تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (١) فهذا تفسير وجهي الجحود.

والوجه الثالث من الكفر : كفر النعم ، وذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٢) وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٣) وقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ). (٤)

والوجه الرابع من الكفر : ترك ما أمر الله ـ عزوجل ـ به ، وهو قول الله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ* ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (٥) فكفرهم بترك ما أمر الله ـ عزوجل ـ به ، ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده ، فقال : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). (٦)

والوجه الخامس من الكفر : كفر البراءة ، وذلك قول الله ـ عزوجل ـ يحكي قول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً

__________________

(١). البقرة (٢) : ٨٩.

(٢). النمل (٢٧) : ٤٠.

(٣). إبراهيم (١٤) : ٧.

(٤). البقرة (٢) : ١٥٢.

(٥). البقرة (٢) : ٨٤ ـ ٨٥.

(٦). البقرة (٢) : ٨٥.

٨١

حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) (١) يعني تبرّأنا منكم ، وقال يذكر إبليس وتبرّيه من أوليائه من الإنس يوم القيامة : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) (٢) وقال : (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (٣) يعني يتبرّأ بعضكم من بعض. (٤)

*

__________________

(١). الممتحنه (٦٠) : ٤.

(٢). إبراهيم (١٤) : ٢٢.

(٣). العنكبوت (٢٩) : ٢٥.

(٤). الكافي ٢ : ٣٨٩ ـ ٣٩١ ، الحديث : ١.

٨٢

[مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)]

قوله سبحانه : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) ـ إلى قوله : ـ (قَدِيرٌ)

بيّن سبحانه حال المنافقين ـ وهم آخر الفرق الثلاث الذين تعرّض لبيان حالهم ـ ومبدأه وما يعقبه ، بمثلين ضربهما بالنار والبرق ، فحالهم كحال من وقع في ظلمة

٨٣

لا ضياء عندها في نفسها ، وإنّما يستضاء فيها بسبب من أسباب الاستضاءة ، تدوم معه الاستضاءة مادام ، وتفتقد إذا زال ؛ فأمّا البرق فليس من شأنه الدوام والبقاء ، وأمّا النار فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم الذي تسبّبوا له ـ بمثل ريح أو مطر وأشباههما.

فهم بين حيرتين وعماءين : حيرة الظلمة التي هم فيها ، وحيرة بطلان السبب الذي تشبّثوا به للنجاة من حيرة الظلمة الاولى الأصليّة ، فحال هؤلاء المنافقين حال الكافرين كما مرّ ، فهم واقعون بين ضلال ذاتي وضلال آخر هو وبال أعمالهم الخبيثة ، حيث يزيدهم الله مرضا على مرض قلوبهم ، ويستهزئ بهم ، ويمدّهم في طغيانهم يعمهون. وسيجيء تتمّة الكلام في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي ...) (١) الآية.

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ـ إلى قوله : ـ (تَتَّقُونَ)

لمّا بيّن سبحانه حال الفرق الثلاث : المتّقين والكافرين والمنافقين ـ وأنّ المتّقين على هدى من ربّهم وهم المفلحون ، وأنّ الكافرين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، وأنّ المنافقين صمّ بكم عمي ومرضى يزيدهم الله مرضا ـ وذلك في تمام تسع عشرة آية ، فرّع تعالى على ذلك أن دعاهم إلى عبادته ، وأن يلتحقوا بالمتّقين ، دون الكافرين والمنافقين ، بهذه الآيات الخمسة إلى قوله : (خالِدُونَ). (٢)

وهذا السياق يعطي كون قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) متعلّقا بقوله : (اعْبُدُوا) دون قوله : (خَلَقَكُمْ) وإن كان المعنى صحيحا على التقديرين.

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٦.

(٢). البقرة (٢) : ٢٥.

٨٤

[وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)]

قوله سبحانه : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)

أمر تعجيزيّ لإبانة إعجاز القرآن ـ وأنّه كتاب منزل من عند الله لا ريب فيه ـ إعجازا باقيا بمرّ الدهور وتوالي القرون. وقد تكرّر في كلامه هذا التعجيز ، كقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١) وقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). (٢)

__________________

(١). الاسراء (١٧) : ٨٨.

