تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

ولئن تدبّرت قصصه الواقعة في سورة الأنبياء ، وجدت ترتّب هذه المقامات ظاهره ، إذ يختتم بقوله سبحانه : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ* وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (١) ومعظم آثار الإمامة مستفادة منها.

وروى المفيد عن درست وهشام عنهم ـ عليهم‌السلام ـ قال ـ عليه‌السلام ـ : «قد كان إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ نبيّا وليس بإمام ؛ حتى قال الله تبارك وتعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فقال الله تبارك وتعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) من عبد صنما أو وثنا أو مثالا لا يكون إماما». (٢)

أقول : وقد ظهر معناه ممّا مرّ ، وقد عرفت من مطاوي ما تقدّم أنّ الإمامة منصب إلهيّ موقوف على أهلها ، وسيجيء أنّ النبوّة أيضا كذلك ، وليستا كسائر مقامات الولاية.

فهذا ملخّص الكلام في الإمامة ، وسيجيء التعرّض لمتفرّقات أحكامها وما يتعلّق بها في ذيل الآيات المربوطة بها.

*

__________________

(١). الأنبياء (٢١) : ٧٢ ـ ٧٣.

(٢). الاختصاص : ٢٢ ـ ٢٣.

٢٠١

[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)]

قوله سبحانه : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ ...)

المثابة : هي المرجع ، من ثاب : إذا رجع. يشير سبحانه إلى تشريع الحجّ.

وقوله : (أَمْناً)

إشارة إلى تشريع الأمن ، على ما دعا به إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) (١) إلى آخره.

وقوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)

كأنّه عطف على صدر الآية بتقدير «واذكروا» ، ولا حاجة إلى تقدير الفعل ، حتّى يكون تقدير الكلام : «وقلنا : اتخذوا» إلى آخره ، فالظاهر أنّ هذه الصلاة

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٢٦.

٢٠٢

المشرّعة مخصوصة بهذه الأمّة.

وكيف كان فتعقيب قوله : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) بقوله : (وَاتَّخِذُوا) يومى إلى مناط التشريع ، وهو جعل البيت مثابة وأمنا ؛ ولذلك لم يتعلّق الأمر بالصلاة في المقام ، وإنّما تعلّق باتّخاذ المصلّى منه.

روي في الكافي عن الكناني قال : «سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن رجل نسي أن يصلّي الركعتين عند مقام إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في طواف الحجّ والعمرة ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : إن كان بالبلد صلّى الركعتين (١) عند مقام إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ؛ فإنّ الله ـ عزوجل ـ يقول : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وإن كان قد ارتحل فلا آمره أن يرجع». (٢)

أقول : وروى قريبا منه الشيخ في التهذيب (٣) والعيّاشي في تفسيره (٤) بعدّة أسانيد ، وخصوصيّات الحكم ـ وهو الصلاة عند المقام أو خلفه ، كما في بعض الروايات : «ليس لأحد أن يصلّي ركعتي طواف الفريضة إلّا خلف المقام» ، مستفادة من لفظة (مِنْ) و (مُصَلًّى) في قوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى).

قوله سبحانه : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ ...)

روى القمّي في تفسيره عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «يعني» نحّ عنه (٥) المشركين». (٦)

__________________

(١). في المصدر : «ركعتين»

(٢). الكافي ٤ : ٤٢٥ ، الحديث : ١.

(٣). تهذيب الأحكام ٥ : ١٣٩ ، الحديث : ١٣٠.

(٤). تفسير العياشي ١ : ٥٨ ، الحديث : ٩١.

(٥). في المصدر : «نحي عن»

(٦). تفسير القمي ١ : ٥٩.

٢٠٣

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ الله يقول في كتابه : (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) فينبغي للعبد أن لا يدخل مكّة إلّا وهو طاهر ، قد غسل عرقه والأذى وتطهّر». (١)

أقول : وهذا المعنى مرويّ في عدّة روايات اخر (٢) واستفادة طهارة الوارد من طهارة المورد ربّما تمّت من آيات اخر ، كقوله تعالى : (وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ) (٣) ونحوها.

وفي المجمع عن ابن عبّاس قال : «لمّا أتى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بإسماعيل ـ عليه‌السلام ـ وهاجر ، فوضعهما بمكة ، وأتت على ذلك مدّة ونزلها الجرهميّون ، وتزوّج إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ إمرأة منهم ، وماتت هاجر ، واستأذن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ سارة أن تأتي هاجر ، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل.

