تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

عشرا إلى سبعمائة ضعف ، ومن لم يقرضني فيها (١) قرضا وأخذت منه شيئا قسرا ، أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا بها عنّي.

قال : ثمّ قال (٢) أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : قول الله تعالى : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) فهذه واحدة من ثلاث خصال (وَرَحْمَةٌ) اثنتان (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) ثلاث. ثمّ قال : أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا». (٣)

أقول : والرواية مرويّة بطرق اخرى أيضا متقاربة. (٤)

وقوله : «عشرا إلى سبعمائة» يصدّقه قوله سبحانه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٥) وقوله : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) (٦)

وقوله : «لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتى لرضوا بها عنّي ...» إلى آخره ، وقد أجمل الله تعالى ما أعطاه لملائكته ؛ إذ قال : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٧) وقال تعالى : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) (٨) وقال : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) (٩) وقال :

__________________

(١). في المصدر : «منها»

(٢). في المصدر : «تلا»

(٣). الكافي ٢ : ٩٢ ، الحديث : ٢١.

(٤). الخصال ١ : ١٣٠ ، الحديث : ١٣٥ ؛ مسكّن الفؤاد : ٤٧.

(٥). الأنعام (٦) : ١٦٠.

(٦). البقرة (٢) : ٢٦١.

(٧). الأنبياء (٢١) : ٢٦ ـ ٢٧.

(٨). الأعراف (٧) : ٢٠٦ ؛ الأنبياء (٢١) : ١٩.

(٩). فصّلت (٤١) : ٣٨.

٢٨١

(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى). (١)

فهذه جمل ما منّ الله تعالى به على ملائكته من إكرامهم بطهارة الذات والعصمة ، وكونهم عمّالة بأمره ، والشفاعة. وبالجملة : فهم وسائط الرحمة ، طاهرة في نفسها وطاهرة في وساطتها ، صالحة في عملها.

ومن الضروري أنّ شيئا لا يرضى إلّا بما يعادل صلاحيّة ذاته ـ حسب ما عنده من الكمال ـ أو بأزيد منها ، ولا يرضى بما دون ذلك ، والأمر في هذه الخصال الثلاث كذلك.

توضيحه : أنّك لو تأمّلت في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) وجدت أنّ الصلاة فيه غير الرحمة ، ويشهد به جمع الصلاة وإفراد الرحمة ، وقد قال سبحانه : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٢) وقال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٣) وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) (٤) وقال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (٥) وقال تعالى : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ). (٦)

والتأمّل في هذه الآيات وأمثالها يعطي أنّ الصلاة وإن كانت غير الرحمة

__________________

(١). الأنبياء (٢١) : ٢٨.

(٢). الأحزاب (٣٣) : ٤٣.

(٣). البقرة (٢) : ٢٥٧.

(٤). الحديد (٥٧) : ٢٨.

(٥). الأنعام (٦) : ١٢٢.

(٦). ابراهيم (١٤) : ١.

٢٨٢

بوجه ، غير أنّ نسبتها إلى الرحمة نسبة القبول والاستعداد إلى المقبول المستعدّ له ، وبعبارة اخرى : نسبة الالتفات إلى النظر ونسبة الإشفاق إلى الإعطاء.

وإذ كانت الرحمة في القرآن ـ كما يفيده التدبّر ـ معنى عامّا ؛ وهو العطيّة المطلقة الإلهيّة من غير اختصاص في نفسها ، كما قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (١) وقال تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (٢) وإنّما تخصّصها بحسب اقتضاء الموارد ، فكلّما تضاعفت الموارد تضاعفت الرحمة ، والاقتضاء في نفسه رحمة ، والصلاة ـ من بينها ـ منه تعالى : خصوص إعطائه التهيّؤ والقبول للسعادة الخاصّة والرحمة المخصوصة ، ومن الملائكة : توسّطهم في إيصالها إلى المحلّ ، ومن المؤمنين : توسّطهم في إيصالها بالدعاء والمسألة ، وصلاتهم جميعا لله : وضعهم أنفسهم في مقام العبوديّة والمذلّة ليصلّي عليهم ربّهم ويرحمهم ، فافهم.

