تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

وهذا المعنى هو الذي يقتضيه نضد هذه الأسماء الخمسة المباركة بعد الحمد ، فهو سبحانه بالوهيّته مبدأ لكلّ خلق وأمر ، وبربوبيّته للعالمين مالكهم ومدبّرهم ، وبأنّه رحمن فيّاض للرحمة على جميع خلقه ، وبأنّه رحيم للمؤمنين خاصّة ، وبملكه يوم الدين حاكم فاصل بين عباده مجاز إيّاهم ، فلا يبقى شأن من شؤون ما سواه إلّا وهو مبدؤه ومصيره ، فله الحمد جميعا.

روي في كشف الغمّة : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «قال فقد لأبي ـ عليه‌السلام ـ بغلة ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : لئن ردّها الله عليّ لأحمدنّه بمحامد يرضاها ، فما لبث أن أتي بها بسرجها ولجامها ، فلمّا استوى وضمّ إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال : الحمد لله ، ولم يزد ، ثمّ قال : ما تركت ولا أبقيت شيئا ، جعلت أنواع المحامد لله عزوجل ، فما من حمد إلّا وهو داخل فيما قلت» ، (١) الحديث.

ثمّ إنّ الظاهر من سياق هذه الآيات وقرينة الالتفات في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٢) أنّ قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى آخره ، كلام العبد ، فهو سبحانه يلقي قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، بالنيابة عن عبده تأديبا وتعليما لما ليس له بنفسه ، فإنّ الحمد توصيف ، وقد نزّه سبحانه نفسه عمّا يصفه به العباد ، فقال سبحانه : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣) ولم يرد في كلامه ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلّا قوله لنبيّه نوح [عليه‌السلام] : (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، (٤) وقوله في خليله إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ

__________________

(١). كشف الغمّة ٢ : ٣٢٩.

(٢). الفاتحة (١) : ٥.

(٣). الصافّات (٣٧) : ١٥٩ و ١٦٠.

(٤). المؤمنون (٢٣) : ٢٨.

٤١

الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ)، (١) وقوله لرسوله محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في ستّة مواضع ، أو سبعة من كلامه : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، (٢) وهؤلاء من عباده المخلصين بنصّ القرآن ، وإلّا ما حكاه عن أهل الجنّة في مواضع من كلامه ، كقوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)، (٣) وهم مطهّرون من غلّ الصدور ولغو القول والتأثيم ، وأمّا غير هذه الموارد فهو سبحانه وإن حكى عن كثير من خلقه بل عن جميعهم الحمد له ، كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، (٤) وقوله : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ)، (٥) وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)، (٦) إلّا أنّه سبحانه شفّع الحمد في جميعها بالتسبيح ، بل جعل التسبيح هو المحكيّ والحمد معه ، وذلك أنّ غيره سبحانه لا يحيطون بجمال أفعاله وكمالها لما لم يحيطوا بجمال صفاته الذي عنه جمال الفعل ، فما أحاطوا به من شيء فهو محدود بحدودهم مقدّر بقدر نيلهم ، فلا يستقيم ما أثنوه بثناء إلّا بعد أن يسبّحوه وينزّهوه عمّا حدّوه وقدّروه بأفهامهم ، وقد قال سبحانه : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ، (٧) فالذي يقتضيه أدب العبوديّة أن يقتصر من الثناء على ما يعلمه سبحانه من جمال فعله وصفته ، ويطوي كشحا عمّا دون ذلك ، كما في الحديث المتّفق عليه بين الفريقين عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١). إبراهيم (١٤) : ٣٩.

(٢). الإسراء (١٧) : ١١١ ؛ النمل (٢٧) : ٥٩ ، ٩٣ ؛ المؤمنون (٢٣) : ٢٨ ؛ العنكبوت (٢٩) : ٦٣ ؛ لقمان (٣١) : ٢٥.

(٣). يونس (١٠) : ١٠.

(٤). الشورى (٤٢) : ٥.

(٥). الرعد (١٣) : ١٣.

(٦). الإسراء (١٧) : ٤٤.

(٧). البقرة (٢) : ٢١٦ و ٢٣٢ ؛ آل عمران (٣) : ٦٦ ؛ النور (٢٤) : ١٩.

