تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). (١)

ومن هنا تعرف أنّ النعمة هي الولاية. لكن لا يذهب عليك أنّ إتمام النعمة من الله تعالى لا يوجب تمام تنعّم العبد ؛ ولذلك أمرهم في الآية التالية بالشكر ، ونهاهم عن الكفران.

وقد تكثّر في الأخبار ذكر النعمة وتفسيرها بالولاية ، فيؤول المعنى من هذه الجهة ـ والله العالم ـ إلى أنّكم لو استقمتم على ما تؤمرون انقطع احتجاج الناس عنكم ، وأتممت عليكم الدّين بإنزال جميع أحكامه ، وإنزال حكم الولاية التي هي بمنزلة الروح فيها.

وفي الحديث عن طرق العامّة : «تمام النعمة دخول الجنّة» (٢) وأيضا بطرقهم عن علي ـ عليه‌السلام ـ : تمام النعمة ، الموت على الإسلام. (٣)

أقول : ومرجعهما إلى الجهة الاولى من المعنى الذي ذكرنا.

قوله سبحانه : (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

تعليل ثالث بعد التعليلين.

وحيث كان الخطاب للمؤمنين ـ وقد تشرّفوا بالاهتداء إلى الإيمان ، وقد قال بعد الآية : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ ...) الآية ـ فهذه الهداية غير الهداية السابقة ، وقد ذكر قبلها إتمام النعمة في سياق التفريع والترتّب ، فهي بعده أيضا ، ثم صدّرها

__________________

(١). يونس (١٠) : ٦٢.

(٢). سنن الترمذي ٥ : ٢٠٢ ، الحديث : ٣٥٩٥ ؛ الأدب المفرد : ١٥٦ ، الحديث : ٧٢٥ ؛ كنز العمّال ٢ : ٣٤ ، الحديث : ٣٠٢٣.

(٣). راجع : الميزان في تفسير القرآن ١ : ٣٣٥ ؛ تفسير الأصفى ١ : ٧٣.

٢٦١

بكلمة الترجّي المومئة إلى أنّها من الممكن أن تترتّب أولا تترتّب ، فليست باختيار العبد ، فهي التحقّق بالنعمة ، أعني تمام التنعّم بالولاية الذي ليس باختيار العبد.

وقد مرّ في معنى الإسلام والإيمان ما يتعلّق به في ذيل قوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ.) (١)

*

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٣١.

٢٦٢

[فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)]

قوله سبحانه : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)

الذكر ربّما قابل الغفلة ؛ كقوله : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) (١) وهي انتفاء العلم بالعلم مع وجود العلم ، فالذكر خلافه.

وربّما قابل النسيان ، وهو زوال الصورة العلميّة عن الخزانة ، فالذكر خلافه ، ومنه قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ، (٢) وهو حينئذ ـ كالنسيان ـ معنى ذو آثار وخواصّ تتفرّع عليه ؛ ولذلك ربّما اطلقا ـ في موارد لم يتحقّقا فيها ـ بمجرّد تحقّق آثارهما ؛ فإنّك إذا لم تنصر صديقك وأنت تعلم حاجته إلى نصرك فقد نسيته ؛ وكذلك الذكر.

والظاهر أنّ إطلاق الذكر على الذكر اللفظيّ ، من هذا القبيل ؛ كقوله تعالى : (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) ، (٣) ونظائره كثيرة.

__________________

(١). الكهف (١٨) : ٢٨.

(٢). الكهف (١٨) : ٢٤.

(٣). الكهف (١٨) : ٨٣.

٢٦٣

ولو كان الذكر اللفظيّ أيضا ذكرا حقيقة ، فالذكر ذو مراتب هو أحدها ، ومرتبته الأخرى الذكر القلبيّ ، قال تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١) وقال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) (٢) وقال : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (٣) فالشدة إنّما يتّصف بها المعنى دون اللفظ ، وقال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٤) وذيل الآية يدلّ على طلب ما هو أعلى منزلة ممّا هو فيه ، فيؤول المعنى إلى أنّك إذا تنزّلت من مرتبة من ذكره ـ بالنسيان ـ إلى مرتبة هي دونه ، فاذكر ربّك واسأل ما هو أقرب طريقا وأعلى منزلة ، فينتج : أنّ الذكر القلبي ذو مراتب في نفسه.