فالصلاة رحمة خاصّة مقيّدة. وبهذا يظهر معنى ما في بعض الأحاديث من عدّ الصلاة غير الرحمة ، مع ما في المعاني عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الصلاة من الله الرحمة ، (٣) ومن الملائكة التزكية ، (٤) ومن الناس دعاء». (٥)

وفي معناه عدّة روايات اخر (٦) وردت في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) (٧) وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٥٦.

(٢). الأنعام (٦) : ١٣٣.

(٣). في المصدر : «رحمة»

(٤). في المصدر : «تزكية»

(٥). معاني الأخبار : ٣٦٧.

(٦). وسائل الشيعة ٧ : ١٩٦ ، الحديث : ٩١٠٠ ؛ الاحتجاج ١ : ٤٩.

(٧). الأحزاب (٣٣) : ٥٦.

٢٨٣

فالكلام إمّا مقصور للحصر وإمّا وارد مورد التأكيد ، والاهتداء آكد من الهداية بناءا على أنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني ، فيفيد الكلام ـ على أيّ حال ـ اتّصاف القوم بحقيقة الهداية وتحقّقهم بها ، وقد قال تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) (١) فينطبق الكلام على معنى قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٢) وحينئذ فمن الممكن أن يكون اللام في قوله : (الْمُهْتَدُونَ) للعهد.

وبذلك كلّه يتبيّن : أنّ هذا الاهتداء غير الصلوات والرحمة ، ويتبيّن أيضا : وجه التفرقة بين الصلوات والرحمة وبين الاهتداء ؛ إذ يقول : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

فمثل هؤلاء القوم في كرامتهم : مثل صديقك تلقاه وهو يريد دارك والنزول بك ويسأل عنها ، فتلقاه بالبشر والكرامة ، فتورده مستقيم الطريق ، وأنت معه تسيّره ولا تدعه يضلّ حتّى تورده نزله من دارك ، وتعاهده في الطريق بمراقبة مأكله ومشربه وركوبه ونزوله وسيره وحفظه كلّ حين ، فتكرمه بكفاية ما يحتاج إليه.

فالواقع من الإكرام واحد ؛ لأنّك إنّما تريد إكرامه ، وإن كان كلّ تعاهد يلحقه إكرام مختصّ به ، والهداية مع ذلك غيرهما جميعا ، وإن كان كلّ منها يصدق على الآخرين حقيقة ، فالجميع هداية ، والجميع تعاهد وعناية ، والجميع إكرام وكفاية ، والإكرام بمنزلة الرحمة ، والتعاهدات كلّ حين بمنزلة الصلوات ، والهداية إلى الدار بمنزلة الاهتداء.

*

__________________

(١). النحل (١٦) : ٣٧.

(٢). الأنعام (٦) : ٨٢.

٢٨٤

[إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨)]

قوله سبحانه : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ ...)

الصفا والمروة اسمان للجبلين بمكّة ، والشعائر جمع شعيرة ، وهي العلامة.

روى العيّاشي عن بعض أصحابنا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «سألته عن السعي بين الصفا والمروة فريضة هو أم سنّة؟ قال : فريضة ، قلت : أليس الله يقول : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)؟ قال : كان ذلك في عمرة القضاء ، وذلك أنّ رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام ، فتشاغل رجل من أصحابه حتّى اعيدت الأصنام ، قال : فأنزل الله (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي والأصنام عليهما». (١)

أقول : وروى قريبا منه في الكافي.

وروى أيضا عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في حديث حجّ النبيّ ـ صلّى الله

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٧٠ ، الحديث : ١٣٣.

٢٨٥

عليه وآله وسلّم ـ : «بعد ما طاف بالبيت وصلّى ركعتيه قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فابدأ بما بدأ الله ـ عزوجل ـ (١) وإنّ المسلمين كانوا يظنّون أنّ السعي بين الصفا والمروة شيء صنعه المشركون ، فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)». (٢)

أقول : لا تزاحم بين الروايتين في شأن النزول ، وهو ظاهر.

وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «فابدأ بما بدأ الله» ملاك التشريع ، وقد مضى في حديث هاجر ـ وسعيها بينهما سبع مرّات ـ أنّ السنّة جرت على ذلك.

*

__________________

(١). في المصدر : «تعالى به»

(٢). الكافي ٤ : ٢٤٥ ، الحديث : ٤.

٢٨٦

[إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)]

قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) ـ إلى قوله ـ : (اللَّاعِنُونَ)

إطلاق القول في اللعن واللاعنين يفيد : أنّ لهم سهما من كلّ لعن من كلّ لاعن ، ويشهد به : الاستثناء في الآية التالية ، ثمّ الآية الثالثة وتصديرها ب (إِنَ) وقوله : (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) حيث يشعر بعدم التوبة والإصرار على الذنب والعناد ، فيكون علّة متمّمة للسابقتين.

وحينئذ يكون المراد بالكافرين في الآية الثالثة هم الذين يكتمون في الآية الاولى ، بالإشعار بأنّ الكتمان كفر ، ويكون المراد باللاعنين هم الملائكة والناس أجمعون.

ويؤيّد ما ذكر : الآية الرابعة أيضا ؛ حيث إنّ ظاهر السياق أنّ الضمير في قوله :

٢٨٧

(خالِدِينَ فِيها) راجع إلى اللعنة.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) في عليّ». (١)

وعن بعض أصحابنا عنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «قلت له : أخبرني عن قول الله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) قال : نحن نعنى بها والله المستعان ؛ إنّ الرجل منّا إذا صارت إليه لم يكن له ـ أو لم يسعه ـ إلّا أن يبيّن للناس من يكون بعده». (٢)

وروى عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «يعني بذلك نحن ، والله المستعان». (٣)

وروى عن محمّد بن مسلم قال ـ عليه‌السلام ـ : «هم أهل الكتاب». (٤)

أقول : جميعها من قبيل الجري وعدّ المصاديق ، وإلّا فظاهر الآية مطلق.

وفي بعض الروايات عن علي ـ عليه‌السلام ـ تفسيره بالعلماء إذا فسدوا. (٥)

وفي المجمع في معنى الآية قال : روي عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «من سئل عن علم يعلمه فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار ، (٦) وهو قوله : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)».

أقول : والخبران يؤيّدان ما ذكرناه.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٧١ ، الحديث : ١٣٦.

(٢). تفسير العياشي ١ : ٧١ ، الحديث : ١٣٩.

(٣). تفسير العياشي ١ : ٧١ ، الحديث : ١٣٧.

(٤). تفسير العياشي ١ : ٧٢ ، الحديث : ١٤٠.

(٥). الميزان في تفسير القرآن ١ : ٣٩١.

(٦). مجمع البيان ١ : ٤٤٧.

٢٨٨

اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) قال : «نحن هم ، وقد قالوا : هو امّ الأرض». (١)

أقول : إشارة إلى ما يفيده قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٢) فافهم.

واعلم : أنّ في الآيات أربعة موارد من الالتفات : فمن الغيبة إلى التكلّم مع الغير في قوله : (ما أَنْزَلْنا) أوّلا ، ومن التكلّم مع الغير إلى الغيبة في قوله : (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) ثانيا ، ومن الغيبة إلى التكلّم وحده في قوله : (أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) ثالثا ، ومن التكلّم وحده إلى الغيبة في قوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ) رابعا.

والوجه في العدول إلى الغيبة في قوله : (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) وقوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ) هو أنّ اللعن من الأمور التي يشتدّ ويضعف بالإضافة إلى مصدره وفاعله ، فالإضافة إلى لفظ الجلالة لإفادة التشديد.

والوجه في العدول إلى التكلّم وحده في قوله : (أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) لإفادة الرحمة والحنان ونهاية الاهتمام بالإضافة إلى نفسه.

والوجه في العدول إلى التكلم مع الغير في قوله : (ما أَنْزَلْنا) من حيث إنّ الإنزال إنّما هو بالوسائط من الملائكة ، والعظماء يتكلّمون في الامور التي لها وسائط عنهم وعن أعوانهم وخدمهم. لكنّ الأشبه أنّ قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) ابتداء كلام ، فلا التفات فيه.

*

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٧٢ ، الحديث : ١٤١.

(٢). هود (١١) : ١٨.

٢٨٩

[وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)]

قوله سبحانه : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)

الوحدة ـ ومفهومها ضروريّ ـ ربّما يتّصف بها الشيء من حيث وصفه واسمه ، ولازمه أن لا يكون وصفه قابلا للكثرة ، فالوصف الذي فيه لا يشاركه فيه غيره حقيقة إلّا مفهوما ، وأيضا الوصف فيه لا يتميّز عن الوصف مصداقا إلّا مفهوما.

فهو سبحانه واحد من حيث إنّ أوصافه وأسماءه ـ كالعليم والقدير والحىّ ـ لا يشاركه فيها أحد مصداقا إلّا مفهوما ، فله علم لا كالعلوم ، وقدرة لا كقدرة غيره ، وحياة لا كحياة المخلوقين ، وواحد من حيث إنّ العلم والقدرة والحياة وكلّ صفة له وإن اختلفت مفهوما لكنّها واحدة مصداقا ، فمنشأ انتزاع العلم فيه هو منشأ انتزاع القدرة ... وهكذا ، فهو عالم من حيث إنّه قادر وحيّ من حيث

٢٩٠

إنّه عالم ... وهكذا.

وربّما يتّصف الشيء بالوحدة من حيث الذات ، وهو عدم التكثّر والتجزّي في الذات بذاته فلا تتجزّي إلى جزء وجزء وإلى ذات واسم ... وهكذا ، وهي المسمّاة بأحديّة الذات ، وسيجيء شرحه.

وفي الخصال والتوحيد والمعاني عن شريح بن هاني ، قال : «إنّ اعرابيّا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أتقول إنّ الله واحد؟ قال : فحمل الناس عليه ، فقالوا : يا أعرابي ، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟! فقال أمير المؤمنين : دعوه ؛ فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم.

ثمّ قال ـ عليه‌السلام ـ : يا أعرابي ، إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام ، فوجهان منها لا يجوزان على الله ـ عزوجل ـ ، ووجهان يثبتان فيه :

فأمّا اللذان لا يجوزان عليه : فقول القائل : واحد ، يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : إنّه ثالث ثلاثة؟! وقول القائل : هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز ؛ لأنّه تشبيه ، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك.

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه : فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا ، وقول القائل : إنّه ـ عزوجل ـ أحديّ المعنى ؛ يعنى به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا». (١)

أقول : الوجهان اللذان أثبتهما ـ عليه‌السلام ـ كما ترى منطبقان على ما

__________________

(١). الخصال ١ : ٢ ، الحديث : ١ ؛ التوحيد : ٨٣ ، الحديث : ٣ ؛ معاني الأخبار : ٥ ، الحديث : ٢.

٢٩١

ذكرناه من جهتي الوحدة ؛ والجهتان إحداهما متفرّعة على الاخرى وفي طولها لا عرضها ، فالأوّل لازم الثاني من الوجهين ، وسيجيء شرح الوجهين المنفيّين عنه تعالى إن شاء الله.

وقد تكرّر في الخطب المنقولة عن عليّ والرضا وغيرهما ـ عليهم‌السلام ـ «انّه واحد لا بالعدد» ، (١) وفي دعاء الصحيفة الكاملة «لك وحدانيّة العدد» ويحمل على الملكيّة دون الاتّصاف ، (٢) فالبرهان ناهض على أنّ وجوده سبحانه صرف لا يتثنّى ولا يتكرّر بذاته وحقيقته.

قوله سبحانه : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ)

قد عرفت معنى «إله» في أوّل الكتاب ، والنفي متوجّه إلى ما يصدق عليه «إله» حقيقة ، والإتيان بعد «إلّا» بضمير الرفع يدلّ على البدليّة وكون «إلّا» بمعنى غير ، دون الاستثناء ، فالتهليل كلام واحد لا كلامان ، فقول القائل : «إنّه عقدان : عقد نفي وعقد إثبات» ليس بموجّه ، بل هو دعوى نفي وتسلّم إثبات ، فافهم ذلك.

*

__________________

(١). الميزان في تفسير القرآن ١ : ٤٠٩.

(٢). الصحيفة السجّادية : الدعاء : ٢٨.

٢٩٢

[وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧) يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)]

٢٩٣

قوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً)

في الكافي والإختصاص ، وتفسير العيّاشي ، عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «هم ـ والله يا جابر ـ أئمّة الظلمة وأشياعهم» وفي رواية العيّاشي : «والله يا جابر! هم أئمّة الظلم وأشياعهم». (١)

أقول : وهو من الجري.

قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)

فيه دليل على أنّ الحبّ يتعلّق به سبحانه حقيقة ، وأحاديث أهل البيت مستفيضة في ذلك. (٢)

ومن المعلوم بالوجدان : أنّ الحبّ يتعلّق بأشياء كثيرة من غير جنس الأجسام والجسمانيّات ، ومن غير سنخ الحبّ الشهواني ، فلا يعبأ بإنكار من ينكر ذلك ويقصر الحبّ على الشهواني منه ؛ بتأويل الآيات والأخبار المشتملة عليه : بأنّ المراد به الائتمار بالأمر والانتهاء عن النهي ، وسيأتي بقيّة الكلام إن شاء الله.

وروى العيّاشي عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ في قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) : «هم آل محمّد». (٣)

أقول : وهو نحو من الجري بعدّ المصداق والحقيقة.

__________________

(١). الكافي ١ : ٣٧٤ ، الحديث : ١١ ؛ الإختصاص : ٣٣٤ ؛ تفسير العياشي ١ : ٧٢ ، الحديث : ١٤٢.

(٢). وذلك لاقتضاء «أفعل التفضيل» اشتراك المفضّل والمفضّل عليه في أصل الوصف ، ومثله قوله تبارك وتعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) إلى قوله : (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، [منه ـ رحمة الله ـ].

(٣). تفسير العياشي ١ : ٧٢ ، الحديث : ١٤٣.

٢٩٤

قوله سبحانه : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)

هذه من الآيات الكاشفة عن حقيقة القيامة ، وسيأتي شرحها في سورة الأنعام إن شاء الله.

قوله سبحانه : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ)

وفي الكافي عن الصادق في الآية قال : «الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا ، ثمّ يموت ، فيدعه لمن يعمل به في طاعة الله أو في معصية الله ؛ فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره ، فرآه حسرة وقد كان المال له ، وإن كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتّى عمل به في معصية الله». (١)

أقول : وروى هذا المعنى العيّاشي والصدوق والمفيد والطبرسي عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ ، (٢) وهو من الجري.

قوله سبحانه : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ)

الآية حجّة على من يقول بانقطاع العذاب. لكن يجب أن يعلم أنّ المسألة عقليّة وليست بتلك السذاجة التي يتوهّمها عدّة من المثبتين ، فتحرير الموضوع هو العمدة ؛ ولذلك ذكر بعض المتألّهين أنّ العذاب يرتفع عنهم بعد أبد الآبدين ، انتهى. فتأمّل فيه.

والذي لا ريب في استفادته من كلامه سبحانه : أنّهم مخلّدون في النار ـ متقلّبون

__________________

(١). الكافي ٤ : ٤٢ ، الحديث : ٢.

(٢). تفسير العياشي ١ : ٧٢ ، الحديث : ١٤٤ ؛ من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٢ ، الحديث : ١٧١٣ ؛ الأمالي للمفيد : ٢٠٥ ، الحديث : ٣٥ ؛ مجمع البيان ١ : ٤٦٥.

٢٩٥

في أنواع عذابها ، كلّما أرادوا أن يخرجوا منها اعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق (١) ـ أبدا ، وأمّا النزاع فهو طوليّ ليس بالعرضي ، ومحلّه غير هذا المحلّ.

قوله سبحانه : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ...)

هي في مساق قوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ). (٢)

والخطوة ـ وهي ما بين القدمين في المسير ـ حيث كانت في الخير والشرّ والمدح والذمّ تابعة للمقصد ، ومقصد الشيطان لا محالة غير صالح على أيّ حال ، وقع النهي عن اتّباعه لفساد الغاية ، لا لنفسها ، ولذا قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ]) ، (٣) فاستعير خطوات الشيطان لوسائل الخير والذرائع المباحة التي تستعمل بحيث تؤدّي إلى الفحشاء والمنكر والكذب على الله ؛ كالكفّ عن أكل المباحات ونحو ذلك.

ومن هنا عدّ في الروايات الحلف الغير المرضي من خطوات الشيطان :

فقد روى الشيخ في التهذيب عن عبد الرحمن ، قال : «سألت أبا عبد الله عن رجل حلف أن ينحر ولده؟ قال : ذلك من خطوات الشيطان». (٤)

وروى أيضا عن منصور بن حازم قال : «قال لي أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ :

__________________

(١). إشارة إلى الآية ٢٢ من سورة الحج.

(٢). الأنعام (٦) : ١٤٢.

(٣). النور (٢٤) : ٢١ ؛ ما بين المعقوفتين ليس جزءا من هذه الآية ، بل جزء من الآية المبحوث عنها هنا.

(٤). تهذيب الأحكام ٨ : ٢٨٨ ، الحديث : ٥٥ و : ٣١٧ ، الحديث : ٥٩.

٢٩٦

أما سمعت بطارق؟ إنّ طارقا كان نخّاسا بالمدينة ، فأتى أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ فقال : يا أبا جعفر! إنّي حلفت بالطلاق والعتاق والنذر ، (١) فقال له : يا طارق! إنّ هذه من خطوات الشيطان». (٢)

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «إذا حلف الرجل على شيء ، والذي حلف عليه إتيانه خير من تركه ، فليأت الذي هو خير ، ولا كفّارة له ، (٣) وإنّما ذلك من خطوات الشيطان». (٤)

وفي تفسير العيّاشي قال : «سمعت أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ يقول : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) قال : كلّ يمين بغير الله فهو من خطوات الشيطان». (٥)

قوله سبحانه : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ...)

في المجمع عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «أي مثلهم في دعائك إيّاهم (٦) إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم ، وإنّما تسمع الصوت». (٧)

أقول : يشير ـ عليه‌السلام ـ إلى أنّ الكلام مقلوب ، ومستقيمه : أنّ مثلهم كمثل بهيمة الذي ينعق ، أو : مثل داعيهم كمثل الناعق ، وهذا المسلك مستعمل كثيرا في بليغ الكلام ، ومن هذا الباب قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ). (٨)

__________________

(١). في المصدر : «النذور»

(٢). تهذيب الأحكام ٨ : ٢٨٧ ، الحديث : ٥٠.

(٣). في المصدر : «عليه»

(٤). الكافي ٧ : ٤٤٣ ، الحديث : ١.

(٥). تفسير العيّاشي ١ : ٧٤ ، الحديث : ١٥٠.

(٦). في المصدر : «مثل الداعي لهم»

(٧). مجمع البيان ١ : ٤٧١.

(٨). البقرة (٢) : ١٧٧.

٢٩٧

[إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)]

قوله سبحانه : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) ـ إلى قوله ـ : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

أي غير باغ في اضطراره ولا عاد فيه ، فهو مقتضى وقوعهما حالين.

وفي الكافي عن حمّاد عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «الباغي باغي الصيد ، والعادي السارق ، ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرّا إليها ، هي حرام عليهما ، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين ، وليس لهما أن يقصّرا في الصلاة». (١)

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «الباغي الظالم والعادي الغاصب». (٢)

وأيضا عن حمّاد عنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «الباغي الخارج على الإمام ،

__________________

(١). الكافي ٣ : ٤٣٨ ، الحديث : ٧.

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٧٤ ، الحديث : ١٥١.

٢٩٨

والعادي اللص». (١)

وفي المجمع عن أبي جعفر وأبي عبد الله ـ عليهما‌السلام ـ : «(غَيْرَ باغٍ) على إمام المسلمين (وَلا عادٍ) بالمعصية طريق المحقّين». (٢)

أقول : والجميع من قبيل عدّ المصاديق.

واعلم : أنّ «الغفور» من أسمائه الحسنى ، من الأسماء الفعليّة ؛ من الغفر :

بمعنى التغطية ، والستر فهو تعالى بمغفرته يغطّي على الذنوب.

*

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٧٤ ، الحديث : ١٥٤.

(٢). مجمع البيان ١ : ٤٧٦.

٢٩٩

[إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)]

قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ ...)

فيه من الدلالة على تجسّم الأعمال ـ وأنّ باطن هذه الأعمال هو العذاب أو المغفرة ـ ما لا يخفى ، وقد أوضحه في الآية التالية بتبديل اشتراء الثمن القليل بالآيات باشتراء الضلالة بالهدى ، بل العذاب بالمغفرة ، فثباتهم على فعلهم صبر منهم على النار ، فما أصبرهم على النار! فالآيتان بتمامهما جامعتان لمسلكي المجازاة ونتائج الأعمال ؛ أعني الظاهر والباطن.

وقد ورد تفسير قوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) على كلا المسلكين :

ففي الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «ما أصبرهم

٣٠٠