تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

الكفر والشرك والطغيان وغيرها كذلك. قال سبحانه : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١) أي لكلّ من أهل السعادة والشقاوة.

وثانيا : أنّ الصراط المستقيم كما أنّه المهيمن على جميع الطرق ، كذلك أصحابه الذين مكّنهم الله فيه أن جعل الله لهم الولاية يتولّون أمر التربية ، كما قال سبحانه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) ، (٢) والآية نازلة في أمير المؤمنين علي ـ عليه‌السلام ـ بالأخبار المتواترة ، (٣) وهو ـ عليه‌السلام ـ أوّل فاتح لهذا الباب من الامّة.

وثالثا : أنّ الهداية إلى الصراط يتعيّن معناها بحسب تعيّن معناه.

توضيح ذلك : أنّ الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح (٤) وذكر أنّ تعديتها لمفعولين لغة أهل الحجاز ، وغيرهم يعدّونه إلى المفعول الثاني ب (إلى) ، وهو الظاهر.

وما قيل : إنّ الهداية إذا تعدّت إلى المفعول الثاني بنفسها فهي بمعنى الإيصال إلى المطلوب ، وإذا تعدّت ب (إلى) فبمعنى إراءة الطريق ، مستدلّا بقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ، (٥) حيث إنّ هدايته ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بمعنى إراءة الطريق ثابتة ، فالمنفي عنه هو الإيصال إلى المطلوب.

فيه : أنّ الآية مسوقة سوق نفي الحقيقة والاستقلال وإثبات الإذن والعرض ،

__________________

(١). الأحقاف (٤٦) : ١٩.

(٢). المائدة (٥) : ٥٥.

(٣). الكافي ١ : ٢٨٨ ، الحديث : ٣ ؛ و ٤٢٧ ، الحديث : ٧٧ ؛ الاحتجاج ١ : ٥٩ و ١٣٩ ؛ الإرشاد ٢ : ٥ ؛ كتاب الأربعين ، للماحوزي : ٩١ ؛ شواهد التنزيل ، للحاكم الحسكاني ١ : ١٦١ ـ ١٨٤ ، الحديث : ٢١٦ ـ ٢٤١ ؛ تاريخ دمشق ٢ : ٤٠٩ ، الحديث : ٩٠٨ ـ ٩٠٩ ؛ الكشّاف ١ : ٦٤٩ ، وغيرها.

(٤). الصحاح ٦ : ٢٥٣٣.

(٥). القصص (٢٨) : ٥٦.

٦١

كقوله سبحانه : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) ، (١) وقوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) ، (٢) وقوله : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) ، (٣) وقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، (٤) إي إنّ الشفاعة والولاية ملك لله حقيقة إلّا أن يملّكها من يشاء ، وقد قال تعالى حكاية عن بعض عباده : (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ)، (٥) فلا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية. ومن الممكن أن يكون التعدية إلى الثاني من قبيل قولهم : دخلت الدار.

وبالجملة ، فالهداية هي الدلالة وإراءة الغاية بإراءة الطريق ، وهي نحو إيصال إلى المطلوب ، وإنّما تكون من الله سبحانه ، وسنّته سنّة الأسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب ، ويتحقّق به الوصل بين العبد وبين المطلوب ، وقد بيّنه سبحانه بقوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) ، (٦) وقوله سبحانه : (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) ، (٧) وتعدية (تَلِينُ) ب (إِلى) وهو يتعدّى باللام لتضمين معنى مثل الميل والاطمئنان ، فهو إيجاده سبحانه وصفا في القلب به يقبل ذكر الله ويميل ويطمئنّ إليه ، وكما أنّ سبله سبحانه مختلفة فكذلك الهداية تختلف باختلاف الطريق الذي تضاف إليه ، فلكلّ سبيل هداية قبله تختصّ به ، يشير إلى ذلك قوله سبحانه :

__________________

(١). السجدة (٣٢) : ٤.

