الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٥

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-15-5
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٢٤

إذ المتشابه إمّا المجمل وإمّا المؤوّل ، ولا معنى للنهي عن اتّباع المجمل.

______________________________________________________

ـ مثلا ـ ويدعم تفسيره هذا بقرينة السياق الموجود في الآية (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) (١) مع انّ عمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو التفسير للآية ، وهو لم يحارب المنافقين ، وإنّما فضحهم وحذّر المسلمين منهم ، وهذا من ردّ المتشابه إلى المحكم ، فانّ عمل الرسول محكم ، وهذه الآية المباركة متشابهة.

ومنه يعلم : إنّ كلّا من المجمل والمأوّل داخل في المتشابه ، فيقال له : مجمل ، لأنّ المتكلّم أجمل فيه ، وهو من الجمال ، كأنّه نوع من جمال الكلام ، ويطلق على اللفظ الذي له نسبة متساوية إلى كلّ معانيه ، مثل لفظ العين إلى معانيها ، ومأوّل : لأنّه يؤوّل إلى ما أراده المتكلّم ، ولذا قال سبحانه : (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) ويطلق على اللفظ الذي له قوّة في أحد معانيه ، مثل احتمال إرادة الوجوب من ينبغي في «ينبغي غسل الجمعة» بقرينة الأظهر «اغتسل للجمعة».

وعلى هذا : فالظاهر من قولهم عليهم‌السلام بردّ المتشابه إلى المحكم هو : الظاهر الذي اريد منه خلافه أو اللفظ الذي لا دلالة له ابتداء من نوع : الظاهر ، والأظهر ، والنصّ ، فيردّ إلى واحد من هذه الثلاثة ، فيشمل المتشابه ما لا احتمال له ابتداء لتردّده بين احتمالين وأكثر ، سواء كان متساوي النسبة إلى كلّ الاحتمالات ، أم كان له قوّة في أحدها ، كما ويشمل المتشابه أيضا الظاهر الذي اريد منه خلافه ، وذلك كما قال : (إذ المتشابه إمّا المجمل وإمّا المؤوّل) وقد عرفت معناهما ، لكنّ المراد هنا من المتشابه هو : المجمل (ولا معنى للنهي) بقوله عليه‌السلام : «ولا تتّبعوا متشابهها» (٢) (عن اتّباع المجمل) لأنّ المتشابه الذي هو بمعنى المجمل لا يعقل

__________________

(١) ـ سورة التحريم : الآية ٩.

(٢) ـ عيون أخبار الرضا : ج ١ ص ٢٩٠ ح ٣٩ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١٥ ب ٩ ح ٣٣٣٥٥.

٨١

فالمراد إرجاع الظاهر إلى النصّ أو إلى الأظهر.

وهذا المعنى لمّا كان مركوزا في أذهان أهل اللسان ، ولم يحتج إلى البيان في الكلام المعلوم الصدور عنهم ، فلا يبعد إرادة ما يقع من ذلك في الكلمات المحكيّة عنهم بإسناد الثقاة ، التي تنزّل منزلة المعلوم الصدور ،

______________________________________________________

متابعته ، بخلاف المتشابه الذي هو بمعنى المأوّل فانّه يعقل متابعته.

وعلى هذا (فالمراد) من ردّ المتشابه إلى المحكم على تفسير المصنّف هو : (إرجاع الظاهر إلى النصّ) مثل : أكرم العلماء ولا تكرم زيدا ، حيث انّ شمول العلماء لزيد ظاهر ، وشمول لا تكرم لزيد نصّ ، ولذا يخصّص أكرم العلماء بلا تكرم زيدا (أو) إرجاع الظاهر (إلى الأظهر) مثل ينبغي غسل الجمعة ويجب غسل الجمعة ، حيث أن ينبغي ظاهر ويجب أظهر ، فاللازم أن يقال : انّ المراد من ينبغي هو الوجوب.

(وهذا المعنى) المذكور : من إرجاع الظاهر إلى النصّ ، أو إلى الأظهر (لمّا كان مركوزا في أذهان أهل اللسان ، ولم يحتج إلى البيان في الكلام المعلوم الصدور عنهم) عليهم‌السلام ، يعني : إنّه لمّا كان الحديثان المتعارضان ، المقطوعان الصدور ، معروفا عند أهل المحاورة بلزوم إرجاع الظاهر منهما إلى الأظهر ، أو إلى النصّ ، فلا يمكن أن يقصده الإمام في الروايتين المتقدّمتين ، لأنّه لم يكن محتاجا إلى البيان ، وإذا لم يكن في المقطوعي الصدور محتاجا إلى البيان (فلا يبعد إرادة ما يقع من ذلك) التعارض بين الظاهر والأظهر أو بين الظاهر والنصّ ، ومعالجته (في الكلمات المحكيّة عنهم) عليهم‌السلام ، المرويّة (باسناد الثقاة ، التي تنزّل منزلة المعلوم الصدور) فيكون مقصود الإمام من الروايتين الأخيرتين معالجة تعارض الروايات الظنّية الصدور المنزّلة منزلة المعلوم الصدور ، فانّ أدلّة حجيّة الخبر

٨٢

فالمراد أنّه لا يجوز المبادرة إلى طرح الخبر المنافي لخبر آخر ، ولو كان الآخر أرجح منه ، فإذا أمكن ردّ متشابه أحدهما إلى محكم الآخر ، وأنّ الفقيه من تأمّل في أطراف الكلمات المحكيّة عنهم ولم يبادر إلى طرحها ، لمعارضتها بما هو أرجح منها.

