تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

إبراهيم وإسماعيل معا نبيّ غير رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وقد روى الفريقان عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّه قال : «أنا دعوة أبي إبراهيم». (١)

*

__________________

(١). الأمالي للطوسي : ٣٧٨ ، الحديث : ٨١١ ، المجلس الثالث عشر ؛ تفسير القمي ١ : ٦٢ ؛ دعائم الإسلام ١ : ٣٤ ؛ مكارم الأخلاق : ٤٤٢ ، الفصل الثالث ؛ التبيان في تفسير القران ١ : ٤٦٦ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٩٣ ؛ جوامع الجامع ١ : ١٥١ ؛ تفسير الصافي ١ : ١٩٠ ؛ تفسير الأصفى ١ : ٦٦ ؛ تفسير نور الثقلين ١ : ١٣٠ ، الحديث : ٣٨١ و ٢ : ٥٤٨ ، الحديث : ٩٨ ؛ المستدرك للحاكم النيسابوري ٢ : ٤١٨ ؛ مسند الشامين ٢ : ٣٤١ ؛ كنز العمال ١٢ : ٤٢٣ ، الحديث : ٣٥٤٧٩ ؛ شواهد التنزيل ١ : ٤١١ و ٤١٢ ؛ تفسير القرطبي ٢ : ١٣١ ؛ الدر المنثور ٥ : ٢٠٧ ؛ تفسير الثعالبي ١ : ٣١٨ ؛ بحار الأنوار ١٢ : ٩٢ ، الباب : ٥.

٢٢١

[وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)]

قوله سبحانه : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)

يدلّ على أنّ العصيان ـ وهو الرغبة عن الملّة ـ سفاهة نفسيّة ، ومنه يستفاد معنى ما ورد عنهم ـ عليهم‌السلام ـ : «العقل ما عبد به الرحمن». (١)

قوله سبحانه : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا)

قد مرّ معنى الاصطفاء في ذيل قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) ، (٢) أنّه مقام التحقّق بالدين ، ويشهد به قوله سبحانه : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ

__________________

(١). الكافي ١ : ١١ ، الحديث : ٣ ؛ المحاسن ١ : ١٩٥ ، الحديث : ١٥ ؛ معاني الأخبار : ٢٣٩ ، الحديث : ١ ؛ بحار الأنوار ١ : ١١٦ ، الحديث : ٨ ، الباب : ٤.

(٢). البقرة (٢) : ١٢٤.

٢٢٢

أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)، فالظرف متعلّق بقوله : (اصْطَفَيْناهُ) وإذا ضمّ إليه قوله في الآية التالية : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) أفاد أنّ المصطفى هو الدين ، واصطفاء الإنسان بإسلامه ودينه ، فالمصطفى هو المتحقّق بالدين.

والإصطفاء هو الاجتباء ، وإنّما الفرق بينهما معنى : أنّ الاجتباء يقتضي حركة وطلبا من المجتبي بصيغة الفاعل بخلاف الإصطفاء ؛ إذ الاجتباء من قولنا : جبى الخراج جباية : إذا جمعها ، فيحتاج إلى حركة وطلب ، والاصطفاء من الصفاء بمعنى الخلوص ، فلا يحتاج إلى طلب وحركة.

وبهذه النسبة فالاصطفاء بمعنى خلوص الإنسان للدين وهو مقام ، والاجتباء بمعنى تخصيص الله ـ سبحانه ـ عبدا من بين العباد بنفسه بالعصمة كما عرفت ، قال الله تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) وقال : (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ) (٢) وقال : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٣) وقال : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) (٤) إلى غير ذلك من الآيات.

وأمّا الإسلام فهو والتسليم والاستسلام بمعنى : من السلم ، والشيء إذا كان بالنسبة إلى آخر بحال لا يعصيه ولا يدفعه فقد أسلم وسلّم واستسلم له : قال سبحانه : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) (٥) وقال : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) (٦) ووجه الشيء : ما يواجهك به ، وهو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود

__________________

(١). الحج (٢٢) : ٧٨.

(٢). الأنعام (٦) : ٨٧.

(٣). طه (٢٠) : ١٢٢.

(٤). مريم (١٩) : ٥٨.

(٥). البقرة (٢) : ١١٢.

(٦). الأنعام (٦) : ٧٩.

