تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

أقول : وهو المستفاد من كون «الصبغة» بناء النوع من الصبغ المصدر ، وإضافته تفيد التحقّق على ما صرّح به عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ، فكأنّ المعنى : أنّ هذا الإيمان والإسلام نوع صبغنا الله ، به وإنّما صبغهم في الميثاق ، وأمّا في هذه الدنيا فالاختيار يضيف ذلك إلى أنفسهم ، فيرجع الميثاق قبل الدنيا ، فافهم.

وسيجيء تمام الكلام في معنى الولاية وفي ميثاق الذرّ.

فإن قلت : أيّ مانع من إسناد صبغة الإيمان والإسلام إلى الله تعالى ؛ من حيث استناده إلى توفيقه ، وإن كان ذلك فعلا إختياريّا لنا ، أو استنادا إلى قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) (١)؟

قلت : مرجع الوجهين واحد ، ومرجعه إلى القول بالذرّ ، وسيجيء بيانه.

*

__________________

(١). النساء (٤) : ٧٩.

٢٤١

[سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)]

قوله سبحانه : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ ...)

تمهيد ثانيا لما سيأمر [به] سبحانه من اتّخاذ الكعبة قبلة ، وتعليم لما يجاب به عن المعترضين بالتحوّل من بيت المقدس إلى الكعبة ، بعد ما مهّد أوّلا من قضايا إبراهيم وإسماعيل وبناء الكعبة ، وتطهيرها.

وروي في المجمع عن القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «تحوّلت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبيّ بمكّة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس ، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر ، قال : ثمّ وجّهه الله إلى الكعبة وذلك أنّ اليهود كانوا يعيّرون على رسول الله ، يقولون : أنت تابع لنا تصلّي إلى قبلتنا ، فاغتمّ رسول الله من ذلك غمّا شديدا ، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ، ينتظر من الله في ذلك أمرا.

فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم ، وقد صلّى من الظهر ركعتين ، فنزل جبرئيل فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة ، وأنزل عليه :

٢٤٢

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (١) وكان قد صلّى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ، فقالت اليهود والسفهاء : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) (٢)؟!

*

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٤٤.

(٢). مجمع البيان ١ : ٤١٤.

٢٤٣

[وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)]

قوله سبحانه : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ...)

أي : مثل الهداية إلى صراط مستقيم جعلناكم ... إلى آخره. وقيل : ومثل هذا الجعل العجيب جعلناكم امة وسطا وهو كما ترى.

وقد استفاضت الروايات عن أئمّة أهل البيت (١) أنّهم هم المخاطبون به ، المكرمون بالشّهادة ، والرسول شهيد عليهم ، فهو ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ شهيد الشهداء ويشهد به : تفريع الشهادة على كونهم وسطا ، وظاهره الوساطة والحيلولة بين شيئين.

وروت العامّة أنّ الامم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ، فيطالب الله

__________________

(١). الكافي ١ : ١٩٠ الحديث : ٢ ؛ تأويل الآيات : ٨٦ ؛ إرشاد القلوب ٢ : ٢٩٧ ؛ تفسير القمي ١ : ٦٢ ؛ بصائر الدرجات : ٦٣.

٢٤٤

الأنبياء بالبيّنة على أنّهم قد بلّغوا ـ وهو أعلم ـ فيؤتى بأمّة محمّد فيشهدون ، فتقول الامم : من أين عرفتم؟ فيقولون : عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيّه الصادق ، فيؤتى بمحمّد ويسأل عن حال امّته ، فيزكّيهم ويشهد بعد التهم ، وذلك قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١). (٢)

أقول : وما يشتمل عليه هذا الخبر ـ من تزكية رسول الله وتعديله للامّة ـ لعلّه يراد به بعض الامّة ، على ما فيه من التعديل للشهادة النظريّة ، وإلّا فهو مدفوع بالضرورة الثابتة من الكتاب والسنّة ، وكيف يصحّح أو يصوّب هذه الفجائع التي لا تكاد توجد أمثالها بين امّة من الامم الماضية؟! وكيف يعدّل ويزكّي فراعنة هذه الامّة ونماردتها وطواغيتها؟! فهل هو إلّا طعن في الدين ، ولعب بحقائق هذه الملّة البيضاء.