(٢). هود (١١) : ١٣.

٨٥

وعلى هذا فالضمير في قوله تعالى : (مِثْلِهِ) عائد إلى قوله تعالى : (مِمَّا نَزَّلْنا) ويكون تعجيزا بالقرآن نفسه وغرابة اسلوبه وبيانه.

ويمكن أن يكون الضمير راجعا إلى قوله : (عَبْدِنا) فيكون تعجيزا بالقرآن ؛ من حيث إنّ الذي جاء به رجل امّي لم يتعلّم من معلّم ، ولم يتلقّ شيئا ـ من هذه المعارف العجيبة العالية ، والبيانات الغريبة المتقنة ـ من أحد من الناس ، فتكون الآية نظيرة قوله تعالى : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). (١)

وقد ورد التفسيران جميعا في بعض الأخبار.

وهذه الآية ـ كنظائرها ـ تعطي إعجاز أقصر سورة من القرآن ؛ كسورة الكوثر وسورة العصر ... وهكذا ؛ وما ربّما يحتمل من رجوع ضمير (مِثْلِهِ) إلى نفس السورة ـ كسورة البقرة ، أو سورة يونس مثلا ـ يأباه الفهم المستأنس بأساليب الكلام ؛ إذ من يرمي القرآن بالافتراء على الله إنّما يرميه جميعا ، ولا يخصّص قوله بسورة دون سورة ، فلا معنى لردّه بالتحدّي بسورة البقرة أو سورة يونس ؛ لرجوع المعنى حينئذ إلى مثل قولنا : «وإن كنتم في ريب من سورة الكوثر أو الإخلاص مثلا ، فأتوا بسورة مثل سورة يونس» وهو بيّن الاستهجان.

وأمّا الصّرف ـ الذي قال به بعضهم في إعجاز القرآن ـ فأمر يستفاد من هذه الآيات خلافه ، فتدبّر.

قوله سبحانه : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ)

سوق الآيات من أوّل السورة ، وإن كانت في المتّقين والكافرين والمنافقين

__________________

(١). يونس (١٠) : ١٦.

٨٦

ـ الطوائف الثلاث جميعا ـ لكنّه سبحانه حيث جمعهم طرّا في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (١) ودعاهم إلى عبادته وعبوديّته ، تقسّموا قهرا إلى مؤمن وغيره ؛ وهو الكافر ؛ فإنّ هذه الدعوة لا تحتمل ـ من حيث إجابتها وعدمها ـ غير الإيمان والكفر ، وأمّا النفاق فإنّما يتحقّق بضمّ الظاهر إلى الباطن واللسان إلى القلب ، فكان هناك من جمع بين اللسان والقلب ـ إيمانا أو كفرا ـ ومن اختلف لسانه وقلبه وهو المنافق ، فلما ذكرنا أسقط سبحانه المنافقين من الذكر ، وخصّه بالمؤمنين والكافرين ، ووضع الإيمان مكان التقوى.

ثمّ المراد بالحجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها ، ويشهد به قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ). (٢)

وقوله تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ)

كقوله : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ظاهر في أنّه ليس هناك إلّا ما هيّأوه هاهنا ، كما عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «كما تعيشون تموتون ، وكما تموتون تبعثون ...» (٣) الحديث.

وإن كان بين الفريقين فرق ؛ من حيث إنّ لأهل الجنّة مزيدا من ربّهم ؛ قال

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢١.

(٢). الأنبياء (٢١) : ٩٨.

(٣). عوالي اللئالي ٤ : ٧٢ ، الحديث : ٤٦ ؛ وفي روضة الواعظين : ٥٣ : «والله لتموتنّ كما تنامون ولتبعثنّ كما تستيقظون ...» ؛ وفي الإعتقادات للمفيد : ٦٤ : «... لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون» ؛ وفي الفصول المهمّة في أصول الأئمة ١ : ٣٤٢ ، الحديث : ٤٢٥ ؛ حلية الأبرار ١ : ٧١ ؛ الغدير ٧ : ٣٥٣ ؛ الكامل لإبن الأثير ٢ : ٢٤ ؛ مجمع الزوائد ٦ : ٢٠ ؛ المعجم الأوسط ٦ : ٣٦١ ؛ كنز العمّال ١٣ : ٦١٣ ؛ تاريخ مدينة الدمشق ٢٣ : ٤٤٠ ؛ نقل كما في الإعتقادات.