٤٢

وسلّم ـ : «لا احصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك». (١)

وفي العيون : عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ أنّه سئل عن تفسيرها ، فقال : «هو أنّ الله سبحانه عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف ، فقال : قولوا : الحمد لله على ما أنعم به علينا». (٢)

أقول : يشير ـ عليه‌السلام ـ إلى ما مرّ أنّ الحمد من العبد وإنّما ذكره سبحانه بالنيابة تأديبا وتعليما ، ومراده من تعريف بعض النعم جملا ما يشتمل عليه الأسماء المعدودة بعد الحمد من إجمال النعم وجملها ، كما عدّ سبحانه فيوضات هذه الأسماء في سورة الرحمن نعما وآلاء لنفسه ، ويشير إليه الحديث القدسيّ الآتي.

*

__________________

(١). عوالي اللآلي ٤ : ١١٤ ، الحديث : ١٧٦ ؛ مسند أحمد ١ : ٩٦ و ١١٨ و ١٥٠ ، و ٦ : ٢٠١ ؛ صحيح مسلم ٢ : ٥١ ؛ سنن ابن ماجة ١ : ٣٧٣. أيضا لا حظ الكافي ٣ : ٣٢٤ ، الحديث : ١٢ ؛ التوحيد : ١١٤ ، الحديث : ١٣.

(٢). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ٢ : ٢٥٥ ، الحديث : ٣٠.

٤٣

[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)]

قوله سبحانه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

العبد هو المملوك من الإنسان أو كلّ ذي شعور بتجريد المعنى ، كما يعطيه قوله سبحانه : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً)، (١) والعبادة مأخوذة منه ، وربّما تفرّقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد ، وما ذكره الجوهري في الصحاح أنّ أصل العبوديّة الخضوع (٢) فمن باب الأخذ باللازم ، إذ الخضوع متعدّ باللام ، والعبادة بنفسها ، فكأنّ العبادة نصب العبد نفسه في مقام المملوكيّة لربّه ، ولذلك كانت العبادة منافية للاستكبار ، كما قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)، (٣) وغير منافية للاشتراك ، فمن الجائز أن يشترك أزيد من الواحد في عبادة واحد ، كما جاز أن يشتركوا في ملك رقبة ، قال سبحانه : (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ

__________________

(١). مريم (١٩) : ٩٣.

(٢). الصحاح ٢ : ٥٠٣ ، مادّة «عبد».

(٣). غافر (٤٠) : ٦٠.

٤٤

أَحَداً) ، (١) وقال : (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً)، (٢) والعبوديّة إنّما تستقيم فيما بين العبيد ومواليهم فيما يملكه الموالي منهم ، وأمّا ما لا يتعلّق به الملك من شؤون العبد فلا يتعلّق به عبادة ولا عبوديّة لكنّ الله سبحانه إذا نسبنا إليه العبوديّة لم نجد شيئا سواه لا يتعلّق به ملكه كما لا نجد شيئا سواه يشاركه في ملكه ، وذلك كما يفيده معاني ما ساقه سبحانه من أسمائه عند الحمد ، فليس الملك إلّا له سبحانه فقط ، وليس لغيره سبحانه إلّا المملوكيّة فقط بنحو التعاكس في القصر ، فالملك مقصور له سبحانه ، وغيره مقصور على المملوكيّة.

ثمّ إنّ الملك لا يحجب عن مالكه ، فإنّك إذا نظرت إلى الدار المملوكة لزيد ـ مثلا ـ فإن نظرت إليها بما أنّها دار أمكنك أن تغفل عن زيد ، وإن نظرت إليها بما أنّها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن المالك ، وإذ كان ما سواه سبحانه ليس له إلّا المملوكيّة وكانت هذه حقيقيّة لم يمكن لشيء منها أن يحجب عن ربّه سبحانه ولا النظر إليه والغفلة عنه سبحانه ، فله سبحانه الحضور المطلق ، قال سبحانه : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ* أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ). (٣)

وفي تحف العقول : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «ومن زعم أنّه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب ، ومن زعم أنّه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغّر بالكبير وما قدروا الله حقّ قدره» (٤) الحديث.

__________________

(١). الكهف (١٨) : ١١٠.

(٢). النور (٢٤) : ٥٥.

(٣). فصّلت (٤١) : ٥٣ و ٥٤.

