تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)]

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ)

في التعبير بالرسول دون النبيّ تسلية له ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما قال تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (١).

وفي تفسير القمّي ، قال : كان سبب نزولها أنّه كان في المدينة بطنان من اليهود

__________________

(١). الأنعام (٨) : ٣٣.

٢٦١

من بني هارون ، وهم النضير وقريظة ، وكانت قريظة سبعمأة والنضير ألفا ، وكانت النضير أكثر مالا وأحسن حالا من قريظة ، وكانوا حلفاء لعبد الله بن أبيّ ، فكان إذا وقع بين قريظة والنضير قتل وكان القتيل (١) من بني النضير قالوا لبني قريظة : لا نرضى أن يكون قتيل منّا بقتيل منكم ، فجرى بينهم في ذلك مخاطبات كثيرة حتى كادوا أن يقتتلوا ، حتى رضيت قريظة وكتبوا بينهم كتابا على أنّه أيّ رجل من اليهود من النضير قتل رجلا من بني قريظة أن يجبّه (٢) ويحمّم ، والتجبيه (٣) أن يقيّد على جمل ويولّى وجهه إلى ذنب الجمل ويلطّخ وجهه بالحماءة ويدفع نصف الدية ، وأيّما رجل من بني قريظة قتل رجلا من بني النضير أن يدفع إليه الدية كاملة ويقتل به.

فلمّا هاجر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إلى المدينة ودخلت الأوس والخزرج في الإسلام ضعف أمر اليهود فقتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير فبعثوا إليهم بنو النضير : إبعثوا إلينا بدية المقتول وبالقاتل حتى نقتله ، فقالت قريظة : ليس هذا حكم التوراة وإنّما هو شيء غلبتمونا عليه ، فإمّا الديّة وإمّا القتل ، وإلّا فهذا محمد بيننا وبينكم فهلمّوا لنتحاكم إليه ، فمشت بنو النظير إلى عبد الله بن أبيّ وقالوا : سل محمدا أن لا ينقض شرطنا في هذا الحكم الذي بيننا وبين بني قريظة في القتل.

__________________

(١). في المصدر : «القاتل»

(٢). في الأصل : «يجنّب» وفي المصدر : «يجنّيه»

(٣). في الأصل : «التجنبة» وفي المصدر : «التجنية» والصحيح : «التجبية» ، قال إبن الأثير : وفي حديث حدّ الزنا أنّه سأل اليهود عنه ، فقالوا : «عليه التجبية» قال : «ما التجبية»؟ قالوا : «أن تحمّم وجوه الزانيين ، ويحملا على بعير أو حمار ، ويخالف بين وجوههما». أصل التجبية أن يحمل اثنان على دابّة ويحمل قفا أحدهما إلى قفا الآخر. [النهاية ١ : ٢٣٧].

٢٦٢

فقال عبد الله بن أبيّ : ابعثوا معي رجلا يسمع كلامي وكلامه ، فإن حكم لكم بما تريدون ، وإلّا فلا ترضوا به ، فبعثوا معه رجلا فجاء إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فقال : يا رسول الله! إنّ هؤلاء القوم قريظة والنضير قد كتبوا بينهم كتابا وعهدا وميثاقا فتراضوا به ، والآن في قدومك يريدون نقضه وقد رضوا بحكمك فيهم فلا تنقض عليهم كتابهم وشرطهم ، فإنّ النضير (١) لهم القوّة والسلاح والكراع ، ونحن نخاف (٢) الدوائر ، فاغتمّ لذلك رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ولم يجبه بشيء ، فنزل عليه جبرئيل بهذه الآيات :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا) يعني اليهود ، (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) يعني عبد الله بن أبيّ وبني النضير ، (يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) يعني عبد الله بن أبيّ حيث قال لبني نضير : إن لم يحكم لكم بما تريدونه فلا تقبلوا ، (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) إلى آخر الآيات (٣).

وقد تقدّمت رواية اخرى عن المجمع (٤) في قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) (٥) من هذه السورة.

