تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

وقيل : لمّا نزلت قوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، قالوا : ما نشهد لك بهذا ، فنزلت (١).

وفي تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّما انزلت (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ) في عليّ» (٢).

أقول : ونظيره ما في الكافي وتفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا) : «إنّ الذين كفروا وظلموا آل محمّد حقّهم» (٣).

وفيهما (٤) أيضا عنه : (قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِ) في ولاية عليّ (٥) ، الحديث.

وجميع ذلك من الجري ، أو شأن النزول.

*

__________________

(١). بحار الأنوار ١٨ : ١٥٦.

(٢). تفسير القمي ١ : ١٥٩.

(٣). الكافي ١ : ٤٢٤ ، الحديث : ٥٩ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٤٥ ، الحديث : ٤٩.

(٤). أي الكافي وتفسير العيّاشي.

(٥). الكافي ١ : ٤٢٤ ، الحديث : ٥٩ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٨٥ ، الحديث : ٣٠٧.

١٨١

[لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)]

قوله سبحانه : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)

قد مرّ الكلام في المسيح ـ عليه‌السلام ـ وما يعطيه القرآن له من المقام ، وهو مع

١٨٢

ذلك إنسان مادّي ، فما له من الكمال غير ذاتيّ ، بمعنى أنّه غير حاصل له في أوّل وجوده إلّا بالتدريج ، بخلاف الملائكة وخاصّة المقرّبين منهم ، فكمالهم ذاتيّ موجود في أصل وجودهم ، وسيجيء إن شاء الله بيان حقيقته فيما سيجيء. فتوهّم الاستنكاف والاستكبار فيهم أقرب من توهّمه على موجود بشريّ وإن كان أرفع قدرا من جهة اخرى منهم ، وهذا هو الوجه في الترقّي المستفاد من قوله : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ).

قوله سبحانه : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)

في المجمع عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «والنور ولاية عليّ ـ عليه‌السلام ـ» (١).

وفي تفسير العيّاشي عنه ـ عليه‌السلام ـ : «البرهان محمّد ، والنور عليّ ، والصراط المستقيم عليّ ـ عليه‌السلام ـ» (٢).

أقول : وقد مرّ الكلام في معنى (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٣) والولاية في سورة الفاتحة ، وسيجيء تمام الكلام في المائدة.

قوله سبحانه : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)

روي أنّ جابر بن عبد الله كان مريضا فعاده رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : يا رسول الله ، إنّ لي الكلالة فما أصنع في مالي؟ فنزلت (٤).

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ٢٥٢.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٢٨٥ ، الحديث : ٣٠٨.

(٣). الفاتحة (١) : ٦.

(٤). مجمع البيان ٣ : ٢٨.

١٨٣

وفي تفسير القمّي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إذا مات الرجل وله اخت تأخذ نصف [ما ترك من] الميراث [لها نصف الميراث] بالآية ، كما تأخذ البنت لو كانت ، والنصف الباقي يردّ عليها بالرحم إذا لم يكن للميّت وارث أقرب منها ، فإن كان موضع الاخت أخ أخذ الميراث كلّه بالآية ؛ لقوله تعالى : (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) فإن كانت (١) اختين أخذتا الثلثين بالآية والثلث الباقي بالرحم ، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظّ الانثيين وذلك كلّه إذا لم يكن للميّت ولد وأبوان وزوجة» (٢).

أقول : وهذا المضمون مرويّ في روايات كثيرة (٣) ، وفي عدّة منها أنّ الآية مختصّة بميراث الكلالة لأبوين أو لأب فقط.

قوله سبحانه : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)

أي كراهة أن تضلّوا ، وهو استعمال شائع في الكلام.

تمّ الجزء الأوّل من «تفسير البيان في الموافقة بين الحديث والقرآن» في الثاني عشر من ربيع الثاني سنة ألف وثلاثمائة وخمس وستّين هجريّة قمريّة بيد مؤلّفه الفقير إلى الله محمّد حسين الطباطبائي.

*

__________________

(١). في نسخة : «كانتا» [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٢). تفسير القمّي ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٣). راجع : وسائل الشيعة ٢٦ : ١٤٥ ، أبواب ميراث الأخوة والأجداد.