(٢). المائدة (٥) : ٥٥.

(٣). يونس (١٠) : ٣.

(٤). الأنفال (٨) : ١٧.

(٥). غافر (٤٠) : ٣٨.

(٦). الأنعام (٦) : ١٢٥.

(٧). الزمر (٣٩) : ٢٣.

٦٢

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). (١) ففرق بين أن يجاهد العبد في الله تعالى وبين أن يجاهد في سبيل الله تعالى ، فالثاني يريد سلامة السبيل ودفع العائق عنه ، والأوّل إنّما يريد وجه الله تعالى ولا يوقف نظره على سبيل دون سبيل ، بل يريده سبحانه بذلك فيمدّه الله سبحانه بالهداية إلى سبيل بعد سبيل حتّى يختصّه به جلّت عظمته.

إذا تمهّد جميع ما مرّ على طوله تبيّن معنى قوله سبحانه : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ ...)، وأنّه أمر وراء معنى العبادة غير أنّه بمنزلة روحه ، وهو الوجه في تغيير السياق من الإخبار في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلى الإنشاء بقوله : (اهْدِنَا)، ومن الوصل إلى الفصل ، وتبيّن أيضا معنى الروايات الواردة فيهما.

فمنها : ما في المعاني في معنى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : يعني أرشدنا إلى لزوم (٢) الطريق المؤدّي إلى محبّتك والمبلّغ إلى جنّتك (٣) والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب أو أن (٤) نأخذ بآرائنا فنهلك. (٥)

ومنها : ما فيه أيضا عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : يعني أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به (٦) في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا. (٧)

__________________

(١). العنكبوت (٢٩) : ٦٩.

(٢). في المصدر : «للزوم»

(٣). في المصدر : «دينك»

(٤). في المصدر : «أن»

(٥). معاني الأخبار : ٣٣ ، الحديث : ٤.

(٦). في المصدر : ـ «به»

(٧). معاني الأخبار : ٣٣ ، الحديث : ٤.

٦٣

أقول : معنى الروايتين واضح ممّا مرّ ، وكأنّ الاولى أدقّ تفسيرا من الثانية ، والثانية تفسّر الصراط بصراط العبادة ، ولذلك فسّر الهداية بإدامة التوفيق لكونها حاصلة بالفعل ، وهو من الصراط المستقيم كما مرّ.

ومنها : ما عنه أيضا عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) في الدنيا ما قصر عن الغلوّ وارتفع عن التقصير واستقام ... وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنّة. (١)

أقول : معناه ظاهر ، وقوله : «وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنّة» مبنيّ على ما سيجيء من أنّ الآخرة مطابقة للاولى.

ومنها : ما في الفقيه عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : الصراط المستقيم أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ، (٢) ورواه العيّاشي أيضا. (٣)

ومنها : ما في المعاني عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : هي (٤) الطريق إلى معرفة الله ، وهما صراطان : صراط في الدنيا ، وصراط في الآخرة ، فأمّا الصراط [الذي] في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة ، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة ، ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه [عن الصراط] في الآخرة فتردّى في نار جهنّم. (٥)

ومنها : ما فيه أيضا عن السجّاد ـ عليه‌السلام ـ قال : ليس بين الله وبين حجّته حجاب ، ولا لله دون حجّته ستر ، نحن أبواب الله ، ونحن الصراط المستقيم ،

__________________

(١). معاني الأخبار : ٣٣ ، الحديث : ٤.

(٢). معاني الأخبار : ٣٢ ، الحديث : ٣.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٢٤ ، الحديث : ٢٥.

(٤). في المصدر : «هو».

(٥). معاني الأخبار : ٣٢ ، الحديث : ١.

