تفسير البيان - ج ١

السيّد محمّد حسين الطباطبائي

تفسير البيان - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد حسين الطباطبائي


المحقق: أصغر إرادتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٨

فَيَكُونُ) (١) وقال سبحانه : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ). (٢)

وقد روى في الكافي والبصائر عن سدير الصيرفي ، قال : «سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر ـ عليه‌السلام ـ عن قول الله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال أبو جعفر ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الله ـ عزوجل ـ ابتدع الأشياء كلّها بعلمه على غير مثال كان قبله ، فابتدع السماوات والأرضين ولم يكن قبلهنّ سماوات ولا أرضون ، أما تسمع لقوله : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ)؟!» (٣). (٤)

قوله سبحانه : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ ...)

القائلون من أهل الكتاب ، ولمّا لم يعتبروا في قولهم هذا أوّلا (٥) أنّ الكرامة الإلهيّة ـ كالتكليم وإيتاء الآية ـ لا تكون من غير صلاحيّة واستحقاق ، والظالم لنفسه الفاسق في عمله لا يصلح ولا يستحقّ لها ، له ، وأنّ الهداية لا تنحصر في أحد الأمرين ، فلم يعتمدوا في قولهم على أساس صحيح ، فلذلك لم يصفهم بأهل الكتاب ، ولم يسمّهم به ، بل سمّاهم بالذين لا يعلمون ، ثمّ في الآية الثانية بأصحاب الجحيم ، ثمّ وصفهم في الآية الثالثة بأنّ ملّتهم الأهواء وما لهم من الله من وليّ ولا نصير ، ثمّ في الآية الرابعة بالخاسرين ، وبذلك يظهر ما بين هذه الأوصاف من الربط والأتّحاد ، فافهم.

وأشار إلى الجواب عن قولهم ، بقوله : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)

__________________

(١). يس (٣٦) : ٨٢.

(٢). القمر (٥٤) : ٥٠.

(٣). هود (١١) : ٧.

(٤). الكافي ١ : ٢٥٦ ، الحديث : ٢ ؛ بصائر الدرجات : ١١٣ ، الحديث : ١.

(٥). لا يوجد في العبارة عدل ظاهر لها.

١٨١

وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ...)، فبيّن أنّ المقصود بالإرسال والإنزال والهداية بيان الآيات ، وقد بيّن لقوم يوقنون ، وليس بالمبتذل ذلك الابتذال حتّى يناله كلّ متهوّس مجازف ، وليس كلّ من تسمّى بأهل الكتاب أهلا للكتاب ، بل أهل الكتاب هم التالون له المؤمنون به ، وأمّا الكافرون به فهم الأهل لأن يسمّوا بالخاسرين ، لا بأهل الكتاب ، هذا.

وفي الإرشاد للديلمي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال : «يرتّلون آياته ، ويتفقّهون به ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ، ويخافون وعيده ، ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، وينتهون بنواهيه ، ما هو ـ والله ، حفظ آياته ، ودرس حروفه ، وتلاوة سوره ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، وإنّما هو تدبّر آياته والعمل بأحكامه ؛ قال الله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ)» (١). (٢)

وفي تفسير العيّاشي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ في قول الله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال : «الوقوف عند الجنّة والنار». (٣)

وفيه وفي الكافي عنه ـ عليه‌السلام ـ في الآية ، قال : هم «الأئمّة». (٤)

أقول : أصل الآية في مورد اليهود والنصارى ، لكنّها شاملة لكلّ من اوتي كتابا وقام به حقّ القيام على مراتبه ، فما في الأخبار من باب الجري.

*

__________________

(١). ص (٣٨) : ٢٩.

(٢). إرشاد القلوب ١ : ٢٧٨.

(٣). تفسير العيّاشي ١ : ٥٧ ، الحديث : ٨٤.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٥٧ ، الحديث : ٨٣ ؛ الكافي ١ : ٢١٥ ، الحديث : ٤.

١٨٢

[وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)]

قوله سبحانه : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ...)

الابتلاء والبلاء بمعنى واحد ؛ وهو الاختبار والامتحان ، تقول : ابتليته وبلوته بكذا : إذا قدّمت إليه أمرا أو أوقعته في حدث فأختبرته ، ولا يكون الاختبار إلّا لوصف ، كما سيجيء بيانه.

