تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

المستضعفين؟ فقال شبيها بالفزع : «فتركتم أحدا يكون مستضعفا وأين المستضعفون فو الله لقد مشى بأمركم هذا العواتق إلى العواتق في خدورهنّ وتحدّثت به السقّاءات في طريق المدينة» (١).

أقول : والأخبار في المعاني السابقة كثيرة اقتصرنا منها على ما نقلناه ، ومدلول الجميع ما قدّمناه من إطلاق الآية ، وهو عدم الاهتداء إلى الحقّ من غير تقصير وحيلة.

قوله سبحانه : (وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً)

فيه دليل على أنّ المغفرة والعفو ربما يتعلّقان بمورد لا ذنب فيه كالمستضعف.

قوله سبحانه : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً)

في المجمع عن أبي حمزة الثمالي : لمّا نزلت آية الهجرة سمعها رجل من المسلمين وهو جندع ، أو جندب بن ضمرة ، وكان بمكّة ، فقال : والله ما أنا ممّا استثنى الله ، إنّي لأجد قوّة ، وإنّي لعالم بالطريق ، وكان مريضا شديد المرض ، فقال لبنيه : والله لا أبيت بمكّة حتّى أخرج منها ، فإنّي أخاف أن أموت فيها ، فخرجوا يحملونه على سرير ، حتّى إذا بلغ التنعيم مات ، فنزلت الآية (٢).

أقول : وكأنّها رواية ، وقد روت العامّة في القصّة أنّه لمّا أدركه الموت أخذ يصفّق بيمينه على شماله ثمّ قال : الّلهمّ هذه لك وهذه لرسولك ، أبايعك على ما بايعك عليه رسولك ، فمات حميدا ، فبلغ خبره أصحاب رسول الله ـ صلّى الله

__________________

(١). الكافي ٢ : ٤٠٤ ـ ٤٠٥ ، الحديث : ٤.

(٢). مجمع البيان ٣ : ١٧١.

١٤١

عليه وآله ـ فقالوا : لو توفّي بالمدينة لكان أتمّ أجرا ، وقال المشركون وهم يضحكون : ما أدرك هذا ما طلب ، فنزلت (١).

*

__________________

(١). تفسير القرطبي ٥ : ٣٤٩ ؛ أسد الغابة ١ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ؛ الإصابة ٢ : ١٩٦.

١٤٢

[وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤)]

قوله سبحانه : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ)

نفى الجناح الظاهر في عدم تعيّن القصر مع كونه واجبا تعيينيّا لكونه في مقام

١٤٣

التشريع وناظرا إلى رفع تعيّن الإتمام كما مرّ في قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (١) ، وشاهد ذلك أنّ صلاة الخوف التي في ذيل هذه الآية مع كونها من القصر ووحدة السياق يتعيّن فيه القصر حيث يقول : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ).

وإلى ذلك يشير ما في الفقيه عن زرارة ومحمّد بن مسلم قالا : قلنا لأبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال : «إنّ الله عزوجل يقول : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر» قالا : قلنا : إنّما قال الله تعالى : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل : افعلوا ذلك ، كيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر فقال : «أو ليس قد قال الله عزوجل : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (٢) ، ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض ؛ لأنّ الله عزوجل ذكره في كتابه وصنعه نبيّه ، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وذكره الله في كتابه» قالا : قلنا له : فمن صلّى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ فقال : «إن كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له وصلّى أربعا أعاد ، وإن لم تكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه ، والصلوات كلّها في السفر الفريضة ركعتان كلّ صلاة إلّا المغرب فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير ، وتركها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في السفر والحضر ثلاث ركعات ، وقد سافر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى ذي خشب وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلا فقصّر وأفطر فصارت سنّة ، وقد

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٥٨.

(٢). البقرة (٢) : ١٥٨.

١٤٤

سمّى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قوما صاموا حين أفطر العصاة إلى يوم القيامة ، وإنّا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا» (١).

أقول : ورواه العيّاشي في تفسيره عنهما عنه ـ عليه‌السلام ـ إلى قوله : وقد سافر رسول الله (٢). والروايات في أحكام القصر كثيرة منقولة في كتب الحديث والفقه.

قوله سبحانه : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)

تقييد القصر بهذا الشرط باعتبار الغالب في تلك الأزمنة ، وليس ببيان لصلاة الخوف ، فحكمها يبتدىء من الآية التالية : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ).