٦٤

ونحن عيبة علمه ، ونحن تراجمة وحيه ، ونحن أركان توحيده ، ونحن موضع سرّه. (١)

أقول : وأنت بعد التأمّل فيما ذيّلنا به قوله سبحانه : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً)، (٢) تعرف معنى هذه الروايات الثلاث المفسّرة للصراط المستقيم بالإمام أو بخصوص عليّ ـ عليه‌السلام ـ ، ولا تحتاج أن تحمل أمثال هذه المعارف الغالية التي حواها كلامه سبحانه على المجاز والكناية ونحوهما من تفنّنات البيان ، فقد مرّ أنّ هذه المعاني ذوات مراتب بحسب التحقّق ، فللكفر مراتب وللإيمان مراتب ، وأمّا نفس المعنى فصدقه على الجميع واحد ، وإنّما الاختلاف بحسب خصوصيّات المصاديق كما ذكره المحقّقون فقالوا : إنّ الألفاظ في تعيّنها بإزاء المعاني غير مقيّدة بما احتفّت به المصاديق من القيود ، وإنّما هي من خصوصيّات المصاديق ، فالميزان ـ مثلا ـ اسم لما يوزن به الشيء والوزن يختلف باختلاف الموزون ، فذات الكفّتين ـ مثلا ـ لوزن الأثقال ، والذرع لوزن الأطوال ، والمكيال لوزن الحجم ، والمسطرة لوزن السطر ، وكذا العروض لوزن الشعر ، والمنطق لوزن التصوّر والتصديق إلى غير ذلك.

ويدلّ على ذلك أنّا نرى عرف اللغة إذا وجد آلة جديدة تفي بغرض القديمة سمّاها باسمها من غير توقّف واعتبار علاقة ونحوها.

وأمّا أنّ هناك رجلا حاول وضع اللغة العربيّة أو غيرها ثمّ زوّج المعاني الموجودة عنده وفي عصره من ألفاظ اخترعها واقترحها بوضع شخصي ، ثمّ الحقيقة والمجاز والتراكيب لوضع نوعي وحكم بأنّ ما وراء ذلك غلط ، فدون إثباته نقلا أو عقلا خرط القتاد ، وإنّما هي تطوّرات وتحوّلات في الألفاظ

__________________

(١). معاني الأخبار : ٣٥ ، الحديث : ٥.

(٢). الرعد (١٣) : ١٧.

٦٥

والمعاني جبّل عليها الإنسان في حياته المدنيّة على ما قرّر في محلّه.

وبالجملة ، فالسير على صراط العبادة ـ مثلا ـ سير بالحقيقة في صراط بالحقيقة وإن خالف قطع الإنسان بأقدامه الصراط من أديم الأرض ، والسير في صراط المعرفة كذلك ، وكلّ منهما سير أيضا في إنسان ليس عنده غيره من أصحاب الصراط.

وقد عرفت أنّ المفهوم من كلامه سبحانه هو ذلك ، فافهم ذلك.

ومنها : ما في المعاني في معنى (صِراطَ الَّذِينَ)، عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : أي قولوا : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك ، وهم الذين قال الله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (١). (٢)

ومنها : ما رواه الصدوق عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : قول الله في الحمد : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)، يعني محمّدا وذرّيّته. (٣)

أقول : وهو من الجري ، ويمكن أن يكون النظر إلى كون صراطهم أكمل الصرط ، فهو من التفسير.

ومنها : ما في المعاني عن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : شيعة عليّ الذين أنعمت عليهم بولاية عليّ بن أبي طالب ـ عليه‌السلام ـ لم يغضب عليهم ولم يضلّوا. (٤)

__________________

(١). النساء (٤) : ٦٩.

(٢). معاني الأخبار : ٣٦ ، الحديث : ٩.

(٣). معاني الأخبار : ٣٦ ، الحديث : ٧.

(٤). معاني الأخبار : ٣٦ ، الحديث : ٨.

