تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة التحقيق

تعريف بالمؤلّف :

إنّ الشمس غنيّة عن التعريف والصباح يزري بضوء المصباح ، فإنّ صيت المؤلّف قد طار في أرجاء الدنيا ، وهو فيلسوف الشرق بلا منازع ، بل فيلسوف الشرق والغرب في تأريخنا المعاصر.

هو العالم العارف المحقّق المدقّق والجامع الكامل السيّد محمّد حسين بن السيّد محمّد ، الذي يعود نسبه من طرف الأب إلى الإمام الحسن المجتبى ـ عليه‌السلام ـ ومن طرف الأمّ إلى أخيه الإمام الحسين ـ عليه‌السلام ـ ومن هنا نراه ـ قدس‌سره ـ يكتب في بعض توقيعاته : «السيّد محمّد حسين الحسني الحسيني الطباطبائي».

ولد ـ رضوان الله تعالى عليه ـ سنة ١٣٢١ ه‍. ق وسط عائلة معروفة بالتقوى والزهد والعلم ، وفي سنّ السادسة عشرة من عمره انصرف لدراسة العلوم الدينيّة ، ثمّ بعد سبع سنوات من الدرس الدؤوب قصد موضع عشّاق العلم ومهوى قلوب الطلّاب أعني الحوزة العلميّة في النجف الأشرف للانتهال من عبيرها العذب الثرّ ليكمل هناك تحصيلاته العالية ، وبقي هناك عشر سنوات حضر فيها دروس الفقه والاصول عند فطاحل العلم ومفاخر الحوزة

٢١

أمثال الشيخ محمّد حسين الغروي الأصفهاني والسيّد أبي الحسن الأصفهاني والشيخ النائيني والحكيم بادكوبه ، كما أنّه في الوقت نفسه بذل جهدا وافرا في دراسة الفلسفة والكلام والأخلاق والرياضيّات والرجال.

ثمّ عاد إلى مسقط رأسه «تبريز» لسوء الظروف المعيشيّة التي كان يمرّ بها ، وبقي فيها ما يقارب العشر سنوات ، ثمّ بعد ذلك غادرها إلى المدينة الثانية للعلم آنذاك أعني الحوزة العلميّة في مدينة قم المقدّسة ، ولم يكن للفلسفة وما أشبهها رواج في هذه الحوزة ، ولذا نرى شيخنا العلّامة ـ أعلى الله مقامه ـ قد اهتمّ اهتماما بالغا وركّز على التدريس والتأليف في هذا المجال ومجال التفسير.

ميزاته :

هناك ميزات عديدة اجتمعت في سيّدنا ـ المترجم ـ لا تجتمع إلّا في القلائل على مرّ العصور ، ممّن حباهم الله واختصّهم بعطائه ورحمته :

منها : تشعّب العلوم والأبواب التي طرقها المؤلّف ، رغم تفاوتها الشاسع ؛ فبينما تراه يغوص في بحر العقليّات بكلّ ما فيه من العمق والتعقيد بمجالاته من المنطق والفلسفة والكلام والعرفان والرياضيّات والهيئة ، تراه وبنفس القدرة والجدارة والقوّة يلج باب النقليّات بمجالاته من الفقه والسيرة والتفسير والسّنن ، والعلوم الأدبيّة من اللغة والنحو والصرف وما أشبه ممّا تحتاج إلى مهارة من نوع آخر ، كما أنّه أبدع في علم الأصول الذي تبرز فيه جنبتا العلوم النقليّة والعقليّة معا.

ومنها : انطباع كلّ مجال ورده بطابع الإتقان والإحكام لكلّ جوانبه دون

٢٢

أن يترك فيه ثغرة إلّا ويشبعها بحثا وتحقيقا.

ومنها : اتّصافه بصفة التجديد ، فتراه لا يمرّ بمطلب دونما إضافة وإبداع ، يثري بها بحثه.

