تفسير البيان - ج ٣

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ٣

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٤

والذي عدّه عبد الله بن سلام وأصحابه من رفض قومهم إيّاهم وإيلائهم أن لا يخالطوهم بالمجالسة والمناكحة والتكليم ، يؤيّد ذلك.

وثالثا : إنّ كونها بمعنى المحبة ينتج ولاية الإطاعة والتصرّف ، بيان ذلك : إنا نفرضها بمعنى المحبة والمودّة ، لكن ليس من الجائز أن تكون هي المحبة العامّة بين المؤمنين المندوب إليها بقوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١).

فهل كان من ظنّ عبد الله بن سلام وأصحابه أنّ قومهم أوليائهم دون الله ورسوله وأمير المؤمنين ، أو قومهم وهؤلاء جميعا دون غيرهم من المؤمنين ، حتى يحمل الكلام على قصر القلب أو الإفراد ، أو أنّه لم يكن بين المؤمنين وهم ألوف وألوف ، وفيهم النقباء والسابقون الأولون من المهاجرين والبدريّون مؤمن واحد بالحقيقة غيره ـ عليه‌السلام ـ ، أو أنّ الولاية ناسخة أو منسوخة بقوله : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢) فأي نفس ترضى أو عقل يجوّز النسخ في ذلك.

فليس إلّا أنّ كلا من الخطابين حقّ مع الآخر وفي جنبه ، فينتج الإنضمام بينهما معنى الوساطة.

قيل : يجب على كلّ مؤمن أن يقصر موالاته ومحبّته من بين الناس على المؤمنين خاصّة ، ثم قيل : يجب أن يقصرها على أمير المؤمنين خاصّة مع الله ورسوله وكان طبع نوع هذا المقال بأسلوبه لا يصحّ ، إلّا إذا كان ذلك الفرد المقصور عليه الوصف أصلا فيه وذا حقيقته ، وغيره إنّما علّق به الوصف بعرضه ووساطته ، فيكون حبّ الأصل حبّا لفروعه وغير منفكّ عنه ، وحبّ الفروع لأجل الأصل ، ولا يكون ذلك البتة ، إلّا إذا لم يكن عند هذا الأصل إلّا ما هو

__________________

(١). التوبة (٩) : ٧١.

(٢). التوبة (٩) : ٧١.

٣٠١

للفروع كمال ومزيّة ، ولم يكن عنده غير ذلك ، فافهم ذلك واعتبر ذلك في الوحدات المنعقدة بين الجماعات ، وهي الجاعلة إيّاها أحزابا ، فعلى كلّ فرد منسوب إلى حزب ما أن يأخذ إخوانه أولياء دون مخالفيه في مرامهم ، وهو بعينه لموالاة رئيسهم ومدير أمرهم فحسب ، وغاية ذلك حبّ مرامهم ، وقد رام سبحانه ذلك في الآية التالية بقوله :

(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) فبدّل الضمير العائد إلى إسم الشرط بقوله : (حِزْبَ اللهِ) ، فحصر النسبة في نفسه ، ولم يذكر رسوله والذين آمنوا لأجل أنّ هذه الولاية ليست إلّا لله سبحانه ، فالله هو الولي ، وليس عند رسوله والذين آمنوا غير ولايته ، فليس الحزب إلّا حزبه ، وقد جرى على هذا السبيل قوله :

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ* لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١).

فنسب الحزب إلى نفسه وقد قال : (مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، غير أنّه جعل الغلبة لنفسه ورسله ولم يعمّم النسبة إلى الحزب ، فعلم به أنّ الغلبة له بالحقيقة ، وإن نسبه إلى حزبه في موضع آخر.

وبالجملة ، إذا جعل الله لرجل ولاية بهذا المعنى ونصبه أصلا فيها ، لم يجز أن يكون عنده ما لا يحبّه من شيء ظلما أو معصية أو شركا ، وقد صرّح سبحانه في

__________________

(١). المجادلة (٥٨) : ٢١ ـ ٢٢.

٣٠٢

كتابه بذلك وكرّر القول فيه ، فما له من الفعل فهو مرضيّ له سبحانه ، وما يقوله هو قوله ، يجب الإئتمار بأمره ، والإنتهاء عن نهيه ، لأنّه أمر الله ونهيه.