٦٦

أقول : وكأنّه مستفاد من قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ)، (١) وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، (٢) فإنّ في الآية الاولى حكاية قضيّة المعيّة ، وفي الثانية وعد الإلحاق ، فافهم.

ويناسبه ما رواه ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع بن الجرّاح عن [سفيان] الثوري عن السدّي عن أسباط ومجاهد عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)، قال : قولوا معاشر العباد : أرشدنا إلى حبّ محمّد وأهل بيته. (٣)

أقول : وكأنّه استفاده من قوله سبحانه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، (٤) وقوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً). (٥)

ومنها : ما في المعاني في قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)، عن عليّ ـ عليه‌السلام ـ : إنّ المغضوب عليهم هم اليهود الذين قال الله فيهم : (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) ، (٦) والضالّين هم النصارى الذين قال الله فيهم : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً) (٧). (٨)

__________________

(١). النساء (٤) : ٦٩.

(٢). الحديد (٥٧) : ١٩.

(٣). المناقب ٣ : ٧٣.

(٤). الشورى (٤٢) : ٢٣.

(٥). الفرقان (٢٥) : ٥٧.

(٦). المائدة (٥) : ٦٠.

(٧). المائدة (٥) : ٧٧.

(٨). لم نجده في معاني الأخبار ، ولكن روي نحوه في تفسير الإمام : ٥٠ ؛ وتأويل الآيات : ٣٢ ؛ وتفسير العيّاشي ١ : ٢٤ الحديث : ٢٧.

٦٧

أقول : وهو من الجري.

ومنها : ما في تفسير القمّي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : أنّ المغضوب عليهم النصّاب ، والضالّين هم أهل (١) الشكوك الذين لا يعرفون الإمام. (٢)

أقول : وهو أيضا من الجري.

ومنها : ما في العيون عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ قال : لقد سمعت (٣) رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يقول (٤) : قال الله عزوجل : قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي ، فنصفها لي ، ونصفها لعبدي. ولعبدي ما سأل ، إذا قال العبد : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الله جلّ جلاله : بدأ عبدي باسمي ، وحقّ عليّ أن أتمّم له اموره وابارك له في أحواله ، فإذا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال جلّ جلاله : حمدني عبدي وعلم أنّ النعم التي له من عندي وأنّ البلايا التي اندفعت (٥) عنه فبتطوّلي (٦) اشهدكم فإنّي اضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا ، وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الله جلّ جلاله : اشهدكم لأوفرنّ من نعمتي (٧) حظّه ، ولأجزلنّ من عطائي نصيبه ، فإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)، قال الله تعالى : اشهدكم كما اعترف بأنّي أنا المالك يوم الدين لأمتهلنّ (٨) يوم الحساب حسابه ،

__________________

(١). في المصدر : ـ «أهل»

(٢). تفسير القمّي ١ : ٢٩.

(٣). في المصدر : ـ «لقد سمعت»

(٤). في المصدر : ـ «يقول»

(٥). في المصدر : «دفعت»

(٦). في المصدر : «فبطولي»

(٧). في المصدر : «رحمتي»

(٨). في المصدر : «لاسهّلنّ»

٦٨

ولأتقبّلنّ حسناته ولأتجاوزنّ عن سيّئاته ، فإذا قال العبد : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)، قال الله عزوجل : صدق عبدي إيّاي يعبد ، اشهدكم لأثيبنّه على عبادته ثوابا يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي فإذا قال العبد : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، قال الله تعالى : بي استعان وإليّ التجأ ، اشهدكم لاعيننّه على أمره ولاغيثنّه في شدائده ، ولآخذنّ بيده يوم نوائبه ، فإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إلى آخر السورة ، قال الله عزوجل : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، فقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمّل وآمنته ممّا منه وجل. (١)

أقول : معناها ظاهر ممّا مرّ ، وقد روى الصدوق قريبا منه في العلل (٢) عن الرضا ـ عليه‌السلام ـ.