(٤). تحف العقول : ٣٢٦.

٤٥

فحقّ عبادته سبحانه ـ وهي إظهار العبوديّة وحكاية ما عليه العبد من مولاه ـ أن يكون عن حضور مطلق بإمحاء كلّ ما يوجب بحضوره غيبة المعبود والانصراف عنه إلى غيره وترك الاشتغال بما هو مربوب مملوك له وهو الشرك ، قال سبحانه : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)، (١) فالاشتغال بغيره سبحانه ـ إمّا بعبادة ذلك الغير ، أو في ضمن العبادة له سبحانه ـ إعطاء ربوبيّة لغير الله سبحانه ، وإنّما الفرق أنّ العبادة لغيره سبحانه ترك له وأخذ لغيره والاشتغال بغيره أو طلبه من العبادة ، كطلب الوصول إلى ثواب أو النجاة من عذاب توسيط له سبحانه بينه وبين المطلوب والواسطة غير مقصودة بالذات إلّا من أجل ذي الواسطة ، فهو المقصود المعبود بالحقيقة والمآل ، كما يشير إليه في رواية تحف العقول السابقة : «ومن زعم أنّه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغّر بالكبير» (٢) الحديث ، فالعابد له لأنّه ينعم بالجنّة أو ينجي من النار يصغّر الكبير ، قال سبحانه : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ)، (٣) وقال : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ)، (٤) وقال : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). (٥)

وفي الكافي : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «العبادة ثلاثة : قوم عبدوا الله خوفا ، فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب ، فتلك عبادة الاجراء ، وقوم عبدوا الله عزوجل حبّا له ، فتلك عبادة الأحرار ، وهي

__________________

(١). الأنعام (٦) : ١٦٤.

(٢). تحف العقول : ٣٢٦ ؛ نقلت رواية قبل أسطر.

(٣). الزمر (٣٩) : ٢.

(٤). الزمر (٣٩) : ٣.

(٥). الزمر (٣٩) : ٣.

٤٦

أفضل العبادة». (١)

وفي نهج البلاغة : «إنّ قوما عبدوا الله رغبة ، فتلك عبادة التجّار ، وإنّ قوما عبدوا الله رهبة ، فتلك عبادة العبيد ، وإنّ قوما عبدوا الله شكرا ، فتلك عبادة الأحرار». (٢)

وفي العلل ، والمجالس ، والخصال : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه ، فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه ، فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع ، وآخرون يعبدونه خوفا من النار ، فتلك عبادة العبيد وهي رهبة ، ولكنّي أعبده حبّا له عزوجل ، فتلك عبادة الكرام ؛ لقوله عزوجل : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)، (٣) ولقوله عزوجل : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ)، (٤) فمن أحبّ الله عزوجل أحبّه ، ومن أحبّه الله كان من الآمنين» ، (٥) وهذا مقام مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون.

أقول : وقد تبيّن معناها ممّا مرّ. وما عدّه في الخبر الثاني قسما وهو العبادة شكرا يرجع معناها إلى المحبّ على ما في الخبرين الآخرين ، فإنّ الشكر وضع الشيء في محلّه ، والعبادة شكرها أن يكون لله الذي يستحقّها لذاته ، فيعبد الله لأنّه هو ، وهو المستجمع لصفات الجمال بذاته ، فهو الجميل لذاته المحبوب لذاته ، فليس الحبّ إلّا الميل الغريزي إلى الجميل من حيث هو جميل. فقولنا

__________________

(١). الكافي ٢ : ٨٤ ، الحديث : ٥.

(٢). نهج البلاغة ، الكلمة : ٢٣٧.

(٣). النمل (٢٧) : ٨٩.

(٤). آل عمران (٣) : ٣١.

(٥). علل الشرائع ١ : ١٢ ـ ١٣ ، الباب : ٩ ، الحديث : ٨ ؛ أمالي للصدوق ـ رحمه‌الله ـ : ٣٨ ، الحديث : ٤ ، المجلس العاشر ؛ الخصال : ١٨٨ ، الحديث : ٢٥٩.

٤٧

فيه سبحانه : لأنّه جميل ، وأنّه محبوب ، وأنّه هو كلّها واحد. فالعبادة شكرا هي العبادة حبّا ، فافهم ذلك.

