الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-15-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٢٤

«قلت : يا سيدي! هما معا موافقان للعامّة» ، أنّ المراد بما وافق العامّة أو خالفهم في المرجّح السابق يعمّ ما وافق البعض أو خالفه.

ويردّه أنّ ظهور الفقرة الاولى في اعتبار الكلّ أقوى من ظهور هذه الفقرة في كفاية موافقة البعض ،

______________________________________________________

حيث يقول فيها ما مضمونه : (قلت : يا سيّدي هما معا موافقان للعامّة (١)) فانّه يستفاد منه : (انّ المراد بما وافق العامّة أو خالفهم في المرجّح السابق) المتقدّم ذكره على سؤال السائل (يعمّ ما وافق البعض أو خالفه) فيكفي حينئذ موافقة البعض ومخالفة البعض ، ولا يحتاج إلى ما ذكرناه من لزوم مخالفة الكلّ أو موافقة الكلّ.

والنتيجة : إنّ مخالفة البعض كافية في كون الترجيح من جهة مخالفة العامّة ، ولا يحتاج إلى مخالفة كلّ العامّة ، حتّى يخرج الترجيح من جهة مخالفة العامّة إلى الترجيح بالكليّة المستفادة من الأخبار التي ترجّح بكلّ مزيّة على ما ذكره المصنّف.

(ويردّه) أي : يردّ كون المرجّح هو ما يعمّ موافقة البعض أو مخالفتهم : (أنّ ظهور الفقرة الاولى) من المقبولة ، الآمرة بطرح الموافق للعامّة وأخذ المخالف لهم ، يكون (في اعتبار الكلّ أقوى من ظهور هذه الفقرة) الثانية المعبّرة عن قول السائل : «هما معا موافقان» ظهورا (في كفاية موافقة البعض) وإذا كان ظهور الفقرة الاولى في الكلّ أقوى من الثانية في كفاية البعض ، قدّم ظهور الاولى لأنّه يكون قرينة على المراد من الثانية ، فيكون المرجّح حينئذ : موافقة جميع العامّة أو معظمهم ، لا بعضهم فقط.

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٧ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

٣٢١

فيحمل على إرادة صورة عدم وجود هذا المرجّح في شيء منهما وتساويهما من هذه الجهة ، لا صورة

وجود هذا المرجّح في كليهما ، وتكافؤهما من هذه الجهة.

______________________________________________________

وإنّما كانت الفقرة الاولى في الكلّ أقوى ظهورا من الثانية في كفاية البعض ، لأنّ لفظ «العامّة» في الفقرة الاولى : جنس معرّف باللام فيكون ظاهرا في الجميع ، بينما لفظ «هما معا موافقان» ليس كذلك ، لوجود احتمالين فيه : إذ يحتمل أنّ السائل قد فهم من الفقرة الاولى موافقة جميع العامّة ، فسأل عمّا يصنع لو كان الخبران فاقدين لهذا المرجّح معا ، بأن لم يكن شيء منهما موافقا لهم جميعا؟ ويحتمل أنّ السائل قد فهم من الفقرة الاولى موافقة بعض العامّة ، فسأل عمّا يصنع لو كان الخبران واجدين لهذا المرجّح معا ، بأن كان كلّ منهما موافقا لبعضهم دون بعض؟ وحيث انّ الفقرة الاولى أقوى ظهورا تكون قرينة على المراد من الثانية.

وعليه : فإذا كانت الفقرة الاولى وهي : موافقة جميع العامّة ، قرينة على المراد من الثانية (فيحمل) قول السائل : «هما معا موافقان» (على إرادة صورة عدم وجود هذا المرجّح) وهو موافقة جميع العامّة (في شيء منهما) أي : من الخبرين المتعارضين (وتساويهما من هذه الجهة) أي : من جهة عدم وجود المرجّح يعني : عدم موافقة شيء منهما لجميع العامّة أو لمعظمهم (لا صورة وجود هذا المرجّح في كليهما) أي : في كلا الخبرين المتعارضين (وتكافؤهما من هذه الجهة) أي : من جهة وجود المرجّح يعني : موافقة الخبرين معا لجميع العامّة أو لمعظمهم ، وإذا كان كذلك فيكون الترجيح بموافقة جميع العامّة لهذا الدليل ، وبموافقة بعضهم لدليل المزيّة وليس لهذا الدليل ـ وذلك على ما عرفت ـ.

٣٢٢

وكيف كان ، ولو كان كلّ واحد موافقا لبعضهم مخالفا لآخرين منهم وجب الرجوع إلى ما يرجّح في النظر ملاحظة التقيّة منه.

وربّما يستفاد ذلك من أشهريّة فتوى أحد البعضين في زمان الصدور ويعلم ذلك بمراجعة أهل النقل والتاريخ ، فقد حكي عن تواريخهم : «إنّ عامّة أهل الكوفة كان عملهم على فتاوى أبي حنيفة

______________________________________________________

(وكيف كان) الأمر فقد عرفت حكم الترجيح بالموافق لجميع العامّة ، والموافق لبعضهم بلا مخالفة الباقين (و) لكن (لو كان كلّ واحد) من الخبرين المتعارضين (موافقا لبعضهم مخالفا لآخرين منهم) أي : بأن كان لكلّ واحد من الخبرين المتعارضين جهة رجحان ، وجهة مرجوحية ، فانّه إذا كان كذلك (وجب الرجوع إلى ما يرجّح في النظر) أي : في نظر الفقيه (ملاحظة التقيّة منه) بمعنى :

انّه لا بدّ للفقيه أن يتأمّل حتّى يدرك انّ أيّ الخبرين أنسب بالحمل على التقيّة ، فيأخذ بما لا تقيّة فيه منهما حسب نظره وتشخيصه.

