الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-15-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٢٤

توضيح ذلك : إنّ معنى كون الرواية مشهورة كونها معروفة عند الكلّ ، كما يدلّ عليه فرض السائل كليهما مشهورين ، والمراد بالشاذّ ما لا يعرفه إلّا القليل.

ولا ريب أنّ المشهور بهذا المعنى

______________________________________________________

فإنّه يستفاد منه كبرى كليّة أيضا تدلّ على لزوم الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه ، وحيث انّ لا ريب فيه بمعنى : عدم الريب النسبيّ ، فكلّ خبر فيه ريب نسبيّ بالنسبة إلى ما لا ريب نسبيّ فيه ، يؤخذ بما لا ريب نسبيّ فيه ، فإذا كان خبران أحدهما : نقل باللفظ ، والآخر : نقل بالمعنى ، فلا ريب في المنقول باللفظ ، بالنسبة إلى الرّيب المحتمل في المنقول بالمعنى ، وهكذا.

(توضيح ذلك) أي : توضيح انّه كيف يستفاد من هذا التعليل كبرى كليّة؟ بحيث يمكن أن يتعدّى منها إلى كلّ مزية غير منصوصة هو : (إنّ معنى كون الرواية مشهورة : كونها معروفة عند الكلّ) أو الجلّ ، يعني : بل تكون الشهرة روائية لا فتوائية ، وذلك (كما يدلّ عليه) أي : على هذا المعنى للشهرة (فرض السائل كليهما مشهورين) فانّه لا يمكن فرضهما مشهورين معا إلّا بالنسبة إلى الشهرة في الرواية ، وأمّا بالنسبة إلى الشهرة في الفتوى فلا يمكن فرض ذلك فيهما معا ، إذ لا يعقل أن يكون الافتاء بوجوب صلاة الجمعة مشهورا بين الفقهاء ، والافتاء بحرمتها أيضا مشهورا بين الفقهاء ، بعد ظهور المشهور في الأكثرية.

إذن : فالمراد بالمشهور : ما عرفه الأكثر (والمراد بالشاذّ : ما لا يعرفه إلّا القليل) وذلك بأن يكون أحد الخبرين مرويّا في غالب كتب الأصحاب ـ مثلا ـ بينما الخبر الآخر يكون مرويّا في كتب بعضهم فقط.

(ولا ريب أنّ المشهور بهذا المعنى) المذكور هو معرفة الكلّ أو الجلّ

١٠١

ليس قطعيا من جميع الجهات قطعي المتن والدلالة ، حتى يصير ممّا لا ريب فيه ، وإلّا لم يمكن فرضهما مشهورين ولا الرجوع إلى صفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة ،

______________________________________________________

(ليس قطعيّا من جميع الجهات) يعني : انّه لا يلزم أن يكون الخبر المشهور (قطعيّ المتن والدلالة) أيضا بالإضافة إلى شهرته (حتّى يصير) هذا الخبر المشهور (ممّا لا ريب فيه ، وإلّا) بأن لزم أن يكون الخبر المشهور قطعي السند والدلالة والجهة أيضا ، لزم منه المحاذير التالية :

أوّلا : (لم يمكن فرضهما مشهورين) معا كما فرضهما الراوي ، وذلك لأنّه لو كان المشهور عبارة عمّا لا ريب في صحّته سندا ودلالة وجهة ، فانّه كيف يمكن تعارض خبرين لا ريب في صحّتهما معا سندا وجهة ودلالة؟ ففرضهما كذلك دليل على عدم لزوم كونهما مقطوعي الصحّة.

ثانيا : (ولا) أي : وكذا لم يمكن (الرجوع إلى صفات الراوي قبل ملاحظة الشهرة) فانّه لو كان المشهور قطعيّا ولا ريب في صحّته سندا ودلالة وجهة ، لوجب أوّلا تقديمه على الشاذّ بهذه الصفة لا بغيرها من الصفات ، فكيف ذكر الإمام عليه‌السلام تقديم خبر ذي الصفات على صفة الشهرة؟ كما نجد ذلك في المقبولة ، حيث قال عليه‌السلام فيها أوّلا : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ثمّ قال عليه‌السلام : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فانّ المجمع عليه لا ريب فيه» (١) فقدّم الإمام صفات الراوي على الشهرة مع انّه لو كان المراد بالمشهور :

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٧ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره ـ ـ الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

١٠٢

ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجّحات الأخر.

فالمراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذّ ، ومعناه : أنّ الريب المحتمل في الشاذّ غير محتمل فيه.

فيصير حاصل التعليل ، ترجيح المشهور على الشاذّ ، بأنّ في الشاذّ

______________________________________________________

القطعي السند والدلالة والجهة ، كان اللازم تقديم الشهرة أوّلا ، ثمّ ذكر الصفات.

ثالثا : (ولا) أي : وكذا لم يمكن (الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجّحات الأخر) فانّه لو كان المشهور قطعيّا صحّته سندا ودلالة وجهة ، كان الخبران المشهوران كلاهما قطعيي الصحّة سندا ودلالة وجهة ، ومعه فلا معنى للرجوع إلى بقيّة المرجّحات وتقديم الراجح على المرجوح ، بل كان اللازم الحكم بإجمال الروايتين والرجوع إلى القواعد الأخر ، فحكم الإمام بالرجوع إلى المرجّحات بعد كونهما مشهورين ، يدلّ على انّه ليس المراد بالمشهور المقطوع الصحّة ، بل المراد : احتواؤه على ما يجعله أقرب إلى مطابقة الواقع ، وإذا استفيدت هذه الكبرى الكليّة من هذه الرواية ، بهذه القرائن الثلاث التي مرّ ذكرها من المصنّف ، ظهر أنّ كلّ مزيّة توجب الأقربية يجب الترجيح بها ، وان لم تكن منصوصة.

