من النوم (١) ، الحديث.

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٢٩٧.

٢١٨

أقول : ورواه في التهذيب عنه ـ عليه‌السلام (١) ـ ، وهو أقرب الوجوه في تفسير قوله (إِذا قُمْتُمْ) ويتكفّل نقض النوم فقط وأمّا سائر الأحداث فمستفاد من قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) ، كما لا يخفى.

وقد قيل معناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم على غير طهر ، أو إذا أردتم القيام إليها بناءا على وجوبه لكلّ صلاة.

وفيه أيضا عن زرارة قال قلت لأبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : أخبرني عن حدّ الوجه الذي ينبغي له أن يوضّأ ، الذي قال الله [عزوجل] ، فقال : الوجه الذي أمر الله [عزوجل] بغسله الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه ولا ينقص منه ، إن زاد عليه لم يؤجر ، وإن نقص منه أثم ، ما دارت [عليه] السبّابة والوسطى والإبهام من قصاص الشعر (٢) إلى الذقن ، وما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديرا (٣) ، وما سوى ذلك فليس من الوجه (٤) ، قلت : الصدغ ليس من الوجه؟ قال : لا (٥).

قال زرارة : فقلت (٦) لأبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : ألا تخبرني من أين علمت وقلت إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك وقال (٧) : يا زرارة! قاله (٨) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقد نزل به الكتاب من الله تعالى ، لأنّ الله قال : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي له أن

__________________

(١). تهذيب الأحكام ١ : ٧.

(٢). في المصدر : «شعر الرأس»

(٣). في المصدر : + «فهو من الوجه»

(٤). في المصدر : ـ «من الوجه»

(٥). تهذيب الأحكام ١ : ٥٤ ـ ٥٥.

(٦). في المصدر : «قلت»

(٧). في المصدر : «ثمّ قال»

(٨). في الأصل : «قال»

٢١٩

يغسل ، ثم قال : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ، فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنّهما ينبغي أن تغسلا إلى المرفقين ، ثم فصّل بين الكلام فقال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ، فعلمنا حين قال : (بِرُؤُسِكُمْ) ، أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ، ثمّ فسّر ذلك رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله] للناس [فضيّعوه] ، ثم قال : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) ، ثمّ وصل بها (وَأَيْدِيَكُمْ) ، فلمّا وضع الوضوء عمّن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحا لأنّه قال : (بِوُجُوهِكُمْ) ، ثمّ قال : (مِنْهُ) أي من ذلك التيمّم ، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لا يجري على الوجه لأنّه يعلّق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ ، ولا يعلّق ببعضها (١).

أقول : والرواية مشهورة رواها جمع من الرواة مجموعا ومقطّعة عن زرارة (٢).

وقد زاد في الفقيه قال زرارة : قلت [له] : أرأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال : كلّما أحاط به [من] الشعر فليس على العباد أن يطلبوه ، ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء (٣).

أقول : وهو استفادة الحكم من لفظة الوجه.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : إنّ عليّا ـ عليه‌السلام ـ

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٩٩ ؛ نقله المؤلف من العيّاشي ونسخته مطابق للعيّاشي ؛ تهذيب الأحكام ١ : ٦١ ـ ٦٢.

(٢). وسائل الشيعة ٣ : ٣٦٤ ؛ الكافي ٣ : ٣٠ ؛ تهذيب الأحكام ١ : ٦١ ؛ الاستبصار ١ : ٦٢.

(٣). من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٤ ـ ٤٥.

٢٢٠