قوله سبحانه : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ)

بيان لحكم صلاة الخوف ، وبالسياق يتشخّص الموضوع.

وقوله : (فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ)

أي يحرسوكم.

وقوله : (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ)

أي تحرّزهم وتحفّظهم وأسلحتهم.

وقوله : (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)

بيان لعلّة الأمر بالتحرّز.

__________________

(١). من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٣٤ ـ ٤٣٥ ، الحديث : ١٢٦٥.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٢٧١ ، الحديث : ٢٥٤.

١٤٥

وقوله : (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ)

تتميم لتجويز وضع الأسلحة ، أي ليأخذوا حذرهم حتّى لا يضرّكم وضعها.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «صلّى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بأصحابه في غزوة ذات الرقاع صلاة الخوف ، ففرّق أصحابه فرقتين أقام فرقة بإزاء العدوّ وفرقة خلفه ، فكبّر وكبّروا ، فقرأ وأنصتوا فركع وركعوا فسجد وسجدوا ، ثمّ استمرّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قائما وصلّوا لأنفسهم ركعة ، ثمّ سلّم بعضهم على بعض» (١).

وفيه عنه ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل عن صلاة الخوف ، قال : «يقوم الإمام وتجيء طائفة من أصحابه فيقومون خلفه وطائفة بإزاء العدوّ فيصلّي بهم الإمام ركعة ثمّ يقوم ويقومون معه فيمثّل قائما ويصلّون هم الركعة الثانية ، ثمّ يسلّم بعضهم على بعض ثمّ ينصرفون فيقومون مقام أصحابهم ويجيء الآخرون فيقومون خلف الإمام فيصلّي بهم الركعة الثانية ، ثمّ يجلس الإمام فيقومون بهم فيصلّون ركعة اخرى ، ثمّ يسلّم عليهم فينصرفون بتسليمه» قال : «وفي المغرب مثل ذلك يقوم الإمام وتجيء طائفة فيقومون خلفه ثمّ يصلّي بهم ركعة ، ثمّ يقوم ويقومون فيمثّل الإمام قائما فيصلّون ركعتين فيتشهّدون ويسلّم بعضهم على بعض ثمّ ينصرفون فيقومون في موقف أصحابهم ويجيء الآخرون ويقومون في موقف أصحابهم خلف الإمام فيصلّي بهم ركعة يقرأ فيها ثمّ يجلس فيتشهّد ثمّ يقوم فيقومون معه ويصلّي بهم ركعة اخرى ثمّ يجلس ويقومون هم فيتمّون ركعة اخرى ثمّ يسلّم عليهم» (٢).

__________________

(١). الكافي ٣ : ٤٥٦ ، الحديث : ٢.

(٢). الكافي ٣ : ٤٥٥ ـ ٤٥٦ ، الحديث : ١.

١٤٦

وفي تفسير القمّي : نزلت لمّا خرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى الحديبيّة يريد مكّة ، فلمّا وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس [كمينا] يستقبل رسول الله ، فكان يعارض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (١) على الجبال فلمّا كان في بعض الطريق وحضرت صلاة الظهر فأذّن بلال وصلّى رسول الله بالناس ، وقال خالد بن الوليد : لو كنّا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم فإنّهم لا يقطعون الصلاة (٢) ، ولكن تجيء لهم الآن صلاة اخرى هي أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم ، فإذا دخلوا فيها حملنا عليهم ، فنزل جبرئيل بصلاة الخوف بهذه الآية ، ففرّق رسول الله أصحابه فرقتين ، فوقف بعضهم تجاه العدوّ وقد أخذوا سلاحهم ، وفرقة صلّوا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قائما (٣) ، ومرّوا فوقفوا مواقف أصحابهم وجاء أولئك الذين لم يصلّوا فصلّى بهم رسول الله الركعة الثانية ، ولهم الاولى وقعد [وتشهّد] رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وقام أصحابه فصلّوا هم الركعة الثانية وسلّم عليهم (٤).

أقول : وفي صلاة الخوف وأحكامها روايات اخر منقولة في محلّها.

قوله سبحانه : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)

تفريع وتقييد وبيان أمد لحكم القصر ، وكأنّ اللام في «الصلاة» للعهد ، أي أقيموا الصلاة التي قصرتموها في السفر ، فصلاة الحضر التامّة هي الأصل.