(وربّما يستفاد ذلك) أي : يستفاد رجحان لحاظ التقيّة في أحد الخبرين نظره وتشخيصه على الآخر وان كان الخبران معا موافقين لبعض العامّة ومخالفين لبعضهم الآخر (من أشهريّة فتوى أحد البعضين في زمان الصدور) أي : في زمان صدور الخبرين المتعارضين ، فانّ الخبر الموافق لأشهر الفتويين عند العامّة زمن صدور الخبرين ، يكون هو الأقرب إلى التقيّة من الآخر ، فيطرح ويؤخذ بالآخر.

هذا (و) من المعلوم : إنّ أشهرية الفتوى كانت آنذاك مختلفة بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة ، فيلزم أن (يعلم ذلك) أي : الأشهرية في مكان كذا ، أو زمان كذا (بمراجعة أهل النقل والتاريخ ، فقد حكي عن تواريخهم) ما يلي :

أوّلا : (انّ عامّة أهل الكوفة كان عملهم على فتوى أبي حنيفة) الذي كان

٣٢٣

وسفيان الثوري ورجل آخر.

وأهل مكة على فتاوى ابن أبي جريح ، وأهل المدينة على فتاوى مالك ، وأهل البصرة على فتاوى عثمان وسوادة ، وأهل الشام على فتاوى الأوزاعي والوليد ، وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعيد ، وأهل خراسان على فتاوى عبد الله بن المبارك الزهري ، وكان فيهم أهل الفتاوى من غير هؤلاء كسعيد

______________________________________________________

يصرّح بمخالفته للإمام الصادق عليه‌السلام في كلّ شيء (وسفيان الثوري) الذي كان من شرطة هشام بن عبد الملك ، واشترك في قتل زيد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام كما في التاريخ (ورجل آخر) من علماء العامّة ، فإذا كان فتوى أبي حنيفة ـ مثلا ـ أشهر من الباقي ووافقه أحد الخبرين المتعارضين ، فالموافق له أقرب للتقيّة ، فيطرح ويؤخذ بالآخر.

ثانيا : (وأهل مكّة على فتاوى ابن أبي جريح).

ثالثا : (وأهل المدينة على فتوى مالك) الذي عيّنه الخليفة مفتيا عامّا لأهل المدينة.

رابعا : (وأهل البصرة على فتاوى عثمان وسوادة).

خامسا : (وأهل الشام على فتاوى الأوزاعي والوليد).

سادسا : (وأهل مصر على فتاوى الليث بن سعيد).

سابعا : (وأهل خراسان على فتاوى عبد الله بن المبارك الزهري) وقد كان لكلّ واحد من هؤلاء المفتين مذهب خاص يختلف عن مذهب الآخرين ، ومن اختلافهم اختلفت العامّة جميعا.

ثامنا : (وكان فيهم أهل الفتاوى من غير هؤلاء) الذين ذكرناهم (كسعيد

٣٢٤

بن المسيّب ، وعكرمة ، وربيعة الرأي ، ومحمد بن شهاب الزهري ، إلى أن استقرّ رأيهم بحصر المذاهب في الأربعة سنة خمس وستين وثلاثمائة» ، كما حكي.

وقد يستفاد ذلك من الأمارات الخاصّة ، مثل قول الصادق عليه‌السلام ، حين حكي له فتوى ابن أبي ليلى في بعض مسائل الوصيّة :

______________________________________________________

بن المسيّب ، وعكرمة ، وربيعة الرأي ، ومحمّد بن شهاب الزهري) إلى غيرهم من علمائهم في البلدان المختلفة ، وفي الأزمنة المختلفة والمذاهب المختلفة.

ثمّ استمرّ بهم الأمر على ذلك (إلى ان استقرّ رأيهم بحصر المذاهب في الأربعة) وذلك (سنة خمس وستّين وثلاثمائة) في زمان برقوق (كما حكي (١)) حيث انّهم رأوا انّ كلّ شخص يفتي بما يرى ممّا سبّب ذلك الانتقاد الشديد عليهم من سائر الأديان والمذاهب ، ولذا حصر الحاكم المذاهب في الأربعة ، كما قال السيّد محمّد باقر الطباطبائي في قصيدته المعروفة «النجم الثاقب» بقوله :

حتّى رأيتم بلغ السيل الزبى

جعلتم التقليد فيه مذهبا

قلّدتم النعمان أو محمّدا

أو مالك بن أنس أو أحمدا

فهل أتى الذكر به أو أوصى

به النبي أو وجدتم نصّا؟

هذا (وقد يستفاد ذلك) أي يستفاد رجحان لحاظ التقيّة في أحد الخبرين الموافقين لبعض العامّة والمخالفين لبعضهم الآخر (من الأمارات الخاصّة) أي : لا من أشهريّة فتوى أحد البعضين ـ كما كان في الفرض السابق ـ وذلك من (مثل قول الصادق عليه‌السلام ، حين حكي له فتوى ابن أبي ليلى في بعض مسائل الوصيّة) علما بأنّ ابن أبي ليلى كان قاضيا في المدينة من قبل الخليفة مدّة ثلاثة وثلاثين

__________________

(١) ـ الفوائد القديمة : ص ١٢١.