والغرض من الروايتين الحثّ

______________________________________________________

الواحد قد نزّلت الظنّي الصدور منزلة القطعي الصدور.

إذن : (فالمراد) من قولهم عليهم‌السلام «بردّ المتشابه إلى المحكم» (انّه لا يجوز المبادرة إلى طرح الخبر المنافي لخبر آخر ، ولو كان الآخر أرجح منه) وذلك بأن نأخذ بالخبر الراجح ونطرح الخبر المرجوح ، فانّه لا يجوز ، ومعه (فإذا أمكن) للفقيه الجمع بين ذينك الخبرين الظنّيين (ردّ متشابه أحدهما إلى محكم الآخر) وان لم يمكن ذلك رجع إلى التخيير بينهما.

والحاصل : انّ المصنّف يرى انّ ردّ المتشابه إلى المحكم يراد به : ردّ الظاهر إلى النصّ أو إلى الأظهر في الحديثين الظنيّين ، ولكن لا يخفى ما في هذا الذي ذكره المصنّف من البعد ، ولذا لعلّ الأقرب منه ما ذكره الشيخ البهائي في الزبدة فانّه قال : اللفظ إن لم يحتمل غير ما يفهم منه لغة فنصّ ، وإلّا فالراجح ظاهر ، والمرجوح مأوّل ، والمتساوي مجمل ، والمشترك بين الأوّلين محكم ، وبين الأخيرين متشابه.

(و) على ما ذكره المصنّف يكون المراد بالروايتين الأخيرتين هو : (انّ الفقيه من تأمّل في أطراف الكلمات المحكيّة عنهم) عليهم‌السلام (ولم يبادر إلى طرحها لمعارضتها بما هو أرجح منها) بل يجمع بينها بحمل الظاهر على الأظهر أو النصّ ، كما (و) يكون (الغرض من الروايتين) الأخيرتين هو : (الحثّ

٨٣

على الاجتهاد واستفراغ الوسع في معاني الروايات ، وعدم المبادرة إلى طرح الخبر بمجرّد مرجّح لغيره عليه.

المقام الثالث :

في عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة

فنقول : اعلم أنّ حاصل ما يستفاد من مجموع الأخبار ـ بعد الفراغ عن تقديم الجمع المقبول على الطرح.

وبعد ما ذكرنا من أنّ الترجيح بالأعدليّة وأخواتها إنّما هو بين الحكمين مع قطع النظر عن ملاحظة مستندهما ـ

______________________________________________________

على الاجتهاد واستفراغ الوسع في معاني الروايات ، وعدم المبادرة إلى طرح الخبر بمجرّد مرجّح لغيره عليه) وعلى هذا فالروايتان الأخيرتان ليستا من روايات الترجيح لدلالتهما على الجمع العرفي.

(المقام الثالث : في عدم جواز الاقتصار على المرجّحات المنصوصة) في ترجيح خبر على خبر عند التعارض ، بل انّ كلّ مرجّح عقلائي يجب الترجيح به ممّا يوجب تقديم خبر على خبر في المتعارضين (فنقول : اعلم أنّ حاصل ما يستفاد من مجموع الأخبار) العلاجية (بعد الفراغ عن تقديم الجمع المقبول) عرفا (على الطّرح) والجمع العرفي المقبول عبارة عن حمل الظاهر على الأظهر ، والظاهر على النصّ ، وتقديمه مفروغ عنه ، لأنّ مورده لا يعدّ عرفا من المتعارضين (وبعد ما ذكرنا : من أنّ الترجيح بالأعدليّة وأخواتها) من الأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة التي ذكرتها المقبولة أوّل المرجّحات (إنّما هو بين الحكمين) أي : القاضيين ، وذلك (مع قطع النظر عن ملاحظة مستندهما) فانّ

٨٤

هو أنّ الترجيح أوّلا بالشهرة والشذوذ ، ثمّ بالأعدليّة والأوثقية ، ثم بمخالفة العامّة ، ثمّ بمخالفة ميل الحكّام.

______________________________________________________

حاصل ما يستفاد من الأخبار العلاجية بعد ذلك (هو انّ الترجيح) في الروايات يكون مرتّبا بالترتيب التالي :

(أوّلا : بالشهرة والشذوذ) فإذا كان أحد المتعارضين مشهورا دون الآخر ، بمعنى كون الآخر شاذّا ، فانّه يؤخذ بالمشهور ، ويترك الشاذّ.

ثانيا : (ثمّ بالأعدليّة والأوثقية) إذا كان كلاهما شاذّا ، أو كلاهما مشهورا ، وإنّما يكون الترجيح بهاتين الصفتين لأنّهما جعلتا في المرفوعة من مرجّحات المتعارضين بعد الشهرة.

ثالثا : (ثمّ بمخالفة العامّة) فإذا كان أحدهما مخالفا للعامّة والآخر موافقا لهم ، فانّه يؤخذ بالمخالف ويترك الموافق لهم ، وأمّا إذا كان كلاهما موافقا للعامّة ، أو كلاهما مخالفا للعامّة ، فانّه يأتي دور المرجّح الرابع ، وهو ما ذكره المصنّف بعده.