ولنرجع إلى ما كنّا فيه ، فنقول : وكأنّ ما ذكرناه من جهتي القصر في العبادة وما يلزمهما ، أعني التوحيد في العبادة ، ومعنى الحضور هو الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور وتقديم الضمير في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).

وروي بطريق عامّي في معناه عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «يعني : لا نريد منك غيرك ، لا نعبدك بالعوض والبدل ، كما يعبدك الجاهلون بك ، المغيّبون عنك». (١)

أقول : وقد اتّضح معناه ممّا مرّ آنفا.

واعلم : أنّه لا يبقى على ما مرّ من معنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، نقص في إظهار العبوديّة غير ما في دعوى العبد العبادة لنفسه ، وهي مملوكة له سبحانه ، فكأنّه تدورك ذلك في قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي : إنّ الذي ننسبه من العبادة إلى أنفسنا إنّما ننسبه إلينا وندّعيه مع الاستعانة بك ، لا مستقلّين مدّعين ذلك دونك.

فقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لإبداء معنى واحد ؛ وهو العبادة الكاملة ، وكأنّه لذلك شرّك بين الاستعانة والعبادة في السياق.

وقيل : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) من دون أن يقال نحو من قولنا : إيّاك نعبد أعنّا واهدنا ، وسيجيء الوجه في تغيير السياق في قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ).

__________________

(١). تفسير الصافي ١ : ٨٤.

٤٨

[اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)]

قوله سبحانه : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)

سؤال للهداية ، وقد وصف سبحانه الصراط بالمستقيم وعرّفه به ، ثمّ بيّنه بأنّه صراط الذين أنعم عليهم وعرّفهم بالمقابلة بأنّهم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)، وقد قرّر في كلامه للجميع سبيلا يسلكون به إليه سبحانه ، كلّ على شاكلته ، (١) فقال سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، (٢) وقال سبحانه : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ، (٣) أي فيزعمون أنّ الخلقة قد تخلّفت عن مراده سبحانه ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِ

__________________

(١). إشارة إلى قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً)، الإسراء (١٧) : ٨٤.

(٢). الذاريات (٥١) : ٥٦.

(٣). يوسف (١٢) : ٢١.

٤٩

شَيْءٍ قَدْراً) (١) أي حدّا محدودا وقدرا مخصوصا بحسب ما يشاكل خلقته وشأنه ، فلا ينبغي لزاعم أن يزعم أنّه سبحانه يريد ما يريده من كلّ شيء على وتيرة واحدة ، ثمّ يقدّر أنّ الخلقة صادفت غايتها في بعض وتخلّفت عنها في آخر.

وبالجملة ، فالعبادة غاية الإيجاد ، وهي ثابتة في كلّ موجود لا تتخلّف.

ولا يذهب عليك أنّ هذا ليس من الجبر الباطل في شيء ، فمثل الخلق بالنسبة إلى ربّهم كمثل العبد يملكه المولى من ملك نفسه وما يتّجر به ويتصرّف من نقل ومبادلة وأكل وشرب وسكنى ، وهو وما يملكه لمولاه ، وللمولى في ملكه حكم ، وللعبد فيما ملكه بتمليك المولى حكم ، ففرق بين أن نبطل بملك المولى ملك العبد ، وهو مثل الجبر ، أو بملك العبد ملك المولى ، وهو مثل التفويض ، وبين أن نثبت للمولى ملكه وللعبد ملكه بتمليك المولى ، وهو الحقّ.

وبالجملة ، فهو سبحانه معبود مطلقا ، وقد قال : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) ، (٢) وقال تعالى : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ، (٣) إلى غير ذلك من الآيات ، فأثبت أنّ الكلّ سائرون إليه سبحانه وأنّ للجميع طريقا.

ثمّ فرّق سبحانه بين السبل والطرق فقال : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ، (٤) فهناك صراط مستقيم وغيره ، وقال سبحانه : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) ، (٥) وقال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١). الطلاق (٦٥) : ٣.

(٢). الانشقاق (٨٤) : ٦.

(٣). المائدة (٥) : ١٨.

(٤). يس (٣٦) : ٦٠ و ٦١.

(٥). البقرة (٢) : ١٨٦.