٨٧

سبحانه : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (١) وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله.

قوله سبحانه : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ)

قرينة الأزواج تعطي أنّ المراد بالطهارة هي الطهارة من أنواع الأقذار والمكاره ، التي تمنع من تمام الالتئام والالفة من أقذار ومكاره خلقيّة أو خلقيّة.

روى الصدوق ، قال : «سئل الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن الآية ، قال : الأزواج المطهّرة : اللاتي لا يحضن ولا يحدثن». (٢)

وفي بعض الأخبار تعميم الطهارة للبراءة عن جميع العيوب والمكاره. (٣)

*

__________________

(١). ق (٥٠) : ٣٥.

(٢). من لا يحضره الفقيه ١ : ٨٩ ، الحديث : ١٩٥.

(٣). تفسير العياشي ١ : ١٦٤ ، الحديث : ١١ ؛ تفسير الإمام : ٢٠٣ ، قال : «من أنواع الأقذار والمكاره مطهرات من الحيض والنفاس»

٨٨

[إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)]

قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ...)

هذه الآيات نظير الآيات في سورة الرعد : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١) (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (٢) وقد سمّى سبحانه هذا الضلال

__________________

(١). الرعد (١٣) : ١٩.

(٢). الرعد (١٣) : ٢٥.

٨٩

ـ المذكور هاهنا ـ عمى هنالك ، وهو يؤيّد ما مرّ ؛ أنّ من الضلال والعمى ما يلحق الإنسان عقيب أعماله السيّئة ، غير العمى الذاتي الذي له في نفسه ، ويشهد به قوله سبحانه : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) حيث جعل إضلاله في تلو الفسق ، لا متقدّما عليه.

و «الهداية والإضلال» كلمتان جامعتان لجميع أنواع الكرامة والخذلان التي ترد منه سبحانه لعباده السّعداء والأشقياء :

فإنّ ـ الله سبحانه ـ وصف في كلامه حال السعداء من عباده : بأنّه يحييهم حياة طيّبة ، ويؤيّدهم بروح الإيمان ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويجعل لهم نورا يمشون به ، وهو وليّهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وهو معهم يستجيب لهم إذا دعوه ، ويذكرهم إذا ذكروه ، والملائكة تتنزّل عليهم بالبشرى والسّلام ... إلى غير ذلك.

ووصف حال الأشقياء من عباده : بأنّه يضلّهم ، ويخرجهم من النور إلى الظلمات ، ويختم على سمعهم وعلى قلوبهم وعلى أبصارهم غشاوة ، ويطمس وجوههم على أدبارهم ، ويجعل في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ، ويجعل من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا فيغشيهم فهم لا يبصرون ، ويقيّض لهم شياطين قرناء يضلّونهم عن السبيل ، ويحسبون أنّهم مهتدون ، ويزيّنون لهم أعمالهم ، وهم أولياؤهم ، ويستدرجهم الله من حيث لا يشعرون ، ويملي لهم إنّ كيده متين ، ويمكر بهم ، ويمدّهم في طغيانهم يعمهون.

فهذه نبذة ممّا ذكره سبحانه في وصف حال الفريقين ، وظاهرها أنّ للإنسان في الدنيا ـ وراء الحياة التي يعيش بها فيها ـ حياة اخرى سعيدة أو شقيّة ، ذات اصول وأعراق ، يعيش بها فيها ، وسيطّلع ويقف عليها عند انقطاع الأسباب

٩٠

وارتفاع الحجاب.

ويظهر من كلامه سبحانه أيضا : أنّ للإنسان حياة اخرى سابقة على حياته الدنيا ، يقتفي أثرها نحوا من الاقتفاء في حياته الدنيا ، كما يحذو حذو حياته الدنيا فيما يتلوه من الحياة ، وسيجيء بيانه في موضع يليق به ، إن شاء الله العزيز.

فالإنسان ـ وهو في الدنيا ـ واقع بين حياتين : سابقة ولا حقة ، غير السبق واللحوق الزمانيّين ، فهذا هو الذي يقضي به ظاهر القرآن.