٣٢٥

«أمّا قول ابن أبي ليلى فلا استطيع ردّه» ، وقد يستفاد من ملاحظة أخبارهم المرويّة في كتبهم.

ولذا أنيط الحكم في بعض الروايات بموافقة أخبارهم.

الخامس :

قد عرفت أن الرجحان بحسب الدلالة لا يزاحمه الرجحان بحسب الصدور ، وكذا لا يزاحمه هذا الرجحان ، أي : الرجحان من حيث جهة

______________________________________________________

عاما ، فلمّا حكي له عليه‌السلام فتواه قال : (امّا قول ابن أبي ليلى فلا أستطيع ردّه (١)) ممّا يظهر منه انّ الإمام عليه‌السلام إنّما وافقه تقيّة.

(وقد يستفاد) أيضا رجحان لحاظ التقيّة في أحد الخبرين على الآخر (من ملاحظة أخبارهم المرويّة في كتبهم) حتّى وان لم نطلع على فتواهم كي نعلم بمطابقتها لأخبارهم وعدم مطابقتها (ولذا انيط الحكم في بعض الروايات بموافقة أخبارهم) ولم تذكر موافقة فتاواهم ، وقد تقدّم انّ بين أخبارهم وبين فتاواهم عموما من وجه.

الأمر (الخامس : قد عرفت) في المقام الرابع الذي عقدناه لبيان المرجّحات الداخلية والخارجية وذكر أقسامها (أنّ الرجحان بحسب الدلالة لا يزاحمه الرجحان بحسب الصدور) فانّ الراجح بحسب الدلالة مقدّم على المرجوح الدلالي حتّى وان كان راجحا بحسب الصدور ، لأنّ بتقديم الراجح دلالة يتمّ الجمع بين الخبرين ، ومعه لا تصل النوبة إلى الرجحان من حيث الصدور.

(وكذا لا يزاحمه) أي : لا يزاحم الرجحان بحسب الدلالة أيضا (هذا الرجحان ، أي :) الرجحان الذي نحن فيه وهو : (الرجحان من حيث جهة

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٧ ص ٦١ ح ١٦ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٢٢٨ ب ٢ ح ٥٥٣٩ ، تهذيب الاحكام : ج ٩ ص ٢٣٦ ب ٤ ح ١٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٩ ص ٤٢٨ ب ٩٢ ح ٤٤٨٨٦.

٣٢٦

الصدور ، فإذا كان الخبر الأقوى دلالة موافقا للعامّة ، قدّم على الأضعف المخالف ، لما عرفت من أنّ الترجيح بقوّة الدلالة من الجمع المقبول الذي هو مقدّم على الطرح ، أمّا لو زاحم الترجيح بالصدور ، الترجيح من حيث جهة الصدور بأن كان الأرجح صدورا موافقا للعامّة ،

______________________________________________________

الصدور) أي : من حيث التقيّة وعدم التقيّة ، فانّه لا يزاحم الدلالي أيضا.

وعليه : (فإذا كان الخبر الأقوى دلالة) كالخبر الخاص المخصّص لعموم العامّ أو المقيّد لإطلاق المطلق (موافقا للعامّة ، قدّم على الأضعف) دلالة وهو : العامّ أو المطلق (المخالف) للعامّة ، إذ قد سبق انّه لا مسرح لسائر المرجّحات الموجودة في أخبار العلاج بعد وجود المرجّح الدلالي وإمكان الجمع بين الخبرين ، وذلك (لما عرفت من انّ الترجيح بقوّة الدلالة من الجمع المقبول) عرفا ، والعرف هو المعيار في تعيين طريق الاطاعة والمعصية ، فالترجيح الدلالي يكون حينئذ من الجمع (الذي هو مقدّم على الطرح) أي : طرح أحد الخبرين الناتج من الترجيح بغير الدلالة من سائر المرجّحات.

إذن : فلا مزاحمة بين الترجيح الدلالي وبين الترجيح بالصدور ، أو الترجيح بجهة الصدور ، لتقدّم الترجيح الدلالي عليهما (امّا لو زاحم الترجيح بالصدور ، الترجيح من حيث جهة الصدور) أي : من حيث التقيّة وعدم التقيّة ، وذلك كما لو كان أحد الخبرين المتعارضين أعدل راويا ، والخبر الآخر أبعد من التقيّة ، أي : (بأن كان الأرجح صدورا) وهو خبر الأعدل على ما في المثال (موافقا للعامّة) والآخر الأبعد من التقيّة مخالفا للعامّة ، وحينئذ فهل يقدّم الصدور أو جهة الصدور؟ يعني : هل يقدّم الأرجح صدورا ، أو الأبعد عن التقيّة؟.

٣٢٧

فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفا للعامّة.

بناء على تعليل الترجيح بمخالفة العامّة باحتمال التقيّة في الموافق ؛ لأن هذا الترجيح ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا ، كالمتواترين ، أو تعبّدا كما في الخبرين بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما وترك

______________________________________________________

قال المصنّف : (فالظاهر تقديمه) أي : تقديم الأرجح صدورا (على غيره وان كان) ذلك الغير الأبعد من التقيّة (مخالفا للعامّة) فانّه لا يؤخذ بمخالف العامّة مع كونه أبعد من التقيّة ، وإنّما يؤخذ بموافقهم الذي هو أرجح صدورا ، وذلك (بناء على) انّ (تعليل الترجيح : بمخالفة العامّة) ليس باحتمال أقربيته للواقع حتّى يكون مرجّحا مضمونيا ، بل باحتمال عدم التقيّة فيه هو ، أي : (باحتمال التقيّة في الموافق) ليكون مرجّحا من جهة الصدور.