واعلم أنّ هذه السورة تسمّى بأسماء كثيرة ، منها : امّ الكتاب ، وفاتحة الكتاب ، وسورة الحمد ، والسبع المثاني. والأخبار تدلّ على أنّ هذه الأسماء كانت متداولة في زمن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ. وربما يستفاد من تسميتها بفاتحة الكتاب وجود تأليف مّا للقرآن في زمن النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ.

*

__________________

(١). عيون أخبار الرضا ـ عليه‌السلام ـ ١ : ٣٠٠ ـ ٣٠١ ، الحديث : ٥٩.

(٢). علل الشرائع : ٢٥٨ ـ ٢٥٩ ، الباب : ١٨٢ ، الحديث : ٩.

٦٩
٧٠

سورة البقرة

ـ ١ ـ

٧١
٧٢

[بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)]

قوله سبحانه : (الم)

سيأتي بعض ما يتعلّق من الكلام بالحروف المقطّعة ـ التي في أوائل السور ـ في أوّل سورة الشورى ، وكذلك الكلام في هداية القرآن فيها.

قوله سبحانه : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ)

المتّقون هم المؤمنون ، وليست التقوى من الأوصاف الخاصّة لطبقة من طبقاتهم ، ـ أعني لمرتبة من مراتب الإيمان ـ حتّى تكون مقاما من مقاماته ، كالإخبات والخلوص ، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الإيمان إذا تلبّس الإيمان بلباس التحقّق والصدق.

والذي أخذه سبحانه من الأوصاف المعرّفة للتقوى في هذه الآيات التسع

٧٣

عشرة ـ التي يبيّن فيها حال المؤمنين والكافرين والمنافقين ـ خمس صفات ؛ وهي : الإيمان بالغيب ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق ممّا رزقهم الله ، والإيمان بما أنزل الله على أنبيائه ، والإيقان بالآخرة.

وحيث عقّب سبحانه هذه الأوصاف بقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقابلها أيضا بما وصف به الكافرين والمنافقين ـ من الضلال والعمى الذاتي الذي لهم من أنفسهم ، والضلال العارضي الذي يمدّ سبحانه به ضلالهم الذاتي ـ فهذه الأوصاف تنشأ في المتّقين من اهتداءين في مقابل الضلالين في غيرهم ، وهما اهتداء ذاتي أوّل ، واهتداء ثان يلحق بالأوّل ، ويتمّ به كمالهم في الإيمان ، وهما : سلامة الفطرة في الإنسان وما يلحق بها ثانيا من خلعة الاهتداء من الله ـ سبحانه ـ :

فإنّ الفطرة إذا سلمت لم تنفكّ من أن تتنبّه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى أمر خارج ، وكذلك احتياج كلّ ما سواها ـ ممّا يقع عليه حسّ أو وهم أو عقل ـ إلى أمر خارج تقف دونه سلسلة الحوائج ، فهي شاهدة بوجود موجود غائب عن الحسّ ، منه يبدأ الجميع وإليه ينتهي ويعود ، وأنّه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة ، كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجون به من مهلكات الأعمال والأخلاق ، وهذا هو الإذعان بالتوحيد والمعاد والنبوّة ، وهي اصول الدين.

ويلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيّته ، واستعمال ما في وسع الإنسان ـ من مال وجاه وعلم ـ لإحياء هذا الأمر ونشره ، وهذان هما الصلاة والإنفاق.

ومن هنا يعلم : أنّ الذي أخذه سبحانه من أوصافهم ، هو الذي تقضي به الفطرة إذا سلمت ، وأنّه سبحانه وعدهم بأنّه سيفيض عليهم أمرا سمّاه هداية ؛ فهذه الأعمال الزاكية منهم متوسّطة بين أمرين : إهتداء ذاتي سابق ، واهتداء ثان

٧٤

لاحق ، وبين الهدايتين يقع صدق الاعتقاد وصلاح العمل.