ومنها : اتّخاذه للتخصّص شعارا في بحوثه رغم كثرتها وتفاوتها وعمقها ، والتخصّص مرتبة أعلى من الاطّلاع الواسع كما لا يخفى.

ومنها : الوضوح في كلّ مفردة من مفردات بحثه ، بل إنّه ليتعجّب الناظر في كتاباته من قدرته الفائقة على اكتشاف الارتباط القائم بين المسائل المتشتّتة ومن ثمّ الاستفادة من ذلك الارتباط في تنضيج العلم.

وبالجملة : كانت هذه الخصائص والصفات ظواهر لا تنفكّ عن بحوثه وتأليفاته.

ومنها : تميّزه ـ بالإضافة الى ما تقدّم ـ بتسلّطه على التنظير وإعطاء النظريّة مع نقد نظريّات الآخرين وتفنيدها.

وهذه الميزة هي الأصعب ؛ إذ ليس كلّ من استطاع أن يحوي ما تقدّم قادرا على ذلك.

ومنها : جمعه بين جوانب الغزارة في العلم ، والانهماك في التطبيق ، والإخلاص في العمل ، والشفّافيّة في الخلق ، فهو الرجل الكامل الذي كلّما وضعت يدك على جانب وخصلة لم تر غير ما هو الأفضل والأعلى والأرقى في بابه.

ومنها : صفة القدرة على عدم صبغ كتاباته في كلّ مجال يخوض فيه بصبغة مجال آخر ، فرغم كونه الفيلسوف الأكبر لم يحاول أن يبدي على تأليفاته ـ غير المربوطة بالفلسفة ـ صبغة فلسفيّة ، فهو ـ قدس‌سره ـ في كلّ فنّ يلبس اللباس الذي يقتضيه ذلك الفنّ لا غير دونما تأثّر.

٢٣

آثاره :

١ ـ هذا التفسير الذي بين يدك ؛

٢ ـ الميزان في تفسير القرآن ؛

٣ ـ بداية الحكمة ؛

٤ ـ نهاية الحكمة ؛

٥ ـ اصول الفلسفة والمنهج الواقعي ؛

٦ ـ الشيعة في الإسلام ؛

٧ ـ سنن النبيّ ؛

٨ ـ القرآن في الإسلام ، والذي ترجم إلى عدّة لغات.

وعشرات الرسائل والكتب الاخرى ، لا يسع المجال لتفصيلها.

وفاته :

وفي سنة ١٤٠٢ ه‍ ق فجعت الامّة وتيتّم العلم وأهله برحيل مفكّرها وعظيمها إلى الملكوت وجنان الخلد والراحة الأبديّة ، وذلك في صباح يوم الأحد في الثامن عشر من شهر محرّم الحرام ، ودفن في مدينة قم المقدسة بجوار السيّدة الجليلة فاطمة المعصومة ـ عليها‌السلام ـ فسلام عليه يوم ولد ، ويوم أصبح مفخرة للعلم ، ويوم انتقل إلى جوار ربّه ، ويوم يبعث حيّا.

تعريف بالكتاب :

ليس من شكّ في أنّ من جملة المهمّات الصعبة أن يقوم الباحث بعمليّة التوفيق بين الآيات بظواهرها وحسب ما يعطيه مفادها ، وبين الروايات

٢٤

الواردة في تفسيرها على كثرتها وما يتراءى من الاختلاف الشاسع في مضامينها.

وصعوبة هذه العمليّة تنشأ من الحاجة إلى الاضطلاع في محاور عديدة :

منها : الإحاطة الشاملة والعميقة في المعارف القرآنيّة.

ومنها : المعرفة الكاملة باللسان المفسّر لتلك الآيات ، أعني الروايات الواردة عن المعصومين ـ عليهم‌السلام ـ.

ومنها : القدرة على تطبيق ما يوصل إليه أحدهما على ما يستفاد من الآخر.