وفي هذا المعنى ما في المناقب عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «ولا يكون شهداء على الناس إلّا الأئمّة والرسل ، وأمّا الامّة فغير (٣) جائز أن يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته على حزمة بقل». (٤)

وما روى العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية : فإن ظننت أنّ الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحّدين ، أفترى أنّ من لا تجوّز شهادته في الدنيا على صاع من تمر ، يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة

__________________

(١). النساء (٤) : ٤١.

(٢). راجع : الميزان في تفسير القرآن ١ : ٣٣١.

(٣). في المصدر : «فانه غير»

(٤). المناقب ٤ : ١٧٩.

٢٤٥

جميع الامم الماضية؟! كلّا ، لم يعن الله مثل هذا من خلقه ، يعني الامّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ،) (١) وهم الامّة الوسطى ، وهم خير امّة اخرجت للناس». (٢)

أقول : وأمّا ما رواه في قرب الإسناد عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن آبائه ، عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «ممّا أعطى الله امّتي وفضّلهم على سائر الامم ، اعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلّا نبيّ ، ـ إلى أن قال ـ : وكان إذا بعث نبيّا جعله شهيدا على قومه ، وإنّ الله تبارك وتعالى جعل امّتى شهيدا على الخلق ؛ حيث يقول : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ...)» (٣) الحديث. (٤)

فهم الامّة التي سأل إبراهيم عصمتهم من الشرك ، فإنّما الحديث وارد في قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، (٥) وقد مرّ معنى الامّة في الآية في دعوة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

على أنّا نقول : إنّ الشهادة على الناس مطلقة في الآية ، وقد تكرّر ذكرها في كلامه سبحانه ، قال : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٦) وقال : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ

__________________

(١). آل عمران (٣) : ١١٠.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٦٣ ، الحديث : ١١٤.

(٣). الحج (٢٢) : ٧٨.

(٤). قرب الاسناد : ٤١.

(٥). الحج (٢٢) : ٧٨.

(٦). النساء (٤) : ٤١.

٢٤٦

يُسْتَعْتَبُونَ) (١) وقال : (وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ). (٢)

وظاهر الجميع ـ على إطلاقها ـ هو الشهادة على الأعمال وعلى تبليغ الرّسل أيضا ، كما يعطيه قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٣) والشهادة وإن كانت في الآخرة لكنّ تحمّلها في الدنيا ، على ما يعطيه قوله حكاية عن عيسى ـ عليه‌السلام ـ : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (٤) وقال : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً). (٥)

ومن الواضح أنّ الإحساس الموجود العادي فينا لا يتحمّل إلّا الصورة فقط ، وذلك من شيء موجود حاضر عند الحسّ ، وأمّا حقائق الأعمال والمعاني النفسانيّة من الكفر والإيمان والفوز والخسران ـ وبالجملة : كلّ خفيّ عن الظاهر ومستبطن عند الإنسان ، وهي التي كسبت القلوب ، وعليها يدور حساب ربّ العالمين يوم تبلى السرائر ، كما قال : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (٦) ـ فهي ممّا ليس في وسع الإنسان الإحاطة بها وإحصاؤها وتشخيصها من الحاضرين فضلا عن الغائبين ، إلّا رجل يتولّى الله أمره من أوليائه ، ويكشف له ذلك بيده ، وأنّى لهؤلاء الأجلاف الجافية والفراعنة الطاغية من الامّة ذلك؟! وقد عرفت في سورة الفاتحة أنّ أقلّ وصف يتّصف به الشهداء أنّهم تحت ولاية الله ونعمته وأصحاب الصراط المستقيم ، فارجع.

__________________

(١). النحل (١٦) : ٨٤.

(٢). الزمر (٣٩) : ٦٩.

(٣). الأعراف (٧) : ٦.

(٤). المائدة (٥) : ١١٧.

(٥). النساء (٤) : ١٥٩.

(٦). البقرة (٢) : ٢٢٥.

٢٤٧

فإن قلت : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (١) يدلّ على كون عامّة المؤمنين من الشهداء.