ولا يكون الابتلاء ـ مع ذلك ـ إلّا في العمل دون القول فقط ، بخلاف الاختبار ، قال سبحانه : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (١) وقال : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) (٢) فتعلّق الابتلاء هاهنا بالكلمات ـ لو كان المراد بها الكلمات المؤلّفة من الأصوات ـ لعلّه بملاحظة كونها حاكية عن المعنى والعمل كقوله سبحانه : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (٣) أي عاملوهم معاملة حسنة.

__________________

(١). الصافّات (٣٧) : ١٠٦.

(٢). القلم (٦٨) : ١٧.

(٣). البقرة (٢) : ٨٣.

١٨٣

غير أنّه سبحانه ربّما أطلق في كلامه الكلمة ـ بل القول ـ على غير اللفظ من الأعيان الخارجيّة ، كقوله : (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) (١) وقوله : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى). (٢)

ومن هذا الباب قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣) حيث بيّن بوجه عامّ أنّ أمره إذا أراد شيئا ـ وهو خالق كلّ شيء ـ هو قول : (كُنْ) أي إفاضة الموجود ؛ أي وجود نفس الشيء.

فيشبه أن يكون المراد بالكلمات هاهنا ما هو من قبيل الأعيان الخارجيّة والامور الوجوديّة ، كما يفيده تعلّق الابتلاء بها ، وسيجيء له زيادة توضيح.

على أنّ قوله سبحانه : (فَأَتَمَّهُنَ) أيضا يشهد بذلك.

توضيحه : أنّ الإمتحان ـ كما سمعت ـ إنّما يكون لوصف ؛ بمعنى أنّ المجهول أو المخفيّ ـ الذي يراد بالامتحان العلم به أو ظهوره ـ إنّما يكون وصفا من أوصاف الممتحن بصيغة المفعول ، لا مجرّد الفعل الصادر منه ؛ إذ الفعل الصادر ـ من حيث يجهل هل يصدر أو لا؟ ـ لا يكون مخفيّا ، بل موجودا أو معدوما ، وإنّما يتعلّق العلم والجهل أو الصدور والخفاء في أمر ثابت يتوارد عليه الحالات.

ولذلك أيضا لا يتّصف هذا المعنى بالزيادة والنقصان ، بل بالوجود والعدم ، وكذلك نفس ما به الإمتحان ، وخاصّة في الإبتلاء الذي إنّما يكون عمليّا كما سمعت ، وأمرا مرتبطا بالمبتلي والمبتلى معا.

فتفسير الإتمام في المقام بالعمل والإتيان في غير محلّه ، ولو صحّ فإنّما يصحّ

__________________

(١). آل عمران (٣) : ٤٥.

(٢). الفتح (٤٨) : ٢٦.

(٣). يس (٣٦) : ٨٢.

١٨٤

في موارد يصحّ أن يتّصف الفعل بالزيادة والنقيصة ، وأمّا نحو الأوصاف التي يراد بالابتلاء الاستعلام ، أو إظهار وجودها وعدمها ـ ونحو الامتحانات العمليّة ، مثل المرض والفقر والقتل ونحوها ، المرتبطة بالمبتلي والمبتلى معا ـ فلا يتمّ إلّا إذا وقع هناك قدر زائد على نفس الابتلاء يتمّها المبتلى بصيغة المفعول ، غير مربوط بالابتلاء ، أو قدر زائد على الوصف يتّمها المبتلى بصيغة المفعول ، زيادة على ما اريد منه ، كمن يبتلى ليعلم هل يقوى على حمل منّ فبدا قويّا على حمل عشرة.

ومن هنا يظهر : أنّ الكلمات المذكورة امور خارجيّة ، لها ارتباط بإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ نحوا من ارتباط الوصف بموصوفه ، وأنّ المبتلى به والمبتلى لأجله هاهنا شيء واحد.

هذا إذا كان ضمير (فَأَتَمَّهُنَ) راجعا إلى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وأمّا إذا كان راجعا إليه سبحانه فالإتمام بمعنى الإيجاد.

توضيح ذلك : أنّ الكلمة ـ كما عرفت ـ ربّما استعملت في الامور العينيّة من غير نوع اللفظ ، وهو استعمال شائع في الإرادة البتّية ، تقول : «لأفعلنّ كذا وكذا» ، لقول قلته وكلمة قدّمتها ، ولم تقل قولا ولا قدّمت كلمة ، وإنّما عزمت عزيمة لا ترجع عنها ، وأبرمت إبراما لا تنقضه بشفاعة شفيع أو وهن إرادة البتة.