ولذلك نرى الكثير من المفسّرين يتحاشى عن عمليّة الجمع والتوفيق بينهما ، إمّا بإهمال هذا الجانب رأسا ، أو محاولا سرد الروايات التفسيريّة دونما تعليق ، أو مقتصرا على شيء يسير من التوضيح والتوفيق دونما دخول في العمق أو حلّ جذري للمسألة.

والكتاب الماثل بين يديك ـ عزيزنا القارئ ـ يعبّر عن عمل جريء ونتاج فكري رائع صبّه مؤلّفه العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ على هذا المحور ـ أعني عمليّة الجمع والتوفيق بين الآيات والمرويّات ـ بطريقة فريدة من نوعها ؛ فكان يستنطق الآيات ويستخرج منها مفهوما متكاملا ، ثمّ يغوص في الروايات ويستخرج منها مفادا رائعا ، ثمّ يلاقح بينهما ـ في عمليّة معقّدة ـ للتوصّل إلى نظريّة موحّدة فذّة ، يتلاشى فيها كلّ ما كان يتخيّل ويتراءى من الاختلاف والتهافت ، ولا يرى هناك غير الانسجام والالتئام.

ولم يستغرق مؤلّفنا ـ قدس‌سره ـ في البحث عن أسانيد الروايات وأحوال رجالها وبيان قوّتهم أو ضعفهم ، لأنّ غرضه ـ الذي أشرنا إليه آنفا ـ

٢٥

لم يكن يقتضي ذلك.

كما أنّه لم يستغرق ـ وللسبب الذي أشرنا إليه نفسه ـ في الأبحاث الفلسفيّة والتأريخيّة والأخلاقيّة ، أو حتّى في بيان معنى كلّ آية آية ، وبهذا اختلف منهجه هنا عمّا نهجه هو بنفسه في الميزان في تفسير القرآن.

إلّا أنّه ـ وللأسف الشديد ـ لم تشأ الظروف والمقادير أن يكمل المؤلّف هذا السّفر القيّم إلى آخره ، فتوقّف فيه عند أواسط سورة يوسف ، ولعلّ السبب في ذلك يعود ـ على ما ذكره بعض القريبين منه ـ إلى الاضطراب الذي حصل أثر هجوم الرّوس على مدينة تبريز.

تأريخ تأليف الكتاب :

وقد كان شروع المؤلّف في تأليف هذا الكتاب عند عودته من النجف الأشرف إلى موطنه تبريز ، وكان ذلك قبل شروعه في تأليف سفره القيّم الآخر «الميزان في تفسير القرآن».

وقد كتبه في ثلاثة أجزاء : يحتوي الجزء الأوّل منه على (٣٧٣) صفحة ، والثاني على (٣٦٥) صفحة ، والثالث على (١٢٩) صفحة ، وكلّ صفحة تشتمل على (٢٢) سطرا ، والجزء الأوّل منها يشتمل على نسختين مبيضة ومسودة.

وقد أنهى تفسيره لسورة البقرة ـ كما ذكر ذلك هو في آخرها ـ ليلة الأضحى من سنة ١٣٦٤ ه‍. ق.

كما أنهى تفسير سورة آل عمران ـ وبها يتمّ الجزء الأوّل من الأجزاء الثلاثة للمخطوطة ـ في الثاني عشر من شهر ربيع الثاني لسنة ١٣٦٥ ه‍. ق.

كما أنّه في آخر سورة المائدة يقول :

٢٦

«بلغ إلى هنا في المشهد المقدّس الرضوي على صاحبها أفضل السلام صبيحة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك عام خمس وستّين وثلاث مائة وألف هجريّة نبويّة قمريّة على هاجرها الصلاة».

وانتهى من تفسير سورة الأنعام في ليلة الثلاثاء السادس عشر من شهر محرّم من سنة ١٣٦٩ ه‍. ق.

ومن تفسير سورة الأعراف في ليلة الأربعاء في العاشر من شهر جمادي الثانية من نفس السنة.

كما أنّه في نفس السنة في يوم الأربعاء التاسع والعشرين من شهر رجب فرغ عن تفسير سورة الأنفال.