فقدم إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، وقد ماتت هاجر ، فذهب إلى بيت إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ ، فقال لامرأته : أين صاحبك؟ قالت : ليس هو هاهنا ، (٤) ذهب يتصيّد ، وكان إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ يخرج من الحرم يتصيّد و (٥) يرجع ، فقال لها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : هل عندك ضيافة؟ قالت : ليس عندي شيء وما

__________________

(١). الكافي ٤ : ٤٠٠ ، الحديث : ٣.

(٢). تهذيب الأحكام ٥ : ٩٨ ، الحديث : ٦ ، ٥ : ٢٥١ ، الحديث : ١٢ ؛ علل الشرائع ٢ : ٤١١ ، الحديث ١ ، الباب ١٥١ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٥٩ ، الحديث : ٩٥ ؛ وسائل الشيعة ١٣ : ٢٠٠ ، الحديث : ١٧٥٦٤.

(٣). النور (٢٤) : ٢٦.

(٤). في المصدر : «هنا»

(٥). في المصدر : «فيصيد ثم»

٢٠٤

عندي أحد ، فقال لها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : إذا جاء زوجك ، فاقرئيه السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه ، وذهب إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ.

فجاء إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ ووجد ريح أبيه ، فقال لامرأته : هل جاءك أحد؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا ، كالمستخفّة بشأنه ، قال : فما قال لك؟ قالت : قال لي : إقرئي زوجك السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه ، فطلقّها وتزوّج اخرى.

فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثمّ استأذن سارة أن يزور إسماعيل ، وأذنت (١) له واشترطت عليه أن لا ينزل ، فجاء إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حتى انتهى إلى باب إسماعيل ، فقال لامرأته : أين صاحبك؟ قالت : يتصيّد وهو يجيء الآن إن شاء الله ، فأنزل يرحمك الله ، قال لها : هل عندك ضيافة؟ قالت : نعم. فجاءت باللبن واللحم ، فدعا لها بالبركة ، فلو جاءت يومئذ بخبز أو برّ أو شعير أو تمر ، لكان أكثر أرض الله برّا وشعيرا وتمرا.

فقالت له : انزل حتّى أغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءت بالمقام فوضعته على شقّه الأيمن ، فوضع قدمه عليه ، فبقي أثر قدمه عليه ، فغسلت شقّ رأسه الأيمن ، ثمّ حوّلت المقام إلى شقّ رأسه الأيسر ، (٢) فغسلت شق رأسه الأيسر ، فبقي أثر قدمه عليه ، فقال لها : إذا جاء زوجك فاقرئيه منّي السّلام وقولي له : قد استقامت عتبة بابك.

فلمّا جاء إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ وجد ريح أبيه ، فقال لامرأته : هل جاءك أحد؟ قالت : نعم ، شيخ أحسن الناس وجها ، وأطيبهم ريحا ، وقال لي كذا وكذا ،

__________________

(١). في المصدر : «فأذنت»

(٢). في المصدر : «شقّه الأيسر»

٢٠٥

وقلت له كذا ، وكذا وغسلت رأسه ، وهذا موضع قدميه على المقام ، قال لها إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ : ذاك إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ». (١)

أقول : والرواية مرويّة من طريق الخاصة أيضا ، روى القمّي قريبا منها في تفسيره عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ. (٢)

*

__________________

(١). مجمع البيان ١ : ٣٨١ ـ ٣٨٢.

(٢). تفسير القمي ١ : ٦٠ ـ ٦٢.

٢٠٦

[وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)]

قوله سبحانه : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً ...)

وحكى سبحانه نظير هذا الدعاء عنه ـ عليه‌السلام ـ في سورة إبراهيم بقوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). (١)

واختصاص الدعوة هناك بالذرّيّة لا يقضي بكونه دعاءا آخر ، فلعلّه من باب انتزاع الخاصّ من العامّ في الحكاية لشمول الدعوة ، وقد وقع نظيره في سورة الحجّ في قوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) (٢) وهو أمر مأخوذ من قوله في الآية

__________________

(١). إبراهيم (١٤) : ٣٥ ـ ٣٧.

(٢). الحج (٢٢) : ٢٦.

٢٠٧

السابقة : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) (١) هذا.