١٨٤

سورة المائدة

١٨٥
١٨٦

[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)]

١٨٧

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

غرض السورة على ما يلوح من عامّة آياتها هو الدعوة إلى الوفاء بالميثاق ، والعهد والشكر على النعمة التي أنعم بها ، وأن يتحفّظوا على ذلك ولا يتهاونوا في كلائته فلا يتعدوا حدوده ، ولا يعتدوا ولا يطغوا في ملكه بنعمه ، وإن عادته سبحانه جرت بالرحمة وتضعيفها لمن اتّقى وآمن ثم اتّقى وأحسن ، والتشديد على من تعدى واعتدى ببغي أو حسد أو طغيان بالخزي والاستدراج والعذاب.

ويتّضح ذلك بالتأمل في ما افتتحت به السورة وما اختتمت به من قصّة المائدة وسؤال المسيح ، وما وقع فيها من التعرّض لأحكام الحدود والقصاص وغير ذلك ، وما ذكّر بها من قصص بني إسرائيل وما تشتمل هي عليه من اعتدائهم ومقته إيّاهم ، وقصّة إبني آدم ـ عليه‌السلام ـ ، والنهي عن عامّة ما يوجب التفريط والتهاون في أمر الله من تولّي أعداء الله والتبرّي من أوليائه ، إلى غير ذلك.

قوله سبحانه : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)

العقد وهو ما يقابل الحلّ بنحو خاصّ من الشدّ فيما يقبل خلافه ، سواء كان في علم أو عمل ، والآية مطلقة بل عامّة ، لمكان الجمع المحلّى باللام ، فهي تشمل الإيمان بالله ـ سبحانه ـ ورسوله وكلّ ما جاء به من عنده سبحانه ، وما يعدّه الإنسان في ظرف الاجتماع المدني بحبّ غريزة الاعتبار عقدا وعهدا كأقسام العهود وعقود المعاملات فيما لا يسلب عنه اسم العقد كالميسر واللغو من الأيمان وغير ذلك فافهم ذلك.

وفي تفسيري العياشي والقمي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قوله : (أَوْفُوا

١٨٨

بِالْعُقُودِ) قال : بالعهود (١).

وفي تفسير القمي : أيضا عن أبي جعفر الثاني ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال : إنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عقد عليهم لعلي بالخلافة في عشرة مواطن ، ثم أنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ (٢).

أقول : وهو من قوله : «الّتي عقدت» إلى آخره ، من كلام الإمام ـ عليه‌السلام ـ وهو من الجري أو من باطن التنزيل (٣).

قوله سبحانه : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ)

البهيمة : هي الأنعام ، سمّيت بها لسوادها في القطائع أخذا من البهمة.

ولذلك قيل : إنّ الإضافة بيانيّة ويؤيّده الاستثناء.

وفي تفسير العياشي : عن الصادق عن أبيه ـ عليهما‌السلام ـ أنّ عليّا ـ عليه‌السلام ـ سئل عن أكل لحم الفيل والدبّ والقرد ، فقال : ليس هذا من بهيمة الأنعام التي تؤكل (٤).

أقول : وهو يؤيّد ما مرّ من كون الإضافة بيانيّة ، وإن كان ظاهر غيره من الروايات غيره كما في تفسير العياشي أيضا عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال : هي الأجنّة التي في بطون الأنعام ، وقد كان أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ يأمر ببيع الأجنّة (٥).

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٢٨٩ ؛ تفسير القمي ١ : ١٦٠.

(٢). تفسير القمي ١ : ١٦٠.

(٣). في الأصل : غير واضح.

(٤). تفسير العياشي ١ : ٢٩٠.

(٥). تفسير العياشي ١ : ٢٩٠.

١٨٩

وعن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية قال : الجنين في بطن أمّه إذا أشعر وأوبر فذكاة أمّه ذكاته (١).

أقول : وروى هذا المعنى الكليني والصدوق والشيخ [الطوسي] والعياشي والقمّي والطبرسي في كتبهم في عدّة روايات (٢).

ولعلّ ذلك من قبيل بيان المصداق الخفي وإن بعد.

وقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)

امتنان برفع الحرج في بعض الأحوال ، وإن كان المحلّ يشمل جميعها.

وقوله سبحانه : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ)

الشعائر : جمع شعيرة وهي العلامة يراد بها كلّ ما هو كذلك من أعمال الحجّ ومناسكه وغيرها.

و (الْهَدْيَ) ما أهدي إلى الكعبة ، و (الْقَلائِدَ) جمع قليدة وهي ما يقلّد به الهدي من فعل وغيرها ، و (الآمّين) جمع آمّ ، إسم فاعل ، أمّ يؤمّ بمعنى قصد.