واستمرّ في السنة ذاتها إلى منتصف شهر رمضان ـ وكان مصادفا ليوم السبت ـ في تحريره لتفسير سورة التوبة.

منهج التحقيق :

ليس التحقيق مجرّد عمل كمالي يخرج الكتاب بواسطته من نسخته المخطوطة إلى نسخة مطبوعة بشكل أنيق ، وإنّما هو جهد علمي يحتاج إلى فهم مقصود المؤلّف ، كما أنّه ليس من مواصفات المحقّق الناجح الجرأة على ما كتبه المؤلّف فيتسرّع في الحكم بخطئه ، فضلا عن أن يمدّ يد التغيير إلى جملاته أو حتّى إلى حرف من حروفه بحجّة كون ما توصّل إليه هو الصحيح ، بل الفنّ ـ فنّ التحقيق ـ يقتضي الدفاع عن نسخة المؤلّف ما أمكن الدفاع ، إلى أن يثبت الخطأ فيشير إليه في الهامش ، أو يضعه بين معقوفتين داخل

٢٧

المتن ويشير إلى ذلك في الهامش.

وكان هذا هو المنهج الذي اعتمدناه في تحقيق نسخة هذا الكتاب القيّم.

وتمّت عمليّة التحقيق بالطريقة التالية :

١ ـ لم يتمّ استنساخ نسخة المؤلّف ، لوضوح خطّها ، (١) فلم نحسّ بالحاجة إلى ذلك ، بل تمّ إجزاء ضبط الكلمات والتقطيع البدوي للنصّ عليها ، ثمّ صفّت حروفها في الحاسوب «الكامپيوتر» ثمّ اجريت عمليّات التحقيق الاخرى.

٢ ـ تمّ مقابلة وتطبيق ما سحب على الورق مع النسخة المخطوطة ؛ للتأكّد من سلامة المطبوع عن الأخطاء ومطابقته للأصل.

٣ ـ تمّ توثيق ما نقله المؤلّف من الآيات والروايات والأقوال عن طريق استخراجها من مصادرها الأصليّة ، وفي الأثناء تمّت عمليّة مقابلة بين ما هو المنقول هنا وبين المصادر للتأكّد من التطابق ، وقد أشير في الهامش ـ عند عدم المطابقة ـ إلى الاختلاف بعلامة (ـ) إذا لم تكن الكلمة المنقولة موجودة في المصدر ، وبعلامة (+) إذا نقصت نسختنا عن المصدر ، وبإثبات عين الموجود في المصدر عند مغايرة المنقول ـ في ضبطه ـ مع المصدر.

٤ ـ ثمّ اجريت عمليّة التقويم للنصّ وضبطه بشكل كامل ـ إلّا ما زاغ عنه البصر ـ وعقدنا في الهامش بعض التعاليق التوضيحيّة في الموارد التي ارتأينا فيها ضرورة ذلك.

__________________

(١). ينقل العلّامة الطهراني عن استاذه العلّامة ـ أعلى الله مقامه ـ أنّه «كان خطّه على نسق (نستعليق) وهو خطّ فارسي معروف ، وفي الخطّ الفارسي (شكسته) من أجمل وأفضل ما خطّه اساتذة فنّ الخطّ ، ورغم أنّه اصيب في أواخر حياته بضعف الأعصاب وحصول الرجفة في يده إلّا أنّ جوهر خطّه المنطلق من يد مرتعشة كان يحكي عن استاذه في هذا الفنّ» الشمس الساطعة : ١٩ ـ ٢٠.

٢٨

٥ ـ بالنسبة للآيات جعلت عليها ـ على كلّ حرف حرف منها ـ الحركات ، كما أنّه ـ في الآيات التي وردت في كلام المؤلّف ـ فرّقنا بين ما ذكر من الآيات كشاهد على المطلب وبين الآيات التي يكون المؤلّف بصدد شرحها ، وذلك بجعل حروف آيات الشاهد أصغر حجما من الاخرى.