رابعا : (ثمّ بمخالفة ميل الحكّام) ومعنى ميل الحكّام هو : انّهم وان لم يكونوا يقولون به إلّا انّهم مائلون إليه ، فإذا كان هناك ـ مثلا ـ خبران : أحدهما يقول : ليس في مال التجارة زكاة ، والآخر يقول : بأنّ فيه الزكاة ، وفرضنا انّ العامّة لا يقولون بالزكاة في مال التجارة ـ مثلا ـ لكنّ حكّامهم مائلون إليه لكون الزكاة في مال التجارة يوجب تمكّنهم من المزيد من أخذ أموال الناس بالباطل ، فإذا تعارضت روايتان عندنا في هذا الباب ، فاللازم أن نأخذ بالرواية التي تقول انّه لا زكاة في مال التجارة.

وأمّا الترجيح بالأحدثيّة والأقدميّة ووجوب التقديم بالأحدثيّة دون الأقدميّة ، فلم يذكره المصنّف لأنّ التقديم بسببه لعلّه من جهة التقيّة وغير التقيّة الراجعتين

٨٥

وأما الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة فهو من باب اعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعي الصدور ، ولا إشكال في وجوب الأخذ به.

وكذا الترجيح بموافقة الأصل ، ولأجل ما ذكر لم يذكر ثقة الاسلام رضوان الله عليه ، في مقام الترجيح ، في ديباجة الكافي سوى ما ذكر ، فقال :

«اعلم يا أخي

______________________________________________________

إلى جهة الصدور ، وليس الكلام في مثل ذلك كما سبق الالماع إليه.

(وأمّا الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة) ومخالفتهما (فهو) ليس من باب الترجيح ، بل (من باب اعتضاد أحد الخبرين بدليل قطعيّ الصدور) ممّا ليس في الخبر الآخر المعارض له (ولا إشكال في وجوب الأخذ به) أي : بما كان معتضدا بالكتاب والسنّة ، وليس ذلك من باب أخبار العلاج بل من باب الأخذ بالحجّة في قبال ما ليس بحجّة.

(وكذا الترجيح بموافقة الأصل) فانّه على تقدير القول به ليس من باب الترجيح ، وإنّما من باب المرجع بعد تساقط الخبرين المتعارضين في خصوص مؤدّاهما ، وذلك لما ذكرناه سابقا : من انّ افق الأصل وافق الرواية مختلفان فلم يكونا في مرتبة واحدة.

(ولأجل ما ذكر) في حصيلة أخبار العلاج : من استفادة الترجيح بالنحو المتقدّم مرتّبا بتقديم الشهرة ، ثمّ الأعدليّة والأوثقيّة. ثمّ مخالفة العامّة ، ثمّ مخالفة ميول حكّام العامّة (لم يذكر ثقة الاسلام) الكليني (رضوان الله عليه ، في مقام الترجيح) بين الأخبار (في ديباجة الكافي سوى ما ذكر) هنا من المرجّحات وترتيبها.

ثمّ ذكر المصنّف بعض ما جاء في الديباجة بقوله : (فقال : اعلم يا أخي

٨٦

أرشدك الله ، أنّه لا يسع أحدا تمييز شيء ممّا اختلفت الرواية فيه من العلماء عليهم‌السلام ، برأيه إلّا على ما أطلقه عليه‌السلام ، بقوله : «أعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله عزوجل فذروه» ، وقوله عليه‌السلام : «دعوا ما وافق القوم ، فإنّ الرشد في خلافهم» وقوله عليه‌السلام : «خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ، ولا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه ،

______________________________________________________

أرشدك الله ، انّه لا يسع أحدا تمييز شيء) أي فرز أحد الخبرين المتعارضين وترجيحه على الآخر (ممّا اختلفت الرواية فيه من العلماء عليهم‌السلام) أي : من الأئمّة الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فقد ورد في الحديث : «نحن العلماء ، وشيعتنا المتعلّمون» فانّه لا يجوز فرز شيء وترجيحه (برأيه) من دون ملاحظة أخبار الترجيح (إلّا على ما) أي : على النحو الذي (أطلقه عليه‌السلام بقوله : «اعرضوهما على كتاب الله فما وافق كتاب الله عزوجل فخذوه ، وما خالف كتاب الله عزوجل فذروه» وقوله عليه‌السلام : «دعوا ما وافق القوم ، فانّ الرشد في خلافهم» وقوله عليه‌السلام : «خذوا بالمجمع عليه ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»).

ولا يخفى : انّ ما ذكره الشيخ الكليني هو المستفاد من الروايات التي عرفتها.

ثمّ قال الشيخ الكليني : (ولا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه) والظاهر انّ المراد من ذلك هو : ما وافق الكتاب أو خالفه ، أو وافق العامّة أو خالفهم ، أو وافق المجمع عليه أو خالفه ، فانّه إنّما لا نعرف من ذلك إلّا أقلّه ، إذ لم نجد في الأخبار على الأغلب خبرا معارضا للكتاب ، أو موافقا للعامّة ، أو مخالفا للمشهور ،

٨٧

ولا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه‌السلام ، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله : «بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» ، انتهى.

ولعلّه ترك الترجيح بالأعدليّة والأوثقيّة ، لأنّ الترجيح بذلك مركوز في أذهان الناس غير محتاج إلى التوقيف.

______________________________________________________

إلّا ويكون له جمع دلالي ، ممّا يوجب عدم بقاء مجال للترجيح بالمرجّحات المذكورة ، فانّ الغالب في الخبرين المتعارضين انّ لهما جمع دلالي.