لكنّ الجمهور من المفسّرين حملوا القسم الثاني من الآيات ـ وهي الواصفة للحياة السابقة ـ على نحو من لسان الحال وإقتضاء الإستعداد ، والقسم الأوّل منها ـ وهي الواصفة للحياة اللاحقة ـ على ضروب المجاز والاستعارة.

إلّا أنّ ظواهر كثيرة من الآيات تدفع ذلك ، منها : الآيات الدالة على أنّ الجزاء يوم الجزاء بنفس الأعمال وعينها ؛ كقوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ،) (١) وقوله تعالى : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ، (٢) وقوله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ* سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) ، (٣) وقوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ،) (٤) ومثل قوله تعالى : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ، (٥) وقوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (٦) ... إلى غير ذلك من الآيات.

__________________

(١). التحريم (٦٦) : ٧.

(٢). آل عمران (٣) : ١٦١.

(٣). العلق (٩٦) : ١٧ ـ ١٨.

(٤). آل عمران (٣) : ٣٠.

(٥). البقرة (٢) : ١٧٤.

(٦). النساء (٤) : ١٠.

٩١

ولعمري لو لم يكن في كتاب الله سبحانه إلّا قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (١) لكان فيه كفاية ؛ إذ الغفلة لا تكون إلّا عن معلوم حاضر ، وكشف الغطاء لا يكون إلّا عن مغطّى موجود.

ولعمري إنّك لو سألت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز ، ما أجابتك إلّا بنفس هذه البيانات والأوصاف التي أتى بها سبحانه بلسان رسوله. وأمّا البيان البرهاني لا حتفاف هذه الحياة الدنيا بحياتين اخريين ، فموضعه غير هذا الموضع.

وإذ قد تبيّن أنّ هذه المعاني : من الإضلال والمكر والاستدراج ونحوها ، وما يقابلها في جانب السعادة ، إنّما تلحق بالموصوفين بها عقيب أعمالهم الطالحة أو الصالحة بحسب ما يسانخها ، سقط الاستشكال بلزوم الجبر في ذلك رأسا.

وفي العيون عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ في قوله سبحانه : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (٢) قال عليه‌السلام : «إنّ الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ، لكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف ، وخلّى بينهم وبين اختيارهم». (٣)

وفيه عنه عليه‌السلام في قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ...) (٤) الآية ، قال : «الختم هو الطبع على قلوب الكفّار ، عقوبة على كفرهم ، كما قال الله ـ عزوجل ـ : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٥)». (٦)

__________________

(١). ق (٥٠) : ٢٢.

(٢). البقرة (٢) : ١٧.

(٣). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ١٢٣ ، الحديث : ١٦.

(٤). البقرة (٢) : ٧.

(٥). النساء (٤) : ١٥٥.

٩٢

وفي مجمع البيان قال : «روي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : إنّما ضرب الله المثل بالبعوضة ؛ لأنّ البعوضة ـ على صغر حجمها ـ خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل ـ مع كبره ـ وزيادة عضوين آخرين ، فأراد الله أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطف خلقه وعجيب صنعته». (٧)

قال الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «وهذا القول من الله ردّ على من زعم أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ يضلّ العباد ، ثمّ يعذّبهم على ضلالتهم ، فقال الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها)». (٨)

قوله سبحانه : (إِلَّا الْفاسِقِينَ)

«الفسق» من الكلمات التي أبدع القرآن استعمالها في معناها المعروف ، مأخوذ من فسقت التمرة : إذا خرجت عن قشرها وجلدها ؛ ولذلك فسّر بعده بقوله : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ...) الآية ، والنقض إنّما يكون عن إبرام.

ووصف الفاسقين أيضا في آخر الآية بالخاسرين والإنسان إنّما يخسر فيما ملكه ، قال تعالى : (إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ). (٩)

وإيّاك أن تتلقّى هذه الأوصاف التي أثبتها سبحانه في كتابه للسعداء من عباده أو الأشقياء ـ مثل المقرّبين والمخلصين والمخبتين والصالحين والمطهّرين وغيرها ، ومثل الفاسقين والظالمين والخاسرين والغاوين والضالّين

__________________

. عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ١٢٣ ، الحديث : ١٦.