إذن : (فالمراد بنفي الريب) الذي جاء في كلام الإمام عليه‌السلام في المقبولة ، ليس نفيه مطلقا ، بل (نفيه بالإضافة إلى الشاذّ) أي : النفي النسبي (ومعناه : انّ الريب المحتمل في الشاذّ غير محتمل فيه) أي : في المشهور.

وعليه : (فيصير حاصل التعليل) الوارد في كلام الإمام عليه‌السلام في المقبولة هو : (ترجيح المشهور على الشاذّ) ترجيحا معلّلا (بأنّ في الشاذّ

١٠٣

احتمالا لا يوجد في المشهور ، ومقتضى التعدّي عن مورد النصّ في العلّة وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب كون أحد الخبرين ، أقلّ احتمالا لمخالفة الواقع.

ومنها : تعليلهم عليهم‌السلام ، لتقديم الخبر المخالف للعامّة ، بأنّ الحقّ «والرشد في خلافهم» ، وأنّ ما وافقهم فيه التقيّة ، فإنّ هذه كلّها قضايا غالبيّة لا دائميّة ، فيدلّ بحكم التعليل على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارة الحقّ والرشد وترك ما فيه مظنّة خلاف الحقّ والصواب.

______________________________________________________

احتمالا) يقرّبه إلى مخالفة الواقع (لا يوجد في المشهور ، و) إذا استفدنا هذه الكبرى الكليّة من الرواية ، فانّ (مقتضى التعدّي عن مورد النصّ في العلّة) المنصوصة هو : (وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب كون أحد الخبرين ، أقلّ احتمالا لمخالفة الواقع) مثل : موافقته للشهرة العملية ، أو الشهرة الفتوائية ، أو السيرة ، أو ارتكاز المتشرّعة ، أو غير ذلك.

(ومنها : تعليلهم عليهم‌السلام ، لتقديم الخبر المخالف للعامّة : بأنّ الحقّ والرشد في خلافهم ، وأنّ ما وافقهم فيه التقيّة ، فانّ هذه كلّها قضايا غالبية لا دائمية) أي : ظنّية وليست قطعيّة ، وذلك لوضوح : انّه ليس كلّ مخالف لهم رشد ، ولا كلّ موافق لهم تقيّة ، بل المراد وجود الأمارة الظنّية بالمطابقة للواقع وغلبة الحقّ والرشد في المخالف لهم ، وبالعكس في الموافق لهم.

وعليه : (فيدلّ بحكم التعليل على وجوب ترجيح كلّ ما كان معه أمارة الحقّ والرشد) مثل : موافقة الشهرة العمليّة ، أو الشهرة الفتوائية ، أو السيرة ، أو ما أشبه ذلك ـ على ما تقدّم ـ (وترك ما فيه مظنّة خلاف الحقّ والصواب) كما لو كان أحد

١٠٤

بل الانصاف : انّ مقتضى هذا التعليل ـ كسابقه ـ وجوب الترجيح بما هو أبعد عن الباطل من الآخر ، وإن لم يكن عليه أمارة المطابقة ، كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام : «ما جاءكم عنّا من حديثين مختلفين ، فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإنّ أشبههما فهو حقّ ،

______________________________________________________

الخبرين على خلاف المشهور فتوى ، أو عملا ، أو سيرة ، أو مرتكزا في أذهان المتشرّعة على ما عرفت.

(بل الانصاف : إنّ مقتضى هذا التعليل) : «فانّ الرشد في خلافهم» (١) هو (كسابقه) أي : كمقتضى ذلك التعليل : «فانّ المجمع عليه لا ريب فيه» (٢) حيث يقتضي (وجوب الترجيح بما هو أبعد عن الباطل من الآخر ، وان لم يكن عليه أمارة المطابقة) للواقع ، يعني : انّ هذا التعليل هنا بقوله عليه‌السلام : «فانّ الرشد في خلافهم» يفيد لزوم الترجيح بكلّ ما يوجب الأبعدية عن الباطل وان لم يفد الظنّ بمطابقة الواقع ، وذلك التعليل هناك بقوله عليه‌السلام كما مرّ : «فانّ المجمع عليه لا ريب فيه» يفيد أيضا لزوم الترجيح بكلّ ما يوجب الأبعديّة عن الريب وان لم يفد الظنّ بمطابقة الواقع ، فتوافق التعليلان في إفادة لزوم الترجيح بمجرّد الأبعدية عن الريب والباطل ، وان لم يظن بأقربيّته للواقع.

(كما يدلّ عليه) أي : على وجوب الترجيح بمجرّد الأبعديّة عن الرّيب والباطل ، وان لم يكن أقرب إلى الحقّ في الظنّ (قوله عليه‌السلام : ما جاءكم عنّا من حديثين مختلفين ، فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا ، فإنّ أشبههما فهو حقّ)

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

١٠٥

وإن لم يشبههما فهو باطل» فإنّه لا توجيه لهاتين القضيّتين ، إلّا ما ذكرنا : من إرادة الأبعديّة عن الباطل والأقربيّة إليه.

______________________________________________________

حيث جعل الإمام عليه‌السلام معيار الأخذ مجرّد كون أحدهما أبعد عن الباطل لأنّه أشبه بهما من الآخر ، ثمّ قال : (وإن لم يشبههما فهو باطل) (١) وحيث جعل الإمام عليه‌السلام معيار عدم الأخذ مجرّد كون أحدهما أقرب إلى الباطل لأنّه لم يشبه الكتاب والسنّة.