على أنّ الكلمة حيثما ما نسبت إليه سبحانه في القرآن اريد بها غير اللفظ ؛ كقوله سبحانه : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) ، (١) وقوله : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) ، (٢) وقوله : (وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) ، (٣) وقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٣٤.

(٢). يونس (١٠) : ٦٤.

(٣). الشورى (٤٢) : ٢٤.

١٨٥

لِكَلِماتِهِ) ، (١) وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) ، (٢) وقوله : (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) ، (٣) وقوله : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) ، (٤) وقوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ، (٥) وقوله : (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) ، (٦) وقوله : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) ، (٧) وقوله أيضا : (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُول). (٨) ... إلى غير ذلك من الآيات.

وظاهر الجميع : أنّ كلمته سبحانه لا تقبل التغيير بوجه ، وقد قال سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٩) فكلمته هي المحفوظة في امّ الكتاب واللوح المحفوظ ، وقد قال أيضا : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، (١٠) فبيّن أنّ قضاءه قوله ، فكلمته قضاؤه ، ومن المعلوم أن لا لفظ في مرحلة الإيجاد غير ما في الخارج من وجود ما قضي ، والشيء إذا وقع لم يتغيّر ، فكلمته هي الوجود الخّارجي ، وهو المراد.

لكن ليعلم : أنّ الوجود الخارجيّ ، ربّما اشتمل على نقص وعيب ، لا يليق أن

__________________

(١). الأنعام (٦) : ١١٥.

(٢). يونس (١٠) : ٩٦.

(٣). الزمر (٣٩) : ٧١.

(٤). غافر (٤٠) : ٦.

(٥). الشورى (٤٢) : ١٤.

(٦). آل عمران (٣) : ٤٥.

(٧). التوبة (٩) : ٤٠.

(٨). ص (٣٨) : ٨٤.

(٩). الرعد (١٣) : ٣٩.

(١٠). البقرة (٢) : ١١٧.

١٨٦

ينسب إلى جناب العزّة وعتبة القدس ، كما نسب الحسنات إلى نفسه والسيّئات إلى غيره ، فقال تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ، (١) وقال : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ، (٢) وقال : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٣) وقد أفاد بهذه الآيات الثلاث أنّ السيّئات امور عدميّة ونسب إضافات ، كما سنوضّحها في محلّها إن شاء الله تعالى.

وبالجملة : لا ينسب إليه شيء ممّا يشتمل على منقصة وشين ، سبحانه عن ذلك ؛ فلذلك لم يطلق لفظ الكلمة على شيء من ذلك ، على أنّه نصّ سبحانه على أنّ كلمته حقّ وصدق وعدل ، فلا يشوبه باطل وكذب وظلم ، فلا يكون إلّا وجودا طاهرّا مطهّرا.

وقال أيضا : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) ، (٤) فعدّ «إيراثهم الأرض» كلمته الحسنى عليهم.

ويستفاد منها : أنّ تمام تلك الكلمة وقوعها بعد قضائها ، وإنّما الفرق بين الكلمة وتمامها بالاعتبار واختلاف النسبة ، حيث تنسب الكلمة إليه سبحانه ، والتمام إلى الكلمة ، فهما الإيجاد والوجود ، ومرتبتا «كن ويكون» في قوله : (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (٥)

__________________

(١). النساء (٤) : ٧٩.

(٢). السجدة (٣٢) : ٧.

(٣). الزمر (٣٩) : ٦٢.

(٤). الأعراف (٧) : ١٣٧.

(٥). يس (٣٦) : ٨٢.

١٨٧

ومثل الآية السابقة قوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١) وقوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) (٢) والآية كما ترى تجعل النبيّ وبعثته من كلمات الله ، وهو كذلك ؛ فإنّ القرآن ينصّ على كون وجود النبيّ طاهرا مطهّرا ، كما مرّ وسيجيء ، وقد عرفت أنّ الوجود ـ الذي هو كذلك ـ كلمة من كلمات الله تعالى.

ومن جميع ما مرّ بان : أنّ الأنسب رجوع الضمير في (فَأَتَمَّهُنَ) إليه سبحانه ، ولو رجع إلى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فبعناية لا تنافي ما ذكرنا.

وبالجملة : فهذه الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ امور وجوديّة مربوطة به ـ عليه‌السلام ـ هو صاحبها ، وهي وجودات طاهرة مطهّرة من أمر الله سبحانه من الملكوت ، كما يشير إليه قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (٣) فإبراهيم كان صاحبا لامور ملكوتيّة ، إذ المقام لبيان جمعه مقدّمات الإمامة ، هذا.