قلت : قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يدلّ على الإلحاق وأنّه سيلحقهم بهم يوم القيامة ، ولم ينالوه في الدنيا ، وسيجيء نظير ذلك إن شاء الله في قوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) (٢) وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ). (٣)

على أنّ الكلام يوم القيامة غير مأذون فيه إلّا لآحاد من الناس يرضى الله لهم ذلك ، قال تعالى : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٤) وسيجيء الكلام فيه أيضا.

فقد تحصّل من جميع ما مرّ : أنّ الشّهادة غير مبذولة لجميع الأمّة.

وروى الصفّار عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «نحن الامّة الوسط ، ونحن شهداء الله على خلقه». (٥)

أقول : والأخبار بهذا اللسان كثيرة ، رواها الكليني والعيّاشي والقمّي والصفّار وغيرهم من رواة الخاصّة. (٦)

__________________

(١). الحديد (٥٧) : ١٩.

(٢). الأنفال (٨) : ٣٧.

(٣). الطور (٥٣) : ٢١.

(٤). النبأ (٧٨) : ٣٨.

(٥). بصائر الدرجات : ٨٢ ، الحديث : ٣.

(٦). الكافي ١ : ١٩١ ، الحديث : ٤ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٦٢ ، الحديث : ١١٠ ؛ تفسير القمي ١ : ٦٢ ؛ بصائر الدرجات : ٦٣ ، الحديث : ١١.

٢٤٨

وروى العيّاشي عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في حديث يصف فيه يوم القيامة ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق ، فلا يتكلّم أحد إلّا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، فيقام [الرسول] فيسأل ، فذلك قوله لمحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١) وهو ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الشهيد على الشهداء ، والشهداء هم الرسل». (٢)

واعلم : أنّ الشهادة على الأعمال ـ على ما يفيده كلامه تعالى ـ لا تختصّ بالشهداء من الناس ، بل كلّ ما له تعلّق ما بالعمل في هذه الدنيا ـ من ملك وزمان ومكان ودين وكتاب وجوارح وحواسّ وقلب ، فله فيه الشهادة.

ويستفاد من الجميع : أنّ الذي يحضر منها يوم القيامة هو الذي في هذه النشأة الدنيويّة ، وأنّ لها نحوا من الحياة الشاعرة ، بها تتحمّل خصوصيّات الأعمال وترتسم هي فيها ، وهي بواطنها ، وليس من اللازم أن تكون نسبة الحياة إلى الحيّ في كلّ شيء هي النسبة التي بين حياة نوع الحيوان وجسده ؛ حتّى يدفع بالضرورة ، فلا دليل على انحصار أنحاء الحياة في نحو واحد ، وهو ظاهر. وأمّا تفصيل القول في كلّ واحد واحد منها فمؤكول إلى محلّه.

قوله سبحانه : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها ...)

روي في التهذيب عن أبي بصير عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ ، قال : «فقلت له : أمره أن يصلّي إلى بيت المقدس؟ قال : نعم ، ألا ترى أنّ الله تبارك وتعالى يقول :

__________________

(١). النساء (٤) : ٤١.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٢٤٢ ، الحديث : ١٣٢.

٢٤٩

(وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ)»؟!. (١)

أقول : مقتضى الحديث أن يكون قوله : (كُنْتَ عَلَيْها) وصفا للقبلة ، والمراد بيت المقدس ، وأنّها كانت قبلة مجعولة قبل الكعبة ، وهو الذي يؤيّده سياق الآيات ، فانّ التصريح بنسخ القبلة وجعلها الكعبة يتكفّلهما الآية اللاحقة : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٢) وهو ظاهر.

ومن هنا يتأيّد ما ورد في بعض الأخبار عن العسكرى ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ هوى أهل مكّة كان في الكعبة ، فأراد الله أن يبيّن متّبع محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من مخالفه ؛ باتّباع القبلة التي كرهها ومحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يأمر بها ، ولمّا كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس أمرهم بمخالفتها والتوجّه إلى الكعبة ، ليبيّن من يتّبع (٣) محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما يكرهه فهو مصدقه وموافقه ...» ، (٤) الحديث.

وبه يتّضح فساد ما قيل : إنّ قوله : (الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) مفعول ثان ل : (جَعَلْنَا) والمراد : وما جعلنا القبلة الكعبة التي كنت عليها قبل بيت المقدس ، واستدلّ عليه بقوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) ووجه الفساد ظاهر.