(٧). مجمع البيان ١ : ١٣٥.

(٨). تفسير القمي ١ : ٣٤ ؛ تفسير نور الثقلين ١ : ٤٥ ، الحديث : ٦٣ ؛ بحار الأنوار ٥ : ٧ ، الحديث : ٦.

(٩). الزمر (٣٩) : ١٥.

٩٣

وأمثالها ـ أوصافا مبتذلة ، أو مفيدة لمجرّد تزيين اللفظ ، فتضطرب بذلك قريحتك في فهم كلامه سبحانه ؛ فتعطف الجميع على واد واحد ، وتأخذها هجاءا عامّيا وحديثا ساذجا سوقيّا! بل هي أوصاف كاشفة عن حقائق روحيّة ومقامات معنويّة ، في صراطي السعادة والشقاوة ، كلّ واحد منها في نفسه مبدأ لآثار خاصّة ، ومنشأ لأحكام مخصوصة معيّنة ، كما أنّ مراتب السّنّ وخصوصيّات القوى وأوضاع الخلقة ، كلّ منها منشأ لأحكام وآثار مخصوصة لا يمكننا أن نطلب واحدا منها من غير منشئه ومحتده ، ولئن تدبّرت في مواردها من كلامه سبحانه وأمعنت فيها ، وجدت صدق ما ادّعيناه.

ويتفرّع عليه : أنّ «اللام» في كثير من موارد الأوصاف للعهد.

قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ ...)

هذه الأوصاف الثلاثة جامعة لجميع موارد الفسق ، كما أنّ مقابلاتها لمقابلاته ، وقد تكرّر ذكر معانيها في كلامه تعالى في موارد ، وذلك أنّ للإنسان رابطة في نفسه مع ربّه ، ورابطة قريبة مع أرحامه وأقربائه ، ورابطة مع جميع الأرض ومن فيها ، فإذا أبقاها على ما تقضي به الفطرة من إبقائها وتحكيمها ، كان جاريا على ما هداه الله إليه بفطرته وبخلقته ، وإنّما يتذكّر أولو الألباب ، وإذا قطعها كان فاسقا خاسرا.

وفي بعض الأخبار : أنّ الآية في حقّ أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ وولايته ، (١) وهو إن صحّ فمن باب الجري.

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٣٥ ؛ تفسير الإمام : ٢٠٦ ، الحديث : ٩٦ ؛ بحار الأنوار ٢٤ : ٣٩٢ ؛ ٩٠ : ١٤.

٩٤

قوله سبحانه : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ...)

رجوع وتفريع ثانيا إلى ما في صدر السورة ؛ فإنّه بعد ما فرّع عليه قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ...) (١) الآية ببيان ملخّص في ضمن خمس آيات ، عاد ثانيا إلى بيان أطنب منه في ضمن اثنتي عشرة آية ، يبيّن فيه حال الإنسان وحياته وموته ، وأنّه خلق له ما في الأرض جميعا والسماوات ، وجعله خليفته ، وأسجد له ملائكته ، وأسكن أباه الجنّة ، ثمّ فتح له باب التوبة ، وأكرمه بعبادته وهدايته.

*

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢١.

٩٥

[وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)]

قوله سبحانه : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ...)

الآيات تنبئ عن غاية إنزال الإنسان إلى الدنيا ، وحقيقة الخلافة في الأرض.

قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) ـ إلى قوله : ـ (وَنُقَدِّسُ لَكَ) مشعر بأنّهم إنّما فهموا وقوع هذه المعاصي ـ التي عدّوها ـ من قوله سبحانه : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) حيث إنّ الوجود الأرضيّ بما أنّه مادّي مركّب من القوى الشهويّة والغضبيّة ، والدار دار التزاحم ، محدودة الجهات ، وافرة المزاحمات ، مركّباتها في معرض الانحلال ، وانتظاماتها

٩٦

وإصلاحاتها في مظنّة الفساد ومصبّ البطلان ، لا تتمّ الحياة فيها إلّا بالحياة النوعيّة ، ولا يكمل البقاء فيها إلّا بالاجتماع والتعاون ، فلا يخلو من فساد وسفك دم ، ففهموا من هناك أنّ الخلافة المرادة لا تقع في الأرض إلّا بكثرة الأفراد ، ونظام اجتماعيّ بينهم يفضي بالأخرة إلى الفساد.