وهو مع ذلك دعاء بعد صيرورة الأرض ـ أرض مكة ـ بلدا ، لمكان قوله : (هَذَا الْبَلَدَ) ولقوله بعده : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ). (٢)

ولم يخصّ الدعاء هناك بالمؤمنين ، دون ما هاهنا ؛ لانّ الدعوة مخصوصة هناك بالذرّيّة ، وقد دعا لهم بالإسلام في قوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ). (٣)

وكذلك المنقول في هذه الآية من الدعاء إنّما هو بعد بناء البلد ، والشاهد عليه قوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً) ولم يقل : اجعل هاهنا بلدا وهو ظاهر.

*

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٢٥.

(٢). إبراهيم (١٤) : ٣٩.

(٣). إبراهيم (١٤) : ٣٥.

٢٠٨

[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧)]

قوله سبحانه : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ)

روى القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ إبراهيم كان نازلا في بادية الشام ، فلمّا ولد له من هاجر إسماعيل ، اغتمّت سارة من ذلك غمّا شديدا ؛ لأنّه لم يكن لها (١) ولد ، وكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمّه ، فشكا إبراهيم ذلك إلى الله ـ عزوجل ـ ، فأوحى الله إليه : مثل المرأة مثل الضلع العوجاء إن تركتها استمتعت (٢) بها ، وإن أقمتها كسرتها.

ثمّ أمره أن يخرج إسماعيل وامّه ، فقال : يا ربّ إلى أيّ مكان؟ فقال : إلى حرمي وأمني وأوّل بقعة خلقتها من الأرض وهي مكّة ، فأنزل الله عليه جبرئيل بالبراق ، فحمل هاجر وإسماعيل وإبراهيم ، وكان إبراهيم لا يمرّ بموضع حسن فيه شجر وزرع ونخل إلّا وقال : يا جبرئيل إلى هاهنا إلى هاهنا؟ فيقول

__________________

(١). في المصدر : «لم يكن له منها»

(٢). في المصدر : «استمعتها»

٢٠٩

جبرئيل (١) : لا امض امض ، حتّى وافى (٢) مكّة ، فوضعه في موضع البيت.

وقد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتّى يرجع إليها ، فلمّا نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر ، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساءا كان معها ، فاستظلّوا تحته ، فلمّا سرّحهم إبراهيم ووضعهم ، أراد الانصراف عنهم (٣) إلى سارة ، قالت له هاجر : يا إبراهيم ، أتدعنا (٤) في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟! فقال إبراهيم : الله الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان ، هو يكفيكم. (٥)

ثمّ انصرف عنهم ، فلمّا بلغ كداء ـ وهو جبل بذي طوى ـ التفت إبراهيم فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٦) ثمّ مضى وبقيت هاجر.

فلمّا ارتفع النهار عطش إسماعيل ، فقامت هاجر في موضع السّعي (٧) فصعدت على الصفا ، ولمع لها السّراب في الوادي فظنّت أنّه ماء ، فنزلت في بطن الوادي وسعت ، فلمّا بلغت المروة غاب عنها إسماعيل ، عادت حتى بلغت الصفا فنظرت ... حتى فعلت ذلك سبع مرّات ، فلمّا كان في الشوط السابع ـ وهي على المروة ـ نظرت إلى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه ، فعادت حتّى

__________________

(١). في المصدر : ـ «جبرئيل»

(٢). في المصدر : «أتى»

(٣). في المصدر : «منهم»

(٤). في المصدر : «لم تدعنا»

(٥). في المصدر : ـ «هو بكيفيكم»

(٦). إبراهيم (١٤) : ٣٧.

(٧). في المصدر : «المسعى»

٢١٠

جمعت حوله رملا ، فإنّه كان سائلا فزمّته بما جعلته حوله ؛ فلذلك سمّيت زمزم.

وكانت جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات ، فلمّا ظهر الماء بمكّة عكفت الطير والوحش على الماء ، فنظرت جرهم إلى تعكّف الطير والوحش على ذلك المكان ، فاتّبعتها (١) حتّى نظروا إلى إمرأة وصبيّ نازلين في ذلك الموضع ، قد استظلّا (٢) بشجرة ، وقد ظهر الماء لهما ، فقالوا لهاجر : من أنت؟ وما شأنك وشأن هذا الصبيّ؟ فقالت : أنا امّ ولد إبراهيم خليل الرحمن ، وهذا إبنه ، أمره الله أن ينزلنا هاهنا.