وروى العيّاشي عن الزبيري عن أبى عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «قلت له :

__________________

(١). تهذيب الأحكام ٢ : ٤٣ ، الحديث : ٦.

(٢). البقرة (٢) : ١٤٤.

(٣). في المصدر : «يوافق»

(٤). تفسير الإمام العسكرى : ٤٩٥ ؛ الاحتجاج ١ : ٤٢.

٢٥٠

ألا تخبرني عن الإيمان : أقول هو وعمل ، أم قول بلا عمل؟ فقال ـ عليه‌السلام ـ : الإيمان عمل كلّه ، والقول بعض ذلك العمل ، مفروض من الله ، مبيّن في كتابه ، واضح نوره ، ثابت (١) حجّته ، يشهد له بها الكتاب ويدعو إليه.

ولمّا أن صرف (٢) الله نبيّه إلى الكعبة عن بيت المقدس ، قال المسلمون للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : أرأيت صلاتنا التي كنّا نصلّي إلى بيت المقدس ، ما حالنا فيها ، وما حال من مضى من أمواتنا وهم كانوا (٣) يصلّون الى بيت المقدس؟! فأنزل الله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ، فسمّى الصلاة إيمانا ، فمن اتّقى الله حافظا لجوارحه ـ موفّيا كلّ جارحة من جوارحه بما فرض الله عليه ـ لقى الله مستكملا لإيمانه من أهل الجنّة ، ومن خان في شيء منها ، أو تعدّى ما أمر الله فيها ، لقي الله ناقص الإيمان». (٤)

أقول : ورواه الكليني ملخّصا. (٥)

*

__________________

(١). في المصدر : «ثابتة»

(٢). في المصدر : «أصرف»

(٣). في المصدر : ـ «كانوا»

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٦٣ ، الحديث : ١١٥.

(٥). الكافي ٢ : ٣٤ ، الحديث : ١ (اختصارا).

٢٥١

[قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)]

قوله سبحانه : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ ...)

في الفقيه : «إنّ النبي صلّى (١) إلى بيت المقدس بعد النبوّة ثلاثة عشر (٢) سنة بمكّة ، وتسعة عشر شهرا بالمدينة ، ثمّ عيّره (٣) اليهود ، فقالوا : إنّك تابع لقبلتنا ، فاغتمّ لذلك غمّا شديدا ، فلمّا كان في بعض الليل خرج ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ

__________________

(١). في المصدر : «صلّى رسول الله»

(٢). في المصدر : «ثلاث عشرة»

(٣). في المصدر : «عيّرته»

٢٥٢

يقلّب وجهه في آفاق السماء.

فلمّا أصبح صلّى الغداة ، فلمّا صلّى من الظهر ركعتين ، جاء جبرئيل ـ عليه‌السلام ـ ، فقال له : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...)، ثمّ أخذ بيد النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فحوّل وجهه إلى الكعبة ، وحوّل من خلفه وجوههم حتّى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال ، فكان أوّل صلاته إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة.

وبلغ الخبر مسجدا بالمدينة ـ وقد صلّى أهله من العصر ركعتين ـ فحوّلوا نحو القبلة ، فكان (١) أوّل صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة ، فسمّى ذلك المسجد مسجد القبلتين». (٢)

أقول : وروى القمّي نحوا من ذلك ، (٣) وأنّ النبيّ كان في مسجد بني سالم ، وفي تفسيره : أنّ هذه الآية مقدّمة على آية (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ ...) (٤) إلى آخره.

أقول : لو كان المراد أنّ الآية السابقة متأخّرة زمانا من حيث المخبر به ، فهو كذلك ، وإلّا فظاهر الآية يدفعه كما مرّ توضيحه.

قوله سبحانه : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...)

روى العيّاشي في تفسيره عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «استقبل القبلة ، ولا تقلب

__________________

(١). في المصدر : «الكعبة فكانت»

(٢). من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٧٤ ، الحديث : ٨٤٥.

(٣). تفسير القمي ١ : ٦٣.

(٤). البقرة (٢) : ١٤٢.

٢٥٣

وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك ؛ فإنّ الله يقول لنبيّه في الفريضة : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)». (١)

أقول : والأخبار في نزول الآية في الفريضة كثيرة. (٢)

*

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٦٤ ، الحديث : ١١٦.