وكيف كان ، فلو كان لقوله : (فَاذْكُرُونِي) حقيقة من غير مجاز ، أفاد ذلك أنّ للإنسان سنخا آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا ؛ وهو حضور صورة المدرك بالفتح عند المدرك بالكسر إذ كلّ ما فرض من هذا السنخ فهو توصيف للمعلوم ، وتقدّست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين ، قال تعالى : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٥) وقال : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً). (٦)

وينتج ذلك أوّلا (٧) أنّ إطلاق ذكر الله على الأذكار القلبيّة ـ أيضا ـ كإطلاق الذكر على الذكر اللفظي مسامحة ، وليس من الحقيقة في شيء ، إلّا بعناية

__________________

(١). الرعد (١٣) : ٢٨.

(٢). الأعراف (٧) : ٢٠٥.

(٣). البقرة (٢) : ٢٠٠.

(٤). الكهف (١٨) : ٢٤.

(٥). الصافات (٣٧) : ١٦٠ ـ ١٥٩.

(٦). طه (٢٠) : ١١٠.

(٧). ليس لهذه الكلمة عدل ظاهر في العبارة.

٢٦٤

سنشرحها إن شاء الله في ذيل قوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ). (١)

وقد تكاثرت الأخبار في فضل الذكر :

فقد روي عنهم بطرق كثيرة : «ذكر الله حسن على كلّ حال». (٢)

وفي عدّة الداعي قال : «روي أنّ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خرج على أصحابه ، فقال : ارتعوا في رياض الجنّة ، قالوا : يا رسول الله! وما رياض الجنّة؟ قال : مجالس الذكر ، اغدوا وروحوا واذكروا ، ومن كان يحبّ أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده ؛ فإنّ الله تعالى ينزّل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه.

واعلموا أنّ خير اعمالكم عند مليككم ـ وأزكاها وأرفعها في درجاتكم ، وخير ما طلعت عليه الشمس ـ ذكر الله تعالى ؛ فإنّه تعالى أخبر عن نفسه فقال : أنا جليس من ذكرني ، وقال سبحانه : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) بنعمتي ، اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والإحسان والراحة والرضوان». (٣)

وفي المحاسن ودعوات الراوندي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «إنّ الله تبارك وتعالى يقول : من شغل بذكري عن مسألتي ، أعطيه أفضل ما أعطي من سألني». (٤)

وفي المعاني عن الحسين البزّاز قال : «قال لي أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : ألا أحدّثك بأشدّ ما فرض الله على خلقه؟ قلت : بلى ، قال : إنصاف الناس من

__________________

(١). المؤمنون (٢٣) : ٩١.

(٢). عدّة الداعى : ٢٥٤ ؛ علل الشرائع ١ : ٢٨٤ ؛ وسائل الشيعة ١ : ٣١٤ ، الحديث : ٨٢٧.

(٣). عدّة الداعي : ٢٥٣.

(٤). المحاسن ١ : ٣٩ ، الحديث : ٤٣ ؛ الدعوات : ١٩ ، الحديث : ١٣.

٢٦٥

نفسك ، ومواساتك لأخيك ، وذكر الله في كلّ موطن ، أما إنّي لا أقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ـ وإن كان هذا من ذلك ـ ولكن ذكر الله في كلّ موطن إذا هجمت على طاعته أو معصيته» (١). (٢)

أقول : وهذا المعنى مرويّ بطرق كثيرة عن النبيّ والأئمّة (٣) وفي بعضها : «وهو قول الله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)». (٤)

وفي عدّة الداعي عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : «قال الله سبحانه : إذا علمت أنّ الغالب على عبدي الاشتغال بي ، نقلت شهوته في مسألتي ومناجاتي ، فإذا كان عبدي كذلك فأراد أن يسهو ، حلت بينه وبين أن يسهو ، اولئك أوليائي حقّا ، اولئك الأبطال حقّا ، اولئك الذين إذا أردت أن اهلك أهل الأرض عقوبة زويتها عنهم من أجل اولئك الأبطال». (٥)