والمراد من الشباهة بالكتاب والسنّة هو : انّ الروح العامّ المستفاد منهما يشبهه هذا الحديث ، أو يشبهه ذلك الحديث ، فالروح العامّ المستفاد من قوله سبحانه : (وَلا تَجَسَّسُوا) (٢) ـ مثلا ـ هو : عدم تدخّل الانسان في شئون الآخرين حيث يكرهون ذلك التدخّل ، فإذا ورد حديثان أحدهما يقول : لا بأس بتدقيق النظر في متاع الغير الذي يريد نقله من السوق إلى البيت ، ممّا يكرهه ذلك الغير ، ويقول الحديث الآخر : فيه بأس ، فالحديث الثاني أشبه بالكتاب والسنّة من الحديث الأوّل ، وهذا المعنى أيضا مستفاد من قولهم عليهم‌السلام : «ينظر إلى ما هم أميل إليه حكّامهم وقضاتهم» (٣) كما تقدّم تفسيره.

وعليه : (فإنّه لا توجيه لهاتين القضيّتين) وهما قضيّة : «فان أشبههما فهو حقّ» وقضيّة : «وان لم يشبههما فهو باطل» (إلّا ما ذكرنا : من إرادة الأبعديّة عن الباطل) فيؤخذ به (والأقربيّة إليه) أي : إلى الباطل فيطرح.

__________________

(١) ـ تفسير العياشي : ج ١ ص ٩ ح ٧ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٢٣ ب ٩ ح ٣٣٣٨١.

(٢) ـ سورة الحجرات : الآية ١٢.

(٣) ـ الكافي ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

١٠٦

ومنها : قوله عليه‌السلام : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» دلّ على أنّه إذا دار الأمر بين أمرين في أحدهما ريب ، ليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به ، وليس المراد : نفي مطلق الريب ، كما لا يخفى.

وحينئذ : فإذا فرض أحد المتعارضين منقولا بلفظه ، والآخر منقولا بالمعنى ، وجب الأخذ بالأوّل ، لأن احتمال الخطأ في النقل بالمعنى منفي

______________________________________________________

(ومنها : قوله عليه‌السلام : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك») (١) والرّيب عبارة عمّا يختلج في الذهن ، وذلك قبل أن يصير شكّا ، ولذا قال عليه‌السلام : «لا ترتابوا فتشكّوا ، ولا تشكّوا فتكفروا» (٢) فانّه (دلّ على أنّه إذا دار الأمر بين الأمرين) وكان (في أحدهما ريب) نسبي (ليس في الآخر ذلك الرّيب) النسبي ، فانّه (يجب الأخذ به) أي : بما لا ريب نسبي فيه.

هذا (وليس المراد : نفي مطلق الريب ، كما لا يخفى) وذلك لوضوح : انّه لو كان أحد الأمرين لا ريب فيه إطلاقا ، لم يكن الآخر معارضا له ، لأنّ معناه حينئذ : انّ الأمر الآخر لا ريب في بطلانه ، فاللازم أن يكون المراد من الريب في قوله عليه‌السلام : «دع ما يربيك إلى ما لا يريبك» هو : الريب النسبي.

(وحينئذ) أي : حين كان مراد الحديث هو : الريب النسبي (فإذا فرض أحد المتعارضين منقولا بلفظه ، والآخر منقولا بالمعنى ، وجب الأخذ بالأوّل) الذي هو منقول بلفظ الإمام عليه‌السلام (لأنّ احتمال الخطأ في النقل بالمعنى منفيّ

__________________

(١) ـ غوالي اللئالي : ج ١ ص ٣٩٤ ح ٤٠ ، المعجم الكبير : ج ٢٢ ص ١٤٧ ح ٣٩٩ ، كنز الفوائد : ج ١ ص ٣٥١ ، الغارات : ص ١٣٥ ، الذكرى : ص ١٣٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٦٧ ب ٨٢ ح ٣٣٥٠٦ وص ١٧٠ ب ١٢ ح ٣٣٥١٧.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٤٥ ح ٦ وج ٢ ص ٣٩٩ ح ٢ ، بحار الانوار : ج ٢ ص ٣٩ ب ٩ ح ٦٩.

١٠٧

فيه ، وكذا إذا كان أحدهما أعلى سندا لقلّة الوسائط ، إلى غير ذلك من المرجّحات النافية للاحتمال غير المنفي في طرف المرجوح.

المقام الرابع :

في بيان المرجّحات

وهي على قسمين :

أحدهما : ما يكون داخليّا ، وهي كلّ مزيّة غير مستقلّة في نفسه ،

______________________________________________________

فيه) أي : في هذا الذي هو منقول عن الإمام عليه‌السلام باللفظ.

(وكذا إذا كان أحدهما أعلى سندا لقلّة الوسائط) والآخر أنزل سندا لكثرة الوسائط و (إلى غير ذلك) كما إذا كان راوي أحد الحديثين أشحذ ذهنا ، وأكثر فهما بالقرائن الداخليّة والخارجيّة ، وأحسن التفاتا إلى لحن الكلام من راوي الحديث الآخر ، فانّ رواية الشخص الأوّل لا ريب نسبي فيه ، بالنسبة إلى رواية الشخص الثاني ، فيلاحظ كلّ ما أشبه ذلك (من المرجّحات النافية للاحتمال) في طرف الراجح (غير المنفيّ في طرف المرجوح) ككون إحدى الروايتين مرفوعة ، أو مضمرة ، أو مقطوعة ، أو ما أشبه ذلك ، بخلاف الرواية الثانية ، مع كون كليهما حجّة بسبب كونهما مرويّين في الكافي ، أو في الفقيه ، أو ما أشبه ذلك ، فانّه يؤخذ بما لا ريب فيه.