والصالحون من المؤمنين وإن كانوا كذلك ، فإذا قالوا فأمروا بأمر الله ، يجب الإئتمار به ، أو نهوا بنهي الله ، يجب الإنتهاء له ، فلا إطاعة إلّا لحكم الله ، لكن بينهما فرقا من حيث أنّ آية الولاية تصديق وكشف إجمالى عن كون فعله مرضيّا لله سبحانه وقوله قول الله ، فليس لمؤمن أن يبحث عنه ويسأل بخلاف ما عند صالحي المؤمنين من الفعل والقول ففيه البحث والسؤال ، وهذا هو العصمة والولاية بمعنى ملك التدبير وأولوية التصرف وهو المطلوب.

وقد أثبت الله سبحانه الولاية فيه ـ عليه‌السلام ـ بطريق آخر بقوله : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (١) ، وسيجيء بيانه إن شاء الله.

ولا ينبغي لك أن تذهل عن أنّ الولاية في الآية مطلقة ، فيفيد ولايته عليه‌السلام في الحقيقة والظاهر ، ولو أغمضنا عن ذلك كفى في إثبات حقيقة الولاية في حقّه ـ عليه‌السلام ـ ، أنّ ما يثبته القرآن الشريف منها لأحد فملاكه موجود فيه ـ عليه‌السلام ـ أتمّ الوجود وأشدّ التحقّق ، فما من فضيلة حقيقيّة أو منقبة دينية تعرّض لها كتاب الله تعالى إلّا وهو المتمكّن في بساطها والقائم على مناطها ، ومع ذلك فكم له من مقام محمود ، وموقف مشهود اختصّه الله به لا يشاركه فيه سابق و [لا] لا حق ، وكفى بالتاريخ حكما ، وناهيك في ذلك وقوع الزعم من عدّة من العقلاء في ألوهيّته ، وإنّا وإن كنّا نجد أفرادا من البشر قيل فيهم

__________________

(١). التحريم (٦٦) : ٤.

٣٠٣

بذلك كعيسى بن مريم وعزير وغيرهما ، لكنّهم إنّما زعم فيهم ما زعم بعد ارتحالهم من الدنيا ، وكم من صغير عظّمته نظّارة الخيال ، أو قليل كثّره ، وأمّا هذا الزعم لأحد في حياته ومشافهته فهو ممّا اختصّ به عليّ ـ عليه‌السلام ـ ولم يشاركه فيه أحد ولم يرجع زاعموا ألوهيّته حتى قتلوا وأحرقوا وأفنوا ثم نبغوا (١).

وحسبك في ذلك أنّ أقواما من المنتحلين بالإسلام راموا نيل حقائقه واقتناص باطنه ، تلك الطوائف المختلفة من طبقاته المختلفة منذ عصر الصحابة إلى يومنا هذا ، ولا يزالون تتّسع دوائرهم برهة وتضيق أخرى ، ولم يزالوا ينتسبون إليه ويقفون دونه لا يعدونه ، ولو قصد قاصد منهم إنتماءا إلى غيره جبّهوه بالإبطال وألزموه بحججهم.

هذا ، وفي الكافي عن عمر بن أذينة ، عن زرارة وفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود جميعا ، عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : «أمر الله رسوله بولاية علي ـ عليه‌السلام ـ ، وأنزل عليه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) ، وفرض (٢) ولاية أولي الأمر ، فلم يدروا ما هي ، فأمر الله محمدا [ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ] أن يفسّر لهم الولاية ، كما فسّر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فلمّا أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وتخوّف أن يرتدوا عن دينهم وأن يكذّبوه ، فضاق صدره وراجع ربّه عزوجل ، فأوحى الله عزوجل إليه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما

__________________

(١). هكذا.

(٢). في الأصل بزيادة «من»

٣٠٤

أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (١) ، فصدع بأمر الله عزّ ذكره ، فقام بولاية عليّ ـ عليه‌السلام ـ يوم غدير خم ، فنادى : الصلاة جامعة ، وأمر الناس أن يبلّغ الشاهد الغائب.

قال عمر بن أذينة : قالوا جميعا ، غير (٢) أبي الجارود ، قال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : وكانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى ، وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عزوجل : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (٣) ، قال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : يقول الله عزوجل : لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة ، قد أكملت لكم الفرائض» (٤).

أقول : وسيجيء بعض ما يتعلّق بالحديث في قوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (٥).

