تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

ولا محدودة بحدّ ، وأنّ القدر والحدّ في مرتبة الإنزال والخلق ، والكثرة التي فيها وتعدّدها ليست من جنس الكثرة العدديّة الملازمة للقدر والحدّ ، بل تعدّد المراتب والدرجات ، وسيجيء شرحها في سورة الحجر إن شاء الله.

فتحصّل : أنّ هؤلاء ـ الذين عرضهم الله تعالى على الملائكة ـ موجودات محفوظة عند الله تعالى ، محجوبة بحجب الغيب ، أنزل سبحانه كلّ اسم في العالم بخيرها وبركتها ، واشتقّ كلّ ما في السماوات والأرض من نورها وبهائها ، وأنّهم على كثرتهم وتعدّدهم لا يتعدّدون تعدّد الأفراد ، ولا يتفاوتون تفاوت الأشخاص ، وإنّما الأمر يدور هناك مدار المراتب والدرجات ، ونزول الاسم من عندهم إنّما هو بهذا القسم من النزول ، كما سيجيء.

ومن هنا يظهر معنى «غيب السماوات والأرض» ؛ وذلك أنّ الإضافة هناك إمّا بمعنى «من» أو بمعنى «اللام» وبعبارة اخرى : مصداق غيب السماوات والأرض إمّا من غير جنس الموجودات السماويّة والأرضيّة ، فيكون موجودا خارجا عن عالم السماء والأرض ، أو من جنس موجوداتهما ، أو الأعمّ من ذلك ، وقد استعمل الغيب في كلامه تعالى في كلّ منها : قال سبحانه : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) (١) وقال تعالى : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) (٢) وقال تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.) (٣)

ويلزم على غير التقدير الأوّل أن يكون قوله : (أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) على غير النظم البليغ ؛ فإنّ

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٥٩.

(٢). النساء (٤) : ٣٤.

(٣). هود (١١) : ١٢٣ ؛ النحل (١٦) : ٧٧.

١٠١

المكتوم ـ الذي ذكره سبحانه ـ هو من أفراد غيب السماوات والأرض ، فكان جريا وتدرّجا في الكلام من الأعمّ إلى الأخصّ من غير نكتة ظاهرة ، وهو رديء ، بل الصالح حينئذ أن يذكر ما كتموه أوّلا ، وجميع الغيب ثانيا.

فهذا الغيب المذكور ليس من جنس السماوات والأرض ؛ حتّى يكون غيبا بالنسبة إلى بعض سكنتهما ، وشهادة بالنسبة إلى بعض آخر ، بل هو غيب خارج عن حيطتهما ، غائب مستور عن سكنتهما ، فلا يشمل الغيب الذي كتموه أوّلا.

وقوله سبحانه : (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)

حيث قيّد بقوله : (كُنْتُمْ) مشعر بأنّه كان هناك أمر مكتوم في خصوص آدم وجعل خلافته ، ويظهر ذلك ممّا عقّبه تعالى من قوله : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ). (١)

فيظهر أنّ إبليس كان كافرا قبل ذلك الحين ، وأنّ إباءه عن السجدة كان مرتبطا بذلك ، فقد كان أضمره.

ويظهر منه أنّ سجدة الملائكة ـ وإباء إبليس عنها ـ كانت واقعة بين قوله سبحانه :

(وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وقوله سبحانه : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

ويظهر السرّ أيضا في تبديل قوله أوّلا : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ـ إلى قوله ـ ثانيا : (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ ...) الآية.

ويظهر من جميع ما مرّ معنى روايات المقام : ففي العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «ما علم الملائكة بقولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها

__________________

(١). البقرة (٢) : ٣٤.

١٠٢

وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) لو لا أنّهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء». (١)

أقول : يمكن أن يشير ـ عليه‌السلام ـ بذلك إلى دورة في الأرض سابقة على دورة بني آدم ، كما وردت به الأخبار ، ولا ينافي ذلك ما مرّ أنّ الملائكة فهمت ذلك من قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ ...) الآية ، بل لا يتمّ الخبر إلّا بذلك ؛ وإلّا كان قياسا من الملائكة مذموما كقياس إبليس. ويمكن أن يشير ـ عليه‌السلام ـ إلى مضمون الخبر الآتي من إثبات القدر.