وقوله سبحانه : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)

لو كانت حقيقة الإمامة هي مجرّد بيان معارف المبدأ والمعاد ومسائل الحلال والحرام ، وبيان ما يضرّ الناس وما ينفعهم في الدنيا والآخرة ، كان كلّ رسول إماما ، وقد قال سبحانه : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) (٤) وقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ

__________________

(١). هود (١١) : ١١٩.

(٢). الأنعام (٦) : ١١٤ ـ ١١٥.

(٣). يس (٣٦) : ٨٢ ـ ٨٣.

(٤). النور (٢٤) : ٥٤.

١٨٨

رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (١) بل كلّ مؤمن متفقّه إماما ، كما قال : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (٢) وسيجيء أنّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان نبيّا ورسولا وخليلا ومن اولي العزم صاحب كتاب وشريعة قبل أن يكون إماما.

فمن الواضح حينئذ انّ حقيقة الإمامة غير حقيقة النبوّة والرسالة ، وغير الهداية العامّة ببيان المعارف والمسائل ، لكنّا نجده سبحانه كلّما تعرّض لمعنى الإمامة ، تعرّض للهداية تعرّض التفسير ، قال سبحانه : (وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ* وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (٣) وقال سبحانه : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (٤) فوصفها بالهداية وقيّدها بالأمر ، وقد عرفت معنى أمره ، والإمام هو الذي يقتدى به.

فالإمام يهدي بأمر ملكوتيّ يصاحبه ، فالإمامة نحو ولاية للناس في أعمالهم وهدايته أيصاله إيّاهم إلى المطلوب ، دون مجرّد إراءة الطريق الذي هو شأن النبيّ والرسول ، وكلّ مؤمن يهدي إلى الله سبحانه.

ثمّ إنّه سبحانه بيّن سبب إفاضة الإمامة بقوله : (لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (٥) فأبان أنّ الملاك في ذلك صبرهم وكونهم قبل ذلك موقنين ، وذكر سبحانه في قصص إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فقال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ

__________________

(١). النساء (٤) : ٦٤.

(٢). التوبة (٩) : ١٢٢.

(٣). الأنبياء (٢١) : ٧٢ ـ ٧٣.

(٤). السجدة (٣٢) : ٢٤.

(٥). السجدة (٣٢) : ٢٤.

١٨٩

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (١) والآية ـ كما ترى ـ تعطي بظاهرها أنّ اراءة الملكوت له ـ عليه‌السلام ـ ، كانت مقدّمة لإفاضة اليقين عليه ، ويتبيّن به أنّ اليقين يوجب مشاهدة الملكوت ، كما يظهر من قوله سبحانه أيضا : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) ، (٢) وقوله : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٣) فالإمام يجب أن يكون رجلا ذا يقين مكشوفا له عالم الملكوت ، متحقّقا بكلمات من الله سبحانه.

وقد ظهر من قوله سبحانه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٤) وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥) أنّ هذه الموجودات التدريجيّة الوجود ـ التي عندنا ـ لوجود كلّ واحد منها وجهان : وجه أمريّ غير تدريجيّ ووجه خلقيّ تدريجيّ ، وله الخلق والأمر ، والإمام هاد بأمره سبحانه ، فكلّ ما يتعلّق به أمر الهداية ، فللإمام وجهه الأمريّ وباطنه وحقيقته ، فللإمام أمر الهداية ، فافهم.

ووجها «الأمر والخلق» وإن كانا وجهين مختلفين حقيقة ، إلّا أنّ الشيء ليس له إلّا وجود واحد في الخارج ، فهذا الوجود الواحد ذو وجهين ، وأحد وجهيه ـ وهو الخلق ـ تابع لوجهه الآخر ؛ وهو الأمر الذي لله سبحانه.

والأعمال كسائر الأشياء في وجهيها ، فالإمام هو الذي يلحق به ويحضر عنده أعمال العباد خيرها وشرّها ، وهو المهيمن على السبيلين جميعا : سبيل

__________________

(١). الأنعام (٦) : ٧٥.

(٢). التكاثر (١٠٢) : ٥ ـ ٦.

(٣). المطففين (٨٣) : ١٨ ـ ٢١.

(٤). الرعد (١٣) : ١٦.

(٥). يس (٣٦) : ٨٢.

١٩٠

السعادة وسبيل الشقاوة ، وقال تعالى أيضا : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (١) : وسيجيء تفسيره بالإمام الحقّ ، دون كتاب الأعمال ، فالإمام هو الذي يسوق الناس إلى الله تعالى في ظاهر هذه الدنيا وباطنها ويوم تبلى السرائر.