والخلافة ـ وهي قيام شيء مقام آخر ـ لا تتمّ إلّا بكون الخليفة حاكيا بوجوده لوجود المستخلف ، مبديا لآثاره الوجوديّة وأحكامه وتدابيره ، وهو سبحانه بوجوده مسمّى بالأسماء الحسنى ، متّصف بأوصاف الكمال والجمال والجلال ، منزّه في صفاته عن النقص ، وفي أفعاله عن الشرّ والفساد ، جلّت عظمته. والخليفة الأرضي ـ بما هو كذلك ـ لا يليق بالاستخلاف ، ولا يحكي ـ بوجوده المشوب بكلّ نقص وشين ـ الوجود المنزّه المقدّس عن كلّ النقائص والأعدام.

وهذا من الملائكة في مقام تعرّف ما جهلوه ، واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة ، وليس بالاعتراض ، والدليل عليه : قولهم فيما حكاه تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) حيث صدّر ب : «إنّ» التعليليّة المشعرة بتسلّم مدخولها ، فافهم.

فملخّص قولهم يعود إلى أنّ جعل الخلافة إنّما هو لأجل أن يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده ، والأرضيّة لا تدعه يفعل ذلك ، بل تجرّه إلى الفساد والشرّ ، والغاية من هذا الجعل ـ وهي التسبيح والتقديس بالمعنى الذي مرّ من الحكاية ـ موجودة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك ، فنحن خلفاؤك ، أو فاجعلنا خلفاء لك ، فأيّ فائدة في جعل هذه الخلافة الأرضيّة؟!

فردّ سبحانه ذلك عليهم بقوله : (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ* وَعَلَّمَ آدَمَ

٩٧

الْأَسْماءَ ...) الآية وهذا السياق يفيد أنّه سبحانه لم ينف عن خليفة الأرض الفساد ، ولا عن الملائكة دعواهم ، وقرّرهم على ما ادّعوا ، بل إنّما أبدى شيئا آخر ؛ وهو أنّ هناك أمرا لا يقدر الملائكة على تحمّله ، ويقدر عليه الخليفة الأرضي ، فهو يحكي عنه سبحانه أمرا ويتحمّل سرّا ليس في الملائكة.

وقد بدّل سبحانه قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ثانيا بقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

وهذا الغيب هو الأسماء ، دون علم آدم بها ؛ فالملائكة ما كانت تعلم أنّ هناك أسماءا لا يعلمونها ، لا أنّهم كانوا يعلمون أنّ هناك أسماءا غير معلومة لكن ما كانوا يعلمون من آدم أنّه يعلمها ؛ وإلّا لما كان لسؤاله تعالى إيّاهم عن الأسماء وجه ، بل كان حقّ المقام أن يقتصر على قوله : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ ...) إلى آخره ، حتّى يتبيّن لهم أنّ آدم يعلمها ، لا أن يسأل الملائكة عن ذلك ؛ فإنّ هذا السياق يعطي أنّهم ادّعوا الخلافة وأذعنوا انتفاءها عن آدم.

وكان اللازم في الخلافة أن يعلم الخليفة بالأسماء ، فسألهم عن الأسماء فجهلوها ، وعلمها آدم ـ عليه‌السلام ـ فثبت لياقته لها وانتفاؤها عنهم ، وقد ذيّل سبحانه السؤال بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وهو يعطي أنّهم ادّعوا شيئا كان لازمه العلم بالأسماء لذلك.

وقوله سبحانه : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ ...)

مشعر بأنّ هذه الأسماء ـ أو أنّ مسمّياتها ـ كانوا موجودات أحياءا عقلاء محجوبين تحت حجاب الغيب ، وأنّ العلم بأسمائهم غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الأشياء ؛ وإلّا لكانت الملائكة ـ بإنباء آدم إيّاهم بها ـ عالمين بها ،

٩٨

صائرين مثل آدم مساوين معه ، ولم يكن في ذلك إكرام لآدم ؛ حيث علّمه الله سبحانه أسماءا ولم يعلّمهم ، ولو علّمهم إيّاها كانوا مثل آدم أو أشرف منه ، ولم يكن في ذلك إقناع لهم وإلزام لحجّتهم.