٢٢٣

الشيء ، فالإسلام له تعالى هو معنى القبول والتهيّؤ من الإنسان لما يرد عليه منه سبحانه من تكليف أو أمر إلهيّ ، ومن هنا كان له مراتب بحسب ترتّب الواردات بمراتبها :

فأوّل المراتب : القبول لظواهر أوامره ونواهيه ، بتلقّي الشهادتين لسانا. قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (١) ويتعقّبه الإذعان القلبي ، وهو الإيمان بالاصول إجمالا ، ويتبعه عمدة الفروع العمليّة ، وهو أيضا أوّل مراتب الإيمان.

وفي حديث سماعة عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الإيمان من الإسلام مثل الكعبة الحرام من الحرم ، قد يكون [رجل] في الحرم ولا يكون في الكعبة ، ولا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم». (٢)

وروى سماعة أيضا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «الإسلام : شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول الله ، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ، والإيمان : الهدى ، وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام». (٣)

وثانيها : ما يلي الإيمان المذكور من التهيّؤ والتسليم لجلّ الاعتقادات الحقّة التفصيليّة وما يتبعها من الأعمال الصالحة ، وإن أمكن التخطّي في بعض الموارد ، قال تعالى في وصف المتّقين : (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) (٤) وقال : (يا

__________________

(١). الحجرات (٤٩) : ١٤.

(٢). معاني الأخبار : ١٨٦ ، الحديث : ١ ؛ بحار الأنوار ٦٥ : ٢٧١ ـ ٢٧٢ ؛ وسائل الشيعة ١٣ : ٢٩١ ، الحديث : ١٧٧٧٣.

(٣). الكافي ٢ : ٢٥ ، الحديث : ١ ؛ بحار الأنوار ٦٥ : ٢٤٨ ، الحديث : ٨ ؛ الفصول المهمة في أصول الأئمة ١ : ٤٣٠ ، الحديث : ٥٩٠ ؛ تفسير نور الثقلين ٥ : ١٠٢ ، الحديث : ١٠٦.

(٤). الزخرف (٤٣) : ٦٩.

٢٢٤

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً). (١)

فمن الإسلام ما يتأخّر تحقّقا عن الإيمان ، ويتبعه الإيمان التفصيلي بالحقائق. قال سبحانه : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٢) وقال أيضا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (٣) ففيها إرشاد المؤمنين إلى الإيمان ، فالإيمان غير الإيمان.

وثالثها : ما يلي الإيمان بالمرتبة الثانية ، فالنفس إذا أنست بالإيمان المذكور وتخلّقت بأخلاقه تمكّن فيها ، وانقادت له سائر القوى البهيميّة والسبعيّة ، وبالجملة ، القوى المائلة إلى هوسات الدنيا وزخارفها الغارّة ، فصار الإنسان يعبد الله كأنّه يراه ، فإن لم يكن يراه فإنّه يراه ، فلم يجد في سرّه ما لا ينقاد إلى أمر الله ونهيه وقضائه وقدره ، قال سبحانه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٤) والإيمان بالمرتبة الثالثة يتعقّبه. قال سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ، (٥) إلى أن قال : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ). (٦)

روى البرقي عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ قال : «الإسلام هو التسليم والتسليم

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٠٨.

(٢). الحجرات (٤٩) : ١٥.

(٣). الصف (٦١) : ١٠ ـ ١١.

(٤). النساء (٤) : ٦٥.

(٥). المؤمنون (٢٣) : ١.

(٦). المؤمنون (٢٣) : ٣.

٢٢٥

هو اليقين». (١)

وفي حديث الكاهلي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «لو أنّ قوما عبدوا الله وحده لا شريك له ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وحجّوا البيت الحرام ، وصاموا شهر رمضان ، ثمّ قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : ألا صنع بخلاف الذي صنع؟! أو وجدوا ذلك في قلوبهم ، لكانوا بذلك مشركين ...» الحديث. (٢)

وفي حديث ابن رئاب عنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّا لا نعدّ الرجل مؤمنا حتى يكون لجميع أمرنا متّبعا مريدا ...» (٣) الحديث.