هذا (ولا نجد شيئا) في مورد التعارض ولا طريقا (أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم عليه‌السلام) فانّه هو الذي يعلم أنّ أيّا من الخبرين المتعارضين يطابق الواقع فيلزم العمل به ، ولذلك يلزم ردّ علمه إليه (وقبول ما وسّع من الأمر فيه) أي : في مورد التعارض ، وهو التخيير ، فانّ التخيير هو الأمر الموسّع لنا فيه ، على ما ورد عن الإمام الرضا عليه‌السلام في رواية الحسن بن الجهم (١) ، وعن الإمام الحجّة عليه‌السلام (٢) (بقوله : «بأيّهما أخذتم من باب التسليم وسعكم» (٣) ، انتهى) كلام الشيخ الكليني.

ثمّ قال المصنّف : (ولعلّه ترك الترجيح بالأعدليّة والأوثقيّة) مع إنّهما وردا في المرفوعة في عداد التراجيح ، فانّ الشيخ الكليني إنّما تركهما (لأنّ الترجيح بذلك) نظير الجمع العرفي المقبول (مركوز في أذهان الناس غير محتاج إلى التوقيف) بأن يرد من الشارع فيه إذن أو تصريح.

__________________

(١) ـ انظر الاحتجاج : ص ٣٥٧ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٢١ ب ٩ ح ٣٣٣٧٣.

(٢) ـ انظر الاحتجاج : ص ٤٨٣ ، الغيبة للطوسي : ص ٣٧٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٢١ ب ٩ ح ٣٣٣٧٢.

(٣) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٨ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١١٢ ب ٩ ح ٣٣٣٥٢.

٨٨

وحكي عن بعض الأخباريّين : إنّ وجه إهمال هذا المرجّح كون أخبار كتابه كلّها صحيحة وقوله : «ولا نعلم من ذلك إلّا أقلّه» إشارة إلى أنّ العلم بمخالفة الرواية للعامّة في زمن صدورها أو كونها مجمعا عليها قليل ،

______________________________________________________

ولا يخفى : انّ هذا تأويل بعيد لكلام الشيخ الكليني ، لكن المصنّف رحمه‌الله لتأدّبه الكثير في قبال العلماء كتأدّبه في قبال الروايات ، يلتجئ إلى توجيه ذلك بما لا يكون منافيا للقواعد والأدلّة.

هذا (وحكي عن بعض الاخباريين) انّه قال : (انّ وجه إهمال) الشيخ الكليني (هذا المرجّح) الوصفي يعني : الأعدليّة والأوثقيّة هو : (كون أخبار كتابه كلّها صحيحة) ومن المعلوم : إنّ الصحّة توجب الجمع ، لا طرح أحد الروايتين لأجل الاخرى ، ومعه فلا داعي للترجيح.

ثمّ قال المصنّف : (وقوله) أي : قول الشيخ الكليني («ولا نعلم من ذلك إلّا أقلّه») هو : (إشارة إلى أنّ العلم بمخالفة الرواية للعامّة في زمن صدورها) أي : انّ احتمال التقيّة في الخبر الموافق للعامّة إنّما يكون معتبرا إذا كانت التقيّة في زمن الصدور ، لا انّه إذا كانت التقيّة قبل ذلك أو بعد ذلك (أو كونها مجمعا عليها) زمن الصدور أيضا ، وذلك (قليل) جدّا على ما عرفت.

هذا ، وحيث إنّ المصنّف لم يفهم من كلام الشيخ الكليني قلّة مخالفة الكتاب ، لذلك لم يتعرّض لذكره ، مع انّ الظاهر من قوله : «ولا نعرف من جميع ذلك إلّا أقلّه» يشمل كلّ الثلاثة يعني : جهة مخالفة الكتاب ، وجهة مخالفة العامّة ، وجهة الشهرة وكونها مجمعا عليها معا.

٨٩

والتعويل على الظنّ بذلك عار عن الدليل.

وقوله : «لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع ... إلى آخره» ، أمّا أوسعيّة التخيير فواضح ، وأمّا وجه كونه أحوط ، مع أنّ الأحوط التوقف والاحتياط في العمل ، فلا يبعد أن يكون من جهة أنّ في ذلك ترك العمل بالظنون التي

______________________________________________________

(و) ان قلت : انّا كثيرا ما نظنّ الآن بأنّ الخبر الفلاني مخالف للكتاب ، أو موافق للعامّة ، أو مخالف للمجمع عليه ، فيلزم طرحه والأخذ بالخبر المقابل له ، لأنّه أصبح كثيرا ولم يبق على قلّته ، وذلك ظنّا منّا بأنّ زمن الصدور كان كذلك أيضا.

قلت : (التعويل على الظنّ بذلك عار عن الدليل) فلا دليل على جواز الاعتماد والتعويل على الظنّ الحاصل من مخالفة الخبر الفلاني الآن للكتاب ، أو للمجمع عليه ، أو موافقته للعامّة ، ظنّا بأنّه كان في زمن الصدور أيضا كذلك ، وحيث لا دليل على حجيّة هذا الظنّ ، فلا يجوز التعويل عليه.

هذا (وقوله : «لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع ... إلى آخره») فانّ مقصود الشيخ الكليني من الأحوط والأوسع هو كما يلي :

(امّا أوسعيّة التخيير فواضح) لأنّ التخيير يعطي للإنسان حريّة الاختيار في أن يعمل بهذا الخبر أو بذاك الخبر ، بينما التعيين نوع تضييق على الانسان وتقييد له.

