تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

عزوجل محمّدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ آمنت به الأنصار وكفرت به اليهود ، وهو قول الله ـ عزوجل ـ : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ). (١)

قوله سبحانه : (بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ)

في تفسير العيّاشي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ : «إنّ الآية نزلت هكذا : بما أنزل الله في عليّ بغيا». (٢)

أقول : وهذا من المعنى دون النزول ، أو هو من الجري على بعد.

*

__________________

(١). الكافي ٨ : ٣٠٨ ـ ٣٠٩ ، الحديث : ٤٨١ ؛ تفسير العياشي ١ : ٤٩ ـ ٥٠ ، الحديث : ٦٩.

(٢). تفسير العياشي ١ : ٥٠ ، الحديث : ٧٠.

١٦١

[وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ

١٦٢

مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)]

قوله سبحانه : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ...)

معناه : أنّه وقع ونفذ في قلوبهم حبّ العجل ، ففيه مجازان ، أو أنّ قلوبهم صارت عجلا بالحبّ ؛ بناءا على ما مرّ في أوّل السورة من تصوّر الباطن.

وفي تفسير العيّاشي في قصّة العجل عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «فعمد موسى فبرّد العجل من أنفه إلى طرف ذنبه ، ثمّ أحرقه بالنار ، فذرّه في اليمّ ، فكان أحدهم ليقع في الماء ، وما بهم (١) إليه من حاجة ، فيتعرّض لذلك الرماد فيشربه ، وهو قول الله (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)». (٢)

أقول : وهو غير مناف لما ذكرنا.

قوله سبحانه : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)

البصير من أسمائه الحسنى ، ومعناه العالم بالمبصرات ، وأمّا كون العلم بحاسّة البصر المادّية فمن لوازم المصاديق المادّية.

قوله سبحانه : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ)

سيجيء معناه في سورة الشعراء.

قوله سبحانه : (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ)

ظاهر السياق كون اللام للعهد الذكري ، فيكون إشارة وتذكيرا لما مرّ في أوائل

__________________

(١). في المصدر : «به»

(٢). تفسير العياشي ١ : ٥١ ، الحديث : ٧٣.

١٦٣

السورة : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) (١) الآية ، إذ هذه الخطابات والعتابات ـ كما مرّ ـ تفريعات لما في مفتتح السورة.

*

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٦ ـ ٢٧.

١٦٤

[وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)]

قوله سبحانه : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ)

في تفسيري القمّي والعيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ في حديث : «فلمّا هلك

١٦٥

سليمان ، وضع إبليس السّحر وكتبه في كتاب ، ثمّ طواه وكتب على ظهره : (هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم ، من أراد كذا وكذا فليعمل كذا وكذا) ، ثمّ دفنه تحت سريره ، ثمّ استتاره (١) لهم فقرأه ، فقال الكافرون : ما كان سليمان يغلبنا إلّا بهذا ، وقال المؤمنون : بل هو عبد الله ونبيّه ، فقال الله جلّ ذكره : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ ...)» (٢) (٣) إلى آخر الآيات.

أقول : قوله سبحانه : (تَتْلُوا الشَّياطِينُ) يقتضي كتابا كانوا يتلونه أو يتلون منه ، وقوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) أي : ما سحر سليمان ؛ بقرينة المقام ، وهذا ردّ يقتضي قولا بأنّه ملك ما ملك بالسحر ، فالرواية على طبق الآية.

قوله سبحانه : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ ...)

وقرئ (عَلَى الْمَلَكَيْنِ) بكسر اللام.

في العيون في حديث الرضا ـ عليه‌السلام ـ مع المأمون : «وأمّا هاروت وماروت فكانا ملكين ، علّما الناس السّحر ليحترزوا به (٤) عن سحر السحرة ويبطلوا (٥) كيدهم ، وما علّما أحدا من ذلك شيئا إلّا قالا له : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) فكفر قوم باستعمالهم لما امروا بالاحتراز منه ، وجعلوا يفرّقون بما

__________________

(١). في تفسير القمي : «استثاره» وفي تفسير العياشي : «استشاره»

(٢). في تفسير القمّي : ـ «أي السحر»

(٣). تفسير القمي ١ : ٥٥ ؛ تفسير العياشي ١ : ٥٥ ، الحديث : ٧٤.