فقالوا لها : أتأذنين (٣) لنا أن نكون بالقرب منكم (٤)؟ فقالت لهم : حتى يأتي إبراهيم ، فلمّا زارهم إبراهيم اليوم الثالث قالت هاجر : يا خليل الله! إنّ هاهنا قوما من جرهم ، يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب منّا ، أفتأذن لهم في ذلك؟ فقال إبراهيم : نعم. فأذنت هاجر لهم ، فنزلوا بالقرب منهم وضربوا خيامهم ، فأنست هاجر وإسماعيل بهم.

فلمّا زارهم إبراهيم في المرّة الثانية ، (٥) نظر إلى كثرة الناس حولهم ، فسرّ بذلك سرورا شديدا ، فلمّا تحرّك (٦) إسماعيل وكانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كلّ واحد منهم شاة وشاتين ، فكانت هاجر وإسماعيل يعيشان بها.

فلمّا بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر الله إبراهيم أن يبني البيت ، فقال : يا ربّ في أيّ بقعة؟ قال : في البقعة التي أنزلت على آدم القبّة فأضاء لها الحرم ، فلم تزل

__________________

(١). في المصدر : «فاتبعوها»

(٢). في المصدر : «استظلّوا»

(٣). في المصدر : «أفتأذني»

(٤). في المصدر : «منكما»

(٥). في المصدر : «الثالثة»

(٦). في المصدر : «ترعرع»

٢١١

البقعة التي أنزلها الله على آدم قائمة ، حتّى كانت أيّام الطوفان أيّام نوح ، فلمّا غرقت الدنيا رفع الله تلك القبّة وغرقت الدنيا إلّا موضع البيت ، فسمّي (١) البيت العتيق ؛ لأنّه اعتق من الغرق.

فلمّا امر الله ـ عزوجل ـ إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أيّ مكان يبنيه ، فبعث الله جبرئيل وخطّ له موضع البيت ، فأنزل الله عليه القواعد من الجنّة ، وكان الحجر الذي أنزل الله على آدم أشدّ بياضا من الثلج ، فلمّا مسّته (٢) أيدي الكفّار اسودّ ، فبنى إبراهيم البيت ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه في (٣) السماء تسعة أذرع ، ثمّ دلّه على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم ووضعه في موضعه الذي هو فيه الآن. (٤)

فلمّا بني (٥) جعل له بابين : بابا إلى المشرق وبابا إلى المغرب ، والباب الذي إلى المغرب يسمّى المستجار ، ثمّ ألقى عليه الشجر والإذخر ، وألقت هاجر على بابه كساءا كان معها وكانوا يكونون تحته.

فلمّا بنى (٦) وفرغ منه حجّ إبراهيم وإسماعيل ونزل عليهما جبرئيل ـ عليه‌السلام ـ يوم التروية لثمان من ذي الحجّة ، فقال : يا إبراهيم قم وارتو من الماء ؛ لأنّه لم يكن بمنى وعرفات ماء ، فسمّيت التروية لذلك ، ثم أخرجه إلى منى فبات بها ، ففعل به ما فعل بآدم.

__________________

(١). في المصدر : «فسميت»

(٢). في المصدر : «لمسته»

(٣). في المصدر : «الى»

(٤). في المصدر : «الاوّل»

(٥). في المصدر : «فلما بنى»

(٦). في المصدر : «بناه»

٢١٢

فقال إبراهيم لمّا فرغ من بناء البيت : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). (١) قال ـ عليه‌السلام ـ : من ثمرات القلوب أي حبّبهم إلى الناس ليستأنسوا بهم ، (٢) ويعودوا إليهم». (٣)

وفي الكافي عن أحدهما ـ عليهما‌السلام ـ قال : «إنّ الله ـ عزوجل ـ أمر إبراهيم ببناء الكعبة ، وأن يرفع قواعدها ، ويري الناس مناسكهم ، فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت كلّ يوم سافا ؛ حتى انتهى إلى موضع الحجر الأسود ، قال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : فنادى أبو قبيس : إنّ لك عندي وديعة ، فأعطاه الحجر ، فوضعه موضعه ...» (٤) الحديث.

أقول : وقريب من هذه المعاني مرويّ عن طرق العامّة (٥) أيضا.