وإنّما يقدّم الأرجح صدورا على الأبعد من التقيّة (لأنّ هذا الترجيح) للأبعد من التقيّة الكائن من حيث جهة الصدور هو فرع الصدور أي : (ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما) معا إمّا صدورا (قطعا ، كالمتواترين) فانّا حيث نقطع في المتواترين بصدور كلا الخبرين نرجّح بعد ذلك بجهة الصدور ، يعني : لو تعارض الخبران ـ مثلا ـ بعد القطع بصدورهما ، فحينئذ لا بدّ لنا من ترجيح أحدهما على الآخر ، فإذا كان أحدهما موافقا للعامّة والآخر مخالفا نرجّح المخالف على الموافق.

(أو) بعد فرض صدور الخبرين المتعارضين (تعبّدا) وذلك فيما لو لم نكن نقطع بالصدور بل نتعبّد بصدورهما (كما في الخبرين) الظنّيين المعتبرين من جهة حجيّة خبر الواحد ، وذلك (بعد عدم إمكان التعبّد بصدور أحدهما وترك

٣٢٨

التعبّد بصدور الآخر ، وفي ما نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصدور.

فإن قلت :

______________________________________________________

التعبّد بصدور الآخر) علما بأنّه إنّما لا يمكن ذلك لفرض انّ الخبرين متكافئان في الصدور ، وحيث انّه لا مرجّح صدوري تصل النوبة إلى الترجيح بجهة الصدور ، فنرجّح الخبر المخالف للعامّة ونأخذ به ، ونطرح الخبر الموافق لهم لاحتمال التقيّة فيه.

لكن لو لم يكن الخبران الظنّيان متكافئين في الصدور ، أمكن التعبّد بصدور أحدهما وترك التعبّد بصدور الآخر للدليل ، وذلك كما قال : (وفيما نحن فيه) الذي هو عدم تكافؤ الخبرين الظنّيين ، لفرض وجود المرجّح الصدوري في أحد الخبرين دون الآخر ، وهو : كون أحدهما أعدل راويا من الآخر ، فانّ فيه (يمكن ذلك) أي : يمكن التعبّد بصدور أحدهما وهو الراجح صدورا وان كان موافقا للعامّة ، وطرح الآخر وهو المرجوح صدورا وان كان مخالفا للعامّة ، وذلك (بمقتضى أدلّة الترجيح من حيث الصدور) ومقتضى تلك الأدلّة هو : الترجيح بالمرجّح الصدوري وأخذ الراجح وطرح المرجوح ممّا معناه : التعبّد بصدور أحدهما وهو الأرجح صدورا فقط ، دون الآخر.

والحاصل : انّه إذا قطعنا بصدور الخبرين المتعارضين معا ، أو تعبّدنا الشارع بصدورهما معا ، تصل النوبة إلى الترجيح بجهة الصدور ، امّا إذا لم يكن قطع ولا تعبّد بصدورهما معا ، فلا يكون حينئذ مجال لهذا المرجّح بل يكون المجال للترجيح بالصدور.

(فان قلت) : انّ لحاظ الجهة كلحاظ الدلالة ، كلاهما متفرّع على الفراغ

٣٢٩

إنّ الأصل في الخبرين الصدور ، فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك الحكم بصدور الموافق تقيّة ، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة ، فيكون هذا المرجّح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّما على الترجيح بحسب الصدور.

______________________________________________________

عن لحاظ الصدور ، يعني : إذا كان الصدور مقطوعا به ، أو كان معتبرا من جهة حجيّة خبر الواحد ، أو ما أشبه ذلك ، لزم عندها الجمع الدلالي أو الجمع من جهة الصدور ، وحينئذ فكما انّه عند وجود الرجحان الدلالي في الخبرين المتعارضين ، الذين هما من قبيل العام والخاص ، أو المطلق والمقيّد ، يلزم التعبّد بصدور الخبرين المتعارضين معا ، ثمّ يجمع بينهما ولا يرجع إلى المرجّح الصدوري كالأعدلية وما أشبه ذلك ، فكذلك عند وجود الرجحان من جهة الصدور في الخبرين المتعارضين ، الذين هما من قبيل الموافق والمخالف للعامّة يلزم أن نقول بصدورهما معا ، ثم حمل الموافق للعامة على التقيّة ، لا الرجوع إلى المرجّح الصدوري كالأعدلية وما أشبه ذلك للأخذ بالراجح وطرح المرجوح صدورا.

والحاصل : (انّ الأصل في الخبرين الصدور) لأنّ أدلّة حجيّة الخبر يشمل كلا الخبرين ، فنكون متعبّدين بصدورهما (فإذا تعبّدنا بصدورهما اقتضى ذلك) أي : اقتضى التعبّد بصدورهما (الحكم بصدور الموافق) للعامّة (تقيّة ، كما يقتضي ذلك) أي : يقتضي التعبّد بصدورهما (الحكم بإرادة خلاف الظاهر في أضعفهما دلالة) حيث انّه يلزم حينئذ الجمع الدلالي بينهما بحمل العام على الخاص ، والمطلق على المقيّد ، والظاهر على الأظهر أو على النصّ (فيكون هذا المرجّح) أي : مرجّح جهة الصدور وهو التقيّة (نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدّما على الترجيح بحسب الصدور) فلا تصل النوبة معه إلى الترجيح

٣٣٠

قلت : لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن على التقيّة : لأنه الغاء لأحدهما في الحقيقة.