٥٠

يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) ، (١) فبيّن أنّه قريب من عباده وأنّ الطريق القريب منه سبحانه دعاؤه وعبادته ، ثمّ قال سبحانه في وصف الذين لا يؤمنون : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، (٢) فبيّن أنّ غاية غير المؤمنين في مسيرهم وسبيلهم بعيدة ، فالسبيل إلى الله سبيلان : سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين ، وسبيل بعيد وهو سبيل غيرهم ، فهذا نحو اختلاف في الطرق.

وهناك نحو آخر من الاختلاف ، قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) ، (٣) وقال سبحانه : (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) (٤) أي سقط إلى أسفل وهو أسفل سافلين ، وقال : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) ، (٥) فعرّف الضلال بالشرك لمكان «قد» ، وقال : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) ، (٦) وقال : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ، (٧) وعند ذلك تقسّم الناس في طرقهم ثلاثة أصناف ، وطرقهم ثلاثة : من طريقه إلى فوق وهم المؤمنون وأولو العلم ، ومن طريقه إلى أسفل وهم المغضوب عليهم ، ومن ضلّ الطريق وهو في الطريق وهم الضالّون ، وفي هذه المعاني آيات اخر كثيرة.

ثمّ إنّ الضلال كما عرفت معرّف بالشرك في قوله : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ

__________________

(١). غافر (٤٠) : ٦٠.

(٢). فصّلت (٤١) : ٤٤.

(٣). الأعراف (٧) : ٤٠.

(٤). طه (٢٠) : ٨١.

(٥). النساء (٤) : ١١٦.

(٦). المجادلة (٥٨) : ١١.

(٧). فاطر (٣٥) : ١٠.

٥١

ضَلَّ) ، (١) وكلّ ظلم شرك ، سواء كان معصية بالأفعال أو انحرافا في الاعتقاد كما فيما حكاه عن الشيطان لمّا قضي الأمر إذ يقول : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ، (٢) وقال سبحانه : (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً). (٣) فإذا كان كلّ ضلال في علم أو عمل شركا فمستقيم الصراط الذي هو صراط غير الضالّين ما لا يقع فيه شرك عمل أو علم ألبتّة ، وهو التوحيد علما وعملا ؛ إذ لا ثالث لهما ، وماذا بعد الحقّ إلّا الضلال ، فهو طريق مأمون فيه من الضلال فينطبق على قوله سبحانه : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ). (٤) وفي هذه الآية تثبيت للأمن ووعد بالاهتداء ، وسيجيء سرّه إن شاء الله.

ثمّ إنّه عرّف هؤلاء الذين أنعم عليهم في قوله سبحانه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) ، (٥) وقد وصف هذا الإيمان والإطاعة بقوله قبل الآية : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً* وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) ، (٦)

__________________

(١). النساء (٤) : ١١٦.

(٢). إبراهيم (١٤) : ٢٢.

(٣). يس (٣٦) : ٦٠ ـ ٦٢.

(٤). الأنعام (٦) : ٨٢.

(٥). النساء (٤) : ٦٩.

(٦). النساء (٤) : ٦٥ ـ ٦٦.

٥٢

فوصفهم بالثبات التامّ قولا وفعلا وظاهرا وباطنا على العبوديّة ، فلا يشذّ منهم شاذّ من هذه الجهة ، ومع ذلك جعلهم في تبعهم وصفّ بعد صفّهم لمكان «مع» ولمكان قوله : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) ، (١) وكما يشعر به قوله في محلّ آخر : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) ، (٢) وهذا هو الإلحاق في الآخرة لمكان قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٣) و (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) ، (٤) فهؤلاء وهم أصحاب الصراط المستقيم أعلى قدرا وأقرب منزلة من هؤلاء المؤمنين الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم من الظلم والشرك ، (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) ، (٥) وإذا تدبّرت قوله سبحانه : (فَلا وَرَبِّكَ) ، (٦) وتعريفه أصحاب الصراط المستقيم بقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) أيقنت أنّ هناك نحوا آخر من الشرك لم يخلص عنه المؤمنون الخالصون وشأنهم هذا الشأن ، وإنّما يختصّ به أصحاب الصراط المستقيم ، فتدبّر.

وبالجملة ، فمآل قوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، إلى التوحيد علما وعملا.