والحلّ يختلف باختلاف الموارد المعدودة في النهي ، فإهلال الشعائر : التهاون بها (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) القتال فيه ، (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ) التعرّض والصدّ والقصد بالمكروه.

وفي المجمع : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ «نزلت (٣) في رجل من بني ربيعة

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٢٩٠.

(٢). الكافي ٦ : ٢٣٤ ؛ تهذيب الأحكام ٩ : ٥٨ ؛ من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٢٨ ؛ تفسير القمي ١ : ١٦٠ وغيرها.

(٣). في المصدر : + «هذه الآية».

١٩٠

يقال له : الحطم» (١).

أقول : وذلك أنّه قدم حاجا وقد استاق سرح المدينة وأراد المسلمون قتله في أشهر الحرم لبغيه وكفره ، فنزلت.

وقوله سبحانه : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ)

أي لا يحملنكم شدّة بغضهم وعداوتهم ، والإطناب في آخر الآية والإيجاز في أوّلها عطف على ما مرّ من غرض السورة.

وفي المجمع : واختلف في هذا (٢) فقيل : منسوخ بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٣) عن أكثر المفسرين ، وقيل : ما نسخ (٤) من هذه السورة شيء ولا من هذه الآية لأنّه لا يجوز أن يبتدىء المشركون في الأشهر الحرم بالقتال إلّا إذا قاتلوا ، ثم قال الطبرسي : وهو المروي عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ (٥).

أقول : والروايات عديدة في ذلك.

ففي تفسير العياشي : عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ قال : «كان القرآن ينسخ بعضه بعضا وإنّما كان يؤخذ من أمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بآخره ، فكان من آخر ما نزلت (٦) عليه سورة المائدة فنسخت ما قبلها ولم ينسخها شيء ،

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ٢٦٣.

(٢). في المصدر : + «هو»

(٣). التوبة (٩) : ٥.

(٤). في المصدر : «لم ينسخ في»

(٥). مجمع البيان ٣ : ٢٦٦.

(٦). في المصدر : «نزل»

١٩١

فلقد (١) نزلت عليه وهو على بغلته (٢) الشهباء وثقل عليه الوحي حتى وقفت وتدلّى بطنها ، حتى رؤيت (٣) سرتها تكاد تمسّ الأرض وأغمي على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حتى وضع يده على ذؤابة شيبة بن وهب (٤) الجحمي (٥). ثم رفع ذلك على (٦) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقرأ علينا سورة المائدة فعمل رسول الله (٧) وعملناه» (٨) (٩).

وفيه : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «قال عليّ بن أبي طالب (١٠) : نزلت المائدة قبل أن يقبض النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بشهرين أو ثلاثة» (١١).

أقول : ورواه الشيخ عنه ـ عليه‌السلام ـ في حديث مفصّل (١٢).

قوله سبحانه : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) إلى قوله : (الأزلام)

بيان للمستثنى في قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ).

__________________

(١). في المصدر : «الجهمي»

(٢). في المصدر : «بغلة»

(٣). في المصدر : «رأيت»

(٤). في المصدر : «الجمحي»

(٥). في نسخة : «الجهمي» ، [منه ـ رحمه‌الله ـ]

(٦). في المصدر : «عن»

(٧). في المصدر : + «ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ»

(٨). في المصدر : «وعملنا»

(٩). تفسير العياشي ١ : ٢٨٨.

(١٠). في المصدر : + «ـ صلوات الله عليه ـ»

(١١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٨٨.

(١٢). الخلاف ١ : ٢٠٦.

١٩٢

وقوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)

إستثناء ممّا يقبل ذلك وهي : (الْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ) والروايات على ذلك.

ففي العيون عن الرضا (١) ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : (الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) معروف ، (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) يعني ما ذبح للأصنام ، وأمّا (الْمُنْخَنِقَةُ) فإنّ المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح ويأكلون الميتة ، وكانوا يخنقون البقر والغنم فإذا إختنقت وماتت أكلوها ، (وَالْمَوْقُوذَةُ) ، كانوا يشدّون أرجلها ويضربونها حتى تموت ، فاذا ماتت أكلوها ، (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) كانوا يشدّون أعينها ويلقونها عن السطح فإذا ماتت أكلوها ، (وَالنَّطِيحَةُ) كانوا يتناطحون بالكباش فإذا مات أحدهما أكلوه ، (وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ، فكانوا يأكلون ما يأكله الذئب والأسد فحرّم الله ذلك ، (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) ، كانوا يذبحون لبيوت النيران ، وقريش كانوا يعبدون الشجر والصخر فيذبحون لهما ، (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) قال : كانوا يعمدون إلى جزور فيجزّءونه عشرة أجزاء ، ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها إلى رجل ، وهي سبعة لها أنصباء وثلاثة لا أنصباء لها ، فالتي لها أنصباء : الفذّ والتوأم والمسبل والنافس والحلس والرقيب والمعلّى ، فالفذّ له سهم ، والتوأم له سهمان ، والمسبل له ثلاثة أسهم والنافس له أربعة أسهم والحلس له خمسة أسهم ، والرقيب له ستّة أسهم ، والمعلّى له سبعة أسهم.