وفيه أيضا عنه ـ عليه‌السلام ـ قال زرارة : «دخلت على أبي جعفر ـ عليه‌السلام ـ فقال : أيّ شيء عندك من أحاديث الشيعة؟ فقلت : إنّ عندي منها شيئا كثيرا ، وقد هممت أن اوقد لها نارا فاحرقها ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : وارها ، تنس ما أنكرت منها ، فخطر على بالي (٢) الآدميّون ، فقال : ما كان علم الملائكة حيث قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ).

قال : وكان يقول أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ إذا حدّث بهذا الحديث : هو كسر على القدريّة.

ثمّ قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : إنّ آدم كان له في السماء خليل من الملائكة ، فلمّا هبط آدم من السماء إلى الأرض استوحش الملك ، وشكا إلى الله تعالى وسأله أن يأذن له ، فأذن له ، فهبط عليه ، فوجده قاعدا في قفرة من الأرض ، فلمّا رآه آدم ـ عليه‌السلام ـ وضع يده على رأسه وصاح صيحة ، قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : يروون أنّه أسمع عامّة الخلق ، فقال له الملك : يا آدم ، ما أراك إلّا وقد عصيت ربّك ، وحملت على نفسك ما لا تطيق! أتدري ما قال لنا

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ : ٢٩ ، الحديث : ٤.

(٢). في المصدر : «بال»

١٠٣

الله فيك فرددنا عليه؟ قال : لا ، قال : قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) قلنا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) فهو خلقك أن تكون في الأرض ، أيستقيم أن تكون في السماء؟! فقال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : والله عزّي بها آدم ، ثلاثا». (١)

أقول : ويستفاد من الرواية أنّ جنّة آدم كانت في السماء ، وسيجيء فيه بعض روايات اخر.

وفيه عن أبي العبّاس عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «سألته عن قول الله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)، ما ذا علّمه؟ قال : «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ، ثمّ نظر إلى بساط تحته ، فقال : وهذا البساط ممّا علّمه». (٢)

وفيه عن الفضيل (٣) بن العبّاس عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «سألته عن قول الله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ما هي؟ قال : أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض». (٤)

وفيه عن داود بن سرحان العطّار قال : «كنت عند أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ فدعا بالخوان فتغدّينا ، ثمّ دعا بالطست (٥) والدست سنانه ، فقلت : جعلت فداك! قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) الطست والدست سنانه منه؟ فقال : الفجاج والأودية ، وأهوى بيده كذا وكذا». (٦)

__________________

(١). تفسير العياشي ١ : ٣٢ ، الحديث : ٩ و ١٠.

(٢). تفسير العياشي ١ : ٣٢ ، الحديث : ١١.

(٣). في المصدر : «الفضل»

(٤). تفسير العياشي ١ : ٣٢ ـ ٣٣ ، الحديث : ١٢.

(٥). في المصدر : «بالطشت»

(٦). تفسير العياشي ١ : ٣٣ ، الحديث : ١٣.

١٠٤

وفي المعاني عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الله تبارك وتعالى علّم آدم أسماء حججه كلّها ثمّ عرضهم وهم أرواح على الملائكة ، فقال : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بأنّكم أحقّ بالخلافة في الأرض ـ لتسبيحكم وتقديسكم ـ من آدم ، فقالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) قال الله تبارك وتعالى : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) وقفوا على عظم (١) منزلتهم عند الله ـ عزّ ذكره ـ فعلموا أنّهم أحقّ بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه ، وحججه على بريّته ، ثمّ غيّبهم عن أبصارهم ، واستعبدهم بولايتهم ومحبّتهم ، وقال لهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)». (٢)

أقول : وبالرجوع إلى ما مرّ من البيان تعرف معنى هذه الروايات ، وأن لا منافاة بين هذه وما تقدّمها ، وهي تؤيّد ما قدّمناه من وجوه لا تخفى.