وأيّ حجّة تتمّ في أن يعلّم الله رجلا علم اللغة ، ثمّ يباهي به ويتمّ الحجّة على ملائكة مكرمين ـ لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ـ بأنّ هذا قابل لخلافتي دونكم ، ويقول تعالى لهم : أنبئوني باللغات ـ التي سوف يضعها الآدميّون بينهم للإفهام والتفهيم ـ إن كنتم صادقين في دعواكم أو مسألتكم خلافتي؟!

وأضف إلى ذلك : أنّ كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب ، والملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلّم ، وإنّما تتلقّى المقاصد من غير واسطة.

وبالجملة : فما حصل للملائكة من العلم ـ بإنباء آدم لهم بالأسماء ـ من غير حقيقة العلم التي حصلت لآدم بأسمائهم بتعليمه سبحانه ، فأحد الأمرين كان ممكنا في حقّ الملائكة وفي مقدرتهم دون الآخر ، وآدم ـ عليه‌السلام ـ إنّما استحقّ الخلافة الإلهيّة بالعلم بالأسماء دون إنبائها ؛ إذ الملائكة إنّما قالوا في الجواب على ما حكاه سبحانه : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) فنفوا العلم دون القدرة على الإنباء ، فافهم.

وظهر ممّا مرّ : أنّ العلم بأسماء هؤلاء المسمّيات يجب أن يكون علما يكشف عن حقائقهم وشؤونهم وخصوصيّات وجودهم ، دون مجرّد ما يتكفّله الوضع اللغوي عندنا من الإشارة إلى مشار إليه معيّن ، مثل ما يكشف معنى قولك : «أنا» عن ذاتك ، فأنت عند مشاهدتك ذاتك تشاهد معنى «أنا» ، وهو إسم من أسماء ذاتك ، فهذا هو الحريّ أن يكون مرادا بالاسم أو داخلا في المراد ، ويكون معه المسمّى مستورا تحت ستر الغيب محفوظا عند الله ـ سبحانه ـ حيث لا وضع ولا

٩٩

صوت ولا لغة.

فإذا الأسماء والمسمّيات كانوا موجودين بوجودات عينيّة ، وكان العلم المذكور بها أوّلا : ميسورا ممكنا لموجود أرضيّ لا ملك سماويّ وثانيا : دخيلا في الخلافة الإلهيّة.

غير أنّ الظاهر من سياق الآيات : أنّ هؤلاء الملائكة كانوا يعرفون بعض هؤلاء المسمّيات بأسمائها ؛ حيث يقول سبحانه : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) بلفظة الجمع المحلّى باللام و «كلّ» ، ويحكي عن الملائكة أنّهم قالوا : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) فجاؤوا بالاستثناء ، فلو لا علمهم ببعضها كان الاستثناء مستغنى عنه زائدا في الكلام ، وحينئذ فلو لا إرادة الاستغراق من الأسماء ، كان اللائق بالمقام أن يقولوا : «لا علم لنا منها إلّا بما علّمتنا» أو ما يؤدّي هذا المعنى.

ومن هنا تستشعر ـ إن كنت ذا لبّ ـ أنّ معلومات الملائكة كانت كلّها أسماءا ، أي مسمّيات أسماء ، كما في علومنا ومعلوماتنا ، ومن هنا تعرف أنّ «اللام» في «الأسماء» ليست للعهد.

فإذا هذه الأسماء ليست أسماءا عينيّة من غير جنس الأسماء التي للملائكة والإنسان ، بل كلّ اسم يقع لمسمّى ما ، لكن مسمّيات هذه الأسماء كانت امورا غيبيّة ـ تحت أستار الغيب ـ هم غيب السماوات والأرض ، فحينئذ ينطبق بالضرورة على ما اشير إليه في قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١) حيث أخبر سبحانه : أنّ كلّ ما يقع عليه اسم «الشيء» فله عنده تعالى خزائن مخزونة ، باقية عنده ، غير نافدة ، ولا مقدّرة بقدر ،

__________________

(١). الحجر (١٥) : ٢١.

١٠٠