والتي لا أنصباء لها : السفيح والمنيح والوغد ، وثمن الجزور على من لم

__________________

(١). في نسخة : «عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ» ، [منه ـ رحمه‌الله ـ]

١٩٣

يخرج له من الانصباء شيء وهو القمار فحرّمه الله (١).

أقول : وروى القمي مثله (٢). وقوله ـ عليه‌السلام ـ : يعني ما ذبح للأصنام ـ الى آخره ـ هو ما كانوا يذكرون اسم الأصنام عليها عند ذبحها ، فإنّ الإهلال بالشيء الافتتاح به وقوله : (وَالْمَوْقُوذَةُ) كانوا يشدّون ـ إلى آخره ـ ، ورد في غيره من الروايات تفسيره بوجه آخر :

ففي تفسير العياشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث : والموقوذة المريضة التي لا تجد ألم الذبح ولا تضطرب (٣) ، ولا يخرج لها دم (٤).

وفي التهذيب عن الجواد ـ عليه‌السلام ـ : والموقوذة المريضة (٥) التي مرضت ووقّذها المرض حتى لم يكن (٦) بها حركة (٧) ، الحديث.

أقول : والمعنيان مآلهما واحد وهو ظاهر ، وقوله ـ عليه‌السلام ـ : ويجزّءونه عشرة أجزاء : الى آخره ؛ أي يقسّمونها عشرة سهام متفاوتة يستقسمون عليها بالقداح.

وفي تفسير العياشي عن الحسن بن علي الوشا ، عن [ابي الحسن] الرضا ـ عليه‌السلام ـ قال : سمعته يقول : المتردّية والنطيحة وما أكل السبع ، إذا أدركت ذكاته فكله (٨).

__________________

(١). لم نجده في عيون الأخبار ومعاني الأخبار ، لكن روي في مجمع البيان ٣ : ٢٧٣ ؛ الخصال ٢ : ٤٥١ ، ٤٥٢ ، الحديث : ٥٧ ؛ تفسير القمّي ١ : ١٦١.

(٢). تفسير القمي ١ : ١٦٢.

(٣). في المصدر : «لا يضطرب»

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٢٩٢.

(٥). في المصدر : ـ «المريضة»

(٦). في المصدر : «لم تكن»

(٧). تهذيب الاحكام ٩ : ٨٤.

(٨). تفسير العياشي ١ : ٢٩٢.

١٩٤

أقول : وهو ما مرّ في تعلّق الإستثناء.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ (١) : في كتاب علي ـ عليه‌السلام ـ : إذا طرفت العين أو ركضت الرجل أو تحرك الذنب ، فكل منه فقد أدركت ذكاته (٢).

أقول : وفي المعاني السابقة أخبار أخر.

قوله سبحانه : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) التأمل في صدر الآية وذيلها أعني قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ) [وقوله] : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، يعطي أن يكون قوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ، إلى قوله : (دِيناً) معترضا مسوقا لغاية غير غايتها ، وشأن نزوله سوى شأن نزولهما ، كما تنطق به روايات الخاصّة والعامّة ، ومن الضروري أن الرسول كان يأتي بالدين من عند ربّه شيئا فشيئا.

فقوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ، يفيد أن يكون الذين كفروا قد مكّنوا له تديّن المؤمنين منذ عهد وزمان ، وأنّ أمرهم كان مخشيّا مخوفا محظورا حتى آمنهم الله بجوده ، فهذا تأمين للمؤمنين ممّا كان يحذّرهم من سوء قصد الكفّار بهم في دينهم كما قال : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ

__________________

(١). في المصدر : + «قال»

(٢). الكافي ٦ : ٢٣٢.

١٩٥

إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١).