قوله سبحانه : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)

سياق الآية من حيث اتصالها بالآية السابقة يفيد أنّ المراد : ب (الَّذِينَ آمَنُوا) في هذه الآية عين ما في الآية السابقة ، ووضع الظاهر أعني قوله : (حِزْبَ اللهِ) ، موضع المضمر للإشارة إلى ملاك الحكم وعلة الغلبة ، وربّما احتمل أن يكون حزب الله هم الأولياء المتولّون بصيغة المفعول دون المتولّين بصيغة

__________________

(١). المائدة (٥) : ٦٧.

(٢). في الأصل «عن» وهو تصحيف.

(٣). المائدة (٥) : ٣.

(٤). الكافي ١ : ٢٨٩ ، الحديث : ٤.

(٥). المائدة (٥) : ٦٧.

٣٠٥

الفاعل ، ويكون حينئذ غلبة (مَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) لاتّصاله بحزب الله ، لكن الظاهر من قوله : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) في سورة المجادلة (١) هو المعنى الأوّل ، والمآل واحد.

وفي المجالس عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) ، قال : «إنّ رهطا من اليهود أسلموا ، منهم : عبد الله بن سلام وأسد وثعلبة وابن يامين وابن صوريا ، فأتوا النبيّ ، فقالوا : يا نبيّ الله! إنّ موسى ـ عليه‌السلام ـ أوصى إلى يوشع بن نون ، فمن وصييّك يا رسول الله ومن وليّنا بعدك؟ فنزلت الآية : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) ، قال رسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : قوموا ، فقاموا فأتوا المسجد ، فإذا سائل خارج ، فقال : يا سائل أما أعطاك أحد شيئا؟ قال : نعم ، هذا الخاتم ، قال : من أعطاكه؟ قال : أعطانيه ذلك الرجل الذي يصلّي ، قال : على أيّ حال أعطاك؟ قال : كان راكعا ، فكبّر النبي [ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ] وكبّر أهل المسجد.

فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : علي بن أبي طالب وليّكم بعدي ، قالوا : رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ نبيّا وبعلي ابن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ وليّا ، فأنزل الله : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)» (٢).

أقول : وقد اشتملت كثير من روايات الباب من طرق الخاصّة والعامّة على نزول الآية الثانية عقيب الآية الأولى.

__________________

(١). المجادلة (٥٨) : ٢٢.

(٢). الأمالي للصدوق : ١٢٤ ، الحديث ٤ ؛ البرهان في تفسير القرآن ٣ : ٤٢١ ؛ تفسير الصافي ٢ : ٤٣٦.

٣٠٦

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ

٣٠٧

كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)]

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً)

ترتيب الحكم على وصفهم مع تعليق الخطاب بوصف الإيمان لبيان العلّة وتحريك عرق العصبيّة الدينيّة ، فإنّ التثبّت في الإيمان لا يلائم الإئتلاف مع من يهزء بشعائره ويسخر من أركانه ، ولذلك ختم الآية بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

قوله سبحانه : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ)

في المعاني عن المشرقي ، عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ قال : سمعته يقول : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ، فقلت له : يدان هكذا؟ ـ وأشرت بيدي إلى يديه ـ فقال : لا ، لو كان هكذا كان (١) مخلوقا (٢).

أقول : وروى مثله العيّاشي ، في تفسيره (٣).

وفي المعاني أيضا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال في قول الله عزوجل :

__________________

(١). في المصدر : «لكان»

(٢). معاني الأخبار : ١٨.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٣٣٠ ، الحديث : ١٤٥.

٣٠٨

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) : «لم يعنوا أنّه هكذا ، ولكنّهم قد (١) قالوا : قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص ، فقال الله عزوجل تكذيبا لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) أو لم (٢) تسمع الله عزوجل يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣) (٤).

أقول : وفي هذا المعنى روايات أخر مرويّة في مجالس الشيخ وتفسيري العيّاشي والقمي (٥).

والكناية عن القدرة ببسط اليد وعن إنسلابها بغلّها وقبضها كناية شائعة في اللغة ، وكذا عن وجود القدرة بكمالها ببسط اليدين ، ولذلك ردّ قولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) ، وقد أفردت اليد ، بقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) فجاء بالتثنية وبالغ في الرد ، ثمّ أوضح ذلك بقوله : (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) ، وذلك أنّ اليمين أقوى في الإنسان من اليسار ، والعضوان اللذان في عهدتهما عمدة أفعال القبض والبسط ، والأخذ والدفع ، أعني اليدين يمناهما تتكفل عمدة الأفعال القويّة في غالب الأفراد ، وفيما لا يستغني فيه عن اليدين معا من الأفعال تزيد اليمنى على صاحبتها ، فتكون اليسرى كالمتمّمة لفعلها ، فكان الفعل لليد اليمنى وعلى اليسرى تتميم نواقصه ، فهذا ما يعتقده الإنسان في اليد.