__________________

(١). في المصدر : «بني النضير»

(٢). في المصدر : + «الغوافل»

(٣). تفسير القمّي ١ : ١٦٨ ـ ١٦٩ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٣٩٥.

(٤). مجمع البيان ٣ : ٣٣٣ ـ ٣٣٥.

(٥). المائدة (٥) : ١٥.

٢٦٣

وفي تفسير البرهان ، عن الكشكول للعلّامة الحلّي (١) ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «أنّ الآيات نزلت بعد واقعة الغدير» (٢).

قوله سبحانه : (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)

سحته يسحته : إستأصله ، قيل سمّي به لأنّه مسحوت البركة ، وقد عدّ شيء كثير من مصاديقه في الروايات يجمعها الثمن الحرام ، كثمن الميتة وكلب الهراش ، والخمر ، وأجر الزانية والكاهن والرشاء في الحكم والمال المكتسب بالقمار ، وعلى جميعها روايات ، وقد عدّ في بعضها من السحت كل شيء غلّ من الإمام ، وأكل مال اليتيم من السحت ، وعليه فالجامع أوسع ، وروايات السحت كثيرة في أبواب الفقه المتفرقة.

قوله سبحانه : (فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)

حكم تخييري ، وفي التهذيب ، عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة وأهل الانجيل يتحاكمون إليه ، كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء تركهم» (٣).

قوله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ)

نسبة الهدى إلى النور نسبة الفائدة إلى الآية ، فالذي في الظلمة إنّما يهتدي إلى

__________________

(١). اى : الكشكول فيما جرى على آل الرسول ، للمحدّث الجليل السيد حيدر الآملى ، المجاز من فخر المحقّقين ، ابن العلامة الحلّى.

(٢). البرهان في تفسير القرآن ٤ : ٦٤ ـ ٧١ ؛ الكشكول فيما جرى على آل الرسول : ١٧٩ ـ ١٨٦.

(٣). تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠٠.

٢٦٤

مقصوده بالنور ، وقد مرّ معنى الهداية ، وسيجيء معنى النور.

وقوله : (الَّذِينَ أَسْلَمُوا)

في التصريح بذكر الإسلام تقوية لأمر النبيّ أنّ هذا الذي لا يقبل حكمه اليهود إنما يسير نظير سير أنبيائهم في إسلامهم ، وإنّ الدين عند الله الإسلام ، ففي الوصف بيان مأخذ الحكم.

وقوله : (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ)

في تفسير العياشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الربّانيّون : هم (١) الأئمّة دون الأنبياء الذين يربّون الناس بعلمهم ، والأحبار : هم (٢) العلماء دون الربّانيّين ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «ثم أخبر عنهم فقال : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) ، ولم يقل بما حملوا منه» (٣).

أقول : وقد أخذ ـ عليه‌السلام ـ الربّانيّين من التربية دون الربوبية وحينئذ فالعلمان أو التربيتان من الربّانيين والعلماء مختلفان.

وفي تفسيره أيضا ، عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ «فينا نزلت» (٤).

أقول : أي في الأئمّة نزلت أو أنّها تجري فيهم.

وقوله تعالى : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي)

أي : لا يداخل في حكمكم الخوف والطمع.

__________________

(١). في المصدر : «فهذه»

(٢). في المصدر : «وأما الأحبار فهم»

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٣٢٣.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٣٢٢.

٢٦٥

وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ)

في الكافي عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «من حكم بدر همين بحكم جور ثمّ جبّر عليه كان من أهل هذه الآية» (١).

وفي الكافي أيضا ، عنهما ـ عليهما‌السلام ـ : «من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله ممّن له سوط أو عصا ، فهو كافر بما أنزل الله على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ» (٢).

وفي الكافي أيضا عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «فأمّا الرشا في الحكم ، فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله» (٣).

أقول : معناها واضح.

قوله سبحانه : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)

أي : النفس تقتل بالنفس ، والعين تفقأ بها ، والأنف تجدع بها ، والأذن تصلم بها ، والجروح ذات قصاص أدناها قصاص بالمثل.

وفي تفسير القمّي : هي منسوخة بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) (٤) ، وقوله : (الْجُرُوحَ قِصاصٌ) (٥) لم تنسخ (٦).