ويناسب المقام عدّة من أخبار الطينة ، كما رواه في البحار عن جابر بن عبد الله ، قال : «قلت لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : أوّل شيء خلق الله ما هو؟ فقال : نور نبيّك يا جابر ، خلقه الله ثمّ خلق منه كلّ خير ، ثمّ أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله ، ثمّ جعله أقساما : فخلق العرش من قسم ، والكرسيّ من قسم ، وحملة العرش وسكنة (٣) الكرسيّ من قسم ، وأقام القسم الرابع في مقام الحبّ ما شاء الله ، ثمّ جعله أقساما : فخلق القلم من قسم ، واللوح

__________________

(١). في كمال الدين : «عظيم»

(٢). لم توجد في معاني الأخبار ، ولكن رواها في كمال الدين ١ : ١٣ و ١٤ ؛ بحار الأنوار ١١ : ١٤٥ و ٢٦ : ٢٣٨ ؛ تفسير نور الثقلين ١ : ٥٤ ؛ تفسير كنز الدقائق ١ : ٢٢٥.

(٣). في المصدر : «خزنة»

١٠٥

من قسم ، والجنّة من قسم ، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله ، ثمّ جعله أجزاءا : فخلق الملائكة من جزء ، والشمس من جزء ، والقمر (١) من جزء ، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله ، ثمّ جعله أجزاءا : فخلق العقل من جزء ، والعلم والحلم من جزء ، والعصمة والتوفيق من جزء ، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله ، ثمّ نظر إليه بعين الهيبة ، فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف وأربعة وعشرون ألف قطرة ، فخلق الله من كلّ قطرة روح نبيّ ورسول ، ثمّ تنفّست أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسها أرواح الأولياء والشهداء والصالحين». (٢)

أقول : والأخبار في هذه المعاني كثيرة متظافرة ، إذا أجلت فيها التأمّل والإمعان وجدتها شواهد على ما قدّمناه ، وسيجيء بعض الكلام في بعضها.

وإيّاك أن ترمي هذه الأحاديث الشريفة ـ الواردة عن معادن العلم ومنابع الحكمة ـ بأنّها من اختلاقات الغلاة وأوهام المتصوّفة ، فللخلقة أسرار ، وهو ذا العلماء من طبقات الإنسان ، لم يزالوا يبحثون عن أسرار الطبيعة منذ انتشر البشر ؛ وكلّما لاح لهم معلوم واحد بان لهم مجاهيل كثيرة ، وهي ـ عالم الطبيعة ـ أضيق العوالم ، فما ظنّك بما وراءها من عوالم السعة؟!

*

__________________

(١). في المصدر : + «والكواكب»

(٢). بحار الأنوار ٢٥ : ٢١ ـ ٢٢ ، الحديث : ٢٧.

١٠٦

[وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)]

قوله سبحانه : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ ...)

قد عرفت من قوله : (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (١) الوجه في قوله هنا : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)، وأنّ هذا الأمر بالسجود كان بين قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢) وقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ)، (٣) وإنّما اخرج من بين القصّة وخصّ بالذكر ، للتخلّص إلى قصّة جنّة آدم ، فإنّ هذه الآيات الاثنتي عشرة في بيان : كيفيّة خلافة الإنسان وموقعيّته ، وكيفيّة نزوله إلى الدنيا ، وما يؤول إليه أمره من سعادة وشقاوة ، فلا يهمّ من قصّة السجود إلّا إجمالها ، ليتخلّص إلى قصّة الجنّة وهبوط آدم ، فهو الوجه في الإضراب عن الإطناب إلى الإيجاز ، ولعلّه السر أيضا في الالتفات من الغيبة إلى التكلّم ، حيث قال : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) بعد

__________________

(١). البقرة (٢) : ٣٣.

(٢). البقرة (٢) : ٣٠.

(٣). البقرة (٢) : ٣٣.

١٠٧

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ). (١)

وعلى ما مرّ فنسبة الكتمان إلى الملائكة ـ وهو فعل إبليس ـ بناءا على الجري على الدأب الكلامي ؛ من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم ولم يتميّز منهم.