(٢). الكافي ٣ : ٣٠٠ ، الحديث : ٦ ؛ تهذيب الأحكام ٢ : ٤٢ ؛ من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٧٥.

٢٥٤

[الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)]

قوله سبحانه : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ)

في تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «هذه الآية نزلت في اليهود والنصارى ، يقول الله تبارك وتعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ)، يعني : يعرفون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) لأنّ الله ـ عزوجل ـ قد أنزل عليهم في التوراة والزبور والإنجيل صفة محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وصفة أصحابه ومهاجرته ، (١) وهو قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) ، (٢) وهذه صفة رسول الله في التوراة وصفة

__________________

(١). في المصدر : «ومبعثه وهجرته»

(٢). الفتح (٤٨) : ٢٩.

٢٥٥

أصحابه ، (١) فلمّا بعثه الله ـ عزوجل ـ عرفه أهل الكتاب ، كما قال جلّ جلاله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)» (٢). (٣)

أقول : وروى نحوا منه في الكافي عن عليّ ـ عليه‌السلام (٤) ـ.

ورجوع الضمير إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يوجب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وهو ـ في الحقيقة ـ رجوع عن خطاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى خطاب الأمّة ؛ إشعارا بوضوح أمره عند أهل الكتاب ، ثمّ عدل إلى خطاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ثانيا بقوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ). (٥)

ويؤيّد رجوع ضمير قوله : (يَعْرِفُونَهُ) إلى رسول الله : التشبيه بقوله : (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) فإنّ ذلك لا يناسب ـ كثير مناسبة ـ رجوع الضمير إلى الكتاب ، على أنّ معناه أيضا لا يناسب المقام.

وبالجملة : مثل هذا النظم كمثل كلام من يكلّم جمعا ويختصّ واحدا منهم بتوجيه الخطاب تشريفا ، فيخاطبه وحده ويسمع الجماعة ، فإذا انتهى إلى ما يخصّ به من الفضل والكرامة عدل عنه إلى مخاطبة الجماعة ، ثمّ بعد الفراغ عن ذكر فضله عدل إلى ما كان فيه من توجيه الخطاب ، وبه يظهر نكتة الالتفات.

*

__________________

(١). في المصدر : «رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأصحابه في التوراة والإنجيل»

(٢). البقرة (٢) : ٨٩.

(٣). تفسير القمي ١ : ٣٣.

(٤). الكافي ٢ : ٢٨٣.

(٥). البقرة (٢) : ١٤٧.

٢٥٦

[وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)]

قوله سبحانه : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ...)

الوجهة : ما يتوجّه إليه كالقبلة ، والضمير يمكن رجوعه إلى الكلّ أو إليه سبحانه.

والآية قابلة الانطباق على بيان حال الأقوام من حال صالحة أو طالحة والإنطباق على تشريع قبلة لكلّ قوم بما يناسب حالهم ، وقابلة الانطباق على

٢٥٧

التكوين ، نظير قوله : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ). (١)

ولحن الآية في سياقها أنسب مع الأخير سيّما قوله : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) من غير أن يبدّل بمثل قوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) (٢) فيؤول المعنى إلى : أنّا جعلنا لكلّ إنسان غاية وقبلة ، هو متوجّه إليها سائر نحوها قاصد إيّاها ، وأينما تكونوا وتنتهوا في سيركم فالله يجمعكم ويأت بكم جميعا لا تفوتون عنه ، فاستبقوا الخيرات حتّى يتعيّن غايتكم بالخير ، هذا.

فإن قلت : فيكون صدر الآية قاضيا بأنّ سعادة الإنسان وشقاوته ذاتيّة مثبتة ، فغايته ـ خيرا أو شرّا ـ متعيّنة ثابتة لا يتخلف ولا يتخلّف مقتضاها حتما مقضيّا ، فلا يلائمه حينئذ قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) إذ هو تكليف عامّ للسعيد والشقيّ ؛ إذّ هو بالنسبة إلى السعيد طلب الموجود الحاصل ، وهو محال ، وبالنسبة إلى الشقيّ طلب المحال.