وفي المحاسن عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «قال الله تعالى : ابن آدم! اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي ، ابن آدم! اذكرني في الخلاء أذكرك في خلاء ، ابن آدم! اذكرني في ملاء أذكرك في ملاء خير من ملائك ، وقال : ما من عبد يذكر الله في ملاء من الناس إلّا ذكره الله في ملاء من الملائكة». (٦)

__________________

(١). في المصدر : «طاعة أو معصية»

(٢). معانى الأخبار : ١٩٢ ، الحديث : ٣.

(٣). الكافي ٨ : ٧٢ ، عن السجاد (ع) ؛ ٢ : ٤٣٤ ، الحديث : ٧ ، عن الصادق (ع) ؛ معانى الأخبار : ١٩٢ ، الحديث : ٢ ، عن الباقر (ع) ؛ مجموعة ورام ٢ : ٢٠١ ، عن الصادق (ع) ؛ الخصال ١ : ١٣١ ، الحديث : ١٣٨ ؛ تفسير القمي ١ : ٢٥٣ ؛ تفسير العيّاشي ٢ : ٤٣ ـ ٤٤ ، الحديث : ١٢٨ و ١٢٩ ، عن الصادق (ع).

(٤). الأعراف (٧) : ٢٠١.

(٥). عدة الداعي : ٢٤٩.

(٦). المحاسن : ٣٩ ، الحديث : ٤٤.

٢٦٦

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤)]

قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

روي عن طريق العامّة عن إبن عبّاس قال : «قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : ما أنزل الله آية فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا عليّ ـ عليه‌السلام ـ رأسها وأميرها». (١)

أقول : وفي أخبار الخاصّة ما يستفاد منه ذلك. (٢)

واعلم : أنّ هذا الخطاب بلفظ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) من مختصّات القرآن ، فلا تكاد تجده في سائر الخطابات ، كخطابات النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والأئمّة ، بل خطاباتهم مصدّرة غالبا بقولهم : «يا عباد الله» و «يا أيها الناس» ، وكذلك ما يحكيه القرآن من خطابات سائر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ،

__________________

(١). حلية الأولياء ١ : ٦٤ ؛ الغدير ٨ : ٨٨.

(٢). كشف الغمة ١ : ٣٠٢ ؛ المناقب ٣ : ٥٢ ؛ الطرائف ١ : ٨٨ ، الحديث : ١٢٥ ؛ شواهد التنزيل ١ : ٦٥ ، الحديث : ٧١.

٢٦٧

كنوح وهود وصالح وشعيب وموسى وعيسى ـ عليهم‌السلام ـ ، مصدّرة بقولهم : (يا قَوْمِ) (١) و (يا بَنِي إِسْرائِيلَ). (٢) ... وغير ذلك حتى أنّ الخطابات الواردة في الأحاديث القدسيّة مصدّرة بقوله : «يابن آدم» ، (٣) وإنّما الخطاب بلفظ : «يا أيّها الذين» ، مختصّ بخطابات القرآن لهذه الامّة ، وإن كان فيها مثل قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، (٤) وقوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ). (٥)

لكنّك إذا تصفّحت كلامه سبحانه وتدبّرته وجدت أنّه تعالى يخصّ العلم بالإيمان على الحقيقة بنفسه.

قال : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) (٦) وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) (٧) فقوله : (اللهُ أَعْلَمُ) في الآيتين للإشعار بأنّ الميزان في وصف الإيمان هو الظاهر ، وأمّا الباطن وحقيقة الأمر فهو عند الله.

ثمّ إذا تأمّلت قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ

__________________

(١). البقرة (٢) : ٥٤ ؛ المائدة (٥) : ٢٠ ؛ الأعراف (٧) : ٥٩ وغيرها.

(٢). البقرة (٢) : ٤٠ ؛ البقرة (٢) : ٤٧ ؛ المائدة (٥) : ٧٢ وغيرها.