وهاهنا روايات أخر تفسّر الكتمان بمعنى آخر :

ففي تفسير العيّاشي عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : «لمّا أن خلق الله آدم ، أمر الملائكة أن يسجدوا له ، فقالت الملائكة في أنفسها : ما كنّا نظنّ أنّ الله خلق خلقا أكرم عليه منّا ، فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق إليه ، فقال الله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)، (٢) فيما أبدوا [من] أمر بني الجانّ ، وكتموا ما في أنفسهم ، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش». (٣)

وعن عليّ بن الحسين ـ عليه‌السلام ـ ما في معناه ، وفيه : «فلمّا عرفت الملائكة أنّها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش ، وإنّها كانت عصابة من الملائكة وهم الذين كانوا حول العرش ، لم يكن جميع الملائكة ـ إلى أن قال : ـ فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة» (٤) الخبر.

أقول : ويمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله سبحانه حكاية عنهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، (٥) وقوله : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا

__________________

(١). البقرة (٢) : ٣٠.

(٢). البقرة (٢) : ٣٣.

(٣). تفسير العياشي ١ : ٣٣ ، الحديث : ١٤.

(٤). تفسير العياشي ١ : ٣٠ ـ ٣١ ، الحديث : ٧.

(٥). البقرة (٢) : ٣٠.

١٠٨

إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). (١)

وسيجيء في العرش أنّه العلم ، وبذلك وردت الروايات عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ فافهم.

وعلى هذا يكون المراد من الكافرين في قوله سبحانه : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)، بنو الجانّ ، وهم قوم إبليس الذين كانوا سكنة الأرض قبل آدم ، وسيجيء مشروحا ـ إن شاء الله ـ

وعلى هذه الرواية ، فنسبة الكتمان إلى الجميع لا تحتاج إلى مؤونة وعناية زائدة ، بل هي على حقيقته ، ولا منافاة بين الصنفين من الرواية ، حيث يظهر من أحدهما : إنّ المكتوم هو الذي أضمره إبليس في نفسه من الكفر ، والآخر : أنّ المكتوم هو الذي وقع في نفس الملائكة من الاعتزاز بقرب الله وجواره ؛ لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك.

واعلم : أنّه يستفاد من قوله : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) جواز السجود لغير الله في الجملة ، إذا كان التعظيم والخضوع له نحو خضوع لله سبحانه ؛ إذ الممنوع عقلا ونقلا إعطاء الربوبيّة لغير الله تعالى ، وما كلّ سجود يقصد به ذلك ، وهو ظاهر ، ونظيرها قوله في قصّة يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا). (٢)

*

__________________

(١). البقرة (٢) : ٣٢.

(٢). يوسف (١٢) : ١٠٠.

١٠٩

[وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)]

قوله سبحانه : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ ...)

على أنّ قصّة سجود الملائكة لآدم تكرّرت في عدّة مواضع من القرآن ، لم تقع قصّة الجنّة إلّا في ثلاثة مواضع :

أحدها هاهنا من سورة البقرة ؛

والثاني في سورة الأعراف ، قال تعالى : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ* وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ* فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ

١١٠

عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ* قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ* قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ* قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ). (١)

والثالث في سورة طه ، قال سبحانه : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً* وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى * فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى * فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى * ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى * قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى * قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى). (٢)

وسياق الآيات ـ وخاصّة قوله تعالى قبلها : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٣) ـ يعطي أنّ آدم كان مخلوقا ليحيى في الأرض ويموت فيها ويبعث منها ، وإنّما أسكنهما الله تعالى الجنّة للاختبار ، وليبدي لهما سوآتهما ، حتّى يهبطا إلى الأرض ، كما يعطيه قوله تعالى في سورة طه : (فَقُلْنا يا آدَمُ) ، (٤) وفي سورة

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٩ ـ ٢٥.

(٢). طه (٢٠) : ١١٥ ـ ١٢٦.

(٣). البقرة (٢) : ٣٠.

(٤). طه (٢٠) : ١١٧.

١١١

الأعراف : (وَيا آدَمُ) ، (١) المشعر بكونه مرتبطا بمعصية إبليس ودعواه إغواء البشر.