__________________

(١). في المصدر : ـ «فكان يعارض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ»

(٢). في المصدر : «صلانهم»

(٣). في المصدر : «قياما»

(٤). تفسير القمّي ١ : ١٥٠.

١٤٧

وقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً)

تعليل لإقامتها.

و (كِتاباً مَوْقُوتاً) ، أي مكتوبا مؤجّلا وإن كانت موسّعة في وقتها ؛ ولذلك فسّر في بعض الأخبار بالثبوت والفرض.

ففي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : أي [كتابا] ثابتا ، وليس إن عجّلت قليلا أو أخّرت قليلا بالذي يضرّك ما لم تضيّع تلك الإضاعة ، فإنّ الله عزوجل يقول لقوم : (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (١) (٢).

أقول : يشير ـ عليه‌السلام ـ إلى سعة وقتها ، وأنّ التوقيت لا يوجب التضييق ، وروي في الكافي وتفسير العيّاشي (٣) قريبا منه.

قوله سبحانه : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ)

قال القمّي في تفسيره : إنّه معطوف على قوله في سورة آل عمران : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) (٤) (٥) ، وقد ذكرنا هناك سبب نزول الآية.

*

__________________

(١). مريم (١٩) : ٥٩.

(٢). الكافي ٣ : ٢٧٠ ، الحديث : ١٣.

(٣). الكافي ٣ : ٢٩٤ ، الحديث : ١٠ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٧٣ ، الحديث : ٢٥٩.

(٤). آل عمران (٣) : ١٤٠.

(٥). تفسير القمّي ١ : ١٥٠.

١٤٨

[إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ

١٤٩

ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)]

قوله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ)

١٥٠

في تفسير القمّي : كان سبب نزولها أنّ قوما من الأنصار من بني ابيرق (١) إخوة ثلاثة كانوا منافقين بشير ومبشّر وبشر ، فنقبوا على عمّ قتادة بن النعمان وكان قتادة بدويّا وأخرجوا طعاما كان أعدّه لعياله وسيفا ودرعا ، فشكى قتادة ذلك إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : يا رسول الله ، إنّ قوما نقبوا على عمّي وأخذوا طعاما كان أعدّه لعياله ودرعا و [سيفا و] هم أهل بيت سوء ، وكان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له : لبيد بن سهل ، فقال بنو ابيرق [لقتادة] : هذا عمل لبيد بن سهل ، فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه وخرج عليهم فقال : يا بني ابيرق ، أترمونني بالسرقة ، وأنتم أولى به منّي؟ وأنتم المنافقون تهجون رسول الله وتنسبون إلى قريش لتبيّنّن ذلك أو لأملأنّ سيفي منكم ، فداروه فقالوا له : ارجع رحمك الله فإنّك بريء من ذلك ، فمشى بنو ابيرق إلى رجل من رهطهم يقال له : اسيد بن عروة وكان منطيقا بليغا فمشى إلى رسول الله فقال : يا رسول الله ، إنّ قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منّا أهل شرف وحسب ونسب فرماهم بالسرقة واتّهمهم بما ليس فيهم ، فاغتمّ رسول الله من ذلك وجاء إليه قتادة فأقبل عليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : عمدت إلى أهل بيت شرف وحسب ونسب فرميتهم بالسرقة ، فعاتبه عتابا شديدا ، فاغتمّ قتادة من ذلك ورجع إلى عمّه وقال : يا ليتني متّ ولم اكلّم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، فقد كلّمني بما كرهته ، فقال عمّه : الله المستعان. فأنزل الله في ذلك على نبيّه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) (٢).

وفيه عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : إنّ اناسا من رهط بشير الأدنين قالوا :

__________________

(١). في المصدر : «ابيزق»

(٢). تفسير القمّي ١ : ١٥٠ ـ ١٥١.

١٥١

انطلقوا بنا إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ [وقالوا] : نكلّمه في صاحبنا ونعذّره ، فإنّ صاحبنا بريء ، فلمّا أنزل الله : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) إلى قوله : (وَكِيلاً) ، فأقبلت رهط بشير فقالت : يا بشير ، استغفر الله وتب من الذنب ، فقال : والذي أحلف به ما سرقه إلّا لبيد ، فنزلت : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) ، ثمّ إنّ بشيرا كفر ولحق بمكّة وأنزل الله في النفر الذين أعذروا بشيرا وأتوا النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ليعذروه : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) ، ونزلت في بشير وهو بمكّة : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١).