والدليل على أنّ هذه الهداية من الله ـ سبحانه ـ فرع الاهتداء الذاتي الأوّل : آيات كثيرة ؛ كقوله سبحانه : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)، (١) وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) ، (٢) وقوله : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) ، (٣) وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، (٤) وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥) ... إلى غير ذلك.

والأمر في ضلال الكافرين والمنافقين كما في المؤمنين ، فعندهم ضلالان : أحدهما من عند أنفسهم ، والثاني من عند الله ـ سبحانه ـ ؛ خذلانا لهم وعقوبة لكفرهم ونفاقهم ؛ ففي هذه الآيات إشارة إلى حياة اخرى للإنسان مستبطنة كامنة تحت هذه الحياة الدنيويّة ، وهي الحياة التي بها يعيش الإنسان في هذه الدار وبعد الموت وحين البعث ، وسيأتي تتمّة الكلام فيه ـ إن شاء الله ـ

قوله سبحانه : (يُؤْمِنُونَ)

الإيمان تمكّن الاعتقاد في القلب ؛ مأخوذ من الأمن ، كأنّ المؤمن يعطي لما آمن به الأمن من الريب والشكّ ، وهو آفة الاعتقاد.

والإيمان ـ كما مرّ ـ معنى ذو مراتب ؛ إذ الإذعان ربّما يتعلّق بالشيء نفسه

__________________

(١). إبراهيم (١٤) : ٢٧.

(٢). الحديد (٥٧) : ٢٨.

(٣). محمّد (٤٧) : ٧.

(٤). البقرة (٢) : ٢٥٨.

(٥). المائدة (٥) : ١٠٨.

٧٥

فيترتّب عليه أثره فقط ، وربّما يشتدّ بعض الاشتداد فيتعلّق ببعض لوازمه ، وربّما يتعلّق بجميع لوازمه ، فيستنتج منه أنّ للمؤمنين طبقات على حسب مراتب الإيمان.

قوله سبحانه : (بِالْغَيْبِ)

قد عرفت معنى الإيمان بالغيب على ما يستفاد من السياق.

وفي المعاني عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قال : «من آمن (١) بقيام القائم أنّه حقّ». (٢)

وفيه عن يحيى بن أبي القاسم قال : «سألت الصادق ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله ـ عزوجل ـ : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) فقال : المتّقون شيعة عليّ ـ عليه‌السلام ـ والغيب هو الحجّة الغائب ، وشاهد ذلك قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ). (٣) (٤)

أقول : والحديثان من باب الجري. وسيأتي الكلام في تمام معنى الغيب في قوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ). (٥)

قوله سبحانه : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)

قد عرفت معنى الإنفاق على ما يستفاد من السياق ، وأنّه لا يختصّ بالمال ؛

__________________

(١). في المصدر : «من أقر»

(٢). كمال الدين ١ : ١٧.

(٣). يونس (١٠) : ٢٠.

(٤). كمال الدين ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٢ ، الحديث : ٢٠.

(٥). الأنعام (٦) : ٥٩.

٧٦

وإطلاق الرزق على غير المال ـ من سائر الكرامات ـ كثير في القرآن.

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : «وممّا علّمناهم يبثّون». (١) (٢)

وفي المعاني عنه ـ عليه‌السلام ـ : «وممّا علّمناهم يبثّون ، (٣) ومما علّمناهم من القرآن يتلون». (٤)

قوله سبحانه : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)

العدول ـ في خصوص الإذعان بالآخرة ـ عن الإيمان إلى اليقين ، كأنّه للإيماء إلى أنّ التقوى لا تتمّ إلّا مع اليقين بالآخرة ـ الذي لا يجامع نسيانها ـ دون الإيمان المجرّد ؛ فإنّ الإنسان ربّما يؤمن بشيء ويذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه ، لكنّه إذا كان على ذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير واليسير من أعماله ، لا يقتحم معه الموبقات ، ولا يحوم حول محارم الله البتّة.