(٤). في المصدر : ـ «به»

(٥). في المصدر : + «به»

١٦٦

يعملونه (١) بين المرء وزوجه ، قال الله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) يعني بعلمه». (٢)

قوله سبحانه : (لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا)

روي : انّ المسلمين كانوا يخاطبون بذلك النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، إذا ألقى إليهم كلاما يقولون : راعنا يا رسول الله! ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يريدون أمهلنا وانظرنا حتّى نفهم ما تقول ، وكانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم ، فاغتنم اليهود ذلك ، فكانوا يخاطبون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بذلك ، يظهرون التأدّب معه وهم يريدون الشتم ، ومعناه عندهم : اسمع لا اسمعت ، فنزل : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا ...). (٣) ونهى الله المؤمنين عن الكلمة ، وأن يقولوا ما في معناه وهو انظرنا ، فقال : (لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا). (٤)

قوله : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)

__________________

(١). في المصدر : «تعلّمونه»

(٢). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ٢٧١ ، الحديث : ٢.

(٣). النساء (٤) : ٤٦.

(٤). تفسير الإمام ـ عليه‌السلام ـ ٤٧٨ ، الحديث : ٣ ـ ٥ ؛ التبيان ١ : ٣٧٧ ؛ مجمع البيان ١ : ٣٣٦ ؛ تفسير الصافي ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩ ؛ تفسير الآصفى ١ : ٥٩ ؛ البرهان في تفسير القرآن ١ : ١٣٩ ، الحديث : ١ ؛ تفسير نور الثقلين ١ : ١١٥ ؛ تفسير كنز الدقائق ١ : ٣١١ ـ ٣١٢ ؛ بحار الأنوار ٩ : ٣٣١ ، الحديث : ١٨ ؛ تفسير غريب القرآن ، لفخر الدين الطريحي : ٣٢ ؛ جامع البيان ١ : ٦٥٧ ـ ٦٥٩ ؛ أحكام القرآن للجصاص ١ : ٧٠ ؛ أسباب نزول الآيات للواحدي النيسابوري : ٢٠ ؛ تفسير القرطبي ٢ : ٥٧ ؛ تفسير ابن كثير ١ : ١٥٣ ؛ الدرّ المنثور ١ : ١٠٣ ـ ١٠٤ ؛ تفسير الثعالبي ١ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

١٦٧

يريد المتمرّدين من هذا النهي ، وهذا أحد الموارد التي اطلق فيها الكفر على ترك التكاليف الفرعيّة.

قوله سبحانه : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ ...)

في إرشاد الديلمي عن الرضا ، عن أبيه ، عن جدّه ـ عليهم‌السلام ـ قال : «المختصّون (١) بالرحمة : نبيّ الله ووصيّه وعترتهما ، (٢) إنّ الله خلق مائة رحمة ، فتسع وتسعون رحمة عنده مذخورة (٣) لمحمّد وعليّ وعترتهما ، ورحمة واحدة مذخورة لسائر الموجودين». (٤)

أقول : ومساقه بيان الفرد الكامل ، ويشهد به آخر الرواية كما لا يخفى ، ويمكن أن يفهم منها معنى الواسطة وذي الواسطة.

*

__________________

(١). في المصدرين : «المختص»

(٢). في المصدرين : ـ «عترتهما»

(٣). في المصدرين : «مبسوطة على»

(٤). لم توجد في إرشاد القلوب ولكن روى في تأويل الآيات : ٨١ ، عن الحسن بن أبي الحسن الديلمي ؛ وفي بحار الأنوار ٢٤ : ٦١ ، الحديث : ٤٥ ، عن كنز جامع الفوائد وتأويل الآيات الظاهرة.

١٦٨

[ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)]

قوله سبحانه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ...)