(وأمّا وجه كونه) أي كون التخيير (أحوط ، مع انّ الأحوط التوقّف والاحتياط في العمل) لا أن يكون مخيّرا بين أن يعمل بهذا أو بذاك (فلا يبعد أن يكون من جهة أنّ في ذلك) أي : في التخيير (ترك العمل بالظنون التي) توجب ترجيح خبر على خبر ، فيما لم يكن المرجّح منصوصا ، فانّ تلك الظنون غير المنصوصة

٩٠

لم يثبت الترجيح بها ، والافتاء بكون مضمونها هو حكم الله لا غير ، وتقييد إطلاقات التخيير والتوسعة من دون نصّ مقيّد.

ولذا طعن غير واحد من الأخباريّين على رؤساء المذهب ـ مثل المحقّق والعلّامة ـ بأنّهم يعتمدون في الترجيحات على امور اعتمدها العامّة في كتبهم ممّا ليس في النصوص منه عين ولا أثر.

قال المحدّث البحراني قدس‌سره في هذا المقام من مقدّمات

______________________________________________________

(لم يثبت الترجيح بها ، و) كذا لم يثبت (الافتاء بكون مضمونها هو حكم الله لا غير) بل إنّ مثل هذا الافتاء يكون من الافتاء بغير علم.

(و) من المعلوم : انّ (تقييد إطلاقات التخيير والتوسعة) بالترجيح بمرجّحات غير منصوصة ، وذلك كما قال : (من دون نصّ مقيّد) لهذه الاطلاقات هو خلاف مقتضى الوقوف على كلماتهم عليهم‌السلام ، فيكون الترجيح بغير المنصوص خلاف الاحتياط ، بينما يكون التخيير حسب إطلاقات أخبار التخيير وفق الاحتياط.

(ولذا) أي : لأجل ما ذكرناه : من انّ الرجوع إلى المرجّحات غير المنصوصة تقييد لإطلاقات التخيير من دون دليل ظاهر يقيّد تلك الاطلاقات ، وهو خلاف الاحتياط ، نرى انّه قال (طعن غير واحد من الاخباريين على رؤساء المذهب) الاصوليين (مثل المحقّق والعلّامة : بأنّهم يعتمدون في الترجيحات على امور اعتمدها العامّة في كتبهم ممّا ليس في النصوص منه عين ولا أثر) وسيأتي إن شاء الله تعالى في كلام المصنّف الترجيح ببعض الامور غير المنصوصة.

هذا ، ويدلّ على طعن الاخباريين على رؤساء المذهب مراجعة كلماتهم فقد (قال المحدّث البحراني) صاحب الحدائق (قدس‌سره في هذا المقام من مقدّمات

٩١

الحدائق : «إنّه قد ذكر علماء الاصول من الترجيحات في هذا المقام ما لا يرجع أكثرها إلى محصول ، والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات» ، انتهى.

أقول : قد عرفت أنّ الأصل بعد ورود التكليف الشرعي بالعمل بأحد المتعارضين هو العمل بما يحتمل أن يكون مرجّحا في نظر الشارع ، لأنّ جواز العمل بالمرجوح مشكوك حينئذ.

نعم ، لو كان المرجع بعد التكافؤ

______________________________________________________

الحدائق : انّه قد ذكر علماء الاصول من الترجيحات في هذا المقام) أي : في مقام ترجيح بعض الروايات على بعض في مقام تعارضهما (ما لا يرجع أكثرها إلى محصول) إذ لا دليل عليها من الشرع ، بينما (والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات) (١) المنصوصة (انتهى) كلام المحدّث البحراني.

(أقول) : في ردّ كلمات هؤلاء المحدّثين انّه : (قد عرفت) سابقا (أنّ الأصل بعد ورود التكليف الشرعي بالعمل بأحد المتعارضين) بناء على الطريقيّة لا الموضوعيّة ، فقد رجّحنا الطريقيّة هناك (هو العمل بما يحتمل أن يكون مرجّحا في نظر الشارع) لا التخيير بينهما ، وذلك (لأنّ جواز العمل بالمرجوح مشكوك حينئذ) أي : حين وجود رجحان في أحد الخبرين المتعارضين ، فيكون الخبر الآخر المرجوح مشكوكا ، والشكّ فيه مسرح عدم الحجيّة ، فيكون المتيقّن من التخيير هو صورة انتفاء الترجيح رأسا.

(نعم ، لو كان المرجّح بعد التكافؤ) والتعادل من جميع الجهات وعدم

__________________

(١) ـ الحدائق الناظرة : ج ١ ص ٩٠.

٩٢

هو التوقف والاحتياط كان الأصل عدم الترجيح إلّا بما علم كونه مرجّحا.

لكن عرفت أنّ المختار مع التكافؤ هو التخيير ، فالأصل هو العمل بالراجح ، إلّا أن يقال : إنّ إطلاقات التخيير حاكمة على هذا الأصل ، فلا بدّ للمتعدّي من المرجّحات الخاصّة المنصوصة من أحد أمرين :

______________________________________________________

رجحان أحدهما على الآخر (هو التوقّف) عن الافتاء وعدم الفتوى بالتمسّك بهذا الخبر بعينه ولا بذلك الخبر بعينه (والاحتياط) في العمل كما سبق (كان الأصل) الثانوي (عدم الترجيح إلّا بما علم كونه مرجّحا) منصوصا عليه في الروايات ، وذلك لأنّ الأصل الثانوي الذي دلّت عليه الروايات هو التخيير فيما إذا لم يكن هناك مرجّح منصوص عليه في أحد الجانبين.