__________________

(١). في المصدر : ـ «قد»

(٢). في المصدر : «ألم تسمع»

(٣). سورة الرعد (١٣) : ٣٩.

(٤). معاني الأخبار : ١٨.

(٥). أمالي الطوسي : ٦٦١ ، مجلس ٣٥ ، الحديث : ١٨ ؛ تفسير القمي ١ : ١٧٠ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٣٣٠ ، الحديث : ١٤٦ ـ ١٤٨.

٣٠٩

ومن هنا عدّ القدرة والقوة يدا فقيل : مغلول اليد ومبسوط اليد ؛ والنعمة والصنيعة يدا ، فقيل : لفلان يد على فلان ، ثمّ اشتقّ منه المصدر والفعل كالأيد ، وهو القوة والنعمة والتأييد وهو التقوية ، وإذا استعمل في الله كان المراد به القدرة ومبدأ الإفاضة ، وإذا أطلق اليدان معا مثّل به فعل اليدين معا في الإنسان كما عرفت وهو الفعل التامّ المشتمل على أصل الفعل وكماله ، قال سبحانه : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (١) ، يعني كمال الوجود ، وإذا تذكّرت ما مرّ في قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٢) ، تفهّمت معنى هذا الكمال ، واتّضح لك أيضا معنى قوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ).

وفي المعاني عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : في قوله : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٣) ، قال : «اليد في كلام العرب القوّة والنعمة ، قال تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) (٤) ، (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) ، أي بقوة ، (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٥) قال : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (٦) أي قوّاهم ، ويقال : لفلان عندي يد بيضاء ، أي نعمة (٧)».

أقول : وسيأتي في سورة (ص) حديث آخر في تفسير اليد ، ويأتي تفسيره.

__________________

(١). ص (٣٨) : ٧٥.

(٢). البقرة (٢) : ٣٠.

(٣). ص (٣٨) : ٧٥.

(٤). ص (٣٨) : ١٧.

(٥). الذاريات (٥١) : ٤٧.

(٦). المجادلة (٥٨) : ٢٢.

(٧). معاني الأخبار : ١٥ ـ ١٦ ، الحديث : ٨.

٣١٠

قوله سبحانه : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ)

في تفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية : كلما أراد جبّار من الجبابرة هلكة آل محمد ـ عليهم‌السلام ـ قصمه الله (١).

أقول : ورواه في تفسير القمّي أيضا مضمرا (٢) ، وهو من قبيل الجري.

قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ)

في الكافي وتفسير العياشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : الولاية (٣).

أقول : وسياق وقوع الآية عقيب آيات الولاية يؤيّد ذلك ، وهو شبيه بالجري.

وفي تفسير القمّي قال : قال عليه‌السلام : من فوقهم المطر ومن تحت أرجلهم النبات (٤).

قوله سبحانه : (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ)

في تفسير العيّاشي عن زيد بن أسلم ، عن أنس بن مالك ، قال : كان رسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقول : تفرّقت أمة موسى على إحدى وسبعين فرقة ، سبعون منها في النار وواحدة في الجنّة ، وتفرّقت أمة عيسى على اثنتين وسبعين فرقة ، إحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنّة ، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعا بملة واحدة في الجنة ، واثنتان وسبعون في النار ، قالوا : من هم يا رسول الله؟ قال : الجماعات الجماعات.

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٣٣٠ ، الحديث : ١٤٨.

(٢). تفسير القمي ١ : ١٧١.

(٣). الكافي ١ : ٤١٣ ، الحديث : ٦ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٣٠ ، الحديث : ١٤٩.

(٤). تفسير القمّي ١ : ١٧١.

٣١١

قال يعقوب بن يزيد : كان علي بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ ، إذا حدّث هذا الحديث عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ تلا فيه قرآنا : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) ـ إلى قوله ـ : (ساءَ ما يَعْمَلُونَ) وتلا أيضا : (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١) يعني : أمة محمد (٢).

*

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٨١.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٣٣١ ، الحديث : ١٥١.