فهو عليه‌السلام وزوجته ـ وإن كانا قد سوّاهما الله سبحانه تسوية أرضيّة بشريّة ثمّ أدخلهما الجنّة ـ لم يتمّ في الدنيا إدراكهما لسوآتهما ولا لغيرها من لوازم الحياة الدنيا واحتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنّة ، وأنّه إنّما أدخلهما الجنّة بعد التسوية ونفخ الروح وإسجاد الملائكة ، ولمّا ينفصل وينقطع إدراكهما عن عالم الروح والملائكة.

وشاهد ذلك : قوله سبحانه في سورة الأعراف : (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما)، (٢) ولم يقل : «ما كان قد ووري عنهما» ، وذلك مشعر بأنّ المواراة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا استدامة ، وإنّما تمشّت بإسكان الجنّة ، فظهور السّوأة كان محتوما مقضيّا في الحياة الأرضيّة ، وكذلك مع أكل الشجرة ، ولذلك قال تعالى : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) ، (٣) وقال : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ)، وهو سبحانه قد غفر خطيئتهما بعد ما تابا ، ولم يعدهما إلى الجنّة ، بل قضى بحياتهما في الدنيا.

ومن هنا يظهر أنّ هذا النهي منه سبحانه كان نهي إرشاد من غير تكليف ، فإنّ جزاء المخالفة للنهي التكليفي يتبدّل بالتوبة إذا قبلت ، ولم يتبدّل هاهنا.

وليس من البعيد أن يستشعر من المقام أنّ صيرورتهما ظالمين ، كونهما ظالمين لأنفسهما في اختيار ترك الجنّة : فإنّه سبحانه بدّل الظلم في سورة طه بقوله : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) ، (٤) فافهم.

__________________

(١). الأعراف (٧) : ١٩.

(٢). الأعراف (٧) : ٢٠.

(٣). طه (٢٠) : ١١٧.

(٤). طه (٢٠) : ١١٨ ـ ١١٩.

١١٢

وبالجملة : كان لازم الأكل ظهور السوأة والهبوط إلى الدنيا ، لزوما غير قابل التدارك حتما مقضيّا ، وذلك بنقض العهد الذي عهده إليهما ؛ إذ قال : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ) (١) ، وقال تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ).

وليس هذا العهد هو الذي يشير إليه بقوله : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (٢) ؛ فإنّها تدلّ على نسيان العهد ، مع أنّ ما في سورة الأعراف يدلّ على أنّه كان حين الاقتراف على ذكر من النهي ؛ إذ يقول : (وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٣)

بل العهد إمّا بمعنى الوصيّة ، (٤) فيكون هو قوله : (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) ، (٥) لكنّه لا يلائم السياق ؛ إذ المقصود بالبيان في جميع هذه السورة ـ وهي سورة طه ـ هو ما سهّل الله تعالى لأنبيائه وعباده في تربيتهم وهدايتهم ، وقد تعرّض تعالى في هذه الآيات لما منحه من التسهيل في حقّ آدم ـ عليه‌السلام ـ ولذلك ترى أنّه سبحانه خصّ آدم بالذكر حتى الإمكان ، مع اشتراك زوجته معه فيها ، فقال : (فَتَشْقى ،) (٦) وقال : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) ، (٧) وقال : (يا آدَمُ) ، (٨) وغير ذلك ؛ وهذه الوصيّة إنّما هي لكليهما لا لآدم ـ عليه‌السلام ـ وحده ، والعهد المذكور في قوله :

__________________

(١). طه (٢٠) : ١١٧.

(٢). طه (٢٠) : ١١٥.

(٣). الأعراف (٧) : ٢٠.

(٤). ليس له عدل ظاهر في العبارة.

(٥). طه (٢٠) : ١١٧.

(٦). طه (٢٠) : ١١٧.

(٧). طه (٢٠) : ١٢٠.

(٨). طه (٢٠) : ١١٧.

١١٣

(فَنَسِيَ) ، (١) مخصوص به عليه‌السلام ، فهو غير الوصيّة المذكورة.