قال سبحانه : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٥) فبيّن أنّ الضلال عن سبيل الله إنّما هو بنسيان يوم الحساب ، فذكره واليقين به ينتج التقوى.

__________________

(١). في المصدر : «ينبئون»

(٢). تفسير العيّاشي ١ : ٢٥ ، الحديث : ١.

(٣). في المصدر : «ينبئون»

(٤). معاني الأخبار : ٢٣ ، الحديث : ٢.

(٥). ص (٣٨) : ٢٦.

٧٧

[أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)]

٧٨

قوله سبحانه : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

بيّن سبحانه أوّلا أنّ الكتاب هدى للمتّقين ، ثمّ ظهر من السياق أنّ لهم اهتداءا فطريّا إجماليّا ، يتعقّبه اهتداء تفصيليّ إلهيّ ، وهو الذي يحصل لهم ـ ببيانه سبحانه لهم وجوه خيرهم من شرّهم ، بواسطة كتابه المبيّن ـ فيه صلاح معاشهم ومعادهم.

فظهر أنّ لهم الاهتداء بسلامة فطرتهم ، والاهتداء كرامة من ربّهم ، وكان الجميع منه سبحانه ؛ إذ كلّ حسنة فمن الله ، فجمع بين الهدايتين ، فقال : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) وقد قال سبحانه : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (١) فذكر أنّ الهداية بانشراح الصدر وسعته ، وقال : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢) والشحّ : الضيقّ والبخل ؛ فتمّ بذلك أنّ هؤلاء أصحاب الفلاح ، فقال : (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...)

هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر ، وتمكّن في قلوبهم ؛ ويدلّ عليه قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ...) والإتيان بالماضى المجرّد من «قد».

ويشعر تغيير السياق في قوله سبحانه : (خَتَمَ اللهُ ...) ـ حيث نسب الختم إلى نفسه ، والغشاوة إليهم أنفسهم ـ بأنّ فيهم حجابا دون الحقّ في ذاتهم وأنفسهم ، وحجابا من الله عقيب كفرهم وفسوقهم ؛ فأعمالهم متوسّطة بين حجابين : من ذاتهم ومن الله تعالى ؛ وسيجيء تمام الكلام في قوله تعالى :

__________________

(١). الأنعام (٦) : ١٢٥.

(٢). الحشر (٥٩) : ٩.

٧٩

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ...) (١) الآية.

واعلم : أنّ أصل الكفر هو الستر ؛ كأنّ الكافر يستر على الحقّ ، فهو إذن ذو مراتب ، ولذلك كان بعض مراتبه يجتمع مع بعض مراتب الإيمان ؛ وفي كلامه تعالى من ذلك آيات كثيرة.

وفي الكافي عن الزبيريّ عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «قلت له : أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله ـ عزوجل ـ قال : الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه : فمنها كفر الجحود ، والجحود على وجهين ، والكفر بترك ما أمر الله ، وكفر البراءة ، وكفر النعم.

فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة ، وهو قول من يقول : لا ربّ ولا جنّة ولا نار ، وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهريّة ، وهم الذين يقولون : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (٢) وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم ، ولا تحقيق لشيء ممّا يقولون ؛ قال الله ـ عزوجل ـ : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٣) أنّ ذلك كما يقولون ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يعني بتوحيد الله ، فهذا أحد وجوه الكفر.

وأمّا الوجه الآخر فهو الجحود على معرفة ، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده ؛ وقد قال الله ـ عزوجل ـ : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٤) وقال الله ـ عزوجل ـ : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ

__________________

(١). البقرة (٢) : ٢٦.

(٢). الجاثية (٤٥) : ٢٤.

(٣). البقرة (٢) : ٧٨.

(٤). النمل (٢٧) : ١٤.

٨٠