ولذا لو تعيّن حمل خبر غير معارض على التقيّة على تقدير الصدور ، لم تشمله أدلّة التعبّد بخبر العادل.

______________________________________________________

بحسب الصدور.

(قلت : لا معنى للتعبّد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعيّن) الذي هو الموافق للعامة (على التقيّة) فانّه إنّما لا معنى له (لأنّه) أي : الحمل على التقية (الغاء لأحدهما في الحقيقة) وإذا كان كذلك فلا معنى لأن يقول الشارع : تعبّد بهذا الخبر وأحمله على التقيّة ، إذ التعبّد يلزم أن يكون له أثر ، والحمل على التقيّة معناه : انّه لا أثر له ، بخلاف التعبّد بالخبر لوجود المرجّح الدلالي ، فانّ له أثرا وهو الجمع بين الخبرين.

(ولذا) أي : لأجل ما ذكرنا : من انّه لا معنى للتعبّد بالصدور والحمل على التقيّة ، لأنّ معنى حمل الخبر على التقيّة هو : عدم العمل به ، فيكون التعبّد بصدوره لغوا ، نرى انّه (لو تعيّن حمل خبر غير معارض) بخبر آخر ، على التقيّة ، فحملناه (على التقيّة على تقدير الصدور ، لم يشمله أدلّة التعبّد بخبر العادل) لا انّها تشمله ويحمل على التقيّة ، فلو كان ـ مثلا ـ هناك خبر واحد قد علمنا من جهة قيام الاجماع ـ مثلا ـ على انّه لا يعمل به ، فلا معنى لأن يقول الشارع : تعبّد بهذا الخبر ، وذلك لأنّه لا فائدة في مثل هذا التعبّد فيكون لغوا ، فلا يشمله أدلّة العمل بخبر العادل مثل : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (١) ومثل :

__________________

(١) ـ سورة الحجرات : الآية ٦.

٣٣١

نعم ، لو علم بصدور خبرين لم يكن بدّ من حمل الموافق على التقيّة وإلغائه.

وإذا لم يعلم بصدورهما ، كما في ما نحن فيه من المتعارضين ، فيجب الرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة ، فإن أمكن ترجيح أحدهما وتعيّنه من حيث التعبّد بالصدور دون الآخر تعيّن ، وإن قصرت اليد عن هذا الترجيح كان عدم احتمال التقيّة في أحدهما مرجّحا ،

______________________________________________________

«لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (١) وغير ذلك.

(نعم ، لو علم بصدور الخبرين) كما إذا سمعناهما من الإمام عليه‌السلام (لم يكن بدّ من حمل الموافق على التقيّة وإلغائه) وذلك لأنّه ليس هذا من التعبّد بالصدور حتّى يكون لغوا ، بل هو ممّا نعلم بصدوره ، فلا علاج إلّا بحمله على التقيّة وإلغائه.

(و) امّا (إذا لم يعلم بصدورهما ، كما فيما نحن فيه من المتعارضين) الظنّيين.

فانّا لا نعلم بصدورهما لفرض عدم كونهما خبرين متواترين (فيجب الرجوع) عند تعارضهما (إلى المرجّحات الصدورية) كالأعدلية والأصدقية وما أشبه ذلك (فان أمكن ترجيح أحدهما) أي : أحد الخبرين على الآخر (وتعيّنه من حيث التعبّد بالصدور دون الآخر تعيّن) الترجيح به والتعبّد بصدور الراجح وطرح المرجوح (وان قصرت اليد عن هذا الترجيح) أي : الترجيح الصدوري ، وذلك بأن كانا متكافئين في الصدور (كان عدم احتمال التقيّة في أحدهما مرجّحا) حينئذ ، بمعنى : إنّ الترجيح بالتقيّة واللاتقيّة يكون مرتبته بعد الترجيح الصدوري ، فيؤخذ بالمخالف ويترك الموافق لاحتمال التقيّة في الموافق للعامّة.

__________________

(١) ـ رجال الكشي : ص ٥٣٦ ، وسائل الشيعة : ج ١ ص ٣٨ ب ٢ ح ٦١ وج ٢٧ ص ١٥٠ ب ١١ ح ٣٣٤٥٥ ، بحار الانوار : ج ٥ ص ٣١٨ ب ٤ ح ١٥.

٣٣٢

فمورد هذا المرجّح تساوي الخبرين من حيث الصدور ، إمّا علما كما في المتواترين ، أو تعبّدا كما في المتكافئين من الآحاد.

وأمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن دون الآخر ، فلا وجه لإعمال هذا المرجّح فيه ؛ لأنّ جهة الصدور متفرّع على أصل الصدور.

والفرق بين هذا

______________________________________________________

وعلى هذا (فمورد هذا المرجّح) الذي نحن فيه وهو الترجيح من حيث جهة الصدور يعني : في كونه صدر تقيّة ولا تقيّة هو : (تساوي الخبرين) وتكافؤهما (من حيث الصدور ، إمّا علما كما في المتواترين) المتعارضين فانّه حيث لا نتمكّن من ترجيح صدور أحدهما على الآخر ، يلزم أن نحمل موافق العامّة على التقيّة ونعمل بمخالف العامّة (أو تعبّدا كما في المتكافئين) الظنّيين تكافؤا من حيث الصدور (من الآحاد) أي : من الخبر الواحد الظنّي الصدور الذي هو حجّة ، فيطرح الموافق لأجل احتمال التقيّة فيه ، لا انّه يتعبّد بصدوره ثمّ يحمل على التقيّة إذ قد عرفت انّه لغو لا أثر له.