٦ ـ استخدمنا علامات الترقيم المتداولة في الأساليب المتعارفة للتحقيق من الفارزة (،) والنقطة (.) والفارزة المنقوطة (؛) والأقواس المزهّرة ( ) والأقواس الخالية من التزهير بأشكالها مثل « » و ( ) كما استخدمنا المعقوفات [ ] عند إضافة شيء إلى المتن أو تغيير كلمة كما ألمحنا إلى ذلك آنفا.

٧ ـ صحّحنا الأخطاء المطبعيّة والإملائيّة والنحويّة دون الإشارة إليها في الهامش.

شكر وتقدير :

نسدي شكرنا أوّلا : لسماحة السيّد جواد الگلپايگاني والسيّد باقر الگلپايگاني والسيّد جواد الموسويّ الهوائيّ لتشجيعهم الدؤوب على إنجاز العمل وتوفير مستلزمات ذلك ، وثانيا : إلى كلّ من ساهم من قريب أو بعيد في سبيل إخراج هذا السّفر إلى النور ، ولا سيّما الاخوة المنتسبين إلى مكتب تنظيم ونشر آثار العلّامة الطباطبائي ـ قدس‌سره ـ.

ونسأله تعالى أن يتقبّل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم ، وأن ينفع به. والحمد لله ربّ العالمين في البدء والختام.

أصغر إرادتي

٢٩
٣٠

سورة الفاتحة

٣١
٣٢

[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)]

قوله سبحانه : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

الناس ربّما يعملون عملا أو يبتدئون في عمل باسم عزيز من أعزّتهم أو كبير من كبرائهم ليكون عملهم مباركا بذلك أو ذكرى يذكّرهم به. ومثل ذلك موجود في باب التسمية ، فربما يسمّون إنسانا أو شيئا مصنوعا أو معمولا بأسماء من يهدونه أو يعظّمونه ليبقى الاسم ببقائه ، وهذا إلقاء نسبة بين المسمّى وصاحب الاسم ليكون لصاحب الاسم نوع بقاء ببقاء المسمّى ، فلا يزول ولا ينسى.

وقد جرى كلامه سبحانه هذا المجرى ، ليكون ما يشتمل عليه من المعنى مرتبطا باسمه سبحانه وأدبا يؤدّب به العباد في أعمالهم وأفعالهم وأقوالهم ، فيبتدئوا باسمه ويعملوا به ليكون منعوتا بنعته ومقصودا لأجله سبحانه ، وفيه إظهار أنّ العمل موجّه بوجه الله ، فلا يكون هالكا متبّرا باطلا ؛ إذ قد بيّن سبحانه في مواضع من كلامه : أنّ ما ليس لوجهه الكريم متبّر باطل (١) حابط ، (٢) وأنّه

__________________

(١). اشارة إلى سورة الأعراف (٧) : ١٣٩.

(٢). البقرة (٢) : ٢١٧ ؛ المائدة (٥) : ٥ ؛ الزمر (٣٩) : ٦٥.

٣٣

سيقدم إلى ما عملوا من عمل اريد به غيره ، فيجعله هباء منثورا (١) حين يضلّ عنهم ما كانوا يدعون من قبل (٢) وما كانوا يفترون. (٣)

وكلّ أمر واقع فإنّما نصيبه من البقاء والبركة بقدر ما لله سبحانه فيه من النصيب ؛ فلو كان منعوتا بنعته مسمّى باسمه مقصودا لأجله سبحانه ، وإلّا فهو هالك أبتر لا عقب له. وهذا معنى ما رواه الفريقان عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر». (٤) الحديث.

ثمّ إنّه سبحانه كرّر في كلامه ذكر السورة كثيرا ، كقوله سبحانه : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ)، (٥) وقوله سبحانه : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ)، (٦) وقوله تعالى : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) ، (٧) وقوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها). (٨)

فبان لنا من ذلك : أنّ لهذه الطوائف من كلامه سبحانه ـ التي فصّلها قطعا قطعا وسمّى كلّ قطعة منها سورة ـ نوعا من وحدة التأليف والتمام لا يوجد بين أبعاض من سورة ، ولا بين سورة وسورة.