(٣). الكافي ١ : ١٥٢ ، الحديث : ٣ و : ١٥٧ ، الحديث : ٣ ؛ من لا يحضره الفقيه ١ : ٣٢٩ ، الحديث : ٩٦٥ ؛ تهذيب الأحكام ٩ : ١٧٥ ، الحديث : ١٢.

(٤). الصف (٦١) : ١٠ ـ ١١.

(٥). هود (١١) : ٢.

(٦). النساء (٤) : ٢٥.

(٧). الممتحنة (٦٠) : ١٠.

٢٦٨

ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، (١) وقوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ،) (٢) وجدته يجعل الذين استجابوا دعوة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في زمانه شفاها وآمنوا بالله ورسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أصلا ، وسائر المؤمنين ـ ممّن تقدّمهم أو لحق بهم ـ فرعا وملحقا بهم.

ومن هنا تعرف أنّ الخطاب بلفظ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تشريف خاصّ لمن آمن برسول الله في دعوته من المسلمين ، هذا.

وأنت تعلم أنّ خطاباته سبحانه على الحقيقة ؛ أي أنّه يعني بالمؤمنين في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) المؤمنين حقيقة ، ويخصّهم في بياناته وتشريعاته ، وهو أعلم بالسرائر ، وأمّا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وغيره من الأنبياء والأئمّة ـ عليهم‌السلام ـ فوظيفتهم هو الركون على المتراءى من إسلام الناس ، فلا وجه لأخذهم صفة الإيمان في خطاباتهم ؛ حتّى يختصّ تعليمهم بالمؤمنين ، ويتميّز غير المؤمنين عنهم بالخروج عن دائرة البيان ، مع كون وظيفتهم الاختلاط مع الجميع ودعوة الجميع وتربيتهم ، فافهم.

قوله سبحانه : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)

قد مرّ الكلام في معنى الاستعانة بالصبر والصلاة في أوائل السورة ، وعلّله هاهنا

__________________

(١). الطور (٥٢) : ٢١.

(٢). غافر (٤٠) : ٧ ـ ٨.

٢٦٩

بأنّ الله مع الصابرين ، وهذه معيّة خاصّة دون المعيّة التي يكشف عنها قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (١) ولذلك فهذا الصبر صبر في جنب الله عن هوى النفس ومشتهاها وفي البأساء والضرّاء وعلى مصائب الدنيا ونوائبها.

قوله سبحانه : (بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ)

المخاطبة مع المؤمنين الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ، فلا يتصوّر منهم القول بالبطلان في الأموات ، فنهيهم عن القول به في خصوص المقتولين في سبيل الله ، والأمر شامل لهم ولغيرهم من الأموات ، ثمّ إثبات الحياة لهم بقوله : (بَلْ أَحْياءٌ) مع أنّ كلّ مؤمن ـ بقريحة إيمانه ، وبما جاءه من عند الله من الآيات ـ قائل بأنّ المقتولين في سبيل الله أحياء بحياة السعادة ، وأحياء بحياة الآخرة الطيّبة ، وأحياء بحياة الاسم والذكر الجميل ؛ فقوله سبحانه مع ذلك كلّه : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) يقضي بأنّ هذه حياة خاصّة لا يشعرون بها مع ذلك كلّه ، فهي غير الجميع.

وقد بدّل سبحانه هذه اللفظة باخرى في قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٢) وسيأتي بقيّة الكلام هناك إن شاء الله.

ويؤيّد ما ذكرنا : ما عن الباقر ـ عليه‌السلام ـ قال : «أتى رجل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال :

«إنّي راغب نشيط في الجهاد ، قال : فجاهد في سبيل الله ؛ فإنّك إن تقتل كنت

__________________

(١). الحديد (٥٧) : ٤.

(٢). آل عمران (٣) : ١٦٩.

٢٧٠

حيّا عند الله ترزق ، وإن متّ فقد وقع أجرك على الله ...» (١) الحديث ، فخصّ الحياة بالشهادة مع كونها مشتركة بين القتل والموت.

*

__________________

(١). مستدرك الوسائل ١١ : ٩ ، الحديث : ١٢٢٨٧ ؛ تفسير العيّاشي ١ : ٢٠٦ ، الحديث : ١٥٢.