قلت : هذا هو الذي أوجب إنكار القدر على ما ذهب إليه جمع ، أو إثباته وتأويل آيات القضاء والقدر بالعلم من غير تأثير ، أو تخصيص ذلك بما دون أفعال الإنسان من الامور التكوينيّة ، والأمر على خلاف ذلك كلّه.

والذي يتحصّل من كلامه سبحانه : أنّ لهذه الموجودات الماديّة التي في هذه النشأة الطبيعيّة ـ مع كون نسبة كلّ موضوع إلى أحكامها وآثارها وعدمها متساوية بإمكان الوقوع واللاوقوع وقبول الطرفين ـ أعمّ من الأفعال الاختياريّة وعدمها ، مرتبة اخرى من الوجود ، هي بحسبها متعيّنة ثابتة ، لا تختلف ولا تتخلّف ، وهي مرتبة قبل هذه المرتبة الماديّة قبليّة غير زمانيّة ،

__________________

(١). الإسراء (١٧) : ٨٤.

(٢). المائدة (٥) : ٤٨.

٢٥٨

وسيجيء بيانه إن شاء الله.

وإلى هذا يرجع ما تشاهده من تنوّع كلامه وتفنّنه ، فترى من جانب : أنّه سبحانه يدعو إلى عبادته ومعرفته ، ويأمر وينهى ويرغّب ويرهّب برحمته وعذابه وجنّته وناره ، وترى من جانب آخر : أنّه يحكي عن قول فصل وقضاء حتم وقدر مقدور وأمر مفروغ عنه وأنّه الخالق لكلّ شيء (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ولم يبدّل القضاء بلفظ العلم ، ولا استثنى أفعال الإنسان من خلقته ، ولا نفى الاختيار ، ولا أثبت التفويض ، بل ربّما فرّع أحد الوجهين على الآخر كقوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (٢) وكما في هذه الآية : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ).

وبالجملة : فالحقّ ـ كما سيمرّ بك بيانه ـ أنّ مرتبة الاختيار والإمكان متّحدة بوجه مع مرتبة القضاء والقدر ـ التي لا تتغيّر ـ اتّحاد الصورة مع المعنى والظاهر مع الباطن.

واعلم : أنّه قد وردت أخبار كثيرة في أنّ قوله تعالى : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) في أصحاب القائم المهدي ـ عليه‌السلام (٣) ـ ، ولعلّ ذلك من باب الجري.

قوله سبحانه : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)

__________________

(١). يس (٣٦) : ٨٢.

(٢). الأعراف (٧) : ١٧٢.

(٣). الكافي ٨ : ٣١٣ ، الحديث : ٤٨٧ ؛ الخرائج والجرائح ٣ : ١١٥٦ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ٥٧.

٢٥٩

تعليل لما أمر به من الملازمة على استقبال الكعبة في جميع الأحوال في الفرائض ، لئلّا يقول الناس : لو كانوا على الحقّ وكان حكم الاستقبال من الله ما تركوه في حال.

وهذه وإن لم تكن حجّة قاطعة ـ إذ مخالفة المأمور لا توجب بطلان الأمر ـ إلّا أنّها مسوقة سياق الحجّة ؛ ولذلك استثنى منهم الذين ظلموا ، القائلين : إنّ ذلك هوى من النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، ومن تبعه وتهوّس ، فلا يعبأ بقولهم عن هوى أنفسهم.

وما في تفسير القمّي : انّه يعني «ولا الذين ظلموا» ، و «إلّا» في موضع «ولا» ، [و] ليست هي استثناء ، انتهى (١) ؛ فهو معنى غير معهود في اللغة.

قوله سبحانه : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)

تعليل بعد تعليل لأمرهم بالملازمة على الإستقبال والمداومة ، وأنّ ملازمتهم عليه واستقامتهم فيه ـ كما امروا ـ موجب لإتمامه تعالى نعمته عليهم : من حيث إبقاؤها وإدامتها عليهم ماداموا من غير أن يفقدوها ، ومن حيث إيفاؤها ، وإنزال ما بقي منها بعد إليهم.

قال تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) (٢) وقال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٣) وقال : (أَلا إِنَّ

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٦٢.

(٢). الحجرات (٤٩) : ١٧.

(٣). فصّلت (٤١) : ٣١ ـ ٣٠.

٢٦٠