(وأمّا ما وجب فيه التعبّد بصدور أحدهما المعيّن) وجوبا من أجل وجود المرجّح الصدوري في هذا المعيّن (دون الآخر) المعارض له (فلا وجه لاعمال هذا المرجّح فيه) أي : أعمال مرجّح جهة الصدور في الخبر الذي فيه مرجّح من حيث الصدور ، وذلك (لأنّ جهة الصدور متفرّع على أصل الصدور) فإذا ثبت الصدور وصلت النوبة بعده إلى جهة الصدور ، لكن لو اقتضى المرجّح طرح السند وانتفاء الصدور ، فيكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، حيث لا يبقى معه مجال للحاظ جهة التقيّة أو اللاتقيّة فيه.

(والفرق بين هذا) أي : بين الترجيح في جهة الصدور المتأخّر عن الترجيح

٣٣٣

والترجيح في الدلالة المتقدّم على الترجيح بالسند ، أنّ التعبّد بصدور الخبرين على أن يعمل بظاهر أحدهما ، وبتأول الآخر بقرينة ذلك الظاهر ممكن غير موجب لطرح دليل أو أصل ، بخلاف التعبّد بصدورهما ، ثمّ حمل أحدهما على التقيّة ، الذي هو في معنى إلغائه وترك التعبد به.

هذا كلّه على تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة باحتمال التقيّة ،

______________________________________________________

بالسند (والترجيح في الدلالة المتقدّم على الترجيح بالسند) أي : الفرق بين الترجيح بالتقيّة الذي جعلناه متأخّرا عن الترجيح بالسند ، وبين الترجيح بالدلالة الذي جعلناه متقدّما على الترجيح بالسند هو : (انّ التعبّد بصدور الخبرين على ان يعمل بظاهر أحدهما ، و) ذلك كالعمل بظاهر المخصّص والمقيّد ، وعلى أن يعمل (بتأويل الآخر) كتأويل العام والمطلق وهذا التأويل في الآخر (بقرينة ذلك الظاهر) أي : ظاهر الخبر المخصّص أو ظاهر الخبر المقيّد (ممكن غير موجب لطرح دليل أو أصل) لأنّ المفروض انّه يجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ أو الظاهر على الأظهر.

(بخلاف التعبّد بصدورهما ، ثمّ حمل أحدهما على التقيّة ، الذي هو) أي : الحمل على التقيّة (في معنى إلغائه وترك التعبّد به) ممّا يكون نتيجة التعبّد به عدم التعبّد به ، ومعه فلو سأل أحد عن انّه ما فائدة التعبّد بهذا الخبر الذي يجب الغاؤه بسبب انّه موافق للتقيّة ، ممّا معناه : عدم التعبّد به؟ لم يكن له جواب ، والمفروض انّ الشارع حكيم ، فلا يتعبّد بشيء لا يريد العمل به ، لأنّه أمر اعتباطي.

(هذا كلّه) الذي ذكرناه من تقديم حيث الصدور على جهة الصدور إنّما هو (على تقدير توجيه الترجيح بالمخالفة) للعامّة كائن (باحتمال التقيّة) لا باحتمال

٣٣٤

أمّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك كون المخالف أقرب إلى الحقّ ، وأبعد من الباطل ، كما يدل عليه جملة من الأخبار ، فهي من المرجّحات المضمونيّة ، وسيجيء حالها مع غيرها.

المقام الثالث

في المرجّحات الخارجيّة

وقد أشرنا إلى أنّها على قسمين :

______________________________________________________

كون المخالف للعامّة أقرب إلى الحقّ ، وأبعد من الباطل ، و (امّا لو قلنا بأنّ الوجه في ذلك) أي : في الترجيح بمخالفة العامّة هو : (كون المخالف أقرب إلى الحقّ ، وأبعد من الباطل ، كما يدلّ عليه جملة من الأخبار ، فهي) أي : المخالفة للعامّة حينئذ (من المرجّحات المضمونية) والمرجّح المضموني مقدّم على المرجّح الصدوري لا على جهة الصدور (وسيجيء حالها) أي : حال المرجّحات المضمونية (مع غيرها) من المرجّحات الصدورية ، وجهة الصدور ، ان شاء الله تعالى.

وحيث قد عرفت ترتيب المرجّحات من تقدّم الدلالية ، ثمّ الصدورية ، ثمّ جهة الصدور ، نشرع في الكلام في (المقام الثالث) الذي هو (في المرجّحات الخارجية) وذلك بعد أن كان المقام الأوّل في المرجّحات الدلالية ، والمقام الثاني في المرجّحات الداخلية لكن من حيث الصدور وجهة الصدور فقط وقد بحث المصنّف المقامين بلا ترتيب وعنوان ، وبقي الكلام في المرجّحات الداخلية من حيث المضمون مثل : النقل باللفظ ، والفصاحة ، وما أشبه ذلك ، فانّه يعرف حالها من البحث هنا في المقام الثالث المعدّ لبحث المرجّح الخارجي الذي هو مرجّح مضموني أيضا (وقد أشرنا إلى أنّها) أي : المرجّحات الخارجية (على قسمين)

٣٣٥

الأوّل : ما يكون غير معتبر بنفسه.

والثاني : ما يعتبر بنفسه ، بحيث لو لم يكن هناك دليل كان هو المرجع.