والآية تفيد ـ مع ذلك ـ أنّ الإمام الحقّ لا يخلو عنه عصر من الأعصار وزمان من الأزمنة ، حيث عبّر «باناس» وأضاف الإمام إليهم ، هذا.

ثمّ إنّ هذا المعنى ـ على عظمته وشرافته لا يقوم إلّا بمن كان سعيد الذات بنفسه إذ الذي ربّما تلبّس ذاته بالظلم والشقاء ، فإنّما سعادته بهداية من غيره ، وقد قال سبحانه : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) (٢) والآية تقابل بين الهادي إلى الحقّ وغير المهتدي إلّا بغيره ، فالهادي إلى الحقّ يجب أن يكون مهتديا بذاته ، والمهتدي بغيره لا يكون هاديا إلى الحقّ البتّة ، فافهم.

ومن هنا يتّضح أنّ المراد بالظالمين في قوله : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) مطلق من صدر عنه ظلم ما ـ من شرك أو معصية ـ وإن كان في برهة من عمره ثمّ تاب وصلح.

وقد سئل بعض أساتيذنا ـ رضي الله عنه ـ عن تقريب دلالة الآية على عصمة الإمام ، فقال : إنّ الناس ـ بحسب القسمة العقليّة ـ أربعة أقسام : من كان ظالما في جميع عمره ، ومن ليس بظالم في جميع عمره ، ومن هو ظالم في أوّل عمره دون آخره ، وبالعكس ؛ وإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أجلّ شأنا من أن يسأل الإمامة لمن كان من ذريّته من القسم الأوّل أو الثالث ، فبقي قسمان ، وقد نفى الله سبحانه

__________________

(١). الإسراء (١٧) : ٧١.

(٢). يونس (١٠) : ٣٥.

١٩١

أحدهما ، فبقي الآخر وهو الذي ليس بظالم في جميع عمره ، انتهى.

وقد ظهر مما قدّمناه معنى الإمامة.

وتبيّن من مطاوي الكلام :

أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما.

وأنّ الأرض ـ وفيها الناس ـ لا تخلو عن إمام حقّ.

وأنّ الإمام يجب أن يكون مؤيّدا من عند الله سبحانه.

وأنّ أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام ـ عليه‌السلام ـ.

وأنّ نسبته إليهم كنسبة النفس إلى البدن ، على نحو يليق بجنابه.

وأنّ الصالحين من كلّ أمّة وأعمالهم الصالحة ، ملحقة به.

وأنّه يجب أن يكون عالما بجميع ما يحتاج إليه الناس ؛ من مصالح معاشهم ومعادهم.

وأنّه يستحيل أن يكون فيهم من يفوقه في فضائل النفس.

وأنّ صراط السعادة كما يقتضي الإمام ، كذلك يقتضيه صراط الشقاوة.

وأنّ إمامين لا يجتمعان في زمان واحد بالنسبة إلى أشخاص بعينهم. ولو كان فأحدهما صامت.

فهذه عشرة مسائل ، هي امّهات مسائل الإمامة ، والله الهادي.

وإلى ما ذكرنا يرجع معنى ما ورد من الروايات في المقام :

ففي المعاني عن المفضّل بن عمر عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ ، قال : «سألته عن قول الله عزوجل : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) ما هذه الكلمات؟ قال : هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه ، فتاب عليه ، وهو أنّه قال : أسألك بحقّ محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت عليّ ، فتاب الله

١٩٢

عليه ، إنّه هو التوّاب الرحيم.

فقلت له : يابن رسول الله! فما يعني بقوله : (فَأَتَمَّهُنَّ)؟ قال : يعني أتمّهن إلى القائم إثنى عشر إماما ، تسعة من ولد الحسين.

قال المفضّل : فقلت له : يابن رسول الله! فأخبرني عن قول الله عزوجل (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) ، (١) قال : يعني بذلك الإمامة ، جعلها في عقب الحسين إلى يوم القيامة.

قال : فقلت له : فكيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن ، وهما جميعا ولدا رسول الله ، وسبطا رسول الله ، وسيّدا شباب أهل الجنّة؟ فقال : إنّ موسى وهارون كانا نبيّين مرسلين أخوين ، فجعل الله النبوّة في صلب هارون دون صلب موسى ، ولم يكن لأحد أن يقول : لم فعل الله ذلك وإنّ الإمامة خلافة الله ـ عزوجل ـ ، ليس لأحد أن يقول : لم جعلها في صلب الحسين دون صلب الحسن ؛ لأنّ الله هو الحكيم في أفعاله ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ...» (٢) الحديث.