وربّما عدّت المرتبة الثانية والثالثة مرتبة واحدة ، والأخلاق الفاضلة ـ من الرضا والتسليم والحسبة والصبر وتمام الزهد والورع والحبّ والبغض في الله ـ من لوازم هذه المرتبة ، ومنه قوله سبحانه : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وقد مرّ بيانه آنفا.

ورابعها : ما يلي المرتبة السابقة من الإيمان ؛ فإنّ حال الإنسان ـ وهو في المرتبة السابقة ـ مع ربّه حال العبد منّا مع مولاه ، إذا كان قائما بوظائف عبوديّته حقّا من التسليم الصّرف لمولاه ومالكه ، والأمر في ملك ربّ العالمين وعبوديّة الإنسان وسائر الخلق له تعالى أعظم من ذلك ، فهو حقيقة الملك الذي لا استقلال

__________________

(١). المحاسن ١ : ٢٢٢ ، الحديث : ١٣٥ ؛ بحار الانوار ٦٥ : ٣١١ ، الحديث : ٤ ، الباب : ٢٥.

(٢). الكافي ١ : ٣٩٠ ، الحديث : ٢ ؛ و ٢ : ٣٩٨ ، الحديث : ٦ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٥٥ ، الحديث : ١٨٤ ؛ المحاسن ١ : ٢٧١ ، الحديث : ٣٦٥ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٠٥ ، الحديث : ٩٠.

(٣). الكافي ٢ : ٧٨ ، الحديث : ١٣ ؛ وسائل الشيعة ١٥ : ٢٤٣ ، الحديث : ٢٠٣٩١ ؛ بحار الأنوار ٧٢ : ٢٣٥.

٢٢٦

دونه لشيء ممّا سواه ، لا ذاتا ولا وصفا ولا فعلا ، بل هو القائم على الكلّ على ما يليق بكبريائه جلّ جلاله.

فالإنسان ـ وهو في المرتبة السابقة ـ ربّما أخذته العناية الإلهيّة وهيّأته للإيمان بأنّ الملك لله ، لا يملك شيء لنفسه شيئا إلّا به ، لا ربّ سواه ، وهذا معنى وهبيّ اختصاصيّ لا تأثير لاختيار الإنسان فيه ، وهو قوله سبحانه حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا) (١) فإنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان مسلما وقد أمره ربّه بالإسلام ، فأجابه به ووصّى بها بنيه ، وهو ـ مع ذلك ـ يسأله ذلك ، فالإسلام غير الإسلام ، وليس معناه : أدمنا على الإسلام لك بالتوفيق ، إذ لا وجه للعدول عن حاقّ المعنى إلى غيره ، بل هو معنى خارج عن عهدته وإختياره يسأل به ربّه.

ويتعقّبه الإيمان بهذه المرتبة وهو فعليّة ما يستدعيه هذا التهيؤ ، قال تعالى : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ). (٢)

ويمكن أن يكون الاصطفاء والاجتباء اسمين لهذين ؛ أعني الإسلام والإيمان بهذا المعنى.

ومن مختصّات هذه المرتبة : أنّ المتحقّق بها لا يشتغل إلّا بربّه ، ولا يلي أمره إلّا ربّه سبحانه ، فلا يريد ولا يترك ولا يحبّ ولا يبغض ولا يلتذّ ولا يتألّم إلّا به وله سبحانه وتعالى.

وفي البحار عن إرشاد الديلمي ـ وذكر سندين لهذا الحديث ، وهو من أحاديث المعراج ـ وفيه : «قال الله سبحانه : يا أحمد! هل تدري أيّ عيش أهنى وأيّ

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٢٨.

(٢). يونس (١٠) : ٦٢ ـ ٦٣.

٢٢٧

حياة أبقى؟ قال اللهمّ لا ، قال :

أمّا العيش الهنيء : فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي ولا يجهل حقّي ، يطلب رضائي في ليله ونهاره.

وأمّا الحياة الباقية : فهي التي يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا وتصغّر في عينيه ، (١) وتعظم الآخرة عنده ، ويؤثر هواي على هواه ، ويبتغي مرضاتي ، ويعظّم حقّ نعمتي ، ويذكر عملي (٢) به ، ويراقبني بالليل والنهار عند كلّ سيّئة أو معصية ، وينّقي قلبه عن كلّ ما أكره ، ويبغض الشيطان ووساوسه ، ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطانا وسبيلا.

فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّا ، حتى أجعل قلبه وفراغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي ، وأفتح عين قلبه وسمعه ؛ حتى يسمع بقلبه ، وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي ، واضيّق عليه الدنيا ، وابغّض إليه ما فيها من اللذّات ، واحذّره من الدنيا وما فيها كما يحذر الراعي على غنمه مراتع الهلكة ، فإذا كان هكذا يفرّ من الناس فرارا ، وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن.

يا أحمد! ولازيّننّه بالهيبة والعظمة ، فهذا هو العيش الهنيء والحياة الباقية ، وهذا مقام الراضين ، فمن عمل برضائي الزمه ثلاث خصال : اعرّفه شكرا لا يخالطه الجهل ، وذكرا لا يخالطه النسيان ، ومحبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين ، فإذا أحبّني أحببته ، وأفتح عين قلبه إلى جلالي ، ولا اخفى عليه خاصّة خلقي ، واناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع

__________________

(١). في المصدرين : «عظمتي»

(٢). في المصدرين : «علمي»

٢٢٨

المخلوقين ومجالسته معهم ، واسمعه كلامي وكلام ملائكتي ، واعرّفه السرّ الذي سترته عن خلقي ، والبسه الحياء ، حتى يستحيي منه الخلق كلّهم ، ويمشي على الأرض مغفورا له ، وأجعل قلبه واعيا وبصيرا ، ولا اخفي عليه شيئا (١) من جنّة ولا نار ، واعرّفه ما يمرّ على الناس في القيامة من الهول والشدّة ، وما احاسب به الأغنياء والفقراء والجهّال والعلماء ، وانوّره في قبره ، وانزّل عليه منكرا ونكيرا حتى يسألاه ، ولا يرى غمّ الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطّلع ، ثمّ أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه ، ثمّ أضع كتابه في يمينه ، فيقرأه منشورا ، ثمّ لا أجعل بيني وبينه ترجمانا ، فهذه صفات المحبّين.

يا أحمد! اجعل همّك همّا واحدا ، واجعل لسانك لسانا واحدا ، واجعل بدنك حيّا لا يغفل أبدا ، من يغفل (٢) عنّي لم ابال في أيّ (٣) واد هلك». (٤)

وفي البحار عن الكافي والمعاني ونوادر الراوندي بأسانيد مختلفة عن الصادق والكاظم ـ عليهما‌السلام ـ واللفظ المنقول هاهنا لما في الكافي ـ قال : «استقبل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري ، فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني (٥)؟ فقال : يا رسول الله! مؤمن حقّا ، فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : لكلّ شيء حقيقة ، فما حقيقة قولك؟ فقال : يا رسول الله! عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي ، وأظمأت هواجري ، وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد وضع للحساب ، وكأنّي

__________________

(١). في المصدر : «شيء»

(٢). في المصدر : «غفل»

(٣). في المصدر : «لا ابال بأيّ»

(٤). ارشاد القلوب ١ : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ ؛ بحار الأنوار ٧٤ : ٢٨ ـ ٢٩.

(٥). هذه الكلمة ليست في المصدر ، بل في بحار الأنوار.

٢٢٩

أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة ، وكأنّي أسمع عواء أهل النار في النار ، فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : عبد نوّر الله قلبه ، أبصرت فاثبت». (١)

أقول : وخصوصيّات مضامين الروايتين مؤيّدة بروايات اخرى متفرّقة سيمرّ بك بعضها إن شاء الله ، ومستفادة من الآيات ، غير أنّ كثرتها منعت عن إيرادها هاهنا ، وسنتعرّض إن شاء الله لكلّ في محلّه.

قوله سبحانه : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)

الصلاح ـ وهو اللياقة بوجه ـ ربّما نسب في كلامه تعالى إلى عمل الإنسان ، وربّما نسب إلى ذاته ونفسه ؛ قال سبحانه : (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) (٢) وقال : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ). (٣)

وصلاح العمل وإن لم يرد به تفسير من نفس كلامه سبحانه ، لكن نسب إليه من الأثر :

أنّه صالح لوجه الله ، قال سبحانه : (صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) (٤) وقال : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ). (٥) وقال : (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ). (٦)

وأنّه صالح لأن يثاب عليه ، قال سبحانه : (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ

__________________

(١). الكافي ٢ : ٥٤ ، الحديث : ٣ ؛ بحار الأنوار ٢٢ : ١٢٦ ، الحديث : ٩٨ ؛ ٦٤ : ٢٨٧ ، الحديث : ٩ ؛ ٦٧ : ١٧٤ ، الحديث : ٢٩ ؛ المحاسن ١ : ٢٤٦ ؛ معانى الأخبار : ١٨٧ ، الحديث : ٥ ، نوادر للراوندي : ٢٠.