٢٧١

[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)]

قوله سبحانه : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ ...)

روى النعماني عن محمّد بن مسلم عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «إنّ قدّام القائم ـ عليه‌السلام ـ علامات ، بلوى من الله للمؤمنين ، قلت : وما هي؟ قال : فذلك قول الله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ ...) قال : (لَنَبْلُوَنَّكُمْ) يعني المؤمنين (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) من ملوك بني فلان في آخر سلطانهم (وَالْجُوعِ) بغلاء أسعارهم (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) فساد التجارات وقلّة الفضل فيها (وَالْأَنْفُسِ) موت ذريع (وَالثَّمَراتِ) قلّة ريع ما يزرع وقلّة بركة الثمار (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) عند ذلك بخروج القائم ، ثمّ قال (١) : يا محمد! هذا تأويله (وَما يَعْلَمُ

__________________

(١). في المصدر : + «لي»

٢٧٢

تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (١)». (٢)

أقول : وفي هذا المعنى روايات اخرى ، وفيها أيضا أنّ ذلك من التأويل ، وسيجيء معنى التأويل في أوائل سورة آل عمران.

قوله سبحانه : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ...)

وهذا أيضا من شواهد أنّ الصبر هاهنا هو الصبر في جنب الله ، فكون الأشياء ملكا خالصا لله سبحانه ، لا يدع لها من نفسها شيئا ، حتّى يجزع على فقده جازع متأسف ، إلّا ما يتراءى في الظاهر من ملك الإنسان لنفسه ـ ولما يتعلّق به نوع تعلّق ـ ملكا صوريّا واستقلالا وهميّا ، ويحسمه : أنّ هذه الأشياء هالكة جميعا راجعة إليه سبحانه ، فالتفات المصاب إلى هذين المعنيين يمنع من نزول أثر النازلة في نفسه.

اعلم : أنّ إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل ، واكتساب الفاضلة وطمس الرديّة منها ، إنّما هو بتكرار الأعمال الصالحة ـ المناسبة لها ـ ومزاولتها وممارستها حتّى تثبت العلوم الجزئيّة الحاصلة من الموارد ، وتنتقش في النفس انتقاشا متعذّر الزوال أو متعسّره ، فهي اختيارية باختيارية جزئيات الأعمال والأفعال ، والفعل الاختياري مسبوق بالعلم بالأصلح والخير والنافع ، وهذا العلم الذي ـ هو مبدأ الفعل الاختياري ـ هو الغاية له ، مثاله : أنّ إرادة الانتقام توجب فعل ما يكرهه العدوّ ، فيحصل الانتقام.

إذا عرفت هذا علمت : أنّ هناك لتهذيب الأخلاق مسلكين :

__________________

(١). آل عمران (٣) : ٧.

(٢). الغيبة للنعماني : ٢٥٠ ، الحديث : ٥.

٢٧٣

أحدهما : تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيويّة والعلوم والآراء المحمودة ، كما يقال : إنّ العفّة وقناعة الإنسان بما عنده توجب العزّة والعظمة في أعين الناس والجاه عند العامّة ، وإنّ الشره يوجب الخصاصة والفقر ، وإنّ الطمع يوجب ذلّة النفس المنيعة ، وإنّ العلم يوجب إقبال العامّة والعزّة والانس عند الخاصّة ، والعلم بصر يتّقي به الإنسان كلّ مكروه ويدرك كلّ محبوب ، وإنّ الجهل عمى ، وإنّ الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلوّن والحمد من الناس على أيّ تقدير ، بخلاف الجبن والتهوّر ، وإنّ العدالة توجب راحة النفس عن الهمم المؤذية ؛ وهي الحياة بعد الموت ببقاء الاسم ونموّ الذكر والمحبّة في القلوب.

وهذا هو المسلك المعهود من الحكمة والفلسفة ، وربّما استعمل هذا المسلك في كلامه سبحانه ، كقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) (١) وقوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا) (٢) وقوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (٣)

وثانيهما : الغايات الاخرويّة ، وقد كثر إعمالها في كلامه سبحانه ، كقوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (٤) وقوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٥) وقوله : (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦) وقوله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٥٠.