هذه آية النّسخ ، ومن المعلوم أنّ النسخ بالمعنى المعروف عند الفقهاء ـ وهو الإبانة عن انتهاء أمد الحكم ـ اصطلاح متفرّع عليها ، مأخوذ منها ومن الأفراد ، فمعنى النسخ هو المعروف لغة وهو الإزالة من نسخت الشمس الظلّ ، إذا أزالته وذهبت به ، ونسخت الكتاب إذا نقلته إلى آخر ، كأنّك أذهبته وأبدلت مكانه ؛ ولذلك بدّل لفظ النسخ ب : التبديل في قوله سبحانه : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). (١)

__________________

(١). النحل (١٦) : ١٠١.

١٦٩

وكيف كان ، فمن المعلوم أنّ النسخ لا يوجب زوال نفس الآية عن الوجود وبطلان تحقّقها ، بل الحكم حيث علّق بالوصف ، ـ وهو الآية والعلامة ، مع ما يلحق بها من التعليل ـ ، أفاد أنّ النسخ المراد هو إذهاب أثر الآية من تكليف أو غيره ، وهو الذي يستفاد من اقتران قوله تعالى : (نُنْسِها) بقوله : (نَنْسَخْ) وجمعهما في سلك واحد.

والإنساء هو الإذهاب عن العلم ، فيذهب أثره.

وكون الشيء آية مختلف باختلاف الأشياء والحيثيّات والجهات : فالبعض من القرآن آية له سبحانه باعتبار عجز البشر عن إتيان مثله ، والأحكام والتكاليف آيات له تعالى باعتبار حصول التقوى والقرب بها منه سبحانه ، والموجودات التكوينيّة آيات له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها ، وبخصوصيّات وجودها عن أسمائه وصفاته سبحانه ، وأولياؤه من عباده آيات له تعالى باعتبار دعوتهم إليه قولا وفعلا ... وهكذا ؛ ولذلك كانت الآية تقبل الشدّة والضعف ، قال تعالى : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى). (١)

ومن جهة اخرى : فالآية ربّما كانت ـ في أنّها آية ـ ذات جهة واحدة ، وربّما كانت ذات جهات كثيرة ، ونسخها وإزالتها كما يتصوّر بجهتها الواحدة كإهلاكها وإفنائها ، كذلك يتصوّر ببعض جهاتها دون بعض ، إذا كانت كثيرة.

وهذا الذي ذكرناه من عموم معنى النسخ ، هو الذي يفيده عموم التعليل بقوله سبحانه : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وذلك أنّ الإنكار المتوهّم في المقام أو الإنكار الواقع

__________________

(١). النجم (٥٣) : ١٨.

١٧٠

من اليهود ـ على ما روي بالنسبة إلى معنى النسخ ـ يتعلّق به من وجهين :

أحدهما : من جهة أنّ آية من آيات الله إذا ارتفعت وزالت ، فلن يقوم مقامها شيء يستدرك به ما فات معها من فائدة الخلقة ومصلحة العباد.

وثانيهما : من جهة أنّ الآية إذا كانت من عند الله لم يمكن أن تتغيّر ويطلع كلّ يوم حكم ويظهر لون بعد لون ، كما هو شأن العباد الغير المحيطين بجهات الصلاح في الأشياء : إذ كانت أحكامهم وأوضاعهم تتغيّر بتغيّر علومهم بالمصالح والمفاسد ، زيادة ونقيصة ، وحدوثا وزوالا.

فأشار سبحانه إلى الجواب عن الأوّل : بعموم القدرة ؛ وأنّه سبحانه لا يعجز عن إقامة ما هو خير من الفائت أو مثله مقامه.

وأشار إلى الجواب عن الثاني ؛ بأنّ ملك السماوات والأرض لله سبحانه ؛ فله أن يتصرّف في ملكه كيف يشاء ، وليس لغيره شيء من الملك ؛ حتّى يقتضي انسداد باب من أبواب تصرّفه سبحانه ، فحكم من أحكامه إذا لاح منه الدوام يمكن أن يقطع سبحانه دوامه بإزالته وإقامة آخر مقامه ، ولا يوجب اقتضاؤه الدوام ـ مثلا ـ تحديد ملكه تعالى أن لا يتصرّف فيه ، وهذا الذي ذكرناه هو مقتضي الحصر في قوله : (أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ ...) الآية ؛ أي هو المالك لا مالك غيره ، فافهم ذلك.