وفي تفسير العيّاشي بأسانيد عن صفوان الجمّال ، قال : «كنّا بمكّة ، فجرى الحديث في قول الله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) قال : أتمّهنّ بمحمّد وعليّ والأئمّة من ولد عليّ ، في قول الله : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ...)» ، (٣) الحديث. (٤)

__________________

(١). الزخرف (٤٣) : ٢٨.

(٢). معاني الأخبار : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، الحديث : ١.

(٣). آل عمران (٣) : ٣٤.

(٤). تفسير العيّاشي ١ : ٥٧ ، الحديث : ٨٨.

١٩٣

أقول : قوله في الحديث : «هي الكلمات التي تلقّاها آدم ...» إلى آخره ، قد مرّ من البيان في قوله سبحانه : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ...) ، (١) ما يتّضح به هذا الكلام ، فالكلمات التي ابتلي بها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إن كانت صفات طاهرة وأخلاقا فاضلة ، فإنّما وجود هذه الكلمات من كلمات تامّة اخرى في خزائن الغيب عند الله هي المبتلى بها حقيقة ، وإن كانت نفس تلك الكلمات فهي ذلك أيضا.

غير أنّ التقدير الأوّل أوفق برواية العيّاشي ، فيعود المعنى إلى أنّه عليه‌السلام ابتلي بصفات فاضلة إلهيّة ، فأتمّهنّ بمفاتيح تلك الصفات من الغيب.

والتقدير الثاني أوفق برواية الصدوق ، فيعود المعنى إلى أنّه عليه‌السلام ابتلى ببعض مفاتيح الغيب فأتمّه ببعض آخر ، والوجهان ـ مع ذلك ـ مآلهما واحد ، على ما يعطيه التأمّل التامّ.

وقوله : «قلت : فأخبرني عن قول الله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (٢)» الآية في حقّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، وما قبلها : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ* وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣) الآيات ؛ والضمير في قوله : (وَجَعَلَها) راجع إلى الهداية التي يتضمنها قوله : (سَيَهْدِينِ) دون البراءة التي يتضمّنها قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ) ويشهد به قوله : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) على ما سيأتي من البيان ، وقوله : (سَيَهْدِينِ) سياقه مشعر بأنّ هذه الهداية غير ما يشتمل عليه قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا

__________________

(١). البقرة (٢) : ٣١.

(٢). الزخرف (٤٣) : ٢٨.

(٣). الزخرف (٤٣) : ٢٦ ـ ٢٨.

١٩٤

الَّذِي فَطَرَنِي) وهذا اهتداء ذاتيّ غير متعلّق بهاد غير الله سبحانه.

وقد عرفت سابقا من قوله : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) ، (١) أنّ المقابلة فيها تعطي : أنّ غير الهادي إلى الحقّ غير مهتد بنفسه ، بل مهديّ بغيره ، فمن لم يكن مهديّا بالغير ـ بل مهتديا بالذات ـ فهو هاد إلى الحقّ ، فهذه الهداية هي التي نسمّيها بالإمامة ، وهي الهداية بأمر الله ، وهي التي يشرّف بها عدّة من أنبيائه ، إذ يقول سبحانه وتعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٢) الآيات ، فسياقها ـ كما ترى ـ يعطي أنّ هذه الهداية معنى ليس من شأنه أن يتغيّر ويتخلّف ، وأنّ هذه الهداية بعد رسول الله لن ترتفع عن أمّته ، بل عن ذرّيّة إبراهيم منهم خاصّة ، كما قال : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ). (٣)

فإن قلت : قد ذكر سبحانه فيهم موسى وهارون ، وهما أهل عصر واحد ، ولا معنى لإمامين مقتديين في عصر واحد ، وكذلك زكريّا ويحيى وعيسى ، وكذلك

__________________

(١). يونس (١٠) : ٣٥.

(٢). الأنعام (٦) : ٨٤ ـ ٩٠.

(٣). الزخرف (٤٣) : ٢٨.

١٩٥

داود وسليمان ، وقد مرّ أنّ العصر الواحد لا يكون فيه إلّا إمام واحد.