قوله ـ عليه‌السلام ـ في الحديث الأوّل : «فالتفت إبراهيم ، فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ ...)» إلى آخره ، لا ينافي ما استظهرنا من دعائه المحكي في سورة إبراهيم : أنّ ذلك صادر واقع بعد ذلك الزمان بكثير ؛ لاحتمال الورود مرّتين.

قوله ـ عليه‌السلام ـ : «في البقعة التي أنزلت على آدم القبّة ...» إلى آخره ، الأخبار في نزول البيت لآدم وحجّه وتقرّبه بزيارته كثيرة مستفيضة ، وإن لم تبلغ حدّ التواتر ، ولا برهان على استحالة ذلك ، على أنّه سبحانه خصّ أنبياءه بكثير من هذه الكرامات الخارقة ، والقرآن يثبت موارد كثيرة منها ، ورواها

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٢٦.

(٢). في المصدر : «لينتابوا إليهم»

(٣). تفسير القمي ١ : ٦٠ ـ ٦٢.

(٤). الكافي ٤ : ٢٠٥ الحديث : ٢ ؛ من لا يحضره الفقيه ٢ : ٢٣٢ ، الحديث : ٢ : ٢٢٨ (اختصارا) ؛ وسائل الشيعة ١٣ : ٢١٢ ، الحديث : ١٧٥٣٨.

(٥). تاريخ ابن خلدون ، المقدمة ، ٢ : ٣٣١ ـ ٣٣٢ ؛ الحد الفاصل : ٣٩٦.

٢١٣

الفريقان في أحاديث متفرّقة في الأبواب.

قوله ـ عليه‌السلام ـ : «فأنزل الله عليه القواعد من الجنّة ...» إلى آخره ، نزول القواعد ـ وهي أحجار أرضيّة وأجسام طبيعية مادّيّة ـ من الجنّة له نظائر كثيرة واردة فيها.

وقد روى العيّاشي عن الثوري عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : «سألته عن الحجر ، فقال : نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة : الحجر الأسود استودعه إبراهيم ، ومقام إبراهيم ، وحجر بني إسرائيل. قال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الله استودع إبراهيم الحجر وكان أشد بياضا من القراطيس ، فاسودّ من خطايا بني آدم. (١) ...» الخبر.

بل على المقابلة ورد في بعض الأشياء : أنّه من جهنّم ومن فورة الجحيم ، من الأغذية والنبات والإنسان ، وطينة المؤمن والكافر ، وبعض المياه والأنهار ، ومن هذا الباب ما ورد : أنّ جنّة الدنيا في بعض الأماكن ونارها في آخر ، (٢) وأنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار ، (٣) هذا.

وقد ورد في القرآن نزول جميع الأشياء من عنده تعالى ؛ حيث قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٤) وورد بالخصوص في الأنعام ، قال : (مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (٥) وفي الحديد قال سبحانه : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (٦)

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٥٩ ، الحديث : ٩٣ ؛ بحار الأنوار ٩٦ : ٢٢٧ ، الحديث : ٢٧ ، الباب : ٤٠.

(٢). الكافي ٣ : ٢٤٦ ، باب جنّة الدنيا ؛ تفسير القمي ١ : ٣٣٧ ؛ بحار الأنوار ١ : ٢٨٢ ، الباب : ٩.

(٣). الكافي ٣ : ٢٤٢ ، الحديث : ٢ ؛ الاختصاص : ٣٤٧ و ٣٥٩ ؛ إرشاد القلوب ١ : ٧٤ ؛ الأمالى للطوسي : ٢٧ ، الحديث : ٣١ ؛ الأمالي للمفيد : ٢٦٥ ، الحديث : ١ ؛ تفسير القمي ٢ : ٩٤.

(٤). الحجر (١٥) : ٢١.

(٥). الزمر (٣٩) : ٦.

(٦). الحديد (٥٧) : ٢٥.

٢١٤

وإذ كان كلّ شيء نازلا من عنده سبحانه ـ وقد بيّن أنّ كلّ شيء يعود إلى ما بدأ منه ، على ما سيجيء توضيحه إن شاء الله ، وأنّ الشيء بين بدئه وعوده يجري على ما يستدعيه بدؤه ، (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) ، (١) (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) (٢) ـ انكشف من هنا : أنّ بعض الأشياء القرينة في هذه الدار بالقرب والرحمة والنعمة وتقريب العباد من الله سبحانه ، أنّها نزلت من مقام القرب والرحمة وهي الجنّة ، والبعض الكائن بالعكس من هذه المعاني نازل من مقام البعد والنقمة وموطن الغضب وهي جهنّم ، فعلى هذا جرت لسان الأخبار.