__________________

(١). الكافي ٧ : ٤٠٨.

(٢). الكافي ٧ : ٤٠٧.

(٣). الكافي ٥ : ١٢٦ و ١٢٧.

(٤). البقرة (٢) : ١٧٨.

(٥). المائدة (٥) : ٤٥.

(٦). تفسير القمّي ١ : ١٦٩.

٢٦٦

أقول : الآية ذات إهمال فلا تنافي حتى يحكم بالنسخ على ما تقدّم من الروايات.

قوله سبحانه : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ)

هذا مع خلوّ الإنجيل عن الأحكام من جهة تصديقه لأحكام التوراة ، فأحكامها أحكامه على ما فيه من بعض زيادات ناسخة.

قوله سبحانه : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ)

قالوا : يجوز عطفه على الكتاب ، أي أنزلنا إليك الكتاب في الحكم ، وعلى الحق ، أي أنزلناه بالحق ، وبأن احكم (١) ، والإستيناف بتقدير : وأمرنا أن احكم.

وفي المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : إنّما كرّر الأمر بالحكم بينهم لأنهما حكمان أمر بهما جميعا ، لأنّهم إحتكموا إليه في زنا المحصن ، ثم إحتكموا إليه في قتل كان بينهم (٢).

أقول : وفي تعقيب الحكم الثاني بقوله (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) بعض الإيماء إلى أنّ الحكم الثاني ، الحكم في مورد القتل.

قوله سبحانه : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)

في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : «الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية ، فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم

__________________

(١). هكذا ، والظاهر انّه من سهو القلم ، والصحيح : على «فاحكم»

(٢). مجمع البيان ٣ : ٣١٥.

٢٦٧

الجاهلية (١) ، وقد قال الله عزوجل : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٢) الحديث.

أقول : ورواه فيه وفي تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ (٣) وهو استفاده الحكم من الترديد.

*

__________________

(١). الكافي ٧ : ٤٠٧ ، الحديث : ١ ، هنا آخر الحديث والاستشهاد بالآية في ذيله من الحديث الثاني عن الامام الباقر ـ عليه‌السلام ـ.

(٢). الكافي ٧ : ٤٠٧ ، الحديث : ١.

(٣). الكافي ٧ : ٤٠٧ ، الحديث : ٢ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٣٢٥ ، الحديث : ١٣٢.

٢٦٨

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)]

قوله سبحانه : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)

نهى عن تولّي الكفّار ، وقد نهى الله عن توليّهم في كتابه بألحان مختلفة ، وقلّما

٢٦٩

شدّد في أمر مثل تشديده فيه ، فقد قال في سورة آل عمران : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (١) ـ إلى أن قال ـ : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) (٢) ـ إلى أن قال ـ : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٣) ـ إلى أن قال ـ : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٤).

وإذا قيست تلك إلى ما في هذه السورة كانت هذه كالمنتزعة من تلك ، وإنّما الفرق بعموم المورد وخصوصه ، فقد حكم سبحانه بانقطاع أولياء الكفار من ولاية الله ولحوقهم بهم ونفاقهم ، وأنّ الله لا يهديهم لظلمهم وحبط أعمالهم وخسرانهم وارتدادهم عن دينهم ، فالدين هو ولاية الله وعرّف ذلك بقوله : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ).

فجعلها من تبعات هذا النفاق الذي شدّد في شأنه كلّ التشديد بالمقابلة ، ولعمري لقد بيّن جريان الحوادث في القرون التالية أهمّية تأثير هذا العامل السيّىء في عالم الإسلام بآكد البيان ، ولا بيان كالتبيان وقد زادت هذه السورة على ما في سورة آل عمران من الدعوة إلى محبة الله واتّباع رسوله بأن أخبر بإتيان قوم : (يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى

__________________

(١). آل عمران (٣) : ٢٨.

(٢). آل عمران (٣) : ٢٩.

(٣). آل عمران (٣) : ٣١.

(٤). آل عمران (٣) : ٣٢.

٢٧٠

الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (١).