ومن ذلك يعلم : أنّ الأغراض والمقاصد في السور مختلفة ، وأنّ كلّ واحدة منها مسوقة لبيان معنى مقصود خاصّ لن تتمّ إلّا بتمامه. وعلى هذا : فالتسمية في أوّل كلّ سورة ـ على ما تقدّم من البيان ـ راجعة إلى توصيف المعنى المقصود

__________________

(١). اشارة الى سورة الفرقان (٢٥) : ٢٣.

(٢). اشارة الى سورة فصّلت (٤١) : ٤٨.

(٣). اشارة الى سورة آل عمران (٣) : ٢٤ ؛ الأنعام (٦) : ٢٤ ؛ الأعراف (٧) : ١٥١.

(٤). بحار الأنوار ٧٣ : ٣٠٥ ، الحديث : ١ ، و ١٠٧ : ١٠٨ ، الحديث : ٢٩ ؛ مسند أحمد ٢ : ٣٥٩.

(٥). يونس (١٠) : ٣٨.

(٦). هود (١١) : ١٣.

(٧). محمّد (٤٧) : ٢٠.

(٨). النور (٢٤) : ١.

٣٤

بيانه فيها وتنعيته باسمه سبحانه ، وكلامه سبحانه جملة واحدة حيث كان مشتملا بالنظر إلى الغاية الأخيرة على هداية العباد إلى مستقيم الصراط وسواء السبيل [و] بمقتضى الرحمة التي وعد سبحانه أن سيكتبها للذين يتّقون كان الأنسب هو الابتداء والتسمية بالأسماء الثلاثة : «الله» «الرحمن» «الرحيم» ، كما اشتمل عليها قوله سبحانه : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ). (١) فهو سبحانه «رحيم» لأنّه «رحمن» و «رحمن» لأنّه «الله» سبحانه ، هذا بالنسبة إلى مجموع السور.

وأمّا بالنسبة إلى خصوص هذه السورة ـ وهي سورة الحمد ـ فالذي تشتمل عليه ، هو الحمد وإظهار العبوديّة ، فما فيها من المضمون فهو له سبحانه لا سبيل للبطلان إليه ، غير أنّ قوله سبحانه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (٢) حيث كان بالنيابة عن العباد تعليما وتأديبا ، كان اشتماله على إظهار العبوديّة والاستعانة اشتمالا على فعل العبد ، وهذا منتهى ما في هذا العمل من وجه الهلاك والفساد.

فالتسمية تنعيته باسمه سبحانه وتبريكه به ليكون بذلك خالصا لوجهه الكريم ، وتستقرّ معنى العبوديّة في مستقرّها ، إذ إثبات العبادة للعبد ينافي كونه عبدا لا يملك لنفسه شيئا.

ويتبيّن بذلك معنى ما ورد من الروايات عنهم ـ عليهم‌السلام ـ

فعن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : «يعني بهذا الاسم أقرأ وأعمل هذا العمل». (٣)

وفي التوحيد وتفسير الإمام عنه ـ عليه‌السلام ـ يقول : («بِسْمِ اللهِ) أي :

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٥٦.

(٢). الفاتحة (١) : ٥.

(٣). تفسير الصافي ١ : ٨٠.

٣٥

أستعين على اموري كلّها بالله الذي لا تحقّ العبادة إلّا له ، المغيث إذا استغيث ، والمجيب إذا دعي». (١)

أقول : وهو إشارة إلى ما ذكرناه آنفا : أنّ التسمية في هذه السورة لتتميم الإخلاص ، على ما يقتضيه لفظ الاستعانة الذي لا يستعمل إلّا في مورد يحتاج فيه إلى التتميم دون أصل العمل.