فمن الأوّل : شهرة أحد الخبرين ، إمّا من حيث رواته ، بأن اشتهرت روايته بين الرواة ، بناء على كشفها عن شهرة العمل أو اشتهار الفتوى به ولو مع العلم بعدم استناد المفتين إليه.

______________________________________________________

كالتالي :

(الأوّل : ما يكون غير معتبر بنفسه) بحيث لو لا وجود الخبر لا ينفع ذلك المرجّح لإثبات حكم شرعي بوحده.

(والثاني : ما يعتبر بنفسه ، بحيث لو لم يكن هناك دليل كان هو المرجع) وامّا مع وجود الدليل وهو أحد الخبرين المتعارضين ، فيلزم التوافق بين هذا المرجّح المعتبر بنفسه وبين ذلك الخبر على ما سيأتي بحثه إن شاء الله تعالى.

(فمن الأوّل : شهرة أحد الخبرين ، إمّا من حيث رواته ، بأن اشتهرت روايته بين الرواة) كما لو رواها جمع من أصحاب الصادق عليه‌السلام ـ مثلا ـ وذلك (بناء على كشفها) أي : كشف شهرة الرواية (عن شهرة العمل) وقيّد هنا شهرة الرواية بالكشف عن شهرة العمل ، لأنّ شهرة الرواية لو لم تقيّد بالكشف عن شهرة العمل كانت من المرجّحات الصدورية ، بينما إذا قيّدت بالكشف عن شهرة العمل كانت من المرجّحات المضمونية حينئذ. والمرجّح المضموني إذا كان مثل الشهرة العملية ، أو الشهرة الفتوائية كان من المرجّحات الخارجية.

(أو) كان شهرة أحد الخبرين من حيث (اشتهار الفتوى به) بين الأصحاب (ولو مع العلم بعدم استناد المفتين إليه) أي : إلى الخبر ، ومن الواضح : إنّ الشهرة الفتوائية بنفسها مرجّح خارجي للخبر.

٣٣٦

ومنه كون الراوي له أفقه من راوي الآخر في جميع الطبقات ، أو في بعضها ، بناء على أنّ الظاهر عمل الأفقه به.

______________________________________________________

وعليه : فقد تبيّن من ذلك انّ الشهرة على ثلاثة أقسام :

الأوّل : مجرّد شهرة الرواية ، وذلك بأن اشتهر روايتها على ألسنة الرواة ، أو نقلها في كتب الحديث ، من دون اشتهار استناد الأصحاب إليها ، أو كون فتواهم على طبقها ، وقد عرفت : انّ شهرة الرواية مرجّح صدوري داخلي ان لم تقيّد بالكشف عن شهرة العمل ، وإلّا بأن قيّدت بالكشف عن شهرة العمل فهي مرجّح خارجي.

الثاني : شهرة العمل بأن اشتهر استناد الأصحاب إلى هذه الرواية.

الثالث : شهرة الفتوى بأن تكون فتوى المشهور موافقة لهذه الرواية من دون استنادهم إليها.

(ومنه) أي : من الأوّل الذي ليس بمعتبر في نفسه (كون الراوي له) أي : للخبر (أفقه من راوي الآخر في جميع الطبقات ، أو في بعضها ، بناء على انّ الظاهر عمل الأفقه به) أي : بالخبر الذي رواه ، وذلك لوضوح : انّ مجرّد نقل الأفقه للخبر مع قطع النظر عن العمل به من قبله هو ، مرجّح داخلي صدوري كالأعدلية ، وليس بحثنا فيه الآن ، لأنّ بحثنا في المرجّحات الخارجية ، ولذا قيّده المصنّف بقوله : «بناء على انّ الظاهر عمل الأفقه به» فانّ عمل الأفقه بالخبر مع فقهه أمارة على مزيّة في هذا الخبر ليس في الخبر المعارض له ، علما بأنّ المراد من عمل الأفقه به : عمله به تعيينا لا تخييرا ، وإلّا لم يكن مرجّحا.

هذا ، ولا يخفى إنّ معنى الأفقه هو : الأكثر اطّلاعا بالنسبة إلى الأحكام ، والأجود فهما للإخبار ، والأدقّ نظرا بالنسبة إلى الأشباه والنظائر ، والاعرف

٣٣٧

ومنه مخالفة أحد الخبرين للعامّة ، بناء على ظاهر الأخبار المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها ، ومنه كلّ أمارة مستقلة غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين إذا كان عدم اعتبارها لعدم الدليل ، لا لوجود الدليل على العدم ، كالقياس.

ثمّ الدليل على الترجيح بهذا النحو من المرجّح

______________________________________________________

بمناسبات الأحكام والمسائل ، وذلك على ما ذكروه مفصّلا في بحث التقليد (١).

(ومنه) أي : من الأوّل أيضا (مخالفة أحد الخبرين للعامّة ، بناء على ظاهر الأخبار المستفيضة الواردة في وجه الترجيح بها) أي : الترجيح بمخالفة العامّة.

ووجهه هو : كون الخبر المخالف للعامّة أقرب إلى الحقّ وأبعد عن الباطل ، فانّه على ذلك يكون مرجّحا خارجيا راجعا إلى المضمون ، ويكون محلّ بحثنا هنا ، بينما إذا كان الترجيح بمخالفة العامّة لعدم احتمال التقيّة فيه ، كان مرجّحا داخليا راجعا إلى جهة الصدور وقد مضى بحثه هناك في المرجّحات الداخلية.