وأمّا (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) فالصراط هو الواضح من الطريق ، من سرطت سرطا إذا بلعت بلعا ، كأنّه يبلع السالكين فيه فلا يدعهم ولا يدفعهم عن بطنه ،

__________________

(١). النساء (٤) : ٦٩.

(٢). الحديد (٥٧) : ١٩.

(٣). الحديد (٥٧) : ١٩.

(٤). الحديد (٥٧) : ١٩.

(٥). المجادلة (٥٨) : ١١.

(٦). النساء (٤) : ٦٥.

٥٣

والمستقيم على ما يظهر من اللغة غير ما اصطلح عليه أرباب علوم الرياضة من المستقيم ، بل هو الذي لا يتغيّر أمره ولا يختلف شأنه ، فمستقيم الصراط ما لا يتخلّف في هدايته وإيصاله سالكيه إلى غايته ومقصدهم ، قال سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ، (١) وقال سبحانه : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ* وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) ، (٢) وقال سبحانه : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ* إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٣) أي هذه سنّتي وطريقتي لا تختلف ولا تتخلّف ، فهو يجري مجرى قوله : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٤) و (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً). (٥)

وعن قرب الإسناد عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : قال : «جفّ القلم بحقيقة الكتاب [من الله] بالسعادة لمن آمن واتّقى ، والشقاوة من الله لمن كذّب وعصى». (٦)

وعن تفسير القمّي وتوحيد الصدوق عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ما في معناه. (٧)

__________________

(١). النساء (٤) : ١٧٥.

(٢). الأنعام (٦) : ١٢٥ و ١٢٦.

(٣). الحجر (١٥) : ٤١ و ٤٢.

(٤). الأحزاب (٣٣) : ٦٢.

(٥). الفتح (٤٨) : ٢٣.

(٦). قرب الإسناد : ١٥٦.

(٧). تفسير القمّي ١ : ٢١٥ ؛ ولم نجده في التوحيد.

٥٤

ف (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) هو الطريق الواضح المؤدّي إلى المطلوب ألبتّة.

وأمّا كونه أقرب الطرق لكون الخطّ المستقيم أقصر الخطوط الموصلة بين نقطتين فكلام شعريّ في هذا المقام وإن كان برهانيّا أو متلقّى بالقبول في مقام آخر.

نعم ، بيّن سبحانه كون صراطه المستقيم أقرب الطرق إليه ببيان آخر سبقت الإشارة إليه.

واعلم أنّه سبحانه على أنّه نصب في كلامه لنفسه صراطا وسبيلا وكرّر ذكر صراط الله وسبيل الله ، لم يعدّ لنفسه أزيد من صراط واحد مستقيم ، وعدّ لنفسه سبلا كثيرة ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ، (١) ولم ينسب الصراط المستقيم إلى غيره من خلقه غير ما في هذه الآية (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، ونسب السبيل إلى غيره ، فقال عزّ من قائل : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) ، (٢) وقال تعالى : (سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) ، (٣) وقال تعالى : (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ). (٤)

ويعلم من ذلك أنّ السبيل غير الصراط المستقيم ، وأنّه يختلف باختلاف أصناف المتعبّدين ، دون الصراط المستقيم كما يشير إليه قوله سبحانه : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، (٥) فجعل اتّباع رضوانه

__________________

(١). العنكبوت (٢٩) : ٦٩.

(٢). يوسف (١٢) : ١٠٨.

(٣). لقمان (٣١) : ١٥.

(٤). النساء (٤) : ١١٥.

(٥). المائدة (٥) : ١٥ و ١٦.

٥٥

مقدّمة للهداية إلى سبل السلام ، ثمّ أضاف إليه الإخراج من الظلمات إلى النور وجعل المجموع كالمقدّمة للهداية إلى صراط مستقيم ، والتنكير فيه للتفخيم ، وقال أيضا : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ، (١) فمن الشرك وهو ضلال ما يوجد في المؤمنين ، ولهم سبيل إلى ربّهم ، فقد يجتمع الضلال مع سبيلهم ، لكنّه لا يجتمع مع الصراط المستقيم. فظهر أنّ مثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى السبيل مثل الروح بالنسبة إلى البدن ، فكما أنّ للبدن أطوارا في مدّة حياته هو عند كلّ طور غيره عند طور آخر ، كالصبا والطفوليّة والرهوق والشباب والكهولة والشيب والهرم ، لكنّ الروح هي الروح ، والبدن يمكن أن يطرأ عليه طورا تنافي ما تحبّه وتقتضيه الروح إذا خلّيت ونفسها ، بخلاف الروح (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) ، (٢) والبدن مع ذلك هو الروح ، أعني الإنسان ، فكذلك السبيل إلى الله سبحانه هو الصراط المستقيم ، غير أنّ السبيل كسبيل المؤمنين وسبيل المتّقين أو غير ذلك من سبل الله سبحانه ربما وصل إليه آفة من خارج أو نقص ولن تصل إلى الصراط المستقيم.