وفي العيون ، والمعاني ، عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : «يعني اسم نفسي بسمة من سمات الله وهي العبادة» قيل له : ما السمة؟ قال : «العلامة». (٢)

أقول : وهذا معنى كالمتولّد من المعنى الذي أشرنا إليه ، فإنّ العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك أن يسم نفسه التي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته تعالى.

وفي التهذيب : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، وفي العيون ، وتفسير العيّاشي ، عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ : «إنّها أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها». (٣)

أقول : وسيأتي معناه في الكلام على الاسم الأعظم.

وفي العيون : عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ : «إنّها من الفاتحة وإنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان يقرؤها ويعدّها آية منها ، ويقول : فاتحة الكتاب هي السبع المثاني». (٤)

__________________

(١). التوحيد : ٢٣١ ، الحديث : ٥ ؛ تفسير الإمام العسكري ـ عليه‌السلام ـ : ٢١ ، الحديث : ٥.

(٢). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ٢ : ٢٣٦ ، الحديث : ١٩ ؛ معاني الأخبار : ٣ ، الحديث : ١.

(٣). تهذيب الأحكام ٢ : ٢٨٩ ، الحديث : ١٥ ؛ عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ٨ ، الحديث : ١١ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢١ ، الحديث : ١٣.

(٤). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ٢ : ٢٧٠ ، الحديث : ٥٩.

٣٦

وفي الخصال : عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «قال : ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها». (١)

وعن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «سرقوا أكرم آية من كتاب الله بسم الله الرحمن الرحيم». (٢)

وينبغي الإتيان به عند افتتاح كلّ أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه. (٣)

أقول : والروايات عن أهل البيت [عليهم‌السلام] في هذا المعنى كثيرة ، وهي على كثرتها تدلّ على أنّ البسملة جزء من كلّ سورة في القرآن إلّا البراءة ؛ فإنّها جزء من سورة الأنفال. (٤)

وأمّا خلاصة القول في الأسماء الثلاث : «الله ، الرحمن ، الرحيم» ف «الله» فعّال بمعنى المفعول كالكتاب بمعنى المكتوب من أله بمعنى عبد ، أو بمعنى تاه إذ هو ذات يتيه فيه العقول وتتحيّر ، إذ هو الأصل والمنشأ لكلّ موجود أو كمال موجود لا سبيل لشيء من البطلان إليه ؛ إذ هو لازم الالوهيّة بحسب النظرة الاولى من العقل ، ولذلك قيل : إنّه اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال ، و «الرحمن» فعلان بمعنى كثير الرحمة.

والصفات المثبتة له تعالى من المعاني التي نفهمها يجب أن تجرّد عن الخصوصيّات المصداقيّة التي بين أيدينا أعني عن نواقص الإمكان ، فهي تثبت له سبحانه بمجرّد معناها من غير تقيّد بقيود المصاديق المادّية ، بل الممكنة على

__________________

(١). لم نجده في الخصال ؛ أنظر إلى تفسير العيّاشي ١ : ٢٢ ، الحديث : ١٦ ؛ مجمع البيان ١ : ٥٠.

(٢). لم نجده في الخصال ؛ تفسير العيّاشي ١ : ١٩ ، الحديث : ٤ ؛ بحار الأنوار ٨٢ : ٢٠ ، الحديث : ١٠ ، و ٨٩ : ٢٣٦ ، الحديث : ٢٨.

(٣). والظاهر أنّه ـ قدس‌سره ـ أخذه من كلام الفيض ـ رحمه‌الله ـ كما جاء في تفسير الصافي.

(٤). وسائل الشيعة ٦ : ٥٦ ، الباب : ١١ ؛ مستدرك الوسائل ٤ : ١٦٤ ، الباب : ٨.