قلت : إنّما يلغو ذلك إذا كانت الجهة واحدة ، وأمّا مع اختلافها ـ كأن يكون كلّ من الإمامين إماما لامّة على حدة ، أو يكون هنالك جهتان يسوق كلّ منهما إلى جهة خاصّة ـ فلا محذور ، كما يستفاد من دعاء موسى ، على ما يحكيه تعالى إذ يقول : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (١) ويقول : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ* وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) (٢) والكلام في غيرهما قريب ممّا فيهما.

فإن قلت : لو كان كما ذكرت كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مقتديا بمن سبقه من الأئمّة ، وهم أئمّته ؛ إذ يقول تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ). (٣)

قلت : إنّه تعالى لم يقل : فبهم اقتده ، وإنّما قال : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وقد قال قبله : (ذلِكَ هُدَى اللهِ). (٤)

فإن قلت : هب ، أنّ الهداية الذاتيّة ثبتت بهذه الآيات ، لكنّ الإمامة ـ على ما مرّت ـ هي حقيقة الهداية ، وسوق الناس بحسب الحقيقة إلى الله سبحانه ، دون الهداية الظاهريّة فقط ، فكيف يمكن إثباتها؟

قلت : الاهتداء الذاتي الظاهري لو تمّ بغير الحقيقة ـ بالمعنى الذي عرفت ـ كان المتّصف به مسوقا بسوق غيره ، فكان مقتديا بحسب الحقيقة ، فلا ينفعه اهتداؤه الذاتي ، فهو خلف ، وقد مرّ ما ينفع في هذا المقام في قوله : (اهْدِنَا

__________________

(١). طه (٢٠) : ٢٩ ـ ٣٢.

(٢). الشعراء (٢٦) : ١٢ ـ ١٣.

(٣). الأنعام (٦) : ٩٠.

(٤). الأنعام (٦) : ٩٠.

١٩٦

الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). (١)

فإن قلت : الهداية من الله ، وقد أثبت وقرّر في كلامه ، هدايته لجميع المهتدين ؛ أعمّ ممّا سمّيته هداية بالذات أو بالغير ، فمجرّد نسبة هدايته لجمع من عباده ـ كعدّة من الأنبياء كما في الآيات المزبورة ـ لا يستلزم ثبوت الإمامة.

قلت : نعم ، ولكنّه سبحانه ـ مع ذلك ـ نسب هداية بعض ممّن هداه إلى بعض آخر من عباده ، كقوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (٢) وقوله : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣) وهناك بعض آخر لم ينسب هدايتهم إلّا إلى نفسه سبحانه ، كبعض الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ، فعلمنا بذلك أنّ بين الهدايتين فرقا ، وكذا بين الطائفتين من المهتدين ، على أنّه تعالى أضاف إلى ذلك أوصافا أوجبت تميّز الهدايتين ، مثل عدم التغيّر والتخلّف والعصمة وغير ذلك ، كما يعطيه سياق الآيات ، وفيها قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (٤) فإنّ ظاهرها أنّ هدايتهم نوع خاصّ من الهداية لا ترتفع عن موردها ، وهو تعالى حافظها أن تزول عمّا بين الناس ، كما يشير إليه قوله : (فَقَدْ وَكَّلْنا).

ولنرجع إلى بدء الكلام : فقوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (٥) يدلّ على بقاء الإمامة ـ التي هي الهداية ـ في عقب إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ، فقوله عليه‌السلام في الرواية : «يعني بذلك الإمامة جعلها في عقب الحسين إلى يوم

__________________

(١). الفاتحة (١) : ٦.

(٢). الأنبياء (٢١) : ٧٣.

(٣). الشورى (٤٢) : ٥٢.

(٤). الأنعام (٦) : ٨٩.

(٥). الزخرف (٤٣) : ٢٨.

١٩٧

القيامة» (١) معناه : أنّه تعالى يعني بالكلمة هذه الإمامة التي جعلها في عقب الحسين ـ عليه‌السلام ـ ، وليس المراد به إرجاع ضمير «في عقبه» إلى الحسين ـ عليه‌السلام ـ من غير سبق كلاميّ أو مقاميّ ، هذا.

وفي الكافي عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ : إنّ الله ـ عزوجل ـ اتّخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيا ، وإنّ الله اتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا ، وإنّ الله اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه (٢) خليلا ، وإنّ الله اتّخذه خليلا قبل أن يتّخذه إماما ، فلمّا جمع له الأشياء قال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)، قال : فمن عظمها في عين إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) قال : لا يكون السفيه إمام التقيّ». (٣)

أقول : وروى هذا المعنى بطريق آخر عنه ـ عليه‌السلام ـ أيضا (٤) وبطريق آخر عن الباقر (٥) ـ عليه‌السلام ـ ورواه المفيد أيضا عن الصادق (٦) ـ عليه‌السلام ـ.