كما عرفت أنّ الإيمان ربما يجتمع مع الشرك والظلم ، وهو سبيل ، ولا يجتمع مع شيء من ذلك الصراط المستقيم ، فللسبيل مراتب كثيرة بعضها فوق بعض من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبعده ، والجميع على الصراط المستقيم ، أو هي هو. قال سبحانه : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) ، (٣) والأخبار في درجات الإيمان والكفر كثيرة مستفيضة.

__________________

(١). يوسف (١٢) : ١٠٦.

(٢). الروم (٣٠) : ٣٠.

(٣). المجادلة (٥٨) : ١١.

٥٦

ثمّ إنّه سبحانه قال ـ وهو في هذا المعنى ـ : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) ، (١) يبيّن أنّ هذه طريقته وسنّته في الخلقة يمزج الحقّ الباطن بالباطل الظاهر ، والحقائق بالأوهام (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، (٢) وإنّ هذه طريقته أيضا في ضرب الأمثال وبيان الأوصاف كما قال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ). (٣)

وهاتان الآيتان في مساق ما ورد في الحديث المشهور بين الفريقين عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ : نحن معاشر الأنبياء نكلّم الناس على قدر عقولهم. (٤)

وأنت خبير بأنّ مثل هذا الكلام إنّما يساق لبيان الكيفيّة دون الكمّيّة ، أي أنّه سبحانه في كلامه أو بلسان أنبيائه إنّما يلقي المعارف والعلوم إلى الناس بعد لبسها وصبغها بكيفيّة تلائم كيفيّة فهمهم ، لا بالتبعيض بأن يلقي بعضا ويكفّ عن بعض كالمدرّس في مقدار ما يقرأه ويعلّمه تلاميذه ، وهو سبحانه مع ذلك قد كلّم الناس بكلّ بيان متصوّر من برهان أو جدل أو خطابة.

ومن هنا يعلم :

أوّلا : أنّ لهذه المعارف مرتبة في حقيقتها لا تنال بالعقل والفكر ، بل لو نيلت

__________________

(١). الرعد (١٣) : ١٧.

(٢). الكهف (١٨) : ٧.

(٣). العنكبوت (٢٩) : ٤٣.

(٤). المحاسن ١ : ١٩٥ ، الحديث : ١٧ ؛ مشكاة الأنوار : ٢٥١ ؛ شرح نهج البلاغة ١٨ : الحديث : ١٨٦.

٥٧

فإنّما تنال بإدراك دون الإدراك العقلي وعلم غير العلم الفكري.

وثانيا : أنّ هذه الحقائق ليست خارجة مغايرة لهذه الظواهر الملقاة من البيانات المتعارفة والأمثال المضروبة ، بل مثلها فيها كمثل الروح في الأجساد أو كرسول يرسله الملك إلى طوائف مختلفة من رعيّته ويأمره أن يتلبّس بكلّ طائفة منهم بلباس لا ينكرونه ، ويتّسم بهيئة وسمة يعرفونها ، والرسول واحد ، كمجرى قوله سبحانه : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) ، (١) وقد قال سبحانه : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ، (٢) يريد سبحانه أنّ للقرآن مرتبة اخرى في محلّ آخر لا تنال بهذه الأفهام والعقول ، ثمّ قال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٣) فأثبت مسّه ونيله للمطهّرين ، وهو في مرتبة أرفع من أن ينال بالعقل والفكر ، وقد عدّ سبحانه كلّ ظلم وشرك من الرجس ، فهؤلاء المطهّرون رجال أزال الله عن قلوبهم رجس الشرك والريب ، وعن أفعالهم رجس الظلم والمعصية وطهّرهم تطهيرا ، كما أنزل في أهل بيت نبيّه قوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ، (٤) وهؤلاء رجال آتاهم الله من علم الأشياء بحقائقها وحقائق ما يكلّم به الناس ويخاطبهم نيلا وراء نيل العقل ، ونحوا غير نحوه ، فنظروا إلى الأشياء على ما هي عليه من المملوكيّة لله والفقر إلى الله والقيام بالله بكشف

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٩.