فقد ظهر ممّا مرّ : أنّ النسخ لا يختصّ بالأحكام التشريعيّة ، بل يعمّ التكوينيّات أيضا ، وأنّ النسخ لا يتحقّق من غير طرفين : ناسخ ومنسوخ ، وأنّ الناسخ يشتمل على ما يشتمل عليه المنسوخ من الكمال أو المصلحة.

فإن قلت : فعلى ما مرّ من عموم معنى النسخ ، يكون العامّ مع الخاصّ ، والمجمل مع المبيّن ، والمطلق مع المقيّد ، من قبيل الناسخ والمنسوخ.

١٧١

قلت : إنّ النسبة بين العامّ والخاصّ وكذا بين المطلق والمقيّد ، ليست نسبة المزيل والمزال ، وإنّما هي نسبة التفسير على ما حقّق في محلّه ، وكذلك المجمل والمبيّن ، على أنّ الآية ـ من حيث هي آية ـ لا تكون مجملة ، وهو ظاهر.

وظهر بما ذكرنا أيضا معنى عدّة من الروايات المشتملة عليه :

منها : ما في تفسير النعماني عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ بعد عدّ آيات من الناسخ والمنسوخ ، قال ـ عليه‌السلام ـ : «ونسخ قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) قوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (٢) أي للرحمة خلقهم ...» ، (٣) الحديث.

فالآية الثانية تثبت حقيقة توجب تحديد الحقيقة التي توجبها الآية الاولى ؛ أعني أنّ العبادة التي هي غاية الخلقة لا تتخلّف عن المغيّى بها ، وهي غير العبادة التشريعيّة التي يوجب تركها الغضب والمقت والنقمة ؛ أي أنّ هناك رحمة غير التي توجبها العبادة التشريعيّة ، هي أشمل منها وأعمّ ، كما قال : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (٤) وليست الآيتان من قبيل العامّ والخاصّ ؛ إذ حكم التخصيص لا يشمل الحقائق وإنّما هو مقصور على التشريعيّات.

ومنها : أيضا ما في تفسير النعماني عنه ـ عليه‌السلام ـ قال : «ونسخ قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (٥) قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ* لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ

__________________

(١). الذاريات (٥١) : ٥٦.

(٢). هود (١١) : ١١٨.

(٣). بحار الأنوار ٩٠ : ١٠.

(٤). الأعراف (٧) : ١٥٦.

(٥). مريم (١٩) : ٧١.

١٧٢

أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ* لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ...)» (١) (٢) الحديث.

وليس من قبيل العامّ والخاصّ لقوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (٣) والقضاء المحتوم غير قابل الرفع ولا ممكن الإبطال.

ومنها : ما في رواية العيّاشي عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ حيث عدّ ـ عليه‌السلام ـ من قبيل النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٤) وقصّة نجاة قوم يونس. (٥)

ومنها : ما في بعض الأخبار من عدّ موت إمام وقيام آخر مقامه من النسخ ... إلى غير ذلك من الأخبار.

وأمّا قوله سبحانه في ذيل الآية : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) فكلام مستأنف ، وموعظة لهم أن يثقوا بربّهم ، ويعلموا أنّه المتولّي لامورهم الناصر لهم ، فلا يرضى أن يفوتهم شيء ممّا فيه صلاح حالهم في معاشهم ومعادهم ، فليرضوا به ربّا وليّا ونصيرا ، ولا يقترحوا على رسولهم ما اقترحته اليهود على رسولهم ، وما رضيت بالله وليّا ونصيرا ، كما عقّب ذلك بقوله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) أي الاقتراح والاعتراض بالرضا والتسليم والثقة (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

والدليل على كون قوله : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) كلاما مستأنفا : الإتيان بلفظ الجلالة مظهرا من غير إضمار.