فهذا القول يكشف عن إتيان أمر الله الموعود في تلك الآية ، وسياق الوعد المذكور هناك يأبى أن يكون هو بعضا من الأحكام الدينيّة ، إذ أركانها قد كانت نزلت قبل المائدة ، كالصلاة والصوم والحج والجهاد والزكاة والخمس وغيرها ، ولم يكن التغيير إلّا بنسخ غير مترتّب ، فلا معنى لإرتباط طمع الكفّار ويأسهم بها ، ويأتي سياق قوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ) الى آخره ، أن يكون ذلك بإنتهاء الفرائض والأحكام وختمها ، وإلّا لكان النظم يوجب أن يقال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فلييأس الذين كفروا عن دينكم ، أو فيئس الذين كفروا ، ويأبى أن يكون هو المكشوف عنه بقوله في أهل الكتاب : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (٢) ، إذ الهدفان في الآيتين مختلفان فإحداهما تنبئ عن ضلال سعيهم وعدم تأثير أذاهم ، والأخرى تخبر عن تمكّن اليأس فيهم ، وليس قوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ) ، الى آخره ، واقعة في سياق الآيات التالية كقوله : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) (٣) ، لاختلافهما بالإعتراض والإستئناف.

هذا كلّه مضافا إلى أنّ طمع الكفّار إنّما كان متعلّقا بالدين نفسه من غير هوى منهم في المؤمنين إلّا لتلبّسهم بشعاره ، فقد كانوا يريدون إطفاء هذا النور واخماد ناره ، كما يدلّ عليه قوله : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٠٩.

(٢). آل عمران (٣) : ١١١.

(٣). المائدة (٥) : ٥.

١٩٦

وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ* هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (١) وقوله : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٢). ولذلك كان همّهم في قطع شجرة الدين من أصله ، وهدم بنيانه من أساسه بردّ المسلمين المؤمنين على أعقابهم ، وإلقاء النفاق في جماعتهم ، وأقرب من ذلك بتخليل السكون في حركة الرسول وتسرية الفتور في الهمّة النبويّة بالتطميع بما يريده من مال أو جاه كما في شأن نزول أوّل سورة ص وغيره ، أو بمخالطة أو مداهنة كما قال تعالى : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٣) وقال : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٤) ، وكما ورد في شأن نزول سورة الجحد.

ولو كان انقطع طمعهم من كلّ سبب فلم يكن ينقطع ممّا كانوا يظنّونه أنّ الدعوة الاسلاميّة إنّما هي سلطنة وملك في زيّ النبوّة ولباس الرسالة ، وما ينشره النبيّ بدعوته المقدّسة قائم بنفسه لا عماد له غيره ، فلو قتل أو مات انقطع أثره وانمحى ذكره على الرسل من حال السلاطين والملوك ، كما ورد في شأن نزول سورة الكوثر وغيرها وكما مرّ في قوله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (٥).

هذا والمتثبّت في ما مرّ من البيان بأطرافه يفيد الجزم بأنّهم ما كانوا لييأسوا

__________________

(١). الصف (٦١) : ٨ ـ ٩.

(٢). غافر (٤٠) : ١٤.

(٣). القلم (٦٨) : ٩.

(٤). الإسراء (١٧) : ٧٤.

(٥). آل عمران (٣) : ١٤٤.

١٩٧

عن دين المؤمنين إلّا باليأس عن انقطاع ذكر النبيّ وأثره بقيام من يخلفه في تدبير أمر الدين وحفظ حدوده في مقامه ، وأمّا كمال الدين بأحكامه وانتشار صيته وشيوعه بين الناس فليست بالعوامل التامّة والأسباب الكاملة التأثير في بقائه وحياته ، حتى تكون انتفائها العامل الوحيد والسبب التامّ في انتفائها كما هو الحال في كلّ سنّة محدثة بين الناس ؛ وكلّ ناموس ديني أو مدني ، فلا تموت سنّة أو عادة حاكمة بين الناس بقهر أو جبر أو تهديد أو نقص من أطرافها إلّا بموت حملتها وحفظتها.

هذا ، وهذا يؤيّد ما ورد من طرق الخاصّة أنّ الآية نزلت في شأن الولاية :

ففي تفسير القمي في قوله : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ، قال : قال ـ عليه‌السلام ـ : ذلك لمّا أنزلت (١) ولاية أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ (٢).

أقول : ويؤيدها عدّة من الروايات وردت في قوله سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وقوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).