على أنّ مرجع هذه الوصيّة إلى الميثاق بالربوبيّة والعبوديّة كما يشعر به قوله (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي). (٢)

على أنّ ذيل الآيات في سورة طه ـ وهو قوله : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) ، (٣) وهو كالنتيجة للتسهيل الذي لآدم مع نسيانه العهد ـ لا يناسب هذه الوصيّة ، بل يناسب العهد بمعنى الميثاق كما هو ظاهر.

وبالجملة : فالعهد المذكور هو الميثاق الذي أخذه سبحانه من أنبيائه ورسله ، فنسيه بعض ، وعزم وثبت عليه بعض ، وهم اولو العزم من الرسل وسيجيء شرحه ـ إن شاء الله ـ في آيات الميثاق ، هذا.

ومع ذلك فسياق الآيات في سورة طه يعطي أنّ اقتراف الخطيئة منه عليه‌السلام كان لنسيان العهد ؛ أعني أنّ لهذا النسيان دخلا في تلك الخطيئة ، ومع ذلك ـ أيضا ـ فمقتضى دلالة السياق في جميع الموارد الثلاثة أنّ المعصية كانت لغرور منه عليه‌السلام من ناحية الوسوسة ، فكان هناك أمران ، لكلّ منهما دخل في تحقّق الخطيئة : نسيان عهد عهده تعالى ، وغرور بالوسوسة : أمّا نسيان العهد فهو ما عهده لعباده وغلّظه في أنبيائه أن لا ينظروا إلى أنفسهم ، ولا يكلوا إليها إلّا أنّها ملك لمالكها ، مربوبة لربّها ، كما سيجيء بيانه ، وأمّا الغرور فهو ما يظهر من

__________________

(١). طه (٢٠) : ١١٥.

(٢). يس (٣٦) : ٦٠ ـ ٦١.

(٣). طه (٢٠) : ١٢٤.

١١٤

الآيات في سورة طه أنّه الحياة الدنيا الشقيّة.

لكنّك إذا أمعنت النظر في الحياة الدنيا على اختلاف جهاتها ، وتشتّت أطرافها وأنحائها ، وعلى وحدتها واشتراكها بين المؤمن والكافر ، وجدتها بحسب الباطن والحقيقة مختلفة في الموردين ، بحسب ذوق العلم بالله والجهل به.

فالعارف بمقام ربّه إذا نظر إلى نفسه ، وكذلك إلى الحياة الدنيا الجامعة لأقسام الكدورات ، وأنواع الآلام والمكاره : من موت وحياة ، وصحّة وسقم ، وسعة وإقتار ، وراحة وتعب ، ووجدان وفقدان ، على أنّ الجميع أعمّ ممّا في نفسه وغيره مملوكة لربّه ، لا استقلال لشيء منها وفيها ـ بل الكلّ ممّن ومن عند من ليس عنده إلّا الحسن والبهاء والجمال والخير ، على ما يليق بعزّته وجلاله ، ولا يترشّح من لدنه إلّا الجميل والخير ـ لم ير مكروها يكرهه ، ولا مخوفا يخافه ، ولا مهابا يهابه ، ولا محذورا يحذره ، بل يرى كلّ ما يراه حسنا جميلا محبوبا ، إلّا ما يأمره ربّه أن يكرهه ويبغضه ، وهو مع ذلك يكرهه لأمره ويحبّ ويلتذّ ويبتهج بأمره ، لا شغل له إلّا بربّه ، كلّ ذلك بما أنّه يرى الجميع ملكا طلقا لربّه ، لا نصيب ولا حظّ له ولا لغيره في شيء منها ، فما له ولمالك الأمر وما يتصرّف به في ملكه من إحياء وإماتة ، ونفع وضرّ وغيرها ، فهذه هي الحياة الطيّبة التي لا شقاء فيها البتّة.

وفي مقابلها حياة الجاهل بمقام ربّه ؛ إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربّه لا يقع بصره على موجود ـ من نفسه وغيره ـ إلّا رآه مستقلّا بنفسه ، ضارّا أو نافعا ، أو خيرا أو شرّا ، فهو يتقلّب في حياته بين الخوف عمّا يخاف فوته ، والحذر عمّا يحذر وقوعه ، والحزن لما يفوته ، والحسرة لما يضيع منه من مال وجاه وبنين وأعوان ، وسائر ما يحبّه ويتّكل عليه ويؤثره ، كلّما نضج جلده بالاعتياد على مكروه والسكون إلى مرارة بدّل جلدا غيره ليذوق العذاب ، بفؤاد مضطرب قلق ،

١١٥

وحشا ذائب محترق ، وصدر ضيّق حرج ، كأنّما يصعّد في السماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.