(٢). الزخرف (٤٣) : ٣ و ٤.

(٣). الواقعة (٥٦) : ٧٧ ـ ٧٩.

(٤). الأحزاب (٣٣) : ٣٣.

٥٨

الغطاء عن قلوبهم والحجاب عن بصائرهم ، فحاولوا العبوديّة على حقيقة معناها ولم يلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله سبحانه ، كما عرفت في قوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً)، (١) وقوله : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) ، (٢) وقوله : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً) ، (٣) فتولية أمرهم وشأنهم هذا الشأن لله وحده لا شريك له ، إذ طهارتهم علما وعملا بما آتاهم الله من العلم ؛ إذ رجس المعصية والشرك لا يتحقّق إلّا بالجهل بحقيقة الشيء والغفلة منه سبحانه ، وعلمهم ذلك يكفي مؤونتها فالله سبحانه وليّهم وحده.

ويدلّك على ما قلنا ، أنّ ما وصفهم سبحانه من أوصاف الكرامة بصيغة المفعول مثل المخلصين والمقرّبين والمطهّرين ، وما ورد من الأسماء في حقّهم بصيغة الفاعل ، فآثاره منسوبة إليه سبحانه ، كقوله : (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، (٤) انظر إلى موضع قوله : (وَأَدْخَلْناهُ)، وقوله : (مِنَ)، وكقوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) ، (٥) انظر إلى موضع قوله : (نُرِي)، وقوله (وَلِيَكُونَ مِنَ)، فالصراط المستقيم هو صراط ولاية الله محضا الذي لا سبيل للشرك علما وعملا إليه ، ولذلك نرى أنّه سبحانه على ما أضاف سبيله إلى كثيرين لم يضف صراطه المستقيم إلى غيره إلّا لطائفة من أوليائه فقط في قوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، وعرّف هؤلاء المنعم عليهم في قوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ

__________________

(١). الرعد (١٣) : ١٧.

(٢). العنكبوت (٢٩) : ٤٣.

(٣). الزخرف (٤٣) : ٣.

(٤). الأنبياء (٢١) : ٧٥.

(٥). الأنعام (٦) : ٧٥.

٥٩

وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) ، (١) وبذلك يعلم الوصف الجامع لهؤلاء الطوائف الأربع. وسيجيء الكلام فيما يختصّ بكلّ واحد من الكرامات في محلّه إن شاء الله.

فقد تحصّل ممّا مرّ أنّ الصراط المستقيم صراط مهيمن على جميع الطرق إلى الله وسبله تعالى ، ولذلك تجد أنّه سبحانه مع تنزيهه صراطه المستقيم عن كلّ ضلال وغيّ ربما يطلق اسمه على بعض السبل الذي لا يخلو عن شوب الضلال ، قال سبحانه : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) ، (٢) فسمّى العبادة صراطا مستقيما ، وقال سبحانه : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ، (٣) فسمّى الدين صراطا مستقيما ، وقال سبحانه : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) إلى قوله : (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، (٤) فسمّى جميع سبل السلام وهي سبله صراطا مستقيما ، ولا ينافي ذلك ما مرّ من قضيّة المقدّميّة ، كما لا يخفى ، فالصراط المستقيم هو المتعالي المهيمن على جميع السبل كالروح على جميع القوى والأعضاء.

ويعلم من ذلك :

أوّلا : أنّ الطرق إلى الله سبحانه متفاوتة كمالا ونقصا وغلاء ورخصا ، من جهة قربه من منبع الحقيقة والصراط المستقيم ، كالإسلام والإيمان والخلوص والإطاعة والعبادة والزهد والتقوى والإحسان ونحوها ، كما أنّ مقابلاتها من

__________________

(١). النساء (٤) : ٦٩.

(٢). يس (٣٦) : ٦١.

(٣). الأنعام (٦) : ١٦١.

(٤). المائدة (٥) : ١٦.

٦٠