(٢). الكهف (١٨) : ١١٠.

(٣). النور (٢٤) : ٣٢.

(٤). الرعد (١٣) : ٢٢.

(٥). البقرة (٢) : ٢٧٢.

(٦). النمل (٢٧) : ١٩.

٢٣٠

صالِحاً) (١) والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّا.

وأنّه صالح ليرفع الكلم الطيّب فيصعد إلى الله ، قال سبحانه : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (٢) ويمكن أن يرجع إليه قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً). (٣)

فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة إلى العمل الصالح : أنّ الصلاح في العمل بمعنى تهيّئه ولياقته لأن يؤجر عليه وإمداده لصعود الكلم الطيّب إلى الله ولصلوحه إلى لقاء الله سبحانه ، قال تعالى : (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) (٤) وقال تعالى : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) (٥) فعطاؤه بمنزلة الصورة ، وصلاح العمل بمنزلة المادّة ، هذا.

وأمّا الصلاح الذاتي ـ وهو المراد بصلاح الصالحين ـ فلم يرد فيه ما يلوح تفسيره منه غير ما في قوله سبحانه : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٦) وقوله : (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧) وقوله حكاية عن سليمان : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (٨) وقوله : (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (٩) إلى قوله : (وَأَدْخَلْناهُ

__________________

(١). القصص (٢٨) : ٨٠.

(٢). فاطر (٣٥) : ١٠.

(٣). الكهف (١٨) : ١١٠.

(٤). الحج (٢٢) : ٣٧.

(٥). الاسراء (١٧) : ٢٠.

(٦). النساء (٤) : ٦٩.

(٧). الانبياء (٢١) : ٨٤.

(٨). النمل (٢٧) : ١٩.

(٩). الانبياء (٢١) : ٨٤.

٢٣١

فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). (١)

وليس المراد به الصلاح لمطلق الرحمة الإلهيّة العامّة لكلّ شيء ، ولا المختصّة بالمؤمنين فحسب على ما يفيده قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) (٢) إذ الصالحون طائفة خاصّة من المؤمنين ، ومن الرحمة ما يختصّ بالبعض دون البعض ، قال تعالى : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ). (٣)

وليس أيضا مطلق كرامة الولاية ، وهي تولّيه سبحانه امر عبده ، فإنّ الصالحين وإن شرّفوا بذلك على ما بيّنا في ذيل قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٤) من سورة الفاتحة ، فإنّ هذه صفة مشتركة بينهم وبين النبيّين والصدّيقين والشهداء كما مرّ بيانه ، فلا يستقيم إذا عدّهم طائفة في قبالهم.

وليس الصلاح أيضا إيتاء الحكم والعلم والاصطفاء ، على ما هو ظاهر من الآيات المشتملة عليه.

نعم ، يبقى له من الأثر الخاصّ : الإدخال في الرحمة وهو الأمن التامّ من العذاب ، كما ورد المعنيان معا في الجنّة : قال سبحانه : (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) (٥) أي في الجنّة ، وقال : [(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ)] (٦) أيّ في الجنّة.

وأنت إذا تدبّرت معنى الصلاح وهو اللياقة ، وقوله : (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا)،

__________________

(١). الانبياء (٢١) : ٧٥.

(٢). الأعراف (٧) : ١٥٦.

(٣). البقرة (٢) : ١٠٥.

(٤). الفاتحة (١) : ٦.

(٥). الجاثية (٤٥) : ٣٠.

(٦). الدخان (٤٤) : ٥٥.

٢٣٢

ولم يقل : ودخل ، وقوله : (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) (١) وأنّه سبحانه قصر في كلامه الأجر والشكر على العمل والسعي ، قضيت بأنّ الصلاح الذاتي كرامة ليست بحذاء العمل والإرادة ، ويتبيّن حينئذ معنى قوله تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٢) وهو ما بالعمل ، (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٣) وهو أمر غير ما بالعمل ، وليس من شأنه أن يتعلّق به المشيئة ، فهو أمر غير محدود ، إذ كلّ خير محدود يتعلّق به المشيئة ، فافهم.