(المقام الرابع) من مقامات بحث تعارض الأخبار (في بيان المرجّحات) لأحد الخبرين على الآخر (وهي على قسمين) كما يلي :

(أحدهما : ما يكون داخليّا ، وهي كلّ مزيّة غير مستقلّة) بالدلالة (في نفسه ،

١٠٨

بل متقوّمة بما فيه.

وثانيهما : ما يكون خارجيّا ، بأن يكون أمرا مستقلا بنفسه ولو لم يكن هناك خبر ، سواء كان معتبرا كالأصل ، والكتاب ،

______________________________________________________

بل متقوّمة بما فيه) أي : متقوّمة بالحديث الذي وردت تلك المزيّة في ذلك الحديث ، وذلك مثل الأعدليّة من حيث الراوي ، ومثل علوّ السند من حيث الرواية ، فإنّ الأعدليّة وعلوّ السند مزيّتان ليستا مستقلّتين ، بل متقوّمتان بالحديث الذي هما فيه.

(وثانيهما : ما يكون خارجيّا ، بأن يكون أمرا مستقلّا بنفسه) أي : غير متقوّم بالحديث ذي المزيّة ، وذلك بأن يوجد المرجّح حتّى (ولو لم يكن هناك خبر) أصلا (سواء كان) ذلك المرجّح المستقل (معتبرا كالأصل ، والكتاب) أم غير معتبر كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

أمّا كون الأصل مرجّحا فهو بناء على اعتبار الأصل من حيث الظنّ ، وإلّا بأن كان معتبرا من حيث الروايات ، فقد عرفت : إنّ افق الأصل غير افق الروايات ، فلا يكون أحدهما مؤيّدا ومرجّحا للآخر ، فانّه بناء على ذلك لو تعارض خبران في وجوب شيء وعدم وجوبه ، أو حرمة شيء وعدم حرمته ، فأصل البراءة يكون مرجّحا للخبر القائل بعدم الالزام ، ومن المعلوم : إنّ أصل البراءة مزيّة خارجيّة ، مستقل بنفسه ، معتبر في حدّ ذاته ، بحيث انّه لو لا المتعارضان لكان مرجعا معتبرا في نفسه.

وأمّا إنّ الكتاب مرجّح : فانّه مزيّة خارجيّة ، معتبر في حدّ ذاته ، مستقل بنفسه حتّى ولو لم يكن هناك خبر ، ولذا فإنّه إذا تعارض خبران وكان أحدهما موافقا للكتاب ، يكون الكتاب مرجّحا للخبر الموافق له ، وذلك كما إذا دلّ دليل

١٠٩

وغير معتبر في نفسه كالشهرة ونحوها.

ثمّ المستقل إمّا أن يكون مؤثّرا في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع كالكتاب ، والأصل ، بناء على إفادة الظنّ.

______________________________________________________

على حرمة العصير العنبي إذا غلى وذهب ثلثاه بسبب الهواء ـ مثلا ـ ودلّ دليل آخر على عدم حرمته ، فانّ قوله سبحانه : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (١) يكون مؤيّدا ومرجّحا للخبر القائل بالحليّة.

هذا إذا كان المرجّح المستقل معتبرا ، وأمّا إذا لم يكن معتبرا فهو كما قال : (وغير معتبر في نفسه كالشهرة) الفتوائية بناء على قول المشهور حيث انّهم يذكرون أنّ الشهرة الفتوائية ليست بحجّة ، وإن قال بعضهم بالحجيّة للتعليل الذي جاء في المقبولة بقوله عليه‌السلام : «فانّ المجمع عليه لا ريب فيه» (٢) (ونحوها) أي : نحو الشهرة الفتوائية كالإجماع المنقول ، فإذا وافق أحد الخبرين مزيّة خارجية مستقلّة غير معتبرة في نفسها كالشهرة الفتوائية ، أو الاجماع المنقول ، يكون ذلك الخبر ذا مزيّة بحيث يوجب وجود هذه المزية فيه ترجيحه على الخبر المخالف للشهرة أو الاجماع المنقول.

(ثمّ) انّ المرجّح (المستقل إمّا أن يكون مؤثّرا في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع) بأن يكون كاشفا عنه (كالكتاب ، و) كذلك الشهرة وهكذا الاجماع المنقول ، وما أشبه ذلك ، فإنّ كلّ هذه الامور تحكي عن الواقع ، وكذلك (الأصل ، بناء على إفادته الظنّ) أمّا الأصل بناء على حجّيته من باب الأخبار ، فقد عرفت

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٩.

(٢) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٨ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

١١٠

أو غير مؤثّر ، ككون الحرمة أولى بالأخذ من الوجوب والأصل ، بناء على كونه من باب التعبّد الظاهري ، وجعل المستقلّ مطلقا ، خصوصا ما لا يؤثّر في الخبر من المرجّحات لا يخلو عن مسامحة.

______________________________________________________

انّه ليس بكاشف.