قوله سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)

الأثر المترتّب على المجموع إذا انحلّ إلى أجزاء أو جهات يترتّب على بعضها بعضه وعلى كلّها كلّه ، وبعبارة أخرى : كان أثر المجموع الكلّ مجموع آثار الأجزاء (٣) ، فبلوغ الشيء إلى حيث يترتّب عليه الأثر كماله ، وإذا لم ينحل

__________________

(١). في المصدر : «نزلت»

(٢). تفسير القمي ١ : ١٦٢.

(٣). أي يكون أثر المجموع ، كمجموع آثار الأجزاء ، فكلّما وجد جزء ترتّب عليه من الأثر ما هو بحسبه [كما أفاد المؤلّف ـ قدس‌سره ـ في الميزان في تفسير القرآن ٥ : ١٧٩].

١٩٨

كذلك بل كان بسيطا لا يترتّب إلّا على المجموع ، فبلوغه إلى حيث يؤثّر الأثر تمام له ، فهذا هو الفرق بين الكمال والتمام ، يقال : كمل عقله ، ومن كان المرء كذا وكذا ، او قال تعالى : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) (١) ، ويقال : تمّت سلطنة فلان وتمّ كلامه وقال : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) (٢).

وأمّا الفرق بين الإكمال والتكميل والإتمام والتتميم فهو الفرق بين بابي الإفعال والتفعيل ، وهو على ما يتحصّل من موارده نزلت بالبابين جميعا ، أنّ الإفعال تفيد الدفعة والتفعيل للتدريج كالإعلام والتعليم ، والإنزال والتنزيل ، والإمهال والتمهيل وغيرها.

وإن كان التوسعات الكلاميّة والتطوّرات اللغويّة ربّما حوّل كلّا من البابين إلى حيث يبعد عن معنى مجرّديهما أو عن أصليهما ، كالإحسان والتحسين ، والإصداق والتصديق ، والإمداد والتمديد ، فتلك معان طارئة بحسب خصوصيات الموارد ، ثم تمكنّت في اللفظ بالاستعمال.

وبالجملة ، فتعلّق الظرف أعني قوله : (الْيَوْمَ) ، بالفعل إقتضى الإتيان بالإكمال والإتمام دون التكميل والتتميم ، واختصّ الكمال بالدين لأنّه مجموع الأحكام والفرائض التي بعضها مرضيّة مأمور بها قبل نزول الباقي ، بخلاف النعمة ، ولذلك أضيفت إلى ضمير الخطاب دون المتكلّم ، إذ الدين الذي عند الله واحد قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٣) وأمّا النعمة فهي وإن كانت كلّ ما يلائم طبع الشيء من غير مصادفة بالمزاحم عن مقتضى طبعه ، والموجودات

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٨٥.

(٢). الأنعام (٦) : ١١٥.

(٣). آل عمران (٣) : ١٩.

١٩٩

من حيث اتّحاد نظام التدبير متّصلة مرتبطة ، والجميع أو العمدة (الأكثر) منها نعمة بالنسبة إلى كلّ بعض الفروض ، قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) (١) وقال : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (٢).

إلّا أنّه سبحانه : عدّ عدّة من هذه المسمّاة بالنعم شرّا ووبالا كقوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٣) ، وكقوله : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (٤) ، وقوله : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) (٥) ، فعدّ الحياة الدنيا وهي المتعلّقة بهذه النعم الموجودة فيها الظاهرة والباطنة متاعا مقصودا بالغير لا شرف ولا كمال فيها إلّا لغايتها ، فعلمنا بذلك أنّ هذه النعم إنّما هي نعم وخير لغايتها وهي القرب من الله والكرامة عند الله ، فهي الخير والنعمة بذاتها ، وغيرها من النعم كذلك على حسب اشتمالها وقد مرّ وسيجيء أنّها هي التي نسمّيها بالولاية ، فالنعمة بالحقيقة هي الولاية من الله ـ سبحانه ـ ، ولذلك فسّرت النعمة في القرآن في عامّة مواردها بها في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام.

ومن هنا أتى بالنعمة بصيغة الإفراد وأضيفت إلى الضمير ، وإذ تحقّق كمال الدين في ظاهره وتمامه في باطنه أتبع ذلك بقوله : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٦) ، وقد مرّ الكلام في معنى الإسلام وأنّه

__________________

(١). إبراهيم (١٤) : ٣٤.

(٢). لقمان (٣١) : ٢٠.

(٣). آل عمران (٣) : ١٧٨.

(٤). آل عمران (٣) : ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٥). العنكبوت (٢٩) : ٦٤.

(٦). آل عمران (٣) : ١٩.

٢٠٠