(٢). الأنفال (٨) : ٤٦.

(٣). الشورى (٤٢) : ٤٣.

(٤). التوبة (٩) : ١١١.

(٥). الزمر (٣٩) : ١٠.

(٦). ابراهيم (١٤) : ٢٣ ؛ الشورى (٤٢) : ٢١.

٢٧٤

الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) (١) وأمثالها كثيرة على اختلاف فنونها.

ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات ، كقوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) ، (٢) فإنّ الآية وإن دعت إلى عدم الأسى والفرح بأنّ الذي يصيبهم ما كان ليخطئهم ، والذي يخطئهم ما كان ليصيبهم ـ لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضيّ وقدر مقدور ، فالأسى والفرح لغو لا ينبغي ـ لكن بضمّ قوله سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ـ إلى قوله ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (٣) يتمّ لحوقها بالقسم الثاني.

وكذا قوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (٤) وقوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً* إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً). (٥) ... إلى غير ذلك من الآيات ؛ فهذان القسمان مستعملان في كلامه تعالى.

وهاهنا قسم ثالث مخصوص بالقرآن ـ ولا تكاد تجده فيما نقل إلينا من الشرائع الماضية والمعارف المأثورة من الحكماء والمتألّهين ، وربّما سمّي بطريقة الإحراق ـ وهو تربية الإنسان وصفا وفعلا باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع للرذائل.

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٥٧.

(٢). الحديد (٥٧) : ٢٢ ـ ٢٣.

(٣). المؤمنون (٢٣) : ١ ـ ٣.

(٤). آل عمران (٣) : ١٨٥.

(٥). الكهف (١٨) : ٦ ـ ٧.

٢٧٥

وذلك أنّ كلّ عمل لغاية مقصودة يراد به غير الله سبحانه : إمّا لعزّة عنده يطمع فيها ، أو لقوّة يخاف منها ويحذر عنها ، وقد قال تعالى : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (١) وقال : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٢) فلا موضوع لرياء ولا سمعة ولا خوف من غيره تعالى ، ولا رجاء لغيره تعالى ، ولا ركون إلى غيره تعالى ، فهذان العلمان إذا تمّا يغسلان كلّ ذميمة فعل أو وصف عن الإنسان ، ثمّ ينمّيان وينبتان في قلبه ويولّدان في نفسه كلّ ما يقابلها من الأوصاف الإلهيّة من القوّة بالله والعزّة بالله ومناعة وكبرياء واستغناء وهيبة إلهيّة ربّانيّة.

وأيضا تكرّر في كلامه أنّ : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣) و (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٤) وحقيقة هذا الملك لا تبقى لموجود استقلالا بوجه من الوجوه ، فلا شيء إلّا وهو المالك لذاته ولكلّ ما لذاته ، وإيمان العبد بهذا الملك وتحقّقه به يوجب سقوط جميع الأشياء ذاتا ووصفا وفعلا عنده عن درجة الاستقلال ، وهذا الإنسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه سبحانه ، ولا أن يخضع لشيء أو يخاف أو يرجو شيئا ، أو يلتذّ ويبتهج بشيء ، أو يركن لشيء ، أو يتوكّل على شيء ، أو يسلّم أو يفوّض إلى شيء ، غير وجهه سبحانه.

وبالجملة : لا يريد ولا يطلب إلّا وجهه الباقي بعد فناء كلّ شيء ، ولا يعرض ولا يهرب إلّا عن غيره ، الذي لا يرى لوجوده وقعا ، ولا يعبأ به قبال وجود بارئه ـ عزوجل ـ

__________________

(١). النساء (٤) : ١٣٩.

(٢). البقرة (٢) : ١٦٥.

(٣). البقرة (٢) : ١٠٧ ؛ المائدة (٥) : ٤٠ ؛ الزخرف (٤٣) : ٨٥.

(٤). البقرة (٢) : ١١٦ ؛ النحل (١٦) : ٥٢.