قوله : «إنّ الله اتّخذه عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا» ، يستفاد ذلك من قوله تعالى في سورة الأنبياء : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) ـ إلى قوله : ـ (مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٧) وهو اتّخاذ للعبوديّة.

وقوله : «اتّخذه نبيّا قبل أن يتّخذه رسولا» يستفاد ذلك من قوله في سورة

__________________

(١). معاني الأخبار : ١٢٦ ـ ١٢٧ ، الحديث : ١.

(٢). في المصدر : «أن يجعله»

(٣). الكافي ١ : ١٧٦ ، الحديث : ٢.

(٤). الكافي ١ : ١٧٥ ـ ١٧٦ ، الحديث : ١.

(٥). الكافي ١ : ١٧٦ ، الحديث : ٤.

(٦). الاختصاص : ٢٢.

(٧). الأنبياء (٢١) : ٥٦.

١٩٨

طه : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (١) وهو أوّل أمر إبراهيم لموضع قوله : (إِذْ قالَ).

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «اتّخذه رسولا قبل أن يتّخذه خليلا» ، يستفاد ذلك من آيات كثيرة ، غير أن الرسالة لمّا كانت أخصّ من النبوّة ـ على ما سيجيء ـ كان إثبات نبوّته فقط ـ كما في الآيات السابقة ـ هو المحتاج إليه بعد ظهور رسالته في كثير من موارد الآيات ، كما لا يخفى.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «اتّخذه خليلا قبل أن يتّخذه إماما» ، يستفاد ذلك من قوله سبحانه : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ، (٢) حيث إنّ الظاهر أنّ اتّخاذه ايّاه خليلا بعد ما صار ذا ملّة حنيفيّة وبسببها ، وإنّما صار كذلك بعد ما كان رسولا إذ المقام مقام بيان شرف هذه الملّة الحنيفيّة التي تشرّف بسببها إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بالخلّة.

وقد وصف هذه الملّة بالحنف ، وهو ميل في القدم ، لميلها عن الشرك إلى التوحيد على ما يعطيه قصص إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى.

والخليل من الخلّة ؛ وهو : الفقر والحاجة ، وبه سمّي الخليل ـ وهو الصديق ـ خليلا ، وأحد المتحابّين يسمّى صديقا إذا صدق في معاشرته ومؤانسته ، ثمّ يصير خليلا لقصره حوائجه على صديقه وبالعكس ، فهما خليلان.

ولإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ منصب آخر بيّنه بقوله سبحانه : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي

__________________

(١). مريم (١٩) : ٤١ ـ ٤٢.

(٢). النساء (٤) : ١٢٥.

١٩٩

الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١) وقال تعالى فيه وفي إسحاق ويعقوب : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٢) فهو مصطفى بإسلامه ، ويشعر به أيضا قوله : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٣) فالمصطفى هو الدين ، وإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ صار مصطفى بتحقّقه التامّ بالدين ، فمقام الاصطفاء هو مقام التحقّق التامّ بالدين ، وإنّ الدين عند الله الإسلام.

وإذا عرفت هذا علمت أنّ مدلول قوله : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (٤) أنّ الخلّة مقام متأخّر عن مقام الاصطفاء ، حيث جعله وصفا له متفرّعا على الملّة والحنف جميعا ، فافهم ذلك.

فمقام الخلّة متأخّر عن الدين والاصطفاء ، المتفرعين على النبوّة والرسالة جميعا ، وقد عرفت أنّ الإمامة ـ وهي الاهتداء بالله ، والهداية بأمر الله ـ أمر وراء هذه الامور جميعا ، ومحتدها ومنشأها غير ما لتلك ، وقد قال سبحانه : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وهو وحي.

وأيضا معظم الابتلاءات التي وقعت له ـ عليه‌السلام ـ كانت في زمان نبوّته ورسالته على ما يحكيه سبحانه في كلامه ، فالإمامة آخر هذه المقامات المعدودة ؛ أعني العبوديّة والنبوّة والرسالة والخلّة ثمّ الإمامة.

__________________

(١). البقره (٢) : ١٣٠.

(٢). ص (٣٨) : ٤٧.

(٣). البقرة (٢) : ١٣٢.

(٤). النساء (٤) : ١٢٥.

٢٠٠