قوله ـ عليه‌السلام ـ قال : «من ثمرات القلوب» هذا يؤيّد ما ذكرناه آنفا : أنّ دعاءه الوارد في سورة إبراهيم دعاء خاصّ بالذرّيّة ، مأخوذ في النقل من هذا الدعاء العامّ الشامل لهم ولغيرهم عن أهل مكّة ، حيث وضع هناك بدل قوله تعالى : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) (٣) قوله : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) (٤)!

وكيف كان فتفسير الثمرات بثمرات القلوب من قبيل عدّ المصداق دون التخصيص به ، ويشهد عليه ما في المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ المراد بذلك أنّ الثمرات تحمل إليهم من الآفاق» (٥) الحديث ، وكما في قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ). (٦)

__________________

(١). الإسراء (١٧) : ٨٤.

(٢). البقرة (٢) : ١٤٨.

(٣). إبراهيم (١٤) : ٣٧.

(٤). إبراهيم (١٤) : ٣٧.

(٥). مجمع البيان ١ : ٣٨٥ ؛ بحار الأنوار ١٢ : ٨٦ ، الباب : ٥.

(٦). القصص (٢٨) : ٥٧.

٢١٥

وفى تفسير العيّاشي قال الحلبي : «سئل أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن البيت ، أكان يحجّ قبل أن يبعث النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ؟ قال : نعم ، وتصديقه في القرآن قول شعيب حين قال لموسى حيث تزوّج : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) (١) ولم يقل : ثماني سنين ، وإنّ آدم ونوحا حجّا وسليمان بن داود قد حجّ البيت بالجنّ والإنس والطير والريح ، وحجّ موسى على جمل أحمر يقول : لبّيك لبّيك ، وإنّه كما قال الله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٢) وقال : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) وقال : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٣) وأنّ الله أنزل الحجر لآدم وكان البيت». (٤)

أقول : تمسّكه بالآيات يقضي بأنّه ـ عليه‌السلام ـ فهم من قوله تعالى في الآية الأولى (وُضِعَ لِلنَّاسِ) غير الوضع للعبادة والنسك ، بل مطلق الوضع وبناء البيت ، وهو كذلك ؛ للإطلاق من غير موجب للتقييد.

ومن قوله تعالى : (الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) أنّ كلمة «من» نشويّة غير بيانيّة ؛ إذ البيت غير القواعد ، والنسبة بينهما نسبة الكلّ والجزء ، والبيان بهذا النحو خلاف الظاهر ، والجدار من البيت يرفع ، والبيت يرفع بالبناء ، وأمّا السافات وقاعدة البيت ـ وهي أساسه ـ فلا يصدق فيها الرفع إلّا برفع الأجزاء من الأرض ، ووضعها موضعها إذا خربت العمارة وانهدمت وبقي أثرها ، وقد احتمل هذا

__________________

(١). القصص (٢٨) : ٢٧.

(٢). آل عمران (٣) : ٩٦.

(٣). البقرة (٢) : ١٢٥.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٦٠ ، الحديث : ٩٩ ؛ بحار الأنوار ٩٦ : ٦٤ ، الحديث : ٤١ ، الباب : ٥.

٢١٦

المعنى الزمخشري في الكشّاف. (١)

وإلى هذا المعنى يشير ما في تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الله أنزل الحجر الأسود من الجنّة لآدم ، وكان في البيت درّة بيضاء ، فرفعه الله إلى السماء وبقي أساسه ، فهو حيال هذا البيت ، وقال ـ عليه‌السلام ـ : يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه أبدا ، فأمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت على القواعد» (٢) الخبر.

ولا ينافيه ما مرّ في بعض الأخبار : أنّ جبرئيل خطّ لهما ـ عليهما‌السلام ـ موضع البيت ، (٣) وهو ظاهر.

ومن قوله : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) (٤) التطهير بإزالة الأرجاس والأنجاس الظاهرة والباطنة وبنائه وتعميره ، ويوضّحه كون التطهير للطائفين ، فظاهره أنّ البيت كان موجودا ولو بالأثر والأساس ولمّا يحم حوله الطائفون والعاكفون ولمّا يناد إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بالحجّ ، وهو ـ عليه‌السلام ـ بعد ما فرغ عن بنائه على الأساس أذّن في الناس بالحجّ ، فالبيت قد كان بوجود أساسه وأثره قبل بناء إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، فافهم.