وفي المجمع ما يقرب من القصّة السابقة ، ثمّ قال : وكان بشير يكنّى أبا طعمة ، وكان يقول الشعر ويهجو به أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ثمّ يقول : قاله فلان (٢).

وفي الجوامع : يروى أنّ أبا طعمة بن ابيرق سرق درعا من جار له اسمه قتادة بن النعمان وخبّأها عند رجل من اليهود ، فأخذ الدرع من منزل اليهودي ، فقال : دفعها إليّ أبو طعمة ، فجاء بنو ابيرق إلى رسول الله وكلّموا أن يجادل عن صاحبهم ، وقالوا : إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودي ، فهمّ رسول الله أن يفعل وأن يعاقب اليهودي ، فنزلت (٣).

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ١٥٢.

(٢). مجمع البيان ٣ : ١٨١.

(٣). جوامع الجامع ١ : ٤٣٩.

١٥٢

أقول : فقوله : (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) ، يشير إلى أبي طعمة. وقوله : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ، يشير إلى ما همّ به رسول الله وما كان لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ذنب كما قال تعالى : (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ). وهذا مثل ما مرّ في قوله : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) (١) ، أنّ المغفرة والعفو يتعلّقان بغير مورد الذنب. وسيجيء تمام البيان المتعلّق بذلك في مورده إن شاء الله.

وقوله : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ)

عطف على التعريض بأبي طعمة.

وقوله : (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً)

إشارة إلى ما رمى به أبو طعمة لبيدا أو اليهودي.

وقوله : (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ)

هم رهط أبي طعمة.

وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «وقد بيّن الله قصص المغيّرين بقوله : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) بعد فقد الرسول ما يقيمون به أود باطلهم حسب ما فعلته اليهود والنصارى بعد فقد موسى وعيسى من تحريف (٢) التوراة والإنجيل وتحريف الكلم عن مواضعه» (٣).

__________________

(١). النساء (٤) : ٩٨.

(٢). في المصدر : «تغيير»

(٣). الاحتجاج ١ : ٢٤٩.

١٥٣

أقول : وهنا بعض روايات (١) يقرب منها ، والجميع من الجري.

قوله سبحانه : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ)

جعل حكمه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وهو القضاء غاية لإنزال الكتاب بالحقّ ، ومقتضى سياق الكلام تفهيمه تعالى لرسوله ما أنزله إليه وهو الحقّ ، كما مرّ نظيره في قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) (٢) ، في أوّل سورة آل عمران ، فيفيد أنّه سبحانه علّمه أحكامه تعليما لا يشوبه جهل ولا خطأ.

وقوله : (بِما أَراكَ اللهُ) الذي يعطيه السياق أنّه ما أراه الله من ظاهر امور الناس وتطبيقه بما عنده من كبريات الأحكام ، ومن الثابت قطعا أنّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان يحكم بالظاهر ، وقد قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان ، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض ، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنّما قطعت له قطعة من النار» رواه في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ (٣). فالإراءة من الرأي ، وهو إنّما يتعلّق بظاهر الامور دون باطنها ، وكأنّه لذلك لم يقل لتحكم بين الناس بالحقّ ؛ إذ مدلوله الحكم الواقعي والقضاء الحقيقي ، قال تعالى : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) (٤) و (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) (٥) ، ولم ينسب القضاء بالحقّ إلّا إلى داود ـ عليه‌السلام ـ

__________________

(١). راجع : من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٢١ ، الحديث : ١٢٤٠ ؛ الاحتجاج ٢ : ٤١٠ ؛ الأمالي للصدوق : ٤١٠ ، المجلس الرابع والستون ، الحديث : ٥.

(٢). آل عمران (٣) : ٧.

(٣). الكافي ٧ : ٤١٤ ، الحديث : ١.

(٤). غافر (٤٠) : ٢٠.

(٥). الأنبياء (٢١) : ١١٢.

١٥٤

لما كان يحكم حكما واقعيّا بالوحي ، فقوله تعالى : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) ، جعل حجّيّة لما حكم به بنحو الموضوعيّة دون الطريقيّة على ما اصطلح عليه في الاصول ، فما حكم به هو حكم الله الواقعيّ في القضيّة ، وهذا هو المراد بالتفويض إلى النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الواقع في الأخبار.