٣١٢

[يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)]

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ـ إلى قوله ـ : (الْكافِرِينَ)

في الجوامع عن ابن عباس وجابر بن عبد الله : أنّ الله أمر نبيّه أن ينصب عليّا للناس ويخبرهم بولايته ، فتخوّف أن يقولوا : حامى (١) ابن عمّه ، وأن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه ، فنزلت هذه الآية ، فأخذ بيده يوم غدير خمّ وقال : «من كنت مولاه فعلي مولاه» (٢).

أقول : والروايات في هذا المعنى من الطريقين متجاوزة حدّ التواتر والكلمة من رسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ متواتر لفظي ، وهي وإن بلغت من الكثرة حدّا تستغنى عن التأيّد بالآية ، لكنّ لحن سياق القول في الآية يؤيد ذلك ، فليس المراد بقوله : (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) جميع ما أنزل إليه ، وإلّا كان قوله : (فَما بَلَّغْتَ

__________________

(١). في المصدر : «حابى»

(٢). جوامع الجامع ١ : ٣٤٢.

٣١٣

رِسالَتَهُ) تهديدا مستهجنا وغير مفيد لفائدة خطابية لاتحاد الشرط والجزاء ، فالمراد به بعض ما أنزل اليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، والمراد بالرسالة جميع الرسالة ، فهو من ما أنزل إليه بعضه ، وقد حاز من الأهميّة ما يعادل اهماله إهمال جميع ما أنزل إليه من ربّه ، فليس شيئا من الأحكام العمليّة ، إذ في المعارف العلميّة ممّا أنزل إليه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، ما لا يعادله شيء من العمليّة كالتوحيد والرسالة والمعاد ، فهو من المعارف العلميّة ، ويومي إليه قوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، فهو يدلّ على أنّه كان شيئا من الوحي كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يخاف إظهاره على الناس وتبليغه إليهم ، وقد ستره مدّة بعد نزوله خوفا من الناس ، وما كان يخاف على نفسه من الكفار والمشركين ، فقد كان الله تعالى يومئذ ـ أعني عند نزول السورة ـ أظهر دينه وأيّد رسوله وكسر سورة أعدائه وخنقهم بغيضهم ، فما كان يسعهم إلّا المطاوعة والقبول ، بل إنّما كان يخاف المسلمين ، وإنّما يصحّ الخوف منهم لا في الأمور الشاقّة من أحكام الدين لمشقّته ، فقد كانوا وطّنوا نفوسهم لكل شديدة وعظيمة ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (١) ، بل فيما يقبل الإتّهام ويسرع إليه الظن والريب في الدعوة النبويّة ، مما ينهدم به أساس الدين ، ويذهب به التبليغ هدرا ، كما ورد في سورة الأحزاب في قصة زيد : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) (٢).

ومع ذلك فهو سبحانه لم يذكر ما أنزل إليه على التعيين ولم يسمّه ، وفيه من التشديد على رسول الله ما لا يخفى ، وقد بدء الخطاب بقوله : (يا أَيُّهَا

__________________

(١). التوبة (٩) : ١١١.

(٢). الاحزاب (٣٣) : ٣٧.

٣١٤

الرَّسُولُ) ، فذكر الرسالة قطعا للعذر وختم بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) ، فأومى إلى أنّ سوء القصد برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ واقع ، لكنّه غير مؤثر ، وأنّ الحكم غير مقبول البتّة من جميع الناس وأن التمهيد والتدبير من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بترصّد موقع مناسب لتبليغه غير مؤثّر ، فافهم. وهذه الجملة بعينها يؤيّد ما ذكرناه من معنى قوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، إذ لو كان العصمة في نفس رسول الله فحسب لم يتمّ عموم التعليل بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) ، إذ قد هدى سبحانه كثيرا من الكافرين على أنبيائه ورسله فقتلوهم واحدا بعد واحد كيفما شاءوا وكما هووا وسيجيء نظير الكلام إن شاء الله في قوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) من سورة الشورى (١) ، وقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، من سورة الأحقاف (٢).

*

__________________

(١). الشورى (٤٢) : ٢٣.

(٢). الأحقاف (٤٦) : ٨.

٣١٥

[قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ

٣١٦

خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)]

٣١٧

قوله سبحانه : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)

في تفسير العيّاشي والبصائر عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في الآية : «هي ولاية أمير المؤمنين» (١).

أقول : ونحو الخطاب في صدر الآية يعطي كون الرواية من الجري ، وإن كان عطف قوله : (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) على التوراة والإنجيل وفيهما ما أنزل إلى أهل الكتاب من ربّهم ، وسبق آية الولاية يعطي التفسير.