٢٧٦

وكذلك قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (١) وقوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢) وقوله : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣) وقوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) (٤) وقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (٥) وقوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٦) وقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٧) وقوله : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ). (٨) ... إلى غير ذلك.

ومن هذا الباب : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

فهذه الآيات وأمثالها مشتملة على معارف خاصّة إلهيّة ذوات نتائج خاصّة. وأنت إذا أمعنت الإمعان التامّ في الأخلاق النفسانيّة ـ وإصلاحها بالمسلكين السابقين ـ وجدتها مرتبطة بالنفس الإنسانيّة بحسب قواها العلّامة والعمّالة ، مرتّبة ـ بحسب جزئيّة تلك القوى وكلّيّتها ـ من فروع متفرّعة على اصولها ، المتولّدة عن اصول أخر فوقها ، حتّى تنتهي إلى الامّهات : وهي العفّة والشجاعة والحكمة والعدالة ؛ وهي اعتدال القوى الكلّيّة النفسانيّة من حيث أفعالها ؛ أعني الشهوة والغضب والفكر والملكة ، التي نسبتها إلى هذه الامّهات الثلاثة ، (٩) نسبة

__________________

(١). طه (٢٠) : ٨.

(٢). غافر (٤٠) : ٦٢.

(٣). السجدة (٣٢) : ٧.

(٤). طه (٢٠) : ١١١.

(٥). البقرة (٢) : ١١٦ ؛ الروم (٣٠) : ٢٦.

(٦). الإسراء (١٧) : ٢٣.

(٧). فصّلت (٤١) : ٥٣.

(٨). فصّلت (٤١) : ٥٤.

(٩). أي : الشهوة والغضب والفكر.

٢٧٧

المزاج إلى العناصر المختلطة الذي هو كيفيّة متوسطة ، فهذه هي الفضائل الكلّية ، وهي اعتدال القوى.

والرذائل بالنسبة إليها خروج النفس فيها من حدّ الاعتدال إلى أحد جانبي الافراط والتفريط ، وهي الشره والخمود في الشهوة ، والتهوّر والجبن في الشجاعة ، والجربزة والبلادة في الفكر.

والغاية في إصلاحها حصول الفضيلة ـ التي هي الكمال بحكم العقل ـ للإنسان من حيث وقوعه في هذه النشأة الطبيعيّة وحياته الاجتماعيّة فيها ، وبقاؤه بعد الارتحال عنها في الآخرة.

فعلى محصّل الفضائل الخلقيّة أن يضع كلّ قوّة من قواه الوجوديّة موضعها ويحصّل آثارها ، ثمّ لا يبطلها بإبطال آثارها وهو التفريط ، ولا يخلّيها تفعل كل ما تريد وتشتهي ، بحيث يزاحم بفعلها سائر القوى العمّالة أعمّ من نفسه وغيره في هذا العالم الطبيعي ، وبعده في الآخرة ، والغاية ـ التي هي الفضيلة ـ ربّما أدركها العقل الاجتماعي ، وربّما اختصّ بإثباتها الشريعة الإلهيّة ، هذا جملة القول فيها.

ثمّ إذا تأمّلت التأمّل التامّ في المسلك الثالث ، وجدته فاقدا للتّرتيب المذكور ، وغير دائر مدار اعتدال القوى ، والغاية هناك غير الغاية.

توضيح ذلك بنحو الإجمال : أنّ الإنسان إذا تحقّق بحقيقة الإيمان صار يعبد الله كأنّه يراه ، فإن لم يكن يراه فإنّه تعالى يراه ، وصار كأنّه يشاهده في أسمائه وأفعاله ، فاشتدّ حبّه له تعالى ؛ إذ الإنسان مفطور على حبّ الجميل ، وقد قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (١) وصار يتّبع الرسول في جميع حركاته

__________________

(١). البقرة (٢) : ١٦٥.