(لكن عرفت : انّ المختار مع التكافؤ) والتعادل على ما استفدناه من الأخبار بعنوان الأصل الثانوي (هو التخيير) في صورة التكافؤ ، وامّا مع مزيّة أحدهما ولو مزيّة محتملة (فالأصل) العملي في محتمل المزيّة والرجحان (هو العمل بالراجح).

وان شئت قلت : انّ العقل يدلّ على الترجيح في محتمل الراجحيّة ، لأنّه من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، إلّا إذا لم يكن ترجيح إطلاقا ، فالأصل الأوّلي إذن في المتعارضين بمقتضى الطريقيّة هو التوقّف لكن بحسب الأخبار وهو أصل ثانوي يكون التخيير.

(إلّا أن يقال : إنّ) الأصل اللفظي وهو هنا (إطلاقات التخيير) في الروايات (حاكمة على هذا الأصل) العملي وهو أصل الاحتياط في العمل بالراجح.

وعليه : (فلا بدّ للمتعدّي من المرجّحات الخاصّة المنصوصة) إلى غير المنصوصة عامّة ، وهم المجتهدون دون الاخباريين (من أحد أمرين) كالتالي :

٩٣

إمّا أن يستنبط من النصوص ولو بمعونة الفتاوى وجوب العمل بكلّ مزيّة يوجب أقربيّة ذيها إلى الواقع ، وإمّا أن يستظهر من إطلاقات التخيير الاختصاص بصورة التكافؤ من جميع الوجوه.

والحقّ : إنّ تدقيق النظر في أخبار الترجيح يقتضي التزام الأوّل.

كما أنّ التأمّل الصادق في أخبار التخيير يقتضي التزام الثاني ،

______________________________________________________

الأوّل : (إمّا أن يستنبط من النصوص) أي : من أخبار العلاج التي نصّت على بعض المرجّحات (ولو) استنباطا (بمعونة الفتاوى) حيث انّ العلماء هم الذين القي إليهم الكلام ، ففتاواهم تدلّ على انّهم أيضا فهموا من الروايات (وجوب العمل بكلّ مزيّة يوجب أقربيّة ذيها) أي : ذي المزيّة (إلى الواقع) وحينئذ فيتعدّى من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها ، وهذا ما جرى عليه المجتهدون.

الثاني : (وإمّا ان يستظهر من إطلاقات التخيير الاختصاص) أي : اختصاص التخيير (بصورة التكافؤ من جميع الوجوه) بحيث لا يكون هناك في أحد المتعارضين مزيّة منصوصة ، ولا غير منصوصة ، فانّه إنّما يستظهر من إطلاقات التخيير اختصاصه بصورة التكافؤ من جميع الوجوه ، لأنّ إطلاقات التخيير منصرفة إلى صورة فقد المرجّح.

(والحقّ : إنّ تدقيق النظر في أخبار الترجيح يقتضي التزام الأوّل) أي : وجوب العمل بكلّ مزيّة منصوصة وغير منصوصة ، وذلك كما سيذكره المصنّف قريبا إن شاء الله تعالى.

(كما أنّ التأمّل الصادق في أخبار التخيير يقتضي التزام الثاني) أي : اختصاص التخيير بصورة التكافؤ من جميع الوجوه بحيث لا يكون في جانب من المتعارضين مزيّة منصوصة ولا غير منصوصة.

٩٤

ولذا ذهب جمهور المجتهدين إلى عدم الاقتصار على المرجّحات الخاصّة ، بل ادّعى بعضهم ظهور الاجماع وعدم ظهور الخلاف على وجوب العمل بالراجح من الدليلين ، بعد أن حكي الاجماع عليه عن جماعة.

وكيف كان : فما يمكن استفادة هذا المطلب منه ، فقرات من الروايات :

______________________________________________________

(ولذا) أي : لأجل ما ذكرناه : من انّ تدقيق النظر والتأمّل الصادق يقتضي التزام الأمرين المذكورين (ذهب جمهور المجتهدين إلى عدم الاقتصار على المرجّحات الخاصّة) المذكورة في الروايات (بل ادّعى بعضهم ظهور الاجماع وعدم ظهور الخلاف) من أحد (على وجوب العمل بالراجح من الدليلين) سواء كان رجحانا منصوصا أو رجحانا غير منصوص ، وذلك (بعد أن حكي الاجماع عليه عن جماعة) فانّ بعض المجتهدين بعد ما نسب إلى جماعة دعوى الاجماع ، ادّعى هو أيضا الاجماع ، ففي المسألة إجماع منقول ، وإجماع محصّل ، وشهرة محقّقة لذهاب جمهور المجتهدين إليه.

(وكيف كان) : سواء صحّ دعوى الاجماع أم لم يصحّ (فما يمكن استفادة هذا المطلب) أي : لزوم الترجيح بكلّ مرجّح ولو غير منصوص (منه ، فقرات من الروايات) أي : من روايات الترجيح يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

وعليه : فالروايات العلاجية تدل على أمرين :

الأمر الأوّل : المرجّحات المنصوصة.

الأمر الثاني : الترجيح بكلّ مرجّح ولو لم يكن منصوصا ممّا يراه العرف مرجّحا.