فأفاد أنّ هذا النفاق سيشيع بين المؤمنين وذلك بتولّيهم اليهود والنصارى من جهة النصارى وناحيتهم خاصّة.

أمّا اليهود فمغلولة الأيدي ، قال تعالى : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا) (٢) ، فيستذلّ المؤمن بإيمانه ويعظّم الكافر بكفره ، ويدع العلماء البيان والتعليم بالمداهنة والخوف عن لومة اللائم فيصير المعروف منكرا والمنكر معروفا ، فيواد عهم الدين ويرحل عنهم فضل الله ، ويطلّ عليهم سخطه فخسروا في الدنيا وضلّ سعي الساعي منهم في الآخرة ، (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) (٣).

وقد بيّن لهم قبل عدّة آيات : أنّه أكمل دينهم بالرسالة وأتمّ النعمة عليهم وأنّهم في أمن من الكفّار بعد ذلك ، وليخشوا الله فحسب أن يمقتهم بسببهم أنفسهم وسيجيء لهذا الكلام بقايا فيما نتعرض بملاحم القرآن في آخر الزمان إن شاء الله.

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ) في المجمع قيل : هم أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وأصحابه حين قاتل من قاتله من الناكثين والقاسطين والمارقين ، قال : وروي ذلك عن عمّار وحذيفة وابن عباس ، ثم قال : وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما‌السلام (٤) ـ ،

__________________

(١). آية ٥٤ من السورة ، سيأتي الكلام فيها.

(٢). المائدة (٥) : ٦٤.

(٣). النور (٢٤) : ٢١.

(٤). مجمع البيان ٣ : ٢٥٨.

٢٧١

قال : وروي ذلك عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال يوم البصرة : «والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم وتلا هذه الآية» (١).

أقول : وأيّده بقول النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يوم خيبر في علي ـ عليه‌السلام ـ : «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، كرّار غير فرّار ، لا يرجع حتّى يفتح الله على يديه» (٢). والحديث مما اتفق على روايته الفريقان.

وعن تفسير الثعلبي في الآية : أنّها نزلت في علي ـ عليه‌السلام ـ (٣).

وعن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في الحديث المتّفق عليه أيضا : يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيحلّون (٤) عليّ الحوض ، فأقول : يا ربّ! أصحابي أصحابي (٥) ، فيقال لي : لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقري» (٦).

وهو يؤيّد ما رواه القمّي في تفسيره : أنّ الآية مخاطبة لأصحاب النبيّ الذين يعادون آله (٧).

__________________

(١). مجمع البيان ٣ : ٢٥٩ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٤١٧.

(٢). الإحتجاج ١ : ٤٠٦ ؛ الجمل : ٢١٩ ؛ المستجاد من الإرشاد : ٧٤ ؛ التبيان ٣ : ٥٥٦.

(٣). العمدة لابن بطريق : ١٥٨ عن تفسير الثعلبي.

(٤). في بعض نسخ البخاري : «فيحلّؤن» وفي بعضها الآخر : «فيجلون» ، ثم حكى البخارى عن شعيب ، عن الزهري : كان أبو هريرة يحدّث عن النبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : «فيجلون» وقال عقيل : «فيحلّؤن».

(٥). في الأصل وفي بعض المصادر : «أصيحابي ، أصيحابي»

(٦). الإيضاح : ٢٣٣ ؛ العمدة : ٢٨٩ ؛ صحيح البخاري ٨ : ١٥٠ ؛ فتح الباري ١١ : ٤٦٤ ؛ كنز العمال ١٤ : ٤١٧ ؛ تفسير نور الثقلين ١ : ٦٤١ ؛ تفسير القرطبي ٤ : ١٦٨.

(٧). تفسير القمّي ١ : ١٧٠ ، في المصدر : «غصبوا آل محمد حقّهم وارتّدوا عن دين الله».

٢٧٢

وفي تفسير النعماني عن سليمان بن هارون العجلي ، قال : سمعت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ يقول : «إنّ صاحب هذا الأمر محفوظ له ، لو ذهب الناس جميعا أتى الله بأصحابه وهم الذين قال الله عزوجل : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (١) وهم الذين قال الله : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢).