(أو غير مؤثّر) في أقربيّة أحد الخبرين إلى الواقع (ككون الحرمة أولى بالأخذ من الوجوب) على ما هو مذهب جماعة من العلماء فيما إذا دار الأمر بين الحرمة والوجوب ، وذلك كما إذا حلف ـ مثلا ـ على الوطي أو الترك ، ثمّ نسي انّه على أيّهما كان قد حلف؟ فقد ذهب جمع من الفقهاء إلى تقديم الحرمة ، بدليل : انّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة ، فانّ هذه المزيّة على القول بالترجيح بها لا تؤثّر في أقربية أحد الخبرين إلى الواقع ، فيما إذا كان خبران أحدهما يدلّ على الحرمة ، والآخر يدلّ على الوجوب ـ مثلا ـ

(والأصل) كذلك أيضا ، لكن (بناء على كونه من باب التعبّد الظاهري) لا من باب إفادته الظنّ ، فقد عرفت : انّ الأصل لو كان حجّة من باب الأخبار تعبّدا ، فانّه لا يكون طريقا إلى الواقع ولا كاشفا عنه ، بل هو تكليف حين العمل للشاكّ وليس أكثر ، وهذا الأصل لو رجّحنا به أحد الخبرين المتعارضين لم يكن مؤثّرا في أقربيته إلى الواقع.

هذا (وجعل) المرجّح (المستقل مطلقا) أي : بكلّ أقسامه سواء كان معتبرا أم لا ، مؤثّرا أم لا؟ (خصوصا ما لا يؤثّر في الخبر من المرجّحات) كالأصل من باب التعبّد ، فانّه (لا يخلو عن مسامحة) في التعبير ، وذلك لأنّ المتبادر من لفظ المرجّح هو : أن يؤثّر مزيّة وقوّة في الخبر من دون استقلاله بإفادة الحكم ، ومعه يكون إطلاق المرجّح على امور مستقلّة في إفادة الحكم مثل الكتاب مسامحة ،

١١١

أمّا الداخلي : فهو على أقسام لأنّه إمّا أن يكون راجعا إلى الصدور ، فيفيد المرجّح كون الخبر أقرب إلى الصدور وأبعد عن الكذب ، سواء كان راجعا إلى سنده كصفات الراوي ، أو إلى متنه كالأفصحيّة ، وهذا لا يكون إلّا في أخبار الآحاد ،

______________________________________________________

لوضوح : استقلال الكتاب في نفسه بإفادة الحكم ، فانّه يفيد الحكم سواء كان هناك خبر أو لم يكن ، وكذا إطلاق المرجّح على غير الكتاب من الامور المستقلّة في نفسها بإفادة الحكم ، مثل الأصل على المبنيين : التعبّد والظنّ ، ومثل أولويّة الحرمة على الوجوب لو قلنا بها ، فانّها مسامحة أيضا.

هذا بالنسبة إلى المرجّح الخارجي ، (أمّا) بالنسبة إلى المرجّح (الداخلي : فهو على أقسام) ثلاثة : لأنّه إمّا مرجّح من حيث السند ، أو من حيث الدلالة ، أو من حيث جهة الصدور.

القسم الأوّل : كما ذكره المصنّف بقوله : (لأنّه إمّا أن يكون راجعا إلى الصدور ، فيفيد المرجّح كون الخبر أقرب إلى الصدور) من الإمام عليه‌السلام (وأبعد عن الكذب) والافتراء على الإمام عليه‌السلام (سواء كان راجعا إلى سنده كصفات الراوي) مثل الأعدليّة والأصدقيّة ، وما أشبه ذلك (أو إلى متنه كالأفصحيّة) وعدم الركاكة ـ مثلا ـ فإذا كان هناك خبران أحدهما أفصح من الآخر ، أو أحدهما فصيح والآخر ركيك ، فالفصيح أو الأفصح أقرب إلى الواقع ، وذلك لأنّ الإمام عليه‌السلام الذي هو بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفصح من نطق بالضادّ ، لا يقول الكلام الركيك ، وكذا الكلام الفصيح في مقابل الأفصح.

(وهذا) القسم من المرجّح الداخل وهو مرجّح الصدور (لا يكون إلّا في أخبار الآحاد) سواء كانت مرويّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام ، وأمّا الأخبار

١١٢

وإمّا أن يكون راجعا إلى وجه الصدور ، ككون أحدهما مخالفا للعامّة ، أو لعمل سلطان الجور ، أو قاضي الجور ، بناء على احتمال أن مثل هذا الخبر صادرا لأجل التقيّة.

وإمّا أن يكون راجعا إلى مضمونه ، كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقول بالمعنى ، إذ يحتمل الاشتباه في التعبير ،

______________________________________________________

المتواترة فصدورها قطعي ولا يأتي فيها هذا الكلام ، فإذا كان هناك خبران متواتران متعارضان ، فلا يمكن الترجيح بينهما من حيث الصدور.

القسم الثاني : ما أشار إليه المصنّف بقوله : (وإمّا أن يكون راجعا إلى وجه الصدور) وانّه هل صدر تقيّة أو لبيان الحكم الواقعي؟ (ككون أحدهما مخالفا للعامّة ، أو لعمل سلطان الجور ، أو قاضي الجور) فانّهم جميعا يميلون إلى الباطل ، والمراد بالسلطان ما يشمل السلطان والوالي والحاكم ، فانّ مخالفة العامّة إنّما يكون مرجّحا (بناء على احتمال انّ مثل هذا الخبر) الموافق لهم (صادرا لأجل التقيّة) فإذا دلّ خبر على انّ المغرب الذي يكون مجوّزا للدخول في صلاة المغرب وللإفطار هو : استتار القرص ، ودلّ خبر آخر على انّه ذهاب الحمرة المشرقية ، فهما متعارضان ، وحيث انّ الخبر الأوّل موافق للعامّة يكون أقرب إلى التقيّة ، فالخبر الثاني يكون ذا مزيّة عليه.