٢٧٨

وسكناته ؛ لأنّ حبّ الشيء يوجب حبّ آثاره ، وهو من آياته وآثاره تعالى ، فلا يزال يشتدّ حبّا حتّى لا يحبّ إلّا وجهه ، ولا يريد إلّا بالله ، ولا يكره إلّا لله تعالى ، فينقطع ذكره واشتغاله إلّا بوجهه ، وحديثه إلّا بحديث فيه ذكر ربّه ، وحينئذ يتحقّق عنده من العلم بالله وصفاته وأفعاله ما لا يتحقّق عند سائر الناس ؛ لأنّ اشتغالهم بغيره سبحانه ، وهمّهم كلّ شيء إلّا ربّهم ، فتنمحي عن نفسه صور العلوم والقصود التي عند غيره من عامّة الناس ـ من طلب الفضائل مثلا ، والخوف والرجاء لغيره تعالى ولو كان كمالا ـ ويحلّ محلّه العلم بالله وآياته.

وحينئذ تتبدّل الغاية الاولى ـ وهي طلب الفضيلة النفسانيّة ـ إلى غاية اخرى ؛ وهي ابتغاء وجه الله سبحانه ، أو وجه الله بوجه أدقّ ، ولا شغل له بنفسه ولا بغيره وتتبدّل الامّهات الخلقيّة بامّ واحدة ؛ وهي ما عند الله ممّا يحبّه ، ويسقط ترتّب اصولها وفروعها ، ويسقط موضوع الفضائل والرذائل ، كما مرّ ؛ وربّما تبدّل الاعتدال الخلقى في هذا المسلك عنه بحسب المسلكين الآخرين ، فيصير ما هو تهوّر أو تبذير ، فيهما شجاعة أو سخاءا هاهنا.

وقد اشتملت الآثار على قصص كثيرة من ذلك ، كما في الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في إسماعيل النبيّ ـ عليه‌السلام ـ : «إنّما سمّي صادق الوعد لأنّه وعد رجلا في مكان ، فانتظره في ذلك المكان سنة ، فسمّاه الله ـ عزوجل ـ صادق الوعد ، ثمّ إنّ الرجل أتاه بعد ذلك ، فقال له إسماعيل : ما زلت منتظرا لك ...» (١) الحديث.

وهذا أمر ربّما يحكم العقل العادي بكونه منحرفا عن الاعتدال ، فليت شعري

__________________

(١). الكافي ٢ : ١٠٥ ، الحديث : ٧.

٢٧٩

ما جعله منقبة فيه عليه‌السلام حتّى عظّم الله قدره ورفع ذكره ، إذ قال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا* وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (١) فليس ذلك إلّا أنّ الميزان ـ الذي وزن به هذا العمل ـ غير الذي بيد العقل العادي ، وهو الغاية التي عرفت وصفها ، فللعقل المشهوري تربية بتدبيره ، ولله سبحانه تربية لأوليائه بتأييده ، وكلمة الله هي العليا. وأمثال هذه القضايا كثيرة مأثورة عن الأنبياء والأئمّة والأولياء.

فإن قلت : كيف يمكن الاختلاف بين العقل والشرع فيما للعقل إليه سبيل؟ وكيف يمكن أن يتحقّق له خطأ من غير صواب؟

قلت : أمّا الإدراك من حيث إنّه إدراك فكذلك ، لكنّه يستدعي موضوعا يقع عليه حكم العقل ، وقد عرفت أنّ هذا النوع من العلوم لا تبقي للعقل موضوعا يحكم عليه بحكمه ، وهذا سبيل المعارف الإلهيّة. فهذا ملخّص الكلام في هذا المقام ، ولنرجع إلى بدء القول في الآية :

روى السيّد الرضيّ في الخصائص عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ قال ـ وقد سمع رجلا يقول : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ـ : «يا هذا ، إنّ قولنا : (إِنَّا لِلَّهِ) إقرار منّا بالملك ، وقولنا : (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إقرار منّا بالهلاك». (٢)

أقول : قد اتّضح معناه بما مرّ ، ورواه في الكافي مفصّلا.

وروى في الكافي عن إسحاق بن عمّار وعبد الله بن سنان عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : قال الله ـ عزوجل ـ : إنّي جعلت الدنيا بين عبادي قرضا ، فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكلّ واحدة

__________________

(١). مريم (١٩) : ٥٤ ـ ٥٥.

(٢). خصائص الأئمّة : ٩٥.

٢٨٠