وامّا الفقرات الدالّة على ذلك فهي ما أشار إليها المصنّف بقوله :

٩٥

منها : الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة ، أو بالأوثقية في المرفوعة ، فإنّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلّا لترجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين ، من حيث إنّه أقرب ، من غير مدخليّة خصوصيّة سبب ، وليستا كالأعدليّة والأفقهيّة يحتملان لاعتبار الأقربيّة الحاصلة من السبب الخاصّ.

______________________________________________________

(منها : الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة ، أو بالأوثقيّة في المرفوعة ، فانّ اعتبار هاتين الصفتين ليس إلّا لترجيح الأقرب) من المتعارضين إلى الواقع ، فلا خصوصيّة للأصدقيّة والأوثقيّة ، بل كلّ مرجّح يوجب الأقربية إلى الواقع وان لم يكن منصوصا يكون مرجّحا لأحد النصّين على الآخر ، إذ المفروض من هاتين الصفتين ترجيح الأقرب (إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر في المتعارضين) من الأخبار (من حيث إنّه أقرب ، من غير مدخليّة خصوصيّة سبب) من الأصدقيّة والأوثقيّة.

هذا (وليستا) أي : الأصدقية والأوثقية (كالأعدليّة والأفقهيّة يحتملان لاعتبار الأقربيّة الحاصلة من السبب الخاص) إذ الأصدقية والأوثقية طريقان إلى كشف الواقع ، بخلاف الأعدليّة والأفقهية فإنّهما قد يعتبران من باب الموضوعيّة ، كما نجد ذلك في باب الشهادة ، فانّ العدالة قد اعتبرها الشارع في الشهادة من باب الموضوعيّة ، وكذلك الفقاهة قد اعتبرها الشارع في التقليد من باب الموضوعيّة ، ولذلك لا يبعد أن يكون الشارع قد اعتبر الأعدليّة والأفقهيّة في الترجيح من باب الموضوعيّة أيضا ، ومعه لا مدخلية لهما في الأقربية إلى الواقع ، بخلاف الأصدقية والأوثقية.

أقول : لا يخفى انّه من المحتمل اعتبار الأعدليّة والأفقهية من باب الأقربية

٩٦

وحينئذ فنقول : إذا كان أحد الراويين أضبط من الآخر ، أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى ، أو شبه ذلك ، فيكون أصدق وأوثق من الراوي الآخر ، ويتعدّى من صفات الراوي المرجّحة إلى صفات الرواية الموجبة لأقربيّة صدورها ، لأنّ أصدقيّة الراوي وأوثقيّته لم يعتبر في الراوي إلّا من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الرواية ،

______________________________________________________

أيضا ، كما انّه من المحتمل اعتبار الأصدقية والأوثقية من باب الموضوعية أيضا ، وتفصيل ذلك ممّا لا يسعه الشرح هنا.

وكيف كان : فقد قال المصنّف : (وحينئذ) أي : حين كان اعتبار الأصدقية والأوثقية من باب الأقربية إلى الواقع ، بحيث يفيدان كبرى كليّة : يقول بوجوب الترجيح بكلّ ما يوجب الأقربية إلى الواقع (فنقول : إذا كان أحد الراويين أضبط من الآخر ، أو أعرف بنقل الحديث بالمعنى ، أو شبه ذلك) ككونه أكثر استيعابا للقرائن والخصوصيات عند تكلّم المتكلّم (فيكون أصدق وأوثق من الراوي الآخر) وذلك لأنّ مثل هذه الصفات غير المذكورة في الروايات تؤول بالأخرة إلى الأصدقية والأوثقية من حيث المناط ، أو لأنّها من أفراد الأصدق والأوثق.

ثمّ انّه لمّا كان الترجيح بالأصدقية والأوثقية وما يؤول إليهما لأجل انّ اتّصاف الراوي بهما يؤثّر في صدق الرواية ، وجب الترجيح بكلّ مرجّح موجود في نفس الرواية يؤثّر في صدقها ، وذلك كما قال : (ويتعدّى من صفات الراوي المرجّحة) للرواية (إلى صفات الرواية الموجبة لأقربية صدورها) قربا إلى الواقع ، وذلك (لأنّ أصدقية الراوي وأوثقيته لم يعتبر في الراوي إلّا من حيث حصول صفة الصدق والوثاقة في الرواية) فانّ ترجيح أحد الخبرين على الآخر بأصدقيّة الراوي وأوثقيته إنّما هو من جهة انّ اتّصاف الراوي بالأصدقية والأوثقية يوجب صفة

٩٧

فإذا كان أحد الخبرين منقولا باللفظ والآخر منقولا بالمعنى كان الأوّل أقرب إلى الصدق وأولى بالوثوق.

ويؤيّد ما ذكرنا : أنّ الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن صورة وجود بعضها وتخالفها في الروايتين ،

______________________________________________________

الصدق والوثاقة في الرواية ، وحينئذ فلا فرق بين أن يكون نفس الراوي أصدق وأوثق ، أو كان في الرواية صفة تورث الصدق والوثاقة ، فانّه يجب الترجيح بسبب هاتين الصفتين في الراوي أو في الرواية.

وعليه : (فإذا كان أحد الخبرين منقولا باللفظ والآخر منقولا بالمعنى) فمن الواضح : انّه (كان الأوّل أقرب إلى الصدق) وإلى مطابقة الواقع (وأولى بالوثوق) أي : بوثوق السامع بأنّه كلام الإمام عليه‌السلام من الثاني ، لاحتمال اشتباه الذي نقل بالمعنى في تفسير كلام الإمام في الثاني.