القسم الثالث : وهو ما ذكره المصنّف بقوله : (وإمّا أن يكون راجعا إلى مضمونه) أي : مضمون الخبر ومعناه (كالمنقول باللفظ بالنسبة إلى المنقول بالمعنى) فانّ المنقول باللفظ أقرب وأرجح من المنقول بالمعنى (إذ يحتمل الاشتباه) من الراوي (في التعبير) عن لفظ الإمام بمعنى ليس مطابقا لذلك اللفظ

١١٣

فيكون مضمون المنقول باللفظ أقرب إلى الواقع ، وكالترجيح بشهرة الرواية ونحوها.

وهذه الأنواع الثلاثة كلّها متأخّرة عن الترجيح باعتبار قوّة الدلالة ، فإنّ الأقوى دلالة مقدّم على ما كان أصحّ سندا ، وموافقا للكتاب ، ومشهور الرواية بين الأصحاب ،

______________________________________________________

الذي قاله الإمام (فيكون مضمون المنقول باللفظ أقرب إلى الواقع) من المنقول بالمعنى.

(وكالترجيح بشهرة الرواية) فانّ الشهرة كما ترجّح صدور الرواية بملاحظة كثرة ناقليها ، فكذلك ترجّح المضمون بملاحظة كثرة العاملين بها (ونحوها) أي : نحو الشهرة كالإجماعات المنقولة على مضمون أحد الخبرين ـ مثلا ـ وكأضبطيّة راوي أحدهما بالنسبة إلى الراوي الآخر ، لوضوح : انّ الأضبط بعيد عن الاشتباه بالقدر الذي يقرب من الاشتباه غير الأضبط.

(وهذه الأنواع الثلاثة) من المرجّحات الداخلية ، الراجعة إلى الجهة ، والصدور ، والمضمون (كلّها متأخّرة عن الترجيح باعتبار قوّة الدلالة) والجمع العرفي ، فانّه إذا أمكن الجمع الدلالي العرفي بين الخبرين ، كالعام والخاص ، والظاهر والأظهر ، وما أشبه ذلك قدّم على الترجيح بسائر المرجّحات.

وعليه : (فانّ الأقوى دلالة مقدّم على ما كان أصحّ سندا ، و) مقدّم على ما كان (موافقا للكتاب ، و) مقدّم على ما كان (مشهور الرواية بين الأصحاب) ومقدّم أيضا على ما كان خلاف التقيّة ، فإذا كان ـ مثلا ـ العام مخالفا للتقيّة ، والخاص موافقا للتقيّة ، فانّ الخاص يخصّص العام ولا يلاحظ جهة الصدور ، وكذلك إذا كان العام موافقا للكتاب والخاص مخالفا ، أو كان العام أصحّ سندا من الخاص

١١٤

لأن صفات الرواية لا يزيده على المتواتر ، وموافقة الكتاب لا يجعله أعلى من الكتاب ، وقد تقرّر في محلّه تخصيص الكتاب والمتواتر بأخبار الآحاد ، فكلّ ما يرجع التعارض إلى تعارض الظاهر والأظهر ، فلا ينبغي الارتياب في عدم ملاحظة المرجّحات الأخر.

______________________________________________________

الذي ليس بتلك الصحّة من السند ، وإلى غير ذلك.

والحاصل : إنّ الجمع الدلالي إذا أمكن لا ينظر معه إلى المرجّحات ، سواء المرجّحات الصدورية ، أو المرجّحات المضمونية ، أو المرجّحات المرتبطة بالجهة ، وذلك (لأنّ صفات الرواية لا يزيده) أي : لا يزيد الخبر (على المتواتر ، و) كذلك (موافقة الكتاب لا يجعله أعلى من الكتاب ، وقد تقرّر في محلّه) وذلك في بحث الألفاظ (تخصيص الكتاب و) الخبر (المتواتر بأخبار الآحاد) المرويّة عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام باسناد معتبرة ، وكذلك بالنسبة إلى المطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن.

وعليه : (فكلّما يرجع التعارض إلى تعارض الظاهر والأظهر) أو النصّ والظاهر ، فاللازم الجمع بينهما بحمل الظاهر على الأظهر ، والظاهر على النصّ ، ولا يلاحظ الترجيح بينهما كما قال : (فلا ينبغي الارتياب في عدم ملاحظة المرجّحات الأخر) بعد وجود الترجيح بقوّة الدلالة والجمع العرفي المقبول ، فإذا ورد ـ مثلا ـ خبر يقول : اكرم العلماء ، وخبر آخر يقول : لا تكرم زيدا ، فانّ الخاص يقدّم على العام ، ولا يلاحظ انّ العام موافق للكتاب ، أو مخالف للعامّة ، أو انّ سنده أقوى ، أو ما أشبه ذلك من المرجّحات التي يجب الترجيح بها إذا كان شيء منها موجودا في أحد الخبرين المتعارضين ، وذلك لوضوح : أن لا تكرم زيدا ، وليس معارضا لأكرم العلماء ، كما هو شأن كلّ ظاهر وأظهر ، ونصّ وظاهر ،

١١٥

والسرّ في ذلك ، ما أشرنا إليه سابقا من أنّ مصبّ الترجيح بها هو ما إذا لم يمكن الجمع بوجه عرفي يجري في كلامين مقطوعي الصدور على غير جهة التقيّة ، بل في جزئي كلام واحد لمتكلّم واحد.

______________________________________________________

حيث إنّ النصّ والأظهر لا يعارضهما الظاهر.