(ومنه) أي : من الأوّل أيضا (كلّ أمارة مستقلّة) أي : خارجية (غير معتبرة) شرعا (وافقت مضمون أحد الخبرين) كما إذا كان الاجماع المنقول موافقا لمضمون أحد المتعارضين ، فيما (إذا كان عدم اعتبارها لعدم الدليل) على الاعتبار ، كما هو المشهور بين المتأخّرين : من عدم اعتبار الاجماع المنقول ـ مثلا ـ (لا لوجود الدليل على العدم ، كالقياس) والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وما أشبه ذلك ، فانّها لا تصلح مرجّحا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(ثمّ الدليل على الترجيح بهذا النحو من المرجّح) الخارجي مع انّه لم ينصّ عليه في الأخبار العلاجية السابقة نصّ ، هو امور ثلاثة على ما يلي :

__________________

(١) ـ راجع موسوعة الفقه : ج ١ كتاب الاجتهاد والتقليد ، للشارح.

٣٣٨

ما يستفاد من الأخبار من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما إلى الواقع وإن كان خارجا عن الخبرين ، بل يرجع هذا النوع إلى المرجّح الداخلي ، فإنّ أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنّيّة فلازمه الظنّ بوجود خلل في الآخر ، إمّا من حيث الصدور ، أو من حيث جهة الصدور ، فيدخل الراجح فيما لا ريب فيه والمرجوح فيما فيه الريب.

______________________________________________________

الأوّل : (ما يستفاد من الأخبار) العلاجية نفسها (من) كبرى كليّة تشير على (الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحدهما) أي : أحد الخبرين قربا نسبيا (إلى الواقع) بلا فرق بين أن يكون ذلك من حيث الصدور ، أو جهة الصدور ، أو المضمون ، أو حتّى (وإن كان) ذلك الذي يوجب الأقربية إلى الواقع (خارجا عن الخبرين).

وعليه : فلا حاجة إلى أن يكون المرجّح مذكورا بالنصّ في الروايات العلاجية وانّما يستفاد منها كبرى كليّة تشمل كلّ ما يوجب أقربية أحد الخبرين إلى الواقع ، كما انّه لا حاجة إلى ان يكون المرجّح داخليا وإنّما يكفي حتّى الخارجي.

الثاني : (بل يرجع هذا النوع) من المرجّح الخارجي (إلى المرجّح الداخلي ، فانّ أحد الخبرين إذا طابق أمارة ظنّية) ظنّا نوعيا كالشهرة (فلازمه الظنّ بوجود خلل في) الخبر (الآخر) خللا داخليا في نفس الخبر ، وذلك (امّا من حيث الصدور ، أو من حيث جهة الصدور) فيكون المظنون ظنّا نوعيا بالخلل مرجوحا ، والمظنون ظنّا نوعيا بالسلامة من الخلل راجحا ، وإذا كان كذلك (فيدخل الراجح فيما لا ريب فيه والمرجوح فيما فيه الريب) فيطرح لقوله عليه‌السلام : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (١) وقوله عليه‌السلام أيضا : «فانّ المجمع عليه

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ١ ص ٣٩٤ ح ٤٠ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ١٢ ح ٣٣٥٠٦ وص ١٧٠ ب ١٢ ح ٣٣٥١٧ ، كنز الفوائد : ج ١ ص ٣٥١ ، الذكرى : ص ١٣٨ ، الغارات : ص ١٣٥ ، المعجم الكبير : ج ٢٢ ص ١٤٧ ح ٣٩٩.

٣٣٩

وقد عرفت : أنّ المزيّة الداخليّة قد تكون موجبة لانتفاء احتمال في ذيها موجود في الآخر ، كقلّة الوسائط ومخالفة العامّة ، بناء على الوجه السابق ، وقد توجب

______________________________________________________

لا ريب فيه» (١) إلى غيرهما ممّا ألمعنا إليه سابقا.

هذا (وقد عرفت : انّ المزيّة الداخلية قد تكون موجبة لانتفاء احتمال في ذيها) أي : في ذي المزيّة ، بينما ذلك الاحتمال (موجود في الآخر) مثاله : (كقلّة الوسائط) فالخبر القليل الواسطة أقوى من كثير الوسائط ، فإذا كان ـ مثلا ـ أحد الخبرين بواسطة واحدة والآخر بواسطتين ، فاحتمال الكذب ـ مثلا ـ في الخبر الأوّل احتمال واحد ، بينما في الخبر الثاني احتمالان ، ممّا يكون معناه : انتفاء احتمال الكذب في الأوّل بمقدار قلّة الوسائط فيه ، وهكذا في بقيّة الأمثلة ، فانّه بمقدار قلّة الواسطة يكون ذي القلّة أقوى.

ولكن لا يخفى : انّ العرف لا يرون هذا الفرق فيما إذا كان كلاهما كثير الواسطة بفرق شخص واحد ـ مثلا ـ وذلك كما إذا كان لأحدهما عشر وسائط وللآخر تسع.

(و) مثاله الآخر : (مخالفة العامّة ، بناء على الوجه السابق) أي : الوجه الذي مرّ ذكره في المرجّحات الداخلية وهو : كون الترجيح بمخالفة العامّة من جهة عدم احتمال التقيّة فيه ، مقابل الموافق للعامّة الذي يحتمل فيه التقيّة لا من جهة أقربيته إلى الواقع الذي هو مرجّح مضموني خارجي.

هذا ان أوجبت المزيّة انتفاء احتمال في ذمّها موجود في الآخر (وقد توجب)

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٧ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

٣٤٠