(ويؤيّد ما ذكرنا) من وجوب الترجيح بكلّ مزيّة تفيد الأقربية إلى الواقع ، لاستفادة كبرى كليّة من الأصدقية والأوثقية المذكورتين في الرواية تفيد ذلك ، هو : (انّ الراوي بعد سماع الترجيح لمجموع الصفات) الأربع (لم يسأل) من الإمام (عن صورة وجود بعضها) دون بعض وانّه هل في وجود البعض كفاية أو ليس فيه كفاية؟.

(و) كذا لم يسأل من الإمام عن صورة (تخالفها) أي : تعارض الصفات (في الروايتين) فلم يسأل الإمام عن انّه لو كان أحدهما أصدق والآخر أوثق ، أو كان أحدهما أعدل والآخر أفقه كيف يعمل معهما؟ وعدم سؤاله عن ذلك يكشف عن انّه فهم انّه لو أفاد أحد الحديثين ظنّا أقوى من الظنّ الذي يفيده الحديث الآخر وجب الأخذ به ، فيكون المعيار هو الأقوائية ، سواء من حيث الرواية ،

٩٨

وإنّما سأل عن حكم صورة تساوي الراويين في الصفات المذكورة وغيرها حتى قال : «لا يفضّل أحدهما على صاحبه» ، يعني : بمزيّة من المزايا أصلا ، فلو لا

______________________________________________________

أو من حيث الراوي ، وسواء بسبب الصفات المنصوصة من الأصدقية والأوثقية والأعدلية والأفقهية ، أو بسبب أمثال هذه الصفات.

وعليه : فانّ الراوي لم يسأل عن حكم تلك الصورتين (وإنّما سأل عن حكم صورة تساوي الراويين في الصفات المذكورة وغيرها) فانّه لمّا قال له الإمام عليه‌السلام : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، قال الراوي : قلت : فانّهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما على الآخر» (١) حيث انّ ظاهر «لا يفضّل» هو : انّه لا يفضّل على الآخر بأي شيء من الصفات ، سواء الصفات التي ذكرتم ، أو الصفات التي لم تذكروا ، وذلك كما قال المصنّف : (حتّى قال : لا يفضّل أحدهما على صاحبه يعني : بمزيّة من المزايا أصلا) لا مزيّة مذكورة ، ولا مزيّة غير مذكورة ، كالأضبطيّة والأكمليّة والنقل باللفظ ، وما أشبه ذلك.

إذن : (فلو لا) إنّ الراوي فهم من هذه الرواية كبرى كليّة تفيد وجوب الترجيح بكلّ واحد من الصفات المذكورة في الرواية وغير المذكورة فيها ممّا يوجب الأقربية إلى الواقع ، لم يناسبه السؤال عمّا لو لم يكن في الراويين مرجّح مطلقا ،

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٧ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

٩٩

فهمه أنّ كلّ واحد من هذه الصفات وما يشبهها مزيّة مستقلّة ، لم يكن وقع للسؤال عن صورة عدم المزيّة فيها رأسا ، بل ناسبه السؤال عن حكم عدم اجتماع الصفات ، فافهم.

ومنها : تعليله عليه‌السلام ، الأخذ بالمشهور بقوله : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه».

______________________________________________________

فانّ سؤاله ذلك يكشف عن انّه فهم من الرواية كبرى كليّة كما قال المصنّف : فانّه لو لا (فهمه أنّ كلّ واحد من هذه الصفات) المنصوصة (وما يشبهها) من سائر الصفات غير المنصوصة ، سواء كانت صفات الراوي أو صفات الرواية ، فانّه لو لم يفهم انّ كلّ واحد منها (مزيّة مستقلّة ، لم يكن وقع) أي : محلّ ومناسبة (للسؤال عن صورة عدم المزيّة فيهما رأسا) كما فعله الراوي.

(بل ناسبه السؤال عن حكم عدم اجتماع الصفات) وعن حكم التخالف بين الصفات ، كما لو كان في أحدهما الأعدليّة وفي الآخر الأصدقيّة ـ مثلا ـ وإلى غير ذلك ، فانّ الراوي حيث لم يسأل عن حكم عدم اجتماع الصفات الأربع ، ولا عن حكم تخالف الصفات ، وسأل عن حكم عدم وجود مزيّة في المخبرين ، أو تساوي المزيّة فيهما ، فانّ ذلك يكشف عن فهم الراوي لما ادّعيناه من الكبرى الكليّة.

(فافهم) ولعلّه إشارة إلى انّ فهم الملاك والكبرى الكليّة من هذه الرواية خلاف ظاهرها ، الذي هو جعل المعيار ما نصّ فيه ، بدون أن يعرف انّ الملاك هو الأقربية ، فلا قوّة في تقييد إطلاقات التخيير بمثل الملاك.

(ومنها : تعليله عليه‌السلام ، الأخذ بالمشهور بقوله : «فانّ المجمع عليه لا ريب فيه») (١)

__________________

(١) ـ الكافي (اصول) : ج ١ ص ٦٧ ح ١٠ ، تهذيب الاحكام : ج ٦ ص ٣٠٢ ب ٢٢ ح ٥٢ ، من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ص ٨ ب ٢ ح ٣٢٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٠٦ ب ٩ ح ٣٣٣٣٤.

١٠٠