وفي تفسير القمّي في قوله تعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٤) قال ـ عليه‌السلام ـ : «النظر إلى رحمة الله». (٥)

وفي المجمع عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقول الله : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ...» (٦) الحديث.

ثمّ إنّك إذا تأمّلت حال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وأنّه نبيّ مرسل ، وأحد اولي العزم وأشرفهم وسيّدهم وأشرف الأنبياء جميعا بعد محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، على ما يعطيه القرآن ، وأنّه مقتدى من بعده من الأنبياء والمرسلين ، وأنّه من الصالحين بنصّ قوله : (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) (٧) الظاهر في الصلاح

__________________

(١). الانبياء (٢١) : ٧٢.

(٢). الشورى (٤٢) : ٢٢ ؛ الزمر (٣٩) : ٣٤.

(٣). ق (٥٠) : ٣٥.

(٤). ق (٥٠) : ٣٥.

(٥). تفسير القمي ٢ : ٣٢٧.

(٦). بحار الانوار ٨ : ٩٢ ؛ مجمع البيان ٨ : ١٠٨.

(٧). الانبياء (٢١) : ٧٢.

٢٣٣

المعجّل ، على أنّ من هو دونه في الفضل ، مكرم بالصلاح المعجّل ، وهو ـ عليه‌السلام ـ مع ذلك يسأل الصلاح بمثل قوله : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١) الظاهر في أنّ هناك قوما من الصالحين سبقوه ، وهو يسأل اللحوق بهم فيما سبقوه إليه ، واجيب بذلك في الآخرة ، كما يحكيه تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه :

قال تعالى : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)

وقال : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). (٢) وقال : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). (٣)

فإذا تأمّلت ذلك كلّه حقّ التأمّل ، قضيت بأنّ الصلاح ذو مراتب ولم تستبعد ـ لو قرع سمعك ـ ، أنه سأل اللحوق بمحمد والطاهرين من آله فاجيب بذلك في الآخرة لا في الدنيا ، ومحمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يدّعيه لنفسه بقوله سبحانه : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (٤) (٥) والأخبار في ذلك كثيرة.

*

__________________

(١). يوسف (١٢) : ١٠١ ؛ الشعراء (٢٦) : ٨٣.

(٢). النحل (١٦) : ١٢٢.

(٣). النحل (١٦) : ١٢٢.

(٤). الأعراف (٧) : ١٩٦.

(٥). وإنّما مورد الاستشهاد قوله : (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) [منه ـ رحمه‌الله ـ].

٢٣٤

[أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)]

قوله سبحانه : (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ ...)

روى العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ «أنّها جرت في القائم ـ عليه‌السلام ـ». (١)

أقول : قال في الصافي : لعلّ مراده أنّها [جارية] في قائم آل محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، فكلّ قائم منهم يقول ذلك حين موته (٢) لبنيه ، ويجيبونه بما أجابوا به. (٣)

قوله سبحانه : (وَإِلهَ آبائِكَ)

في إطلاق لفظ الآباء على الجدّ والعمّ والوالد ـ من غير مصحّح للتغليب ـ حجّة فيما سيجيء من خطاب إبراهيم لآزر بالأب.

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٦١ الحديث : ١٠٢.

(٢). في المصدر : «الموت ذلك»

(٣). الميزان في تفسير القرآن ١ : ٣٠٩ ؛ تفسير الصافي ١ : ١٩٢.

٢٣٥

[وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥)]

قوله سبحانه : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً)

روى العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ الحنيفيّة هي الإسلام». (١)

أقول : وتصديقه قوله تعالى : (حَنِيفاً مُسْلِماً ،) (٢) وقوله : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (٣) وقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٤)

وعن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «ما أبقت الحنيفيّة شيئا حتى أنّ منها قصّ الشارب وقلم الأظفار (٥) والختان». (٦)

وفي تفسير القمّي : «أنزل الله على إبراهيم (٧) الحنيفيّة ، وهي الطهارة وهي

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٦١ ، الحديث : ١٠٣.