ففي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «والله ما فوّض الله إلى أحد من الناس من خلقه إلّا إلى رسول الله وإلى الأئمّة ، قال الله عزوجل : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) وهي جارية في الأوصياء» (١).

وفي الاحتجاج عنه ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال لأبي حنيفة : «وتزعم أنّك صاحب رأي ، وكان الرأي من رسول الله صوابا ومن دونه خطأ ؛ لأنّ الله قال : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) ولم يقل ذلك لغيره» (٢).

أقول : يعني ـ عليه‌السلام ـ بالتفويض ما ذكرناه من جعل الحجّيّة في القضاء والحكم ، وهو ثابت في النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالآية ، وفي الأوصياء من أهل بيته ـ عليهم‌السلام ـ بجعله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما يدلّ عليه حديث الثقلين وغيره. وفي مورد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ خاصّة قسم آخر من التفويض لا يشاركه غيره ، وهو تشريع الحكم يدلّ عليه الآيات نحو قوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٣) ، وغيرها.

قوله سبحانه : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ)

في تفسيري العيّاشي والقمّي والكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : يعني

__________________

(١). الكافي ١ : ٣٦٧ ، الحديث : ٨.

(٢). الاحتجاج ٢ : ٣٦٠.

(٣). الحشر (٥٩) : ٧.

١٥٥

بالمعروف القرض (١).

وفي تفسير القمّي عنه ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الله فرض التمحّل في القرآن ، فسئل : وما التمحّل؟ قال : أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتمحّل له ، وهو قوله : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ)» (٢).

وفيه عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الله فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم» (٣).

أقول : والجميع من الجري والمصداق.

وفي الخصال عن الصادق عن أبيه عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «ثلاث يحسن فيهنّ الكذب : المكيدة في الحرب ، وعدتك زوجتك ، والإصلاح بين الناس» (٤).

قوله سبحانه : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ)

في تفسير القمّي : نزلت في بشير ، كما مرّ.

قوله سبحانه : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً)

قالوا : كان لكلّ حيّ منهم صنم يعبدونه ويسمّونه انثى بني فلان. (٥)

وقوله : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً)

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٧٥ ، الحديث : ٢٧١ ؛ تفسير القمّي ١ : ١٥٢ ؛ الكافي ٤ : ٣٤ ، الحديث : ٣.

(٢). تفسير القمّي ١ : ١٥٢.

(٣). تفسير القمّي ١ : ١٥٢.

(٤). الخصال ١ : ٨٧ ، الحديث : ٢٠.

(٥). راجع : تفسير الحسن البصرى ١ : ٢٩٨ ؛ فتح الباري ٨ : ١٩٣ ؛ تفسير القرطبي ٥ : ٣٨٧.

١٥٦

سمّى طاعتهم له دعاء ، كما سمّاها عبادة في قوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) (١).

قوله سبحانه : (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ)

قالوا : كانوا يشقّون آذانها إذا ولدت خمسة أبطن ، والخامس ذكر ، وحرّموا على أنفسهم الانتفاع بها (٢).

وفي المجمع عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «ليقطعنّ الاذن من أصلها» (٣).

قوله سبحانه : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ)

في المجمع عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : يريد دين الله وأمره ونهيه ، قال : ويؤيّده قوله سبحانه : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (٤) (٥).

قوله سبحانه : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) ، ـ كالمقدّمة لقوله ـ : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)

أي ليس لكم ما تتمنّون ولا لأهل الكتاب ما يتمنّون ، من يعمل سوءا يجز به ، فهو كقوله : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) (٦).

__________________

(١). يس (٣٦) : ٦٠.

(٢). تفسير الصافي ١ : ٥٠١ ؛ تفسير الأصفى ١ : ٢٣٩ ؛ الكشّاف ١ : ٥٦٤ ؛ مجمع البحرين ١ : ١٥١ ؛ جوامع الجامع ١ : ٤٤٢.

(٣). مجمع البيان ٣ : ١٥٩.

(٤). الروم (٣٠) : ٣٠.

(٥). مجمع البيان ٣ : ١٩٥.

(٦). النجم (٥٣) : ٢٤.