أقول : وروى هذا المعنى العيّاشي في تفسيره (٣).

*

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٨٩.

(٢). لم أجده في رسالة المحكم والمتشابه ، المعروف بتفسير النعماني ، ولكنّه موجود في كتاب الغيبة للنعماني : ٣١٦.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٣٢٦ ، الحديث : ١٣٥ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٥٥ ؛ المحجّة فيما نزل في الحجّة : ٦٤ ؛ بحار الأنوار ٥٢ : ٣٧٠ ؛ منتخب الأثر : ٤٧٥ ؛ ينابيع المودة ٣ : ٢٣٧.

٢٧٣

[إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)]

قوله سبحانه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)

الأخبار متكاثرة بين العامّة والخاصّة في نزول الآية في حق علي ـ عليه‌السلام ـ.

أقول : الأمور الكثيرة المتعددّة ربّما لم يكن لمجموعها إلّا أثر كلّ واحد واحد كالمجموع من زيد وحجر وقطن مثلا ، وربّما كان للمجموع أثر دون الآحاد ، إمّا كيف ما اتّفق وإمّا في حال دون حال كالقياس المستتبع للنتيجة ، وكبدن الإنسان المؤلّف تأليفا خاصّا يركبه الروح فيؤثّر أثره ، وهذا المجمع المستتبع للأثر هو الذي يسمى بالترتيب والتدبير مأخوذان من الرتبة والدبر ، أي إعطاء كلّ رتبته واتيان كل بعد ما بعده ، ونسبة التدبير إلى الآمر المدبّر نسبة الروح إلى الجسد ، فبينهما اتحاد واختلاف ، ومالك الأمور المحتاجة في إنتاجها إلى التدبير ربّما ملك نفسها وتدبيرها معا ، وربّما ملك نفسها دون تدبيرها كالمعتوه والصغير

٢٧٤

ولهما مال ، فالإستمتاع منه بالأكل والشرب مثلا لهما ، لكن تدبير المال لغيرهما كالوالد وذلك لوجود جهاز التغذّي فيهما دون العقل والتميز.

وهذا المعنى أعني ملك التدبير هو المسمّى ب : الولاية كما أنّ المعنى الأوّل يسمّى ب : الربوبيّة ، وهذا هو الأصل في معنى الولاية والجامع بين جميع موارد استعمالاتها ، فوليّ الصغير : من بيده تدبير أمره ، ووليّ المجنون : من يلي أمره ، والملك وليّ الرعية ؛ لأنّه يلي أمورهم العامّة ، والوالي يلي العامّ من أمر الناس ، ووليّ العهد يلي أمر العهد الذي عهد إليه في الملك والسلطنة ، والصديق والخليل وليّ صديقه وخليله ؛ لأنّه له أن يلي أمره بسبب الصداقة والخلة ، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١) ، لأنّ المؤمن له وعليه أن يتخذ أخاه المؤمن كذلك ، وينزّله منزلة نفسه ، ويسلب عن نفسه الإختيار إتجاه إرادته ، والثاني يلي الأوّل ، أي يلي أمره في الرتبة التي بعده.

(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) (٢) ، أي نأمرك أن تلي جهة الكعبة ، ويولّون الأدبار :

أي يجعلون أدبارهم هي التي تلي جهة الحرب ، كأنّ جهتي المعركة أمران يحتاجان إلى التدبير ويتكفلهما العسكران تدبيرا إلى غير ذلك ، وكذلك المولى بجميع المعاني التي عدّت له.

فالولاية هي ملك التدبير ، والوليّ من اختزن عنده معنى الولاية على ما يتحمّله صيغة فعيل.

قال تعالى : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٣) وقال : (أَلا إِنَ

__________________

(١). التوبة (٩) : ٧١.

(٢). البقرة (٢) : ١٤٤.

(٣). فصلت (٤١) : ٣١.

٢٧٥

أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) (١) ، فالولاية ملك التدبير والوليّ مالكه.