(٢). آل عمران (٣) : ٦٧.

(٣). الانعام (٦) : ١٦١.

(٤). آل عمران (٣) : ١٩.

(٥). في المصدر : «قص الأظفار وأخذ الشارب»

(٦). تفسير العيّاشي ١ : ٣٨٨ ، الحديث : ١٤٣.

(٧). في المصدر : «أنزل عليه»

٢٣٦

عشرة أشياء خمسة في الرأس وخمسة في البدن ؛ فأمّا التي في الرأس : فأخذ الشارب وإعفاء اللّحى وطمّ الشعر (١) والسواك والخلال ، وأمّا التي في البدن : فأخذ (٢) الشعر من البدن والختان وقلم الأظفار والغسل من الجنابة والطهور بالماء ، وهي (٣) الحنيفيّة الطاهرة (٤) التي جاء بها إبراهيم ، فلم تنسخ ولا تنسخ (٥) إلى يوم القيامة». (٦)

أقول : وقد روته العامّة أيضا.

*

__________________

(١). طمّ الشعر : جزّه ، [منه ـ رحمه‌الله ـ].

(٢). في المصدر : «فحلق»

(٣). في المصدر : «وهو»

(٤). في المصدر : «الطهارة»

(٥). في المصدر : «ولا تنسخ»

(٦). تفسير القمي ١ : ٥٨ ؛ بحار الأنوار ٧٣ : ٦٨ ، الحديث : ٣ ، الباب : ٢.

٢٣٧

[قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)]

قوله سبحانه : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ ...)

في الكافي وتفسير العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إنّما عنى بذلك عليّا وفاطمة والحسن والحسين ، وجرت بعدهم في الأئمّة ...» (١) الحديث.

أقول : ورواه في المجمع (٢) عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ.

ويستفاد ذلك من وقوع الخطاب في ذيل دعوة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٣) ولا ينافي ذلك توجيه الخطاب لعامّة المسلمين

__________________

(١). الكافي ١ : ٤١٥ ، الحديث : ١٩ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٦٢ ، الحديث : ١٠٧.

(٢). راجع : مجمع البيان ١ : ٤٠٤.

(٣). البقرة (٢) : ١٢٨.

٢٣٨

على ما مرّ من البيان ، على أنّ في هذا الأمر تصديقا لقيامهم بالإسلام والإيمان حقيقة ، ومن البيّن أنّ جميع المسلمين حوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ما كانوا على هذا الوصف ، بل بعضهم.

وبما مرّ يتّضح أيضا أنّه لا يرد عليه : أنّ الحسن والحسين ـ عليهما‌السلام ـ حين نزول السورة وهي سورة البقرة ، أوّل سورة نزلت بالمدينة ـ لم يكونا مولودين بعد ولا مكلّفين حتما.

قوله سبحانه : (وَالْأَسْباطِ)

ظاهره : أنّهم حفدة يعقوب وأنّهم من الأنبياء ، وهو صريح قوله في سورة النساء : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى). (١)

وأمّا ما في الكافي وتفسير العيّاشي عن سدير عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «قلت كان ولد يعقوب أنبياء؟ قال : لا ، ولكنّهم كانوا أسباطا أولاد أنبياء ، ولم يكونوا فارقوا الدنيا إلّا سعداء تابوا وتذكّروا ما صنعوا ...» (٢) الحديث ؛ فليس فيه تعرّض بأنّهم هم المرادون بقوله : (الْأَسْباطِ) في الآية ، بل هم إخوة يوسف على ما يلوح من الرواية.

*

__________________

(١). النساء (٤) : ١٦٣.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٦٢ ، الحديث : ١٠٦ ؛ الكافي ٨ : ٢٤٨ ، الحديث : ٣٤٣.

٢٣٩

[صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)]

قوله سبحانه : (صِبْغَةَ اللهِ)

في تفسير القمّي عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ وفي المعاني عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «الصبغة هي الإسلام». (١)

أقول : وهو الظاهر من سوق الآيات.

وفي الكافي والمعاني ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق». (٢)

__________________

(١). تفسير القمي ١ : ٦٢ ؛ معاني الأخبار : ١٨٨.

(٢). الكافي ١ : ٤٢٢ ، الحديث : ٥٢.

٢٤٠