٣٧

ما حقّق في محلّه ، والرحمة فينا ميل قلبي من الراحم إلى المرحوم لإصابة الخير إليه وبالتجريد عن خصوصيّات المصاديق هي إيصال الخير إلى المحتاج إليه ، والخير هو الوجود ، فالرحمة منه سبحانه إفاضة الوجود فهو الغنيّ ذو الرحمة وسعت رحمته كلّ شيء ، فالاسمان : «الرحمن والرحيم» بمعنى واحد إلّا ما يدلّ عليه هيئة الاسمين. فصيغة المبالغة تدلّ على الكثرة ، والصفة المشبّهة على الاستقرار والثبوت والدوام ، من غير فرق من حيث الظرف كالدنيا والآخرة ، ولا من حيث المتعلّق كالمؤمن والكافر ، لكنّه سبحانه يستعمل اسم «الرحيم» في كلامه في موارد يختصّ بالمؤمنين ، وب «الرحمة» من حيث الهداية أو الثواب ، كقوله : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، (١) (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ). (٢)

ومن هنا ما يقال : إنّ الرحمان مختصّ بالدنيا أو عامّ للمؤمن والكافر ، والرحيم بالآخرة ، وهو الملائم لما تفيده الصفة المشبّهة.

وبذلك يتبيّن معنى ما في الكافي ، والتوحيد ، والمعاني ، والعيّاشي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «والله إله كلّ شيء ، الرحمن بجميع خلقه ، الرحيم بالمؤمنين خاصّة». (٣)

وروي عن عيسى بن مريم ـ عليه‌السلام ـ : «الرحمن رحمن الدنيا ، والرحيم رحيم الآخرة». (٤)

وروي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الرحمن اسم خاصّ بصفة عامّة ،

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢١٨ ؛ آل عمران (٣) : ٣١ و ١٢٩.

(٢). الحديد (٥٧) : ٩.

(٣). الكافي ١ : ١١٤ ، الحديث : ١ ؛ التوحيد : ٢٣٠ ، الحديث : ٢ ؛ معاني الأخبار : ٣ ، الحديث : ٢ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٢ ، الحديث : ١٩.

(٤). التبيان ١ : ٢٩ ؛ مجمع البيان ١ : ٥٤ ؛ نور الثقلين ١ : ١٤.

٣٨

والرحيم اسم عامّ لصفة خاصّة». (١)

أقول : وكأنّه ـ عليه‌السلام ـ يريد أنّ الرحمن خاصّ بالدنيا ويعمّ المؤمن والكافر ، والرحيم يشمل الدنيا والآخرة لكن يختصّ بالمؤمنين والإفاضة الخاصّة بهم ، فيرجع إلى ما ذكرناه من المعنى ، وقد قال سبحانه : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ). (٢)

*

__________________

(١). مجمع البيان ١ : ٥٤ ؛ جوامع الجامع ١ : ٥٣ ؛ نور الثقلين ١ : ١٤.

(٢). الأعراف (٧) : ١٥٦.

٣٩

[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)]

قوله سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إلى قوله : (يَوْمِ الدِّينِ)

ثناء وحمد منه تعالى لنفسه بقصر الحمد عليه ، ولا يتفاوت في ذلك كون اللام للاستغراق أو الجنس ، إذ قد قال سبحانه : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) فعمّم نسبة الخلق على ما سواه من شيء ثمّ قال : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)، (٢) فأثبت الحسن لكلّ شيء مخلوق ، فالخلق يدور مع الحسن أينما دار ، فما ليس بحسن ليس بمخلوق من حيث إنّه ليس بحسن جميل ، ثمّ قال سبحانه : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ، (٣) فأثبت مالكيّة الخلق لنفسه ، فهو المالك لكلّ شيء مخلوق جميل ، ولا يملك غيره خلقا ولا جميلا إلّا بإذنه وتمليكه ، فهو سبحانه المالك لكلّ حمد وثناء بالحقيقة ، وما ينسب من ذلك إلى غيره سبحانه فله حقّه وحقيقته قبله.

__________________

(١). غافر (٤٠) : ٦٢.

(٢). السجدة (٣٢) : ٧.

(٣). الأعراف (٧) : ٥٤.

٤٠