١٥٧

وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «لمّا نزلت هذه الآية : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ، قال بعض أصحاب رسول الله : ما أشدّها من آية ، فقال لهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : أما تبتلون في أنفسكم وأموالكم وذراريكم؟ قالوا : بلى ، قال : هذا ممّا يكتب الله لكم به الحسنات ويمحو به السيّئات» (١).

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الله تعالى إذا كان من أمره أن يكرم عبدا وله ذنب ابتلاه بالسقم ، فإن لم يفعل ذلك ابتلاه بالحاجة ، فإن لم يفعل ذلك به شدّد عليه الموت ليكافيه بذلك الذنب» (٢) ، الحديث.

قوله سبحانه : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)

قد مرّ الكلام في نظير الآية من سورة البقرة.

وعن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» (٣).

قوله سبحانه : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً)

قد مرّ بعض الكلام في الخلّة في قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) (٤) ، من سورة البقرة.

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٧٧ ، الحديث : ٢٧٨.

(٢). الكافي ٢ : ٤٤٤ ، الحديث : ١.

(٣). بحار الأنوار ٦٧ : ٢١٩ ؛ شرح نهج البلاغة ، إبن أبي الحديد ١١ : ٢٠٣ ؛ صحيح البخاري ٦ : ٢٠ ؛ السنن الكبرى ١٠ : ٢٠٣ ؛ الدرّ المنثور ١ : ١٧٠.

(٤). البقرة (٢) : ١٢٤.

١٥٨

وفي الاحتجاج عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في حديث : قولنا : إنّ إبراهيم خليل الله فإنّما هو مشتقّ من الخلّة ، والخلّة إنّما معناها الفقر والفاقة ، فقد كان خليلا إلى ربّه فقيرا ، وإليه منقطعا وعن غيره متعفّفا معرضا مستغنيا (١) ، الحديث.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان أبا أضياف ، وكان إذا لم يكونوا عنده خرج يطلبهم وأغلق بابه وأخذ المفاتيح يطلب الأضياف وأنّه رجع إلى داره فإذا هو برجل أو شبه رجل في الدار ، فقال : يا عبد الله ، بإذن من دخلت هذه الدار؟ فقال : دخلتها بإذن ربّها ـ يردّد ذلك ثلاث مرّات ـ فعرف إبراهيم أنّه جبرئيل ، فحمد ربّه. ثمّ قال : أرسلني ربّك إلى عبد من عبيده يتّخذه خليلا ، قال إبراهيم : فأعلمني من هو أخدمه حتّى أموت؟ قال : فأنت ، قال : وبم ذلك؟ قال : لأنّك لم تسأل أحدا شيئا قطّ ، ولم تسأل شيئا قطّ فقلت : لا» (٢).

أقول : وروى العيّاشي نظير القصّة ، وفيه إتيان ملك الموت مكان جبرئيل (٣).

وفي تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ إبراهيم هو أوّل من حوّل له الرمل دقيقا ، وهو أنّه قصد صديقا له بمصر في قرض طعام فلم يجده في منزله ، فكره أن يرجع بالحمار خاليا فملأ جرابه رملا ، فلمّا دخل منزله خلّى بين الحمار وبين سارة استحياء منها ودخل البيت ونام ، ففتحت سارة عن دقيق أجود ما يكون ، فخبزت وقدّمت إليه طعاما طيّبا ، فقال إبراهيم : من أين لك

__________________

(١). الاحتجاج ١ : ٢٤.

(٢). الكافي ٤ : ٤٠ ، الحديث : ٦.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ، الحديث : ٢٨٠.

١٥٩

هذا؟ فقالت : من الدقيق الذي حملته من عند خليلك المصري ، فقال إبراهيم : أمّا إنّه خليلي وليس بمصريّ ، فلذلك اعطي الخلّة فشكر الله وحمده وأكل» (١).

أقول : ولا منافاة بين الروايات ، فبعضها يقصّ قصص الخلّة ، وبعضها يعطي علّته.

قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ)

صدّر ما تتلوه من الآيات بها إشعارا بأنّ الملك والتدبير له يشرّع ما يشاء كيف يشاء ، فلا يحقّ لأحد أن يكابره فيما يشاء ويحكم ، ولذلك قال : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ) (٢) ، ولم يقل : أفتهم ، ونحوه.

*

__________________

(١). تفسير القمّي ١ : ١٥٣.

(٢). النساء (٤) : ١٢٧.

١٦٠