(والسرّ في ذلك) أي : فيما ذكرناه : من تقديم الترجيح باعتبار قوّة الدلالة على سائر المرجّحات الأخر (ما أشرنا إليه سابقا) في بحث أولوية الجمع من الطرح (من أنّ مصبّ الترجيح بها) أي : إنّ مورد الترجيح بسائر المرجّحات (هو : ما إذا لم يمكن الجمع بوجه عرفيّ) وأمّا لو أمكن ذلك ، بأن رأى العرف انّ المراد من الكلامين حمل أحدهما على الآخر ، مثل الظاهر والأظهر ، والنصّ والظاهر ، فانّه لا يتأمّل في حمله عليه ، لأنّه يرى أنّ ذلك (يجري في كلامين مقطوعي الصدور على غير جهة التقيّة).

مثلا : إذا قطع العرف بأنّ المولى قال : أكرم العلماء ، وقطع أيضا بأنّه قال أيضا :

لا تكرم زيدا ، فانّهم يرون بلا تأمّل أن «لا تكرم زيدا» يخصّص «أكرم العلماء» ، نعم ، إذا علموا بأنّ قول المولى : «لا تكرم زيدا» ، صادر على وجه التقيّة ، لا يجمعون بمثل هذا الجمع ، بل يقولون بوجوب إكرام كلّ عالم حتّى زيد.

(بل) وكذلك الحال (في جزئي كلام واحد لمتكلّم واحد) فانّهم يحملون الظاهر على الأظهر ، والظاهر على النصّ ، فإذا سمعوا أحدا يقول ـ مثلا ـ : رأيت أسدا يرمي ، فانّهم يحملون أسد على الرجل الشجاع ، وذلك لأنّ الأسد وان كان ظاهرا في معنى الحيوان المفترس ، إلّا أنّ يرمي أظهر منه في رمي النبل ، ولذا يحملون الظاهر الذي هو الأسد على الأظهر الذي هو يرمي ، فيقولون : بأنّ المتكلّم أراد من الأسد انّه رأى رجلا شجاعا يرمي النبل.

١١٦

وبتقرير آخر : إذا أمكن فرض صدور الكلامين على غير جهة التقيّة وصيرورتهما ، كالكلام الواحد على ما هو مقتضى دليل وجوب التعبّد بصدور الخبرين.

فيدخل في قوله عليه‌السلام : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا» إلى آخر الرواية المتقدّمة ،

______________________________________________________

(وبتقرير آخر) لبيان إثبات وجوب تقديم الترجيح الدلالي على سائر المرجّحات ، وانّه إذا أمكن الجمع العرفي لا تصل النوبة إلى الترجيح بالمرجّحات الأخر نقول : انّه (إذا أمكن فرض صدور الكلامين على غير جهة التقيّة) بل على جهة بيان الواقع (و) أمكن فرض (صيرورتهما ، كالكلام الواحد) وذلك بحمل الظاهر على الأظهر ، والظاهر على النصّ (على ما هو) أي : على انّ فرض صدور الكلامين منهم عليهم‌السلام لبيان الواقع هو : (مقتضى دليل وجوب التعبّد بصدور الخبرين) الذين هما حجّة ، فانّ المفروض هو انّ أدلّة حجيّة الخبر تشمل كلا من الخبرين ، وانّ المفروض أيضا إمكان الجمع بينهما جمعا عرفيّا ، فيقتضي ذلك فرض صدورهما ، والجمع بينهما بحمل الظاهر على الأظهر ، أو الظاهر على النصّ.

وعليه : فانّه إذا أمكن مثل ذلك الجمع في النظر العرفي (فيدخل في قوله عليه‌السلام : «أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا» (١) ، إلى آخر الرواية المتقدّمة).

لا يقال : انّ الجمع العرفي شأن كلّ إنسان ، فأيّة خصوصيّة لقوله عليه‌السلام : «أنتم» الظاهر في إرادة خصوص الشيعة منه؟.

لأنّه يقال : إنّ الخصوصيّة لأجل أنّ التقيّة كانت كثيرة في كلماتهم عليهم‌السلام ، وغير

__________________

(١) ـ معاني الاخبار : ج ١ ص ١ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١٧ ب ٩ ح ٣٣٣٦٠.

١١٧

وقوله عليه‌السلام : «إنّ في كلامنا محكما ومتشابها ، فردّوا متشابهها إلى محكمها».

ولا يدخل ذلك في مورد السؤال عن علاج المتعارضين ، بل مورد السؤال عن العلاج مختصّ بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما ، بل اقترانهما ، تحيّر السائل فيهما ، ولم يظهر المراد منهما إلّا ببيان آخر لأحدهما ، أو لكليهما.

______________________________________________________

الشيعة ما كانوا يفهمون التقيّة عن غير التقيّة ، ولذا كان الرواة يقولون أحيانا : أعطاه من جراب النورة ، ويقصدون بذلك انّ الإمام عليه‌السلام أجابه بما فيه التقيّة ، ولعلّ المصنّف أراد هنا من قوله : «فيدخل في قوله عليه‌السلام : أنتم أفقه الناس» انّ الجمع بين الظاهر والأظهر أو النصّ ، داخل في ملاك هذا الحديث ، وإلّا فظاهر هذا الحديث هو الجمع بين ما صدر عنهم لبيان الواقع ، وما صدر عنهم لبيان جهة التقيّة كما عرفت.