إذا عرفت هذا علمت أنّ مرجع الأمرين ـ أعني نسيان الميثاق ، وشقاء الحياة الدنيا ـ واحد ، وأنّ الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق.

وهذا هو الذي يشعر به قوله سبحانه ، حيث أتى بالتكليف الجامع لأهل الدنيا في سورة طه ؛ إذ قال : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) ، (١) وبدّلها في هذه السورة بقوله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). (٢)

ومن هاهنا تحدس ـ إن كنت ذا فطانة ـ أنّ الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحياة الدنيا وشقاؤها ، وهو أن يعيش الإنسان في الدنيا وهو يجد الأشياء مستقلّة الذوات ، وأنّ آدم ـ عليه‌السلام ـ كأنّه أراد أن يجمع بينه وبين الميثاق المأخوذ عليه ، فلم يتمكّن فنسي الميثاق ووقع في تعب الحياة الدنيا ، وسيجيء أنّ هذا ممّا اختصّ الله به نبيّه محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من الكرامة في قوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) ، (٣) فانتظر.

__________________

(١). طه (٢٠) : ١٢٢ ـ ١٢٣.

(٢). البقرة (٢) : ٣٨.

(٣). الإسراء (١٧) : ٧٩.

١١٦

[قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)]

قوله سبحانه : (قُلْنَا اهْبِطُوا ...)

ظاهر السياق أنّه خطاب لآدم وزوجته ـ عليهما‌السلام ـ وإبليس ـ لعنة الله عليه ـ وقد خصّ آدم وزوجته بالخطاب في سورة طه ؛ إذ قال : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) ، (١) وخصّ إبليس به وحده في سورة الأعراف ؛ إذ قال : (فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) ، (٢) فكأنّ قوله سبحانه : (قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) ، (٣) جمع بين الخطابين ، وحكاية عن قضاء قضي به : من العداوة بين إبليس وبين آدم وذرّيّته ، ومن حياتهم وموتهم في الأرض وبعثهم منها. وذرّيّة آدم معه في الحكم ، على ما يعطيه ظاهر

__________________

(١). طه (٢٠) : ١٢٣.

(٢). الأعراف (٧) : ١٣.

(٣). البقرة (٢) : ٣٦.

١١٧

قوله : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ ،) (١) وقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ...) إلى آخر الآيات ؛ ومثله ما في ذيل الآيات في سورة طه من قضيّة تفريق الهابطين فريقين ، فافهم.

وسيأتي في قوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٢) أنّ إسجاد الملائكة لآدم إنّما كان بما أنّه خليفة أرضيّ ، فكان المسجود له هو آدم ، وحكم السجدة لجميع البشر ، فمنزلته من بين البشر ـ في سجدة الملائكة ـ منزلة الكعبة من بين الجهات ؛ وقد قال سبحانه : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ، (٣) وقال : (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). (٤)

وبالجملة ، فيشبه أن تكون هذه القضيّة التي حكاها سبحانه ـ من إسكان آدم وزوجته الجنّة ، ثمّ إهباطهما للأكل من الشجرة ـ كالمثل يمثّل به ما كان الإنسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة والكرامة والحبور والسرور ، بسكونة حظيرة القدس ، ومنزل الرفعة والقرب ، ودار نعمة وسرور ونور وأنس ، لا شقاء ولا ظلمة ولا وحشة فيها ، مع رفقاء طاهرين وأخلّاء روحانيّين ، وبجوار ربّ العالمين ، ثمّ إنّه يختار بدله كلّ تعب وألم ومكروه ، بالميل إلى حياة فانية وجيفة منتنة دانية ، ثمّ إنّه لو رجع إلى ربّه وأناب إليه ، أعاده إلى دار كرامته وسعادته ، ولو لم يرجع وأخلد إلى الأرض واتّبع هواه ، فقد بدّل نعمة الله كفرا وأحلّ نفسه دار البوار ، جهنّم يصلاها وبئس القرار.

__________________

(١). الأعراف (٧) : ٢٥.

(٢). الأعراف (٧) : ١١.

(٣). البقرة (٢) : ١١٥.

(٤). البقرة (٢) : ١٤٤.

١١٨

واعلم : أنّه وإن ظلم نفسه في إلقائها إلى شفا جرف المهلكة ومنشعب طريقي السعادة والشقاوة ، فلو وقف في مهبطه فقد هلك ، ولو رجع إلى سعادته الاولى فقد أتعب نفسه وظلمها ، فهو ظالم لنفسه على كلّ تقدير ، إلّا أنّه هيّأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ما كان ينالها لو لم ينزل ، فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر والذلّة والمسكنة والحاجة والقصور ، وله في كلّ ما يصيبه ـ من التعب والكدّ والنائبة ـ روح وراحة في حظيرة القدس وجوار ربّ العالمين ، فلله سبحانه صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلّا المذنبون ، وله سبحانه في أيّام الدهر نفحات لا يرتاح بها إلّا المتعرّضون ، والكلام طويل الذيل سيمرّ بك بعضه فيما سيجيء ـ إن شاء الله ـ

ومن التأمّل في المقام يتّضح : أنّ آدم إنّما خالف أمرا إرشاديّا كما مرّت الإشارة إليه ، ولا ينافيه ما نسبهما سبحانه إليه بقوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ، (١) وقوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) ، (٢) واعترافهما بالظلم ، (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣) ؛ فإنّ للظلم والمعصية والغيّ مراتب ، فما كلّ ظلم أو معصية فسقا موجبا لدخول النار ، فالغفلة عن الحقّ منشأ كلّ ظلم ونقص ، وليست من المعصية المصطلحة في شيء.

ويستشعر ذلك من قوله سبحانه : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٤) ؛ حيث يدلّ على الاجتباء أوّلا ، ويفرّع عليه التوبة والهداية ، والأمر في التوبة من

__________________

(١). طه (٢٠) : ١٢١.

(٢). البقرة (٢) : ٣٥.

(٣). الأعراف (٧) : ٢٣.

(٤). طه (٢٠) : ١٢٢.

١١٩

المعصية المعروفة المصطلحة بالعكس ، فعلى هذا فما تسلّمه المفسّرون ـ من كون النهي في قوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) ، (١) تعبّديّا ، ـ في غير محلّه.

وقوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢) مشعر بأنّ التوبة ـ وهي من العبد الرجوع إلى ربّه من ذنبه ومعصيته ، ومن الله سبحانه اللطف على عبده برحمته ـ لا تكون إلّا مسبوقة بتوبة من الله ـ تعالى ـ ، فالتوبة من العبد توبة واحدة ، ومن الله توبتان محفوفة بهما توبة العبد ، كما يدلّ عليه أيضا قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا). (٣)

وقراءة نصب «آدم» ورفع «كلمات» أنسب لهذا المعنى وأليق ، وإن كانت القراءة الأخرى وهو رفع «آدم» ونصب «كلمات» لا تنافيه أيضا.

وقد وقع في سورة الأعراف نظير هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، (٤) وهو تذلّل منهما وتسبيح لربّهما وتمسّك بصفتي المغفرة والرحمة ، وهما كالفرع مع أصله.

ويمكن أن يستظهر من ذلك أنّ هذه الكلمات هي التي تلقّاها آدم من ربّه أو تلقّت هي آدم من ربّه ، على اختلاف القراءتين ، غير أنّ وقوع قوله : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا) ، (٥) قبل قوله : (قالَ اهْبِطُوا) ، (٦) في سورة الأعراف ، ووقوع قوله :

__________________

(١). البقرة (٢) : ٣٥.

(٢). البقرة (٢) : ٣٧.

(٣). التوبة (٩) : ١١٨.

(٤). الأعراف (٧) : ٢٣.

(٥). الأعراف (٧) : ٢٣.

(٦). الأعراف (٧) : ٢٤.

١٢٠