ومثله ما في الكافي وتفسير العياشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قول الله عزوجل : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) قال : حيث كان النبي ، وفي تفسير العيّاشي : رسول الله ، بين أظهرهم (فَعَمُوا وَصَمُّوا) حيث قبض رسول الله ، (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) حيث قام أمير المؤمنين ، قال : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) إلى الساعة (٢).

قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى).

قيل : برفع «الصّابئون» بتقدير الخبر ، وقد مرّ الكلام على الآية في سورة البقرة.

قوله سبحانه : (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ)

في المعاني عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام ـ : «معناه كانا يتغوّطان» (٣).

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٣٤ ، الحديث : ١٥٦ ؛ بصائر الدرجات ٢ : ٩٤ ، الحديث : ٨.

(٢). الكافي ٨ : ١٧١ ، الحديث : ٢٣٩ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٣٤ ، الحديث : ١٥٧.

(٣). لم نجده في معاني الأخبار ولكنّه موجود في : عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ٢ : ٢٠٠ ، الحديث : ١ ؛ الخصال ٢ : ٣٩٦ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٣٥ ، الحديث : ١٥٩.

٣١٨

أقول : وروي مثله في تفسير العيّاشي (١) ، وهذا النحو من التعبير للتأدّب.

قوله سبحانه : (عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)

في الكافي وتفسيري العياشي والقمّي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «الخنازير على لسان داود ، والقردة على لسان عيسى» (٢).

قوله سبحانه : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)

في تفسير القمّي قال عليه‌السلام : «كانوا يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمور (٣) ، ويأتون النساء أيام حيضهنّ» (٤).

وفي ثواب الأعمال عن أمير المؤمنين : لمّا وقع التقصير في بني إسرائيل جعل الرجل منهم يرى أخاه في الذنب فينهاه فلا ينتهى ، فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وجليسه وشريبه حتى ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ونزل فيهم القرآن حيث يقول جل وعزّ : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٥).

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «أما إنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم ولا يجلسون مجالسهم ، ولكنّهم كانوا إذا لقوهم [ضحكوا في وجوههم و] آنسوا بهم» (٦).

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٣٥ ، الحديث : ١٥٩.

(٢). الكافي ٨ : ١٧١ ، الحديث ٢٤٠ ؛ تفسير العياشي ١ : ٣٣٥ ، الحديث ١٦٠ ؛ تفسير القمي ١ : ١٧٦.

(٣). في المصدر : «الخمر»

(٤). تفسير القمي ١ : ١٧٦.

(٥). ثواب الأعمال : ٢٦٢.

(٦). تفسير العياشي ١ : ٣٣٥ ، الحديث : ١٦١.

٣١٩

أقول : ولا منافاة بين الأحاديث لاشتمال الجامعة الفاسدة على أقسام بطبعها.

قوله سبحانه : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى)

في تفسير العياشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «اولئك كانوا قوما بين عيسى ومحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ينتظرون مجيء محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ» (١).

وفي تفسير القمي كان سبب نزولها أنّه لمّا اشتدّت قريش في أذى رسول الله وأصحابه الذين آمنوا بمكة قبل الهجرة ، فأمرهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أن يخرجوا إلى الحبشة ، وأمر جعفر بن أبي طالب أن يخرج معهم ، فخرج جعفر ومعه سبعون رجلا من المسلمين حتى ركبوا البحر ، فلمّا بلغ قريش خروجهم بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النجاشي ليردّهم إليهم ، وكان عمرو وعمارة متعاديين ، فقالت قريش : كيف نبعث رجلين متعاديين ، فبرئت بنو مخزوم من جناية عمارة ، وبرئت بنو سهم من جناية عمرو بن العاص ، فخرج عمارة وكان حسن الوجه شابا مترفا ، فأخرج عمرو بن العاص أهله معه ، فلما ركبوا السفينة شربوا الخمر ، فقال عمارة لعمرو بن العاص : قل لأهلك : تقبّلني ، فقال عمرو : أيجوز هذا؟ سبحان الله! [فسكت عمارة] ، فلمّا إنتشأ عمرو ـ وكان على صدر السفينة ـ ، فدفعه عمارة وألقاه في البحر فتشبّث عمرو بصدر السفينة وأدركوه فأخرجوه.

فوردوا على النجاشي وقد كانوا حملوا إليه هدايا فقبلها منهم ، فقال عمرو بن

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٣٥ ، الحديث : ١٦٢.

٣٢٠