*

__________________

(١). الكشاف ١ : ٩٤.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٦٠ ، الحديث : ٩٨ ؛ بحار الأنوار ١٢ : ٨٦ ، الباب : ٥.

(٣). تفسير القمي ١ : ٦٣.

(٤). البقرة (٢) : ١٢٥.

٢١٧

[رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)]

قوله سبحانه : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا ...)

في تفسير العيّاشي عن الزبيري عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «قلت له : أخبرني عن امّة محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من هم؟ قال : امّة محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بنو هاشم خاصّة. قلت : فما الحجّة في أمّة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنّهم أهل بيته الذين ذكرت ، دون غيرهم؟ قال : قول الله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (١)

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٢٧ ـ ١٢٨.

٢١٨

فلمّا أجاب الله إبراهيم وإسماعيل ، وجعل من ذرّيّتهما امّة مسلمة ، وبعث فيها رسولا منهم (١) يعني من تلك الامّة ـ يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، وردف دعوته الاولى بدعوته الاخرى ، فسأل لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الأصنام ، ليصحّ أمره فيهم ولا يتّبعوا غيرهم ، فقال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ* رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (٢)

فهذه دلالة على أنّه لا يكون الأئمّة والامّة المسلمة التي بعث فيها محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلّا من ذرّيّة إبراهيم ؛ لقوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ). (٣)

أقول : استدلاله ـ عليه‌السلام ـ في غاية الظهور ، وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الأئمّة أيضا كالامّة المسلمة لا تكون إلّا من ذريّة إبراهيم» ، إنّما استفاده من التعليل في دعوة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ) فعلّل سؤاله عصمة أبنائه من عبادة الأصنام بعموم الضلال في عبادتها ، فهو المحذور ، وقد مرّ في سورة الفاتحة أنّ كلّ ضلال شرك ، كما ذكره أيضا في أثناء كلامه ـ عليه‌السلام ـ أنّه سأل لهم تطهيرا من الشرك ومن عبادة الأصنام ، فخصّ الشرك بالذكر قبال عبادة الأصنام ، وهذه هي العصمة إذا كان من الله سبحانه كما سأله.

ثمّ قوله : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) كلام متفرّع على سؤال العصمة من الشرك والضلال ، وهذه هي الإمامة ، وهو قوله : «ليصحّ أمره فيهم ولا يتّبعوا غيرهم ...»

__________________

(١). في المصدر : «منهما»

(٢). إبراهيم (١٤) : ٣٥ ـ ٣٦.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٦ ، الحديث : ١٠١ ؛ بحار الأنوار ٢٤ : ١٥٤ ، الحديث : ٧ ، الباب : ٤٦.

٢١٩

إلى آخره ؛ أي لا يتّبع الناس غير إبراهيم وذرّيّته ويكونوا أئمّة للناس ، وهذه العصمة هي التي أشار إليها سبحانه بقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (١) وسيجيء أنّ الأجتباء هي العصمة ، كما يشهد به إردافه بقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). (٢)

فإن قلت : لو كان المراد بالامّة في هذه الآيات وأمثالها عدّة قليلة من الامّة دون الباقين ، كان لازم ذلك التعمية في الكلام ، ولا يليق ذلك به سبحانه ، على أنّ من المعلوم أنّ توجيه خطاباته تعالى إلى عموم الناس.

قلت : نفس هذه الخطابات تستدعي أن يكون المقصود منها الموجّه إليه بالحقيقة بعض الناس دون الجميع ، بمثل ما مرّ من البيان ، ووزانها وزان قوله تعالى في بني إسرائيل : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣) وقوله : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (٤) وفيهم مثل قارون ومن هوّد اليهود ونصّر النصارى ، بل هذه أحكام جارية على المجموع لاشتماله على بعض الأفراد القائم بها المتلبّس بحقيقتها ، وهو شائع في الكلام.

قوله سبحانه : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ ...)

قد عرفت أنّه رسول الله محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ولم يعهد من ذرّيّة

__________________

(١). الحج (٢٢) : ٧٨.

(٢). الحج (٢٢) : ٧٨.

(٣). الدخان (٤٤) : ٣٢.

(٤). الجاثية (٤٥) : ١٦.

٢٢٠