(و) لكان يدخل أيضا في (قوله عليه‌السلام : إنّ في كلامنا محكما ومتشابها ، فردّوا متشابهها إلى محكمها) (١) وهذا أيضا من باب الملاك ، وإلّا فالعام ونحوه ليس من المتشابه كما ألمعنا إلى ذلك سابقا.

هذا (ولا يدخل ذلك) أي : ما أمكن فيه الجمع العرفي (في مورد السؤال عن علاج المتعارضين ، بل مورد السؤال عن العلاج مختص بما إذا كان المتعارضان لو فرض صدورهما ، بل اقترانهما) في كلام واحد (تحيّر السائل فيهما ، و) لم يعرف كيف يعمل معهما ، هل يعمل بهذا الخبر ، أو يعمل بذاك؟ حيث انّه (لم يظهر) له (المراد منهما إلّا ببيان آخر لأحدهما ، أو لكليهما) معا.

__________________

(١) ـ عيون اخبار الرضا : ج ١ ص ٢٩٠ ح ٣٩ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١٥ ب ٩ ح ٣٣٣٥٥.

١١٨

نعم ، قد يقع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض ، وتعيين الأظهر ،

______________________________________________________

أمّا مثال ظهور المراد من المتعارضين ببيان آخر لأحدهما فقط ، فهو كما لو قال : «اغتسل للجمعة» ، ثمّ قال : «ينبغي غسل الجمعة» ، حيث يحتاج إلى بيان الإمام عليه‌السلام لأحدهما فقط ، وذلك بأن يقول ـ مثلا ـ المراد من : «ينبغي» الوجوب ، أو المراد من : «اغتسل» الاستحباب ، وهو بيان آخر من الإمام لأحد المتعارضين فقط.

وأمّا مثال ظهور المراد من المتعارضين للسائل ببيان آخر لكلّ من المتعارضين معا ، فهو على ما تقدّم من مثال : «ثمن العذرة سحت» (١) مع «لا بأس ببيع العذرة» (٢) فانّ السائل لا يعلم هل يعمل بهذا أو بذاك؟ فيحتاج إلى أن يأتي بيان من إجماع وغيره فيهما معا ، وذلك بحمل عدم البأس على الطاهر منها ـ مثلا ـ ووجود البأس على غير الطاهر منها ، وغير ذلك من بيان الاحتمالات الاخرى في كلتا الروايتين معا.

(نعم ، قد يقع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض ، وتعيين الأظهر) من الظاهر ، فانّ الكبرى يعني : وجوب الجمع العرفي وعدم الرجوع إلى أخبار العلاج فيما لو أمكن الجمع العرفي ، مسلّمة ، إلّا انّه قد يقع الكلام أحيانا في الصغريات مثل : «اغتسل للجمعة» و «ينبغي غسل الجمعة» فيختلف في انّه هل «اغتسل» أظهر في الوجوب حتّى يحمل «ينبغي» عليه ، أو «ينبغي» أظهر في الاستحباب حتّى يحمل «اغتسل» عليه؟.

__________________

(١) ـ تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢٢ ح ٢٠١ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ٢ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٢٠ ح ٢٢٢٨٤.

(٢) ـ الكافي (فروع) : ج ٥ ص ٢٢٦ ح ٣ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٧٢ ب ٢ ح ٢٠٢ ، الاستبصار : ج ٣ ص ٥٦ ب ٣١ ح ١ و ٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٧ ص ١٧٥ ب ٤٠ ح ٢٢٢٨٥.

١١٩

وهذا خارج عمّا نحن فيه.

وما ذكرناه ممّا لا خلاف فيه ، كما استظهره بعض مشايخنا المعاصرين ويشهد له ما يظهر من مذاهبهم في الاصول وطريقتهم في الفروع.

نعم ، قد يظهر من عبارة الشيخ قدس‌سره ، في الاستبصار خلاف ذلك ، بل يظهر منه أنّ الترجيح بالمرجّحات يلاحظ بين النصّ والظاهر ، فضلا من الظاهر والأظهر.

______________________________________________________

(وهذا) أي : وقوع الكلام في ترجيح بعض الظواهر على بعض (خارج عمّا نحن فيه) من الكبرى المسلّمة (وما ذكرناه) من تقديم الجمع العرفي على إعمال المرجّحات (ممّا لا خلاف فيه) أي : إنّ عليه الاجماع (كما استظهره) أي : استظهر الاجماع ونفي الخلاف (بعض مشايخنا المعاصرين) فالترجيح بقوّة الدلالة مقدّم على سائر وجوه التراجيح بلا خلاف.

(ويشهد له) أي : لما ذكرنا من اختصاص أخبار العلاج بمورد لا يمكن فيه الجمع العرفي (ما يظهر من مذاهبهم في الاصول وطريقتهم في الفروع) حيث نراهم يجمعون بين الأخبار بمثل هذا الجمع العرفي ، ولا يعملون المرجّحات فيها.

(نعم ، قد يظهر من عبارة الشيخ قدس‌سره ، في الاستبصار خلاف ذلك) الذي ذكرناه ، حيث انّه يظهر منه إعمال التراجيح بين العامّ والخاص ، وغير ذلك (بل يظهر منه : إنّ الترجيح بالمرجّحات يلاحظ بين النصّ والظاهر ، فضلا من الظاهر والأظهر) يعني : إذا ورد ـ مثلا ـ أكرم العلماء ، وورد أيضا لا تكرم زيدا ، فالأوّل : ظاهر ، والثاني : نصّ ، فانّه أعمل بينهما التراجيح ، لا انّه جمع بينهما بحمل العام على الخاصّ ، وإذا كان ذلك منه بالنسبة إلى الظاهر والنصّ ، فيكون ذلك منه

١٢٠