أقول : ثم إنّ معناها حيث يرجع إلى الملك كان لها من المراتب ما للملك على ما مرّ في سورة آل عمران عند قوله : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) (٢) ، فإذ ليس شيء من الأشياء يملك من ذاته وآثار ذاته شيئا إلّا بالله سبحانه ، فله سبحانه كلّ شيء أوّلا ، وهو الملك له ولها مآلها ثانيا ، وبقدر ما قدّر لها وملّكها وهو خلقها ووجودها وتمليكه إياها.

ثمّ إنّ له سبحانه تدبير الأمور التي ملّكها إيّاها أوّلا إذ لا يقدر شيء على شيء ، وهو الولاية لله الحقّ ، ولها من التدبير والولاية في أمورها بقدر ما وهبه لها ثانيا.

فهذه أربعة معان مترتّبة يشير إلى أولها قوله سبحانه : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) (٣) ، وإلى الثاني قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) (٤) ، وإلى الثالث قوله : (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) (٥) ، وإلى الرابع قوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٦) ، وإلى الوسطين قوله : (كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٧).

وتشتمل على الأربعة جميعا قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٨) ، وقد مرّ في آية الكرسي.

__________________

(١). يونس (١٠) : ٦٢.

(٢). آل عمران (٣) : ٢٦.

(٣). آل عمران (٣) : ٢٦.

(٤). آل عمران (٣) : ٢٦.

(٥). الشورى (٤٢) : ٩.

(٦). الإنسان (٧٦) : ٣٠.

(٧). طه (٢٠) : ٥٠.

(٨). البقرة (٢) : ٢٥٥.

٢٧٦

فإنّ الشفيع إنّما يريد بشفاعته أن يتمّ للعاصي أو المحتاج أمرا ما كان يناله وحده ، ويدبّر له ما لا يقوى على تدبيره بالاستدعاء من غير إيجاب فهي ولاية ادّعائية يوجدها الشفيع بالقرب والمنزلة فافهم ذلك.

وبالجملة ، فله سبحانه الولاية المطلقة على كلّ شيء لملكه لذوات الأشياء ولتدبيرها ، قال سبحانه : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) (١) ، وقال : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢) ، فهداية كلّ شيء إلى ما أعطى من الخلقة هو الولاية ، وقال سبحانه : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣) وقال : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) (٤) وقال : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (٥).

فهذه حقيقة الولاية وهي لله وحده ـ عزّ اسمه ـ تنبعث من الملك الحقيقي ، وتلحق بها الولاية الموهوبة بحسب الملك الموهوب للأسباب المتوسّطة بحسب ما ذهب لها من السببيّة وهذه هي التي يسميّها بالشفاعة قال سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) وقال : (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ) (٦).

وبالجملة ، فهي حيثيّة حقيقيّة غير متغيّرة ولم تنسب إلى المليكة ولاية غير ما في قوله : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (٧) ، وقوله : (نَحْنُ

__________________

(١). الشورى (٤٢) : ٩.

(٢). طه (٢٠) : ٥٠.

(٣). الأعلى (٨٧) : ٣.

(٤). السجدة (٣٢) : ٤.

(٥). يونس (١٠) : ٣.

(٦). النجم (٥٣) : ٢٦.

(٧). التحريم (٦٦) : ٤.

٢٧٧

أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (١).

أقول : وهناك قسم آخر مصوّر في ظرف الإعتبار وهي التي تدور مدار الإطاعة ، فإنّ الإطاعة تحصيل إرادة المطيع تابعة لإرادة المطاع ، فتسقط عن الإستقلال في تدبير أمره فينتج ولاية المطاع.

قال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (٢) وقال : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٣) وقال : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) (٤) ، فجعل لنفسه الولاية على المؤمنين خاصّة لطاعتهم إيّاه وهدايته لهم من الباطل إلى الحق ، فله عليهم الطاعة المفترضة كما جعلها لنبيه ، قال تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٥) ، كما قال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٦) وقال : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) (٧) ، ثم جعل مثل ذلك بين المؤمنين ، قال سبحانه : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٨) غير أنّه ضيّق دائرة ولايتهم ، بمثل قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٩) فاختصّت ولايتهم بما عدا ما يزاحم قول الله

__________________

(١). فصلت (٤١) : ٣١.