__________________

(١). الأنبياء (٢١) : ١٠١ ـ ١٠٢.

(٢). بحار الأنوار ٨ : ٣٠٦ ، الحديث : ٦٦ ، عن تفسير القمّي.

(٣). مريم (١٩) : ٧١.

(٤). الرعد (١٣) : ٣٩.

(٥). تفسير العياشي ١ : ٥٦ ، الحديث : ٧٧ (نقل بالمعنى).

١٧٣

[وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤)]

١٧٤

قوله سبحانه : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ)

فيه إيماء إلى حكم سيشرّعه الله يكون فيه مجازاتهم ، وهو حكم القتال كما فيما سيجيء من قوله : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) مع قوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا). (١)

قوله سبحانه : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ)

شروع في إلحاق النصارى باليهود تصريحا.

قوله سبحانه : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ...)

هذا كرّة ثالثة عليهم ، في بيان أنّ السعادة لا تدور مدار الاسم ، وإنّما الملاك حقيقة الإيمان والعبوديّة اولاها : قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى ...). (٢)

وثانيتها قوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ). (٣)

وثالثتها هذه الآية [وهي] في معنى الاولى ومساقها ، ويستفاد من ذلك تفسير الإيمان ب : إسلام الموجه إلى الله ، وتفسير الإحسان ب : العمل الصالح.

*

__________________

(١). التوبة (٩) : ٢٨.

(٢). البقرة (٢) : ٦٢.

(٣). البقرة (٢) : ٨١.

١٧٥

[وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)]

قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ...)

المشرق والمغرب حيث كانا لله بحقيقة الملك ـ أي أنّ ذاتهما ملكه ، لا كالملك الإعتباري القابل للنقل والتبديل بين العباد ـ فهما في ذاتهما ملك ، والملك من حيث إنّه ملك لا يقوم إلّا بمالكه ، وحيث إنّ ذاتهما هو الملك ، فلا حيثيّة لهما غير حيثيّة الملك ، فهو سبحانه قائم عليهما ، محيط بهما ، وهو معهما.

وهاتان الجهتان حيث كانتا إضافيّتين اشتملتا سائر الجهات ، ولذلك لم يقيّد إطلاق أينما بهما ، بأن يقال : أينما تولّوا منهما.

وعلّل ذلك بقوله : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) وهذه توسعة في القبلة التي يتوجّه إليها المصلّي ، دون المكان الذي يصلّي فيه ، وإن كانت الآية السابقة متعرّضة لحال المكان ؛ على ما قيل : إنّها نزلت في منع كفّار قريش المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام والمساجد التي اتّخذوها بفناء الكعبة.

والدليل على ما قلنا قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) حيث أخذ

١٧٦

الجهة دون المكان ، وبذلك تفسير الروايات :

ففي التهذيب عن محمّد بن الحصين ، قال : «كتب إلى عبد صالح : الرجل يصلّي في يوم غيم في فلاة من الأرض ولا يعرف القبلة ، فيصلّي ، حتى إذا فرغ من صلاته بدت له الشمس ، فإذا هو قد ، صلّى لغير القبلة ، يعتدّ بصلاته أم يعيدها؟ فكتب ـ عليه‌السلام ـ : يعيدها ما لم يفت (١) الوقت ، أو لم يعلم أنّ الله يقول ـ وقوله الحقّ ـ : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ)». (٢)

وفي تفسير العيّاشي : عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «أنزل الله هذه الآية في التطوّع خاصّة (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) وصلّى رسول الله إيماءا على راحلته أينما توجهت به حين خرج إلى خيبر ، وحين رجع من مكّة وجعل الكعبة خلف ظهره». (٣)

أقول : روى قريبا من ذلك عن زرارة عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، (٤) والقمّى (٥) والشيخ (٦) أيضا عن أبي الحسن ، والصدوق عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ. (٧)

واعلم : أنّك إذا تتبّعت أخبار أهل البيت وتصفّحتها حقّ التصفّح ـ في موارد العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد من القرآن ـ وجدتها تستفيد من العامّ وحده حكما ، ومن العامّ (٨) أعني العامّ مع المخصّص ـ حكما آخر ، فمن العامّ ـ مثلا ـ

__________________

(١). في المصدر : «ما لم يفته»

(٢). تهذيب الاحكام ٢ : ٤٩ ، الحديث : ٢٨.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٥٦ ، الحديث : ٨٠.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٥٦ ، الحديث : ٨١.

(٥). تفسير القمّي ١ : ٥٨.

(٦). تهذيب الأحكام ٥ : ٤٥٣ ، الحديث : ٢٢٩.

(٧). علل الشرائع ٢ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ ، الحديث : ١.

(٨). الصحيح : «الخاص»

١٧٧

الاستحباب كما هو الغالب ، ومن الخاصّ الوجوب ، وكذلك الحال في الكراهة والحرمة.

وهذا أحد اصول مفاتيح التفسير في أخبار أئمّة أهل البيت وعليه مدار جمّ غفير من أحاديثهم ، ومن هنا يمكنك أن تستنتج منها في المعارف القرآنيّة نتيجتين :

إحداهما : أنّ كلّ جملة وحدها ـ وهي مع كلّ قيد من قيودها ـ تحكي عن حقيقة ثابتة أو حكم من الأحكام ثابت ، كقوله سبحانه : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (١) ففيه أربعة معان.

والثانية : أنّ القصّتين أو المطلبين إذا اشتركا في جملة فرجوعهما إلى مرجع واحد بنحو.

وهذان سرّان تحتهما أسرار ، والله الهادي.

*

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٩١.

١٧٨

[وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)]

قوله سبحانه : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ ...)

يعطي السياق أنّ القائلين هم اليهود والنصارى (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ

١٧٩

وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) ، (١) فإنّ وجه الكلام إليهم ، وإن كانت الكفّار أو بعضهم قالوا : إنّ الملائكة بنات الله ، (٢) وإنّما قالوا هذه الكلمة ـ أوّل ما قالوا ـ تشريفا لأنبيائهم ، كما قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (٣) ثمّ تلبّس لباس الجدّ والحقيقة.

فردّ الله سبحانه عليهم في هاتين الآيتين : أنّ ولد الشيء إنّما هو بأن يجزّىء الشيء بعض أجزاء وجوده ويفصله ، فيربّيه فردا من جنسه على مثاله ، وهو سبحانه منزّه عن الأجزاء ، وكلّ شيء سواه مملوك له في ذاته ، فقير إليه في وجوده ، قانت خاضع له خضوعا ذاتيّا ، فلا يجانسه شيء (سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ).

وأيضا : هو سبحانه إذا أراد أمرا وقضى شيئا لم يتوصّل إليه توصّلا تدريجيّا كالتربية ونحوها ، بل شأنه الإيجاد ابتداءا ودفعة ، فلا يوجد له ولد (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

ففي الآيتين برهانان ، وإن أمكن تقريبه أزيد من برهانين ، وهو ظاهر.

ويستفاد من الآيتين :

أوّلا : شمول حكم العبادة والقنوت لجميع المخلوقات.

وثانيا : أنّ فعله سبحانه غير تدريجيّ ، فكلّ موجود تدريجيّ فله وجه غير تدريجيّ به يصدر عنه سبحانه ، كما قال : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ

__________________

(١). التوبة (٢) : ٣٠.

(٢). راجع : الاحتجاج ٢ : ٤٣١ ؛ تفسير الفرات : ٦١٧ ، ٧٧٣ ؛ تفسير القمّي ١ : ١٥٢ ، ٣٨٥ ؛ ٢ : ٢٠ ، ٣٠ ، ٢٢٦ ، ٢٨١ ، ٢٨٢ ، ٣٣٢ ؛ عيون الأخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ٢٠٢ ، الحديث : ١.

(٣). المائدة (٥) : ١٨.

١٨٠