تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

يقول : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) فكان رسول الله ينقصه؟!». (١)

أقول : قوله : «فكان رسول الله ينقصه» في مقام الاستفهام الإنكاري ، والرواية تدلّ على ما قدّمناه : أنّ ظاهر التكميل تكميل شهر رمضان.

وفي محاسن البرقي عن بعض أصحابنا رفعه في قوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) قال : «التكبير التعظيم ، والهداية الولاية». (٢)

أقول : وقوله : «الهداية الولاية» من قبيل بيان المصداق ، ويمكن أن يكون من باب التأويل ؛ كما ورد في بعض الأخبار : أنّ اليسر هو الولاية ، والعسر هو الخلاف وموالاة أعداء الله. (٣)

*

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٨٢ ، الحديث : ١٩٤.

(٢). المحاسن ١ : ١٤٢ ، الحديث : ٣٦.

(٣). المحاسن ١ : ١٨٦ ، الحديث : ١٩٩.

٣٢١

[وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)]

قوله سبحانه : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ...)

أجمل كلمة وأحسنها في بيان قربه تعالى وإجابته ، وفيه ـ من طرح الواسطة حيث لم يقل : «فقل : إنّه قريب» ، والتأكيد ب «إنّ» ، والدلالة على ثبات القرب وتجدّد الإجابة واستمرارها ـ لطائف من البلاغة.

وقد أتمّ سبحانه بيان قربه وإجابته للسائلين عنه ؛ حيث عبّر عنهم بقوله (عِبادِي) فهو الذي يملكهم ملكا طلقا يحيط بهم ، فإذا كان سبحانه هو المالك

٣٢٢

لأنفسهم ولقوى أنفسهم ولما يتعلّق بأنفسهم ، فملكهم لأنفسهم ولقواها ومتعلّقاتها إنّما هو بتمليكه إيّاهم لما ملكه بالذات ، فهو الحائل بينهم وبين أنفسهم وقواها ومتعلّقاتها ، فهو القريب منهم على الإطلاق من غير بعد أصلا ، كما قال : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (١) وقال تعالى : (أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (٢) وقال تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). (٣)

وهو تمليك في ملك ليس على نحو النقل والانتقال ، كما يملّك أحدنا صاحبه بالبيع ، فينزع الملك عن نفسه ويقلّده صاحبه على ما قالته اليهود : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (٤) وكما قاله جمع من هذه الامّة ، فسمّاهم النبيّ مجوس هذه الامّة ، فيما رواه الفريقان عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «القدريّة مجوس هذه الأمّة». (٥)

فسلطانه تعالى واقع غير منقطع عن كلّ صغير وكبير ممّا بأيدي عباده ، وحينئذ فليس يستقبلهم شيء من أنفسهم أو ما يتعلّق بأنفسهم ممّا يريدونه إلّا بإذنه وإيتائه وإعطائه ، فما يملّكه ويأذن فيه من ذلك يقع ، وما لا يعطيه لا يقع وإن بذل في سبيله وطريق نيله كلّ جهد وعناية ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٦) وقد قال تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما

__________________

(١). الواقعة (٥٦) : ٨٥.

(٢). الأنفال (٨) : ٢٤.

(٣). ق (٥٠) : ١٦.

(٤). المائدة (٥) : ٦٤.

(٥). جامع الأخبار : ١٦١ ؛ سنن أبي داود ٢ : ٤١٠ ، الحديث : ٤٦٩١ ؛ عوالي اللآلي ١ : ١٦٦ ؛ السنن الكبرى ١٠ : ٢٠٣ ؛ كنز العمّال ١ : ١١٩ ، الحديث : ٥٦٦.

(٦). فاطر (٣٥) : ١٥.

٣٢٣

سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) ، (١) فهم فيما لا يحصونه من النعم سائلون ، ولم يسألوها بألسنتهم ، بل بفقرهم واستحقاقهم ذلك لسانا فطريّا وجوديّا.

وقال في هذه الآية : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) فلم يقيّد بقيد ، بل إنّما شرط أن يكون داعيا وأن يتعلّق دعاؤه به لا بغيره.

فما لا يقع ممّا يريده الإنسان ويهتمّ به فالدعاء الفطري لا يتخطّاه سبحانه ، بل لم يتحقّق هناك دعاء ، وإنّما التبس الأمر عليه التباسا ، وهو الذي يجده الإنسان فيما كان يريده بعد اليأس ، فيجد أنّه قد كان ممّا لا يقع ، وأنّه قد كان مخطئا في طلبه ؛ إذ كان لا يطلب المحال ، بل يطلبه لإذعانه إمكانه ؛ ولم يكن ممكنا ، فلم يكن يطلبه بالحقيقة. فهذا الذي لا يتحقّق فيه الدعاء.

ثمّ ما لا يقع ممّا يسأله الإنسان عن ربّه ، فلم يسأل ربّه ، أي لم يواطئ قلبه لسانه ؛ كمن تعلّق رجاؤه بالأسباب العاديّة أو امور وهميّة ، فلم يخلص الدعاء بالقلب ، وإن أخلصه باللسان واللفظ.

هذا ملخّص القول في معنى الدعاء ، وبه يظهر معاني جميع ما ورد فيه من الآيات والأخبار : قال تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢) وقال تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (٣) وقال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤) وقال تعالى : (قُلْ

__________________

(١). ابراهيم (١٤) : ٣٤.

(٢). الرحمن (٥٥) : ٢٩.

(٣). الفرقان (٢٥) : ٧٧.

(٤). الأنعام (٦) : ٤١.

٣٢٤

مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). (١)

أقول : وهذه الآيات ـ كما ترى بين ـ ما يفيد : أنّ كلّ موجود سماويّ أو أرضيّ تصل إليه الموهبة الإلهيّة ـ من وجوده إلى متعلّقات وجوده ـ بالسؤال من معدن الرحمة ومنبع الجود ، وبين ما يفيد : أنّ الدعاء فطريّ للإنسان ، وأنّه بفطرته يدعو الله تعالى ، لا يتخطّاه في سؤال النجاة إلى غيره ما دام يتغلغل في الشدّة ، فلا يزال يذكره ويدعوه ، حتى إذا كشف عنه الضرّ واستظلّ بالرخاء نسي ربّه واشتغل بملاهي الدنيا وتعلّق بالأسباب ، فأشرك بربّه ، فهو مشرك وليس بكافر وإن جحد ربّه ؛ فإنّ الإنسان سائل داع لله بالفطرة لا يترك ذلك البتّة ، فإذا تعلّق بغيره فقد أشرك ، وإن زعم أنّه لا يدعوه ولا يسأله سبحانه ، فلا تبديل لخلق الله ، هذا.

وقال تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ). (٢)

أقول : والآية دعوة إلى الدعاء ووعد بالإجابة وتزيد على ذلك أنّها تسمّي مطلق العبادة دعاءا ، (٣) ولو لم يكن مثل الصلاة ، وهذا باب ينفتح منه أبواب.

وقال سبحانه : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٤) وقال تعالى : (وَادْعُوهُ

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٦٣ ـ ٦٤.

(٢). غافر (٤٠) : ٦٠.

(٣). الصحيح «الدعاء عبادة» وإن كان يمكن تقريب استفادة جعل العبادة دعاءا من الآية ، لكن هذا ليس من باب التسمية.

(٤). غافر (٤٠) : ١٤.

٣٢٥

خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (١) وقال تعالى : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (٢) وقال : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٣) وقال تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٤) وقال تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) (٥) وقال تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) إلى قوله : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (٦) وقال : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ). (٧) ... إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذه المعاني.

أقول : وهي مشتملة على أركان الدعاء وآداب الداعي ، وعمدتها : الإخلاص في دعائه سبحانه ، وهو مواطاة القلب مع اللسان ، والانقطاع عن كلّ سبب دونه تعالى والتعلّق به تعالى ، ويلحق به الخوف والطمع والرغبة والرهبة والخشوع والتضرّع والإصرار والذكر وصالح العمل والإيمان وأداب الحضور ، وغير ذلك ممّا تشتمل عليه الروايات :

فعن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما رواه الفريقان : «الدعاء سلاح المؤمن». (٨)

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٥٦.

(٢). الأنبياء (٢١) : ٩٠.

(٣). الشورى (٤٢) : ٢٦.

(٤). الأعراف (٧) : ٥٥.

(٥). الأعراف (٧) : ٢٠٥.

(٦). مريم (١٩) : ٣ ـ ٤.

(٧). لقمان (٣١) : ١٩.

(٨). الكافي ٢ : ٤٦٨ ، الحديث : ١ ؛ جامع الأخبار : ٨٥ ؛ مكارم الأخلاق : ٢٦٨ ؛ ميزان الاعتدال ٣ : ٥١٢ ، الحديث : ٧٣٧٢ ؛ الكامل لابن عدي ٦ : ١٧٢.

٣٢٦

وفي المكارم عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «الدعاء أفضل من قراءة القرآن ؛ لأنّ الله ـ عزوجل ـ قال : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (١). (٢)

وروي ذلك عن الباقر والصادق ـ عليهما‌السلام ـ.

وفي عدّة الداعي في رواية محمّد بن عجلان عن محمّد بن عبد الله بن عليّ بن الحسين عن ابن عمّه الصادق عن آبائه عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «أوحى الله إلى بعض أنبيائه في بعض وحيه : وعزّتي وجلالي لأقطعنّ أمل كلّ آمل أمل غيري بالإياس ، ولأكسونّه ثوب المذلّة في الناس ، ولابعدنّه من فرجي وفضلي ، أيأمل عبدي (٣) في الشدائد غيري ، والشدائد بيدي؟! ويرجو سواي وأنا الغنيّ الجواد؟! بيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة ، وبابي مفتوح لمن دعاني ...» (٤) الحديث.

وفيه أيضا في الحديث القدسي : «يا موسى سلني كلّ ما تحتاج إليه ، حتّى علف شاتك وملح عجينك». (٥)

وفيه أيضا عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «قال الله : ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلّا قطعت أسباب السماوات وأسباب الأرض من دونه ، فإن سألني لم اعطه ، وإن دعاني لم اجبه ، وما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلّا ضمنت السماوات والأرض رزقه ، فإن دعاني أجبته ، وإن سألني

__________________

(١). الفرقان (٢٥) : ٧٧.

(٢). مكارم الأخلاق : ٣٨٩.

(٣). في المصدر : «أعبدي يأمل»

(٤). عدّة الداعي : ١٣٥.

(٥). عدّة الداعي : ١٣٤.

٣٢٧

أعطيته ، وإن استغفرني غفرت له». (١)

أقول : وهذا هو الإخلاص ، وليس بمقيّد لإطلاق الآية ؛ فإنّ غير المخلص في دعائه لا يدعوه سبحانه ، وقد قال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٢) وقال تعالى : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) وقال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (٣) فأضاف الدعاء والذكر إلى نفسه.

واعلم : أنّ من عدم الاجابة ما يلزمه إجابة دعاء آخر ، ومن الإجابة ما يلزمه عدم إجابة دعاء آخر والخيبة فيه ، وبه يستصحّ كليّة قوله تعالى : ما من مخلوق يعتصم ...» إلى آخره ، و «ما من مخلوق يعتصم بي ...» إلى آخره.

وفيه أيضا عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة». (٤)

وفي الحديث القدسي : «أنا عند ظنّ عبدي بي ، فلا يظنّ بي إلّا خيرا». (٥)

أقول : وذلك أنّ الدعاء ـ مع اليأس ، أو التردّد ـ يكشف عن عدم السؤال في الحقيقة ، وقد ورد المنع عن الدعاء بما لا يكون.

وفيه أيضا عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «افزعوا إلى الله في حوائجكم ، وألجأوا إليه في ملمّاتكم ، وتضرّعوا إليه وادعوه ؛ فإنّ الدعاء مخّ العبادة ، وما من مؤمن يدعو الله إلّا استجاب ، فإمّا أن يعجّله (٦) في الدنيا ، أو

__________________

(١). عدّة الداعي : ١٣٦.

(٢). غافر (٤٠) : ٦٠.

(٣). البقرة (٢) : ١٥٢.

(٤). عدّة الداعي : ١٤٤.

(٥). عدّة الداعي : ١٤٤.

(٦). في المصدر : «يعجل له»

٣٢٨

يؤجّل له في الآخرة ، وإمّا أن يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا ، ما لم يدع بمأثم». (١)

وفي نهج البلاغة في وصيّة له ـ عليه‌السلام ـ لابنه الحسين (٢) ـ عليه‌السلام ـ : «ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه ، بما أذن لك فيه من مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمه ، واستمطرت شآبيب رحمته ، فلا يقنّطنّك إبطاء إجابته ؛ فإنّ العطيّة على قدر النيّة ، وربّما اخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل وأجزل لعطاء الآمل ، وربّما سألت الشيء فلا تؤتاه واوتيت خيرا منه عاجلا وآجلا ، أو صرف عنك لما هو خير لك ، فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته ، فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله وينفى عنك وباله ، والمال لا يبقى لك ولا تبقى له». (٣)

وفي عدّة الداعي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «ما بسط عبد يده إلى الله عزوجل إلّا استحيى الله أن يردّها صفرا ؛ حتّى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء ، فإذا دعا أحدكم فلا يردّ يده حتّى يمسح بها على رأسه ووجهه» في خبر آخر : «على وجهه وصدره». (٤)

أقول : الإنسان كثيرا ما يهتمّ ببعض منافعه ؛ حتّى إذا بلغه وجده ضارّا بما هو أنفع منه وأدرّ ، فترك الأوّل وأخذ بالثاني ، أو يهرب عن شيء حتّى إذا صادفه وجده أنفع ممّا كان يتحفّظ منه ، فأخذ الأوّل وترك الثاني ، فالصبيّ المريض إذا عرض عليه الدواء يأخذ بالبكاء وهو يريد الصحّة ، فهو بلسان الطبيعة يسأل

__________________

(١). عدّة الداعي : ٤٠.

(٢). في المصدر : «الحسن»

(٣). نهج البلاغة : الكتاب : ٢١.

(٤). عدّة الداعي : ٢١٠.

٣٢٩

الصحّة فيسأل الدواء ، وإن كان بلسان قوله أو فعله يسأل خلافه وتركه.

فللانسان مثلا في ذاته نظام يسير به في صراط وجوده ، وله من حيث علمه نظام آخر ، ونظام الوجود لا يقع فيه خطأ ولا في سيره خبط ، فالواقع لا يتغيّر عمّا هو عليه ، وأمّا نظام العلم فيكثر فيه الخطأ والسهو ، فربّما سأل الإنسان عن ربّه شيئا بحسب علمه ، وهو بهذا السؤال بعينه يسأل شيئا آخر أو خلافه.

فعلى هذا ينبغي أن يقرّر معنى هذه الأحاديث ، وهو اللائح من قول أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ في الوصيّة : «فلا يقنّطنّك إبطاء الإجابة ؛ فإنّ العطيّة على قدر النيّة» وقد عرفت أنّ من الإجابة ما يلزمها عدم الإجابة في مورد آخر ، وبالعكس.

وقريب من هذا الباب ما رواه في أمالي الطوسي عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ أنّه سمع رجلا يقول : اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «أراك تتعوّذ من مالك وولدك ، يقول الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (١) ولكن قل : اللهمّ إنّي أعوذ بك من مضلّات الفتن». (٢)

أقول : وهذا باب آخر قريب المأخذ ممّا مرّ آنفا ، ونظائره كثيرة في الروايات ، وفيها : «أنّ الحقّ في معنى كلّ لفظ ما ورد منه في كلامه تعالى» ويشبه هذا الباب ما ورد في الروايات من معنى الجزء والكثير والأمان وأمثال ذلك».

وفي هذا المعنى ما في عدّة الداعي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الله لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه». (٣)

__________________

(١). الأنفال (٨) : ٢٨.

(٢). الأمالي للطوسي : ٥٨ ، الحديث : ١٢٠١.

(٣). عدّة الداعي : ١٣٨.

٣٣٠

وفيه أيضا عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : «لا يقبل الله دعاء قلب لاه». (١)

ويقرب من هذا الباب أيضا ما في دعوات الراوندي : «في التوراة يقول الله : ـ عزوجل ـ للعبد : إنّك متى ظللت تدعوني على عبد من عبيدي ـ من أجل أنّه ظلمك ـ فلك من عبيدي من يدعو عليك من أجل أنّك ظلمته ، فإن شئت أجبتك وأجبته فيك ، وأن شئت أخّرتكما إلى يوم القيامة». (٢)

أقول : وذلك أنّ من سأل شيئا لنفسه فقد رضي به ، ورضي بعين هذا الرضاء بكلّ ما يماثله من جميع الجهات التي وضع دعاءه عليها ، فهو يدعو على نفسه بعين دعائه لنفسه ، قال تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً). (٣)

وفي عدّة الداعي : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لأبي ذرّ : «يا أبا ذرّ ألا اعلّمك كلمات ينفعك الله ـ عزوجل ـ بهنّ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : احفظ الله يحفظك الله ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، فقد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، ولو أنّ الخلق كلّهم جهدوا على أن ينفعوك بما لم يكتبه الله لك ما قدروا عليه». (٤)

أقول : قوله : «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة» يعني ادع الله في الرخاء ولا تنسه حتّى يستجيب دعاءك في الشدّة ولا ينساك ؛ وذلك أنّ ناسي

__________________

(١). عدّة الداعي : ١٨٠.

(٢). الدعوات : ٢٥ ، الحديث : ٣٨.

(٣). الإسراء (١٧) : ١١.

(٤). عدّة الداعي : ١٨٢.

٣٣١

ربّه في الرخاء إذا دعاه في الشدّة كان معنى عمله أنّه يذعن به تعالى على تقدير ، وهو ربّ على كلّ تقدير ، فلم يعرفه ، فلم يدعه.

وقد ورد هذا المعنى بلسان آخر :

ففي المكارم عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «من تقدّم في الدعاء استجيب له إذا نزل به البلاء ، وقيل : صوت معروف ، ولم يحجب عن السماء ، ومن لم يتقدّم في الدعاء لم يستجب له إذا نزل به البلاء ، وقالت الملائكة : إنّ ذا الصوت لا نعرفه ...» (١) الحديث.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «فقد جرى القلم بما هو كائن ...» إلى آخره ، يشير إلى أنّ الأسباب الظاهريّة العاديّة في الوجود فإنّما سببيّتها مقصورة على حدّ قدّره الله تعالى ، وحدّه فيها في الواقع ، لا على ما يتراءى من سببيّتها وعملها ، فإذا الواجب على العبد أن يتوجّه في حوائجه إلى جناب العزّة ، ولا يقرع باب الأسباب وإن أبى الله أن يجري الامور إلّا بأسبابها.

وهذه دعوة إلى عدم الاعتماد على الأسباب إلّا بالله المفيض لها سببيّتها ، وليست دعوة إلى إلغاء الأسباب والطلب من غير سبب ، فهو طمع فيما لا مطمع فيه البتّة ، وعلى هذا النحو ينبغي أن يقرّر معنى ما مرّ من الأحاديث القدسيّة من نحو قوله سبحانه : «وعزّتي وجلالي لأقطعنّ أمل كلّ آمل أمل غيري بالإياس» فليس بإلغاء للسببيّة في الأسباب ، ولا بردع عن استعمالها ، فافهم.

وهاهنا سرّ آخر : وهو أنّ من استند في سير حياته إلى أمر ، وعوّل عليه كلّ التعويل ، كان عنده عطبه ، كذوي الفنون إذا استمهر أحدهم في أمر خطير كان فيه خطره.

__________________

(١). مكارم الأخلاق : ٢٧١.

٣٣٢

واعلم : أنّ قوله : «فقد جرى القلم ...» إلى آخره ، في الصّرف عن سؤال غير الله والاستعانة بغيره ـ مع أنّه يشمل مورد الدعاء أيضا بحسب الظاهر ـ للإشارة إلى أنّ تأثير الدعاء أيضا من القدر ؛ وقد تكاثرت الروايات أنّ الدعاء من القدر ، وبه يندفع ما ربّما يورد : أنّ الحاجة المدعوّ عليها إمّا مقدّرة الوقوع أو مقدّرة اللاوقوع ، وعلى كلا التقديرين لا فائدة في الدعاء ، هذا.

ووجه الاندفاع ظاهر ، فهو كقول من يقول : إنّ احتراق الحطب مثلا إمّا مقدّر الوقوع أو مقدّر اللاوقوع ، وعلى كلا التقديرين لا حاجة إلى التوسّل بالنار ولا فائدة فيها.

وفي البحار عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «لا يردّ القضاء إلّا الدعاء». (١)

وعن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «الدعاء يردّ القضاء بعد ما ابرم إبراما». (٢)

وعن أبي الحسن موسى ـ عليه‌السلام ـ : «عليكم بالدعاء ؛ فإنّ الدعاء والطلب إلى الله ـ عزوجل ـ يردّ البلاء وقد قدّر وقضي فلم يبق إلّا إمضاؤه ، فإذا دعي الله وسئل صرف البلاء صرفا». (٣)

وعن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الدعاء يردّ القضاء المبرم وقد (٤) ابرم إبراما ، فأكثر من الدعاء ؛ فإنّه مفتاح كلّ رحمة ونجاح كلّ حاجة ، ولا ينال ما عند الله إلّا بالدّعاء ؛ فإنّه ليس من باب يكثر قرعه إلّا أوشك أن يفتح لصاحبه». (٥)

وعن إسماعيل بن همام عن أبي الحسن ـ عليه‌السلام ـ : «دعوة العبد سرّا

__________________

(١). بحار الأنوار ٩٠ : ٢٩٦.

(٢). بحار الأنوار ٩٠ : ٢٩٥.

(٣). بحار الأنوار ٩٠ : ٢٩٦.

(٤). في المصدر : «بعد ما»

(٥). بحار الأنوار ٩٠ : ٢٩٩ ، الحديث : ٣٣.

٣٣٣

دعوة واحدة ، تعدل سبعين دعوة علانيّة». (١)

وفي المكارم عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «لا يزال الدعاء محجوبا حتّى يصلّي على محمّد وآل محمّد». (٢)

وعنه ـ عليه‌السلام ـ : «من قدّم أربعين من المؤمنين ثمّ دعا استجيب له». (٣)

وعنه ـ عليه‌السلام ـ وقد قال رجل من أصحابه : «إنّي أجد آيتين في كتاب الله (٤) أطلبهما فلا أجدهما ، قال : فقال ـ عليه‌السلام ـ : وما هما؟ قلت : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٥) فندعوه فلا نرى إجابة ، قال : أفترى الله أخلف وعده؟ قلت : لا ، قال : فمه؟ قلت : لا أدري ، قال : لكنّي اخبرك : من أطاع الله فيما أمر به ثمّ دعاه من جهة الدعاء أجابه ، قلت : وما جهة الدعاء؟ قال : تبدأ فتحمد الله وتمجّده ، وتذكر نعمه عليك ، فتشكره ، ثمّ تصلّي على محمّد وآله ، (٦) ثمّ تذكر ذنوبك فتقرّ بها ، ثمّ تستغفر منها ، فهذه جهة الدعاء.

ثم قال : وما الآية الاخرى؟ قلت : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) (٧) وأراني انفق ولا أرى خلفا ، قال : أفترى الله أخلف وعده؟ قلت : لا ، قال : فمه؟ قلت : لا أدري. قال : لو أنّ أحدكم اكتسب المال من حلّه ، وأنفق في حقّه ، لم ينفق درهما إلّا أخلف الله عليه». (٨)

__________________

(١). بحار الأنوار ٩٠ : ٣٤٠.

(٢). مكارم الأخلاق : ٢٧٤.

(٣). مكارم الأخلاق : ٢٧٦.

(٤). في المصدر : «كتاب الله آيتين»

(٥). غافر (٤٠) : ٦٠.

(٦). في المصدر : «على النبيّ (ص)»

(٧). سبأ (٣٤) : ٣٩.

(٨). مكارم الأخلاق : ٢٧٦.

٣٣٤

أقول : والوجه في هذه الأحاديث وأشباهها الواردة في الآداب ظاهر ، فهي امور تقرّب العبد من حقيقة الدعاء ، وقد عرفت ما هو حقيقته من مطاوي ما تقدّم ، وهي إعلام الداعي وجه حاجته للمدعوّ ، وإذا كان الله سبحانه عالما بحقائق الاحتياجات ـ غير ممكن في حقّه الإعلام المستلزم للجهل السابق ـ فالدعاء له قيام الممكن في مقام الحاجة إلى رحمته الواسعة.

وبذلك ظهر : أنّ الدعاء يعمّ الواقعيّات التكوينيّة وغيرها ، وكذلك الإجابة ، فكلّ اقتضاء ذاتي للممكن دعاء ، وكلّ إفاضة من الحقّ سبحانه إجابة ، كما يشير إليه قوله : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) وقوله تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ). (٢)

وبذلك يظهر : أنّ العبادة ـ وهي كما عرفت قيام المملوك أمام مالكه في مقام المملوكيّة ـ دعاء ، كما يشير إليه قوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٣) وقوله سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٤) إذا ضمّ إلى قوله : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ). (٥)

وقد ظهر بذلك أيضا : أنّ الدعاء والعبادة متلازمان من حيث الصدق ، وقد مرّت إليه إشارة.

هذا جملة القول في الدعاء ، والروايات في المضامين السابقة كثيرة إلى الغاية ، وقد أوردنا من كلّ باب انموذجه ، والله الهادي.

__________________

(١). الرحمن (٥٥) : ٢٩.

(٢). ابراهيم (١٤) : ٣٤.

(٣). غافر (٤٠) : ٦٠.

(٤). الذاريات (٥١) : ٥٦.

(٥). الفرقان (٢٥) : ٧٧.

٣٣٥

قوله سبحانه : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)

حيث أطلق تعالى قوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) ولم يأخذ أكثر من قيد العبوديّة في جانب السائل ، كان معناه : أنّ السؤال لغرض قضاء ما على العبد من حقّ الربّ من حيث إنّه عبد ، وإن كان في الواقع لا حيثيّة له غير العبوديّة ، ثمّ أطلق تعريفه نفسه ب (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) أفاد ذلك : أنّ العبوديّة ـ التي هي تمام ما للعبد ـ نسبة بينه وبين ربّه قائمة بين طرفين ، أحدهما الدعاء ، والآخر : الإجابة والإيتاء ، وكان أساس ذلك التعلّق به والاعتصام بحبل رحمته تعالى ؛ فلذلك فرّع على ذلك قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أي ليقبلوا إليّ ويوقنوا أنّي القريب المجيب على الإطلاق (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) ويهتدون إلى ما عندي.

وفي تفسير العيّاشي ، عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) : «يعلمون أنّي أقدر أن اعطيهم ما يسألوني». (١)

وفي المجمع قال : وروي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أنّه قال : «(وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أي وليتحقّقوا ؛ أنّي قادر على إعطائهم ما سألوه (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي لعلّهم يصيبون الحقّ ؛ أي يهتدون إليه». (٢)

أقول : وقد اتّضح معنى الروايتين آنفا.

قوله سبحانه : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ) ـ إلى قوله ـ : (إِلَى اللَّيْلِ)

الرفث : هو التصريح بما يكنّى عنه لقبحه ، ولكون الجماع لا يخلو عنه غالبا

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٨٣ ، الحديث : ١٩٦.

(٢). مجمع البيان ٢ : ١٨.

٣٣٦

سمّي به ، وتعديته ب «إلى» لتضمين معنى الإفضاء.

وقوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ)

في مقام التعليل لحلّيّة الرفث ؛ فانّ اللباس هو اللازم للتستّر ، وأمّا التستّر عن نفس اللباس فغير لازم.

وقوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)

ليس تكليفا بأن ينوي ذلك بالرفث ، بل عطف تفسير وجري على ما يقتضيه الأدب الجاري في كلامه سبحانه ، فالتناسل والتوالد هو المكتوب للإنسان بالمباشرة وإن لم يقصده بها ، على حدّ سائر الحقائق التي سخّر الله ـ عزوجل ـ الإنسان واستخدمه بأنواع من الزينة زيّنها بها ، كالتلذّذ من مستلذّات المطاعم والمشارب والمساكن والملابس ، هذا.

وهذه الكلمة في مقام الإصلاح لقوله : (بَاشِرُوهُنَ) فافهم ذلك.

وفي تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «كان الأكل والنكاح محرّمين (١) في شهر رمضان بالليل بعد النوم ، يعني كلّ من صلّى العشاء ونام ولم يفطر ثمّ انتبه حرم عليه الإفطار ، وكان النكاح حراما في الليل والنهار في شهر رمضان ، وكان رجل من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يقال له : خوّات بن جبير الأنصاري أخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وكّله بفم الشّعب يوم احد في خمسين من الرماة ، ففارقه أصحابه وبقي في اثني عشر رجلا ، فقتل على باب الشعب ، وكان أخوه هذا

__________________

(١). في المصدر : «النكاح والأكل محرّمان»

٣٣٧

خوّات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا ، وكان صائما مع رسول الله في الخندق ، فجاء إلى أهله حين أمسى ، فقال : عندكم طعام؟ فقالوا : لا تنم (١) حتّى نصنع لك طعاما ، فأبطأت عليه أهله بالطعام ، فنام قبل أن يفطر ، فلمّا انتبه قال لأهله : قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة ، فلمّا أصبح حضر حفر الخندق ، فاغمي عليه ، فرآه رسول الله فرقّ له ، وكان قوم من الشبّان (٢) ينكحون بالليل سرّا في شهر رمضان ، فأنزل الله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) فأحلّ الله تبارك وتعالى النكاح بالليل من شهر رمضان ، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر ، بقوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) قال : هو بياض النهار من سواد الليل». (٣)

أقول : وقوله : «يعني ـ إلى قوله : ـ وكان رجل ...» إلى آخره ، من كلام الراوي ، وهذا المعنى مرويّ بروايات اخرى رواها الكليني والعيّاشي وغيرهم. (٤)

*

__________________

(١). في المصدر : «لا نم»

(٢). في المصدر : «الشباب»

(٣). تفسير القمّي ١ : ٦٦.

(٤). الكافي ٤ : ٩٨ ، الحديث : ٤ ؛ تفسير العياشي ١ : ٨٣ ، الحديث : ١٩٧ ؛ تهذيب الأحكام ٤ : ١٨٤ ، الحديث : ١.

٣٣٨

[وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)]

قوله سبحانه : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ ...)

في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية : «كانت (١) تقامر الرجل بأهله ، وماله ، فنهاهم الله عن ذلك» (٢) وفيه عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : قول الله ـ عزوجل ـ في كتابه : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) فقال : يا أبا بصير ، إنّ الله ـ عزوجل ـ قد علم أنّ في الامّة حكّاما يجورون ، أما أنّه لم يعن حكّام أهل العدل ، ولكنّه عنى حكّام أهل الجور.

__________________

(١). في المصدر : + «قريش»

(٢). الكافي ٥ : ١٢٢ ، الحديث : ١.

٣٣٩

يا أبا محمّد ، لو كان على رجل حقّ فدعوته إلى حكّام أهل العدل ، فأبى عليك إلّا أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا له ، لكان ممّن يحاكم (١) إلى الطاغوت ، وهو قول الله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) (٢)». (٣)

وفي المجمع قال : «روي عن أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ : يعني بالباطل اليمين الكاذبة يقطع بها الأموال». (٤)

أقول : وهذه مصاديق والآية مطلقة.

قوله سبحانه : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ ...)

في التهذيب عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : «لصومهم وفطرهم وحجّهم». (٥)

أقول : وعليه روايات اخر.

قوله سبحانه : (لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها ...)

قيل : إنّ ناسا من الأنصار كانوا إذا أحرموا ، لم يدخل أحد منهم حائطا ولا دارا ولا فسطاطا ، فإذا كان من أهل المدن ، نقب من ظهر داره نقبا منه يدخل ويخرج ، وإذا كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء ، فنزلت.

__________________

(١). في المصدر : «حاكم»

(٢). النساء (٤) : ٦٠.

(٣). الكافي ٧ : ٤١١ ، الحديث : ١.

(٤). مجمع البيان ٢ : ٢٥.

(٥). تهذيب الأحكام ٤ : ١٦٦ ، الحديث : ٤٤.

٣٤٠