(٢). محمد (٤٧) : ١١.

(٣). آل عمران (٣) : ٦٨.

(٤). البقرة (٢) : ٢٥٧.

(٥). الأحزاب (٣٣) : ٦.

(٦). النساء (٤) : ٨٠.

(٧). الجن (٧٢) : ٢٣.

(٨). الانفال (٨) : ٧٢.

(٩). الاحزاب (٣٣) : ٣٦.

٢٧٨

ورسوله ، ثمّ ذكر سبحانه مثل ذلك بين الكافرين قال سبحانه : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (١) وقال : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ) (٢) وقال سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٣) إلى غير ذلك من الآيات.

ثمّ أقول : ومن لوازم هذه الولاية ، ـ أعني ولاية الطاعة ـ أنّ المطيع إذا تمكّنت الطاعة في نفسه وثبتت واستقرّت ، فنت إرادته في جنب إرادة وليّه المطاع ، بحيث لم يرد إلّا ما يريده وملك من وليّه المطاع هذا المعنى ، أعني تدبير ما يريده على ما يريده ، وهو الولاية ، فهو وليّ مطاعه كما أنّ المطاع وليّ مطيعه ومن حيث إنّ الإرادة لا تتعلّق إلّا بما يحبه الإنسان ، فإرادة هذا الوليّ كلّما يريده وليّه لازمها محبّته لكلّ ما يحبّه ، فلا تتحقّق ولاية إلّا مع محبّة أو عن محبّة منعكسة من الطرفين ، ولذلك ربّما تخيّل أنّ الولاية هي المحبّة ، وكم بينهما من الفرق.

وبالجملة ، فتصير الولاية حينئذ ذات طرفين ومتحقّقة في الجانبين ، قال سبحانه : (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ) (٤) وقال تعالى : (ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) (٥) وقال سبحانه : (إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) (٦) [وقوله سبحانه] : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) (٧).

__________________

(١). الاعراف (٧) : ٢٧.

(٢). الاعراف (٧) : ٣٠.

(٣). الانفال (٨) : ٧٣.

(٤). الاعراف (٧) : ٣٠.

(٥). آل عمران (٣) : ١٧٥.

(٦). الأنعام (٦) : ١٢١.

(٧). الانعام (٦) : ١١٢.

٢٧٩

ويدلّ على ما ذكرنا أنّ مجرّد تحقق الولاية لا يوجب دورانها بين الطرفين ، قوله سبحانه حكاية عن إبراهيم مع آزر : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا* يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) (١).

فقد كان آزر كافرا ، وكان الشيطان وليا له وهو ـ عليه‌السلام ـ مع ذلك كان يخاف أن يكون ـ آزر أيضا ـ وليّا للشيطان ، والخوف إنّما يتحقّق مع الإحتمال من غير حتم لوقوع الواقعة ، فليس إلّا أنّ الكفر كما يوجب أن يكون الشيطان وليّا للكافر لا يوجب كون الكافر وليّا للشيطان إلّا بعد ثبوت الكفر في نفسه ثبوتا متعذّر الزوال أو متعسّره ، قال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢).

وهي مع ذلك تفيد أولا : أنّ للمشيئة الإلهية تعلّقا ما بالولاية الشيطانية ، كما تفيده سائر الآيات التي في هذا المساق كقوله : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) (٣) ، وقوله : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٤) ، وسيجيء بيانه في الكلام على القدر.

وثانيا : إنّ ضلالهم عين إضلال الشيطان ، أي إنّ ارادتهم عين إرادته وخطورات نفوسهم هي وحي الشياطين وخفيّ كلامهم ، وقد سمّى الله سبحانه نعيم بن مسعود الأشجعي في موضعين من كلامه شيطانا ، قال سبحانه : (إِنَّما

__________________

(١). مريم (١٩) : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢). الزخرف (٤٣) : ٣٦ ـ ٣٧.

(٣). فصلت (٤١) : ٢٥.

(٤). الاعراف